لم تكن سيلفيا، طالبة الحقوق في احدى جامعات بوغوتا، هي أول كولومبية أراها، وان كانت الاولى ذات المسحة »الهندية« الواضحة التي تقع عليها عيناي، فقبلها كانت كاتالينا »المهجنة« (من العنصرين الاوروبي والهندي) التي تعمل في شركة الهاتف الاسبانية في غرناطة، وامضينا نحو احدى عشرة ساعة في كرسيين صغيرين متجاورين على متن طائرة الـ»ابيانكا« التي طارت بنا في واحد من أطول نهارات حياتي (رحلة مع شمس لا اعرف متى غربت) فوق مياه عبرها قبل خمسة قرون كريستوفر كولومبوس في رحلته الشهيرة الى »الهند«!
من مدريد الى بوغوتا اكلنا وشربنا وشاهدنا اكثر من فيلم وقرأنا ما نحمله معنا من صحف وتحدثنا ومللنا من الحديث ونمنا وذهبنا الى الحمام كذا مرة ولم تنته هذه الرحلة الدهرية.
كنت تعجبت من تسيّد الشمس للسماء في رحلة قمت بها قبل سنين الى كندا، انه الاتجاه نفسه، تقريبا، الى نصف الكرة الشمالي، ولكن مع اضافة اربع ساعات طيران اخرى.
فبعد احدى عشرة ساعة طيران من مدريد التي غادرتها ظهرا وصلت الى بوغوتا مع الغروب.
لم تكن كتالينا تعرف سوى مفردات معدودة من الانجليزية (اكثر على أي حال مما اعرف من الاسبانية) فكان حديثنا مزيجا عجيبا من الانجليزية والاسبانية.. والاشارات التي عولت عليها كثيرا في خلق الشكل الممكن (ان لم يكن الوحيد) للتواصل.. ليس مع كتالينا وحدها، بل مع معظم الذين التقيتهم في رحلتي الى كولومبيا.
عرفت انها تعمل في غرناطة لانها اسم علم.. وتعمل في شركة للهاتف لانها رفعت يدها اليمنى الى أذنها وأفردت الابهم والاصبع الصغير وضمت الاصابع الثلاثة الوسطى.
انها الاشارة نفسها التي نستخدمها عندما يطلب احدنا من الآخر ان يتصل به هاتفيا.
ما هو بديهي في العلاقات بين البشر بدا لي ضربا من الاكتشاف في هذه الرحلة.. كأنني كنت، في هذه الرحلة، اكتشف البارود!
فكيف لم يخطر لي انه من دون اللغة نرتد الى عجمتنا الاولى، الى صورة اللحم والدم.
اللغة سحر.
مفتاح كل قصد ومسعى.
من خلالها تدخل الى قلوب الناس وعقولهم.. وليس، فقط، كي تأمن شرهم، على حد تعبير القول العربي.
وباللغة أيضا يتحقق وجودك الانساني بمعناه العميق: أي انك تخرج من حالة العجمة (او البكمة) الى الافصاح.
لم أتبين هذه البداهة المفروغ منها الا في رحلتي الاولى الى امريكا اللاتينية التي جعلت حصيلتي من الانجليزية التي كنت اعتقد انها كافية ليتدبر المرء أمره في أي مكان في العالم، كعملة أهل الكهف.
شيء غير ذي جدوى.
شيء غير قابل للصرف او التداول.
ولكن مع كل هذا العسر في التواصل فقد تركت رحلتي الى كولومبيا اثرا في نفسي يبز أي رحلة قمت بها الى مكان آخر.
فهذا عالم لم آلفه من قبل: جغرافيا ومناخا وبشرا وثقافة وعادات.
عالم جديد، كليا، بالنسبة لي.
حتى القراءات التي تأخذنا الى اقرب الاماكن وابعدها لم تقدم لي عنها تصورا يمكن التعويل عليه، استثني من ذلك، بطبيعة الحال، أعمال ماركيز التي صورت جانبا من الحياة في هذه الامكنة البعيدة عنا تماما. ولكن حتى أعمال ماركيز لم تسعفني كثيرا، لان مسرحها يدور في العالم الكاريبي الذي لم اتمكن من الوصول اليه خلال هذه الرحلة.
كانت سيلفيا التي استقبلتني في مطار بوغوتا، ذي الاجراءات الامنية والجمركية الصارمة، تعرف شيئا من الانجليزية، اما اندريا، الشاعرة الكولومبية الشابة اوروبية الملامح تماما (شقراء ذات عينين زرقاوين) التي ستدير امسية شعرية سأشارك فيها في بوغوتا، فكانت تعرف الانجليزية.. لذلك كانت اكثر تدفقا في الحديث والمشاعر.. ونسج حوار يتعدى الدرجة صفر التي وجدت نفسي ارسف فيها مع كثيرين تقربوا مني او تقربت منهم ولكن حاجز اللغة كان يرفع بيننا استاره الحديد.. وقد حسدت الشاعر والكاتب اللبناني عيسى مخلوف احد رفاق رحلتي لتضلعه بالاسبانية.. حيث اقام مطلع شبابه في فنزويلا وعرف من الاسبانية ما مكنه من اقامة حوار لم ينقطع مع شبان وشابات كولومبيين يتوقون الى تبادل الأفكار والمشاغل.. والهموم.. سيلفيا واندريا وجهات سيتكرر مثيلهما، ملامح وسمات، كثيرا في المدن الكولومبية الاربع التي سأزورها.
سيكون هناك اكثر من وجه لكولومبيا: اوروبي، و»هندي« وافريقي، ومزيج من الاوروبي والهندي، او الاوروبي والافريقي.
اكثـر من اسم ووجه لكولومبيا
من حسن حظ بعض البلدان (او سوئه) انها تختصر باسم او اسمين.
لكن كولومبيا ترتبط بأذهان الكثيرين بأكثر من اسم: يعرفها عشاق الأدب من خلال كاتبها العظيم غابرييل غارسيا ماركيز، ومحبو الفن التشكيلي من خلال رسامها ونحاتها الكبير بوتيرو، والشعراء من خلال مهرجان »مديين« الشهير، وتجار المخدرات من خلال اقوى زعيم »كارتيل« في العالم بابلو اسكوبار.
ويعرفها، اخيرا، عشاق الأغنية.. من خلال شاكيرا مبارك، اللبنانية الاصل.. التي ادخلت الى »البوب موزيك« انفجارات العواطف اللاتينية، و»هزّ البطن« الشرقي.. الى بعض الشرر السياسي المألوف والعادي في حياة امريكا الجنوبية.. كخبز الذرة.
لكنها تُعرف، أيضا، (لا أدري الى حد)، من خلال واحدة من أطول الحروب الاهلية، في قارة، لعلها ان تكون أجمل قارات العالم واكثرها تنوعاً ومناخاً وطبيعة واعراقاً.
ذهبت الى كولومبيا، رغم تحذير الكثيرين لي من حروب العصابات، والمخدرات، بفكرة واحدة أو فكرتين وعدت منها مكتظاً بالافكار والصور التي غيرت، كليا، تصوري عن هذا البلد المترامي.
زرت عشرات البلدان من قبل (في جنوب العالم وشماله).
ولكن لا بلد من هذه البلدان يشبه كولومبيا.
لا في الطبيعة.
ولا في المناخ.
ولا في تنوع السحنات والاعراق.
ولا في حرارة الناس وطيبتهم.
قال لي البعض انها نموذج قابل للتكرر في امريكا اللاتينية التي لم تطأها قدماي قبل هذه الرحلة.
وافق الكولومبيون الذين التقيتهم في بوغوتا ومديين وسنتافي وانفيغادو على بعض اوجه الشبه واختلفوا في أوجه كثيرة.
الفساد، البيروقراطية، الفقر، التمردات الاجتماعية التي تتخذ أحيانا شكل حروب مزمنة (المثال الكولومبي والبيروفي)، التنوع المناخي والعرقي، هي عناصر مشتركة بين معظم بلدان القارة التي غزاها الاسبان والبرتغاليون وقاموا بحملات ابادة واخضاع ديني و»ثقافي« شامل لسكانها الاصليين، لكن، حسب أقوال الكولومبيين والمصادر القليلة المكتوبة بالانجليزية التي عثرت عليها هناك، فانها، تختلف عن شقيقاتها اللاتينيات في أمرين اثنين: تنوع الطبيعة وغناها، وقوة حركات حرب العصابات وانقسام الموقف الاهلي منها.
اعراق وسحنات مختلفة
يصر الكولومبيون على ان بلدهم الاكثر غنى وتنوعاً في الطبيعة والمناخ من أي بلد آخر في العالم، يكفي أن أورد هنا، بعض التفاصيل والارقام (من دون ان أجزم بصحتها) لنعرف ان لهذا الزعم ما يسنده.
فمن حيث تنوع اعراق السكان فان الاحصاءات تشير الى ان 58٪ من عدد سكان كولومبيا البالغ 45 مليون نسمة هم من »المستيزو« الذين يتحدرون من اصول اوروبية- هندية، فيما يشكل الاوروبيون 20٪، اما »المولاتا« الذين هم مزيج من الاوروبيين والافارقة فيشكلون 14٪، في حين هناك ٤٪ فقط من اصول افريقية، و٣٪ يتحدرون من اصول أفريقية هندية.
ويبدو أن السكان الاصليين الهنود الذين لا يزالون يحافظون على شيء من الهوية والتماسك الثقافي والاجتماعي فلا تتجاوز نسبتهم ١٪ من التعداد العام للسكان.
ولا تلاحظ الاحصاءات نسبة محددة للمتحدرين من اصول عربية هاجر الجيل الاول منهم أيام الدولة العثمانية وحملوا، لهذا السبب بالذات، اسما لا يدل عليهم: الاترك، »لا تركو«. وهم يتمركزون في المناطق الكاريبية وشبه الصحراوية، مثل »بارنكيلا« التي هي احدى نقاط انطلاق موهبة غابرييل غارسيا ماركيز الروائية، حيث شكل مع مجموعة من الكتاب الشبان ما يعرف بـ»مجموعة بارنكيلا« التي كانت مهووسة بأدب الحداثة الاوروبي.
ومن يقرأ أعمال ماركيز، التي يدور معظمها في منطقة الكاريبي (خصوصا روايته المبكرة »في ساعة نحس« ) سيقع على تسميتين للمهاجرين العرب: الاتراك، والسوريين. الاولى لانهم كانوا يحملون، حينذاك، الوثائق العثمانية، والثانية لانهم جاءوا من سورية الكبرى وخصوصا لبنان وسورية، ويقال أيضا من فلسطين والاردن. ويبدو ان شهرتهم في التجارة صارت مثلا. فقد اخبرني راوي حكايات شعبية التقيته في بوغوتا يدعى ريكاردو ان هناك مثلا كولومبيا يقرن الشطارة في التجارة.. بـ»لا تركو«.. أي اللبنانيين تحديدا.. وهذا، على كل حال، امر معروف عن اللبنانيين في العالم العربي.
اما »باولا«، وهي شاعرة التقيتها في »مديين«، وتتحدر من اب ليتواني وام المانية مهاجرين وتقيم بين العرب في »بارنكيلا« فسمت هؤلاء باسمهم الحقيقي: العرب.. او على نحو اكثر دقة: اللبنانيين، وعددت لي بعض اسماء العائلات اللبنانية التي تعرفها مثل عائلة »زاخم« و»عضوم«.
قد لا يكون هذا الموزاييك العرقي العجيب غريبا في امريكا الجنوبية التي شكلت على مدار القرون الخمسة من عمر الغزو الاوروبي لها مركزاً مهماً لتجارة العبيد وهجرات اوروبية (اسبانية، خصوصاً) جاءت مع الغزو او بعده.. فقد تجد مثله، بهذا القدر او ذاك بانحاء القارة.
أما بخصوص التنوع في الطبيعة، فكولومبيا هي الدولة الامريكية الجنوبية الوحيدة التي تقع على محيطين: الهادئ والاطلسي (الكاريبي)، ويتنوع مناخها من شبه الصحراوي الى المداري. مرورا بالجبلي البارد.
وقد لاحظت الفرق بنفسي. ففي حين كان المناخ بارداً ماطراً في العاصمة »بوغوتا« التي كانت اول محطة لي في رحلتي الكولومبية، ولا ادري بأي صدفة عجيبة حملت معي سترة شتوية (بسبب تصوري القاصر، على الارجح، عن امريكا الجنوبية انها بلاد مدارية حارة) التي بدت لي كغنيمة حقيقية عندما وجدتها في حقيبتي، فإنني لم احتج الى اكثر من قميص او »تي شيرت« في كل من »مديين« او حتى بدونهما، (لو أمكن) في »سنتافي«.
ويصر الكولومبيون، ولابد ان يكون هذا حقيقياً، ان بلادهم تحتوي على تنوع في النباتات والحيوانات والطيور لا مثيل له في بلد آخر في العالم.
فهناك نحو 129 نوعاً من الطيور وحدها، و130 ألفا من النباتات، بما فيها ما يسمى، علميا، »فيكتوريا أمازونيكا« وهي اقرب الى »زنبقة الماء«، حيث يقال ان اوراقها من الكبر والقوة ما يمكنها من حمل طفل صغير!
وهذا يعني انها تحوي، حسب المصادر الكولومبية، نفسها، من الطيور اكثر مما تحوي اوروبا الغربية وامريكا الشمالية مجتمعتين!
لحسن حظي ان سفري في بعض مقاطعات كولومبيا كان نهاراً، ومعظمه كان في الحافلات، مما مكنني من رؤية تنوع مذهل في النباتات والزهور ذات الالوان القوية (الفاقعة احيانا)، ومشاهدة وسماع اصوات طيور لم أرها او اسمع صوتها من قبل، بما في ذلك عقبان ونسور تحلق في الوديان. وقد لفت نظري بين اشجار جبال ووديان (مديين« شجرة كبيرة تبدو اوراقها القليلة الانيقة عن بعد ذات لون فضي يلمع تحت الشمس ولكن ما ان تقترب منها حتى تتبدى لك بلون اخضر فاتح مغبر بعض الشيء.
سألت »باولا« اثناء احدى جولاتنا في »مديين« عنها فلم تعرف اسمها، فسألت احد مرافقينا من ابناء المدينة فقال انها تسمى .yarumo
نتحدث، نحن العرب، باسهاب عن جبال لبنان او الجزائر والمغرب، ولكن هذه تبدو، بمقارنة، بجبال كولومبيا علوا وتنوعاً في النباتات مجرد تلال صغيرة.. شبه جرداء.
وكمثال على تسيد الجبال جانبا من جغرافية كولومبيا يكفي ان اذكر ان مطار مديين يبعد عن المدينة نحو ساعتين بالسيارة… وذلك لعدم وجود مكان منبسط اكثر قربا. فمن المطار اخذنا بالصعود الشاق في طريق ضيقة بالكاد تتسع لمرور حافلة الى قمة الجبل، ومن ثم رحنا نهبط، ملتفين حول الجبال التي تحيط بمديين حتى وصلنا الى المدينة التي تقوم على بسطة من الأرض بين هذه الجبال الضخمة شديدة الوعورة.. شديدة الخصب كذلك.
مخدرات ويسار ويمين
لواحد مثلي عاش أطواراً من الحرب الاهلية في لبنان وصولا الى الحصار الاسرائيلي لبيروت الغربية فان كولومبيا لا تبدو، على نحو استثنائي، مكاناً خطراً.
اعرف من خلال التجربة ان صورة الخارج تختلف عن صورة الداخل.
كان الاسرائيليون يقصفون بيروت الغربية اثناء حصارهم لها صيف عام 1982 فيما »عم عمر« يطبخ لنا، في بيت هند جوهرية، الذي اتخذته الاذاعة الفلسطينية التي عملت فيها اثناء الحصار مقراً لغرفة التحرير، »الملوخية« حيناً و»المقلوبة« حيناً آخر، بل تمكنا، بسبب حماسة حسن عصفور لـ»الفطبول«، من مشاهدة بعض مباريات كأس العالم!
قلت لمن نهاني عن الذهاب الى بلد ماركيز وبوتيرو واسوكوبار حيث تدور حرب ضروس بين القوات الحكومية والميليشيات اليمينية من جهة وقوى اليسار المسلح من جهة اخرى ان كولومبيا ليست أشد خطراً من بيروت ايام الحصار الاسرائيلي، فقال لي، صائب، انك لم تعد ايضا، ذلك الشاب العشريني الذي لا تفرق خطاه المجنحة بين مصائد الموت وصبوات الحياة في شوارع بيروت.
الصورة الأسوأ عن كولومبيا في الخارج ليست الحرب، بل الخطف، حتى ان ماركيز الذي لم تدر، حسب علمي، أي من رواياته الشهيرة عن كولومبيا وصراعاتها الراهنة وضع روبرتاجاً طويلاً في قالب روائي عن هذا الموضوع بالذات.
وليس الاختطاف مقصورا على اليسار المسلح وحده، بل تمارسه كذلك الميليشيات اليمينية المساندة للنظام. وقد فهمت من بعض الكولومبيين الذين التقيتهم سواء في بوغوتا ام في مديين ان الامر لا يتعلق بطلب فدية مالية ولكن للمبادلة بمخطوفين لهذه الجهة عند تلك.
نحن نعرف ان اسرائيل ومصر هما الدولتان اللتان تتلقيان، على التوالي، اكبر قسط من المساعدات الامريكية الخارجية، ولكننا نادراً ما تساءلنا (او اهتممنا) عمن تليهما على هذا الصعيد. انها كولومبيا التي تتلقى نحو 1.3 مليار دولار سنوياً.
فهذه دولة مركزية في امريكا اللاتينية كانت تسمى ذات يوم، بهمة القائد الشهير لحركة التحرير في القارة اللاتينية سيمون بولفار، »كولومبيا الكبرى« وتضم اليها فنزويلا، الاكوادور وبنما.
لكن التدخلات الاستعمارية، الامريكية الشمالية، خصوصاً، والحروب الاهلية، أدت الى تفتت هذا الكيان العملاق الى ثلاث بلدان هي: كولومبيا، فنزويلا، الاكوادور، اما بنما فقد دفعت الولايات المتحدة للحكومة الكولومبية 25 مليون دولار تعويضا عن خسارتها لها.
ولا يقتصر اهتمام واشنطن، تاريخيا، بكولومبيا في كون الاخيرة تتمتع بموقع مركزي في القارة اللاتينية، ولكن أيضا لأنها لا تبعد عن ميامي سوى نحو ثلاث ساعات بالطائرة.
انها، بمعنى من المعاني، ساحة خلفية لها.
هناك موضوعان اساسيان يشغلان بال واشنطن حيال كولومبيا: النفوذ القوي لفصائل اليسار الماركسي المسلح في البلاد، والمخدرات، لكن بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط »المعسكر الاشتراكي« تغيرت أولويات الولايات المتحدة، فلم يعد اليسار الماركسي يقلقها كثيراً، فتصدرت المخدرات واجهة الاهتمام الامريكي.
لكن من الصعب، على ما يبدو، الفصل، اليوم، بين فصائل اليسار المسلح وتجارة المخدرات، خصوصاً، وان واشنطن وبوغوتا تجدان صلة قوية بين الامرين.
لم يكن هذا رأي »خوان« الشاب الكولومبي، الهندي الملامح، الذي رافقني في رحلة الى مدينة سانتافي واقام نحو سبع سنين في الولايات المتحدة الامريكية، حيث قال ان الحكومة الكولومبية وواشنطن تحاولان ان تربطا النشاط العسكري اليساري في كولومبيا بتجارة المخدرات.
فقلت له: ولكن لا دخان بدون نار، فأجاب ان كل ما في الامر ان هذه القوى تجني ضريبة على الكوكايين الذي يزرع ويصنع في الاراضي الخاضعة لها، وهذا احد مصادر تمويلها.. ثم اضاف: ولكن هذا لم يحصل الا في السنين العشر الاخيرة عندما اخذت الحكومة بمساعدة عسكرية مباشرة من امريكا في تضييق الخناق على الحركات اليسارية.
الطريف في الامر، حسب خوان، ان هذه الحركات تمنع تعاطي المخدرات في الاماكن التي تسيطر عليها رغم فرضها ضريبة على تجارتها!!
ويبدو ان هذا الدفاع عن القوى اليسارية يخفي دعم، ان لم يكن انتماء، »خوان« اليها.
كان في لبنان وافغانستان من يرى، أيضا، في زراعة الحشيشة والافيون وتصديرهما الى الغرب نوعا من النضال ضد الامبريالية.. او تقويضها من الداخل!
لا ادري كم يقترب كلام »خوان« من الحقيقة، فقد رأيت »الماريوانا« تلفُ، علنا، من قبل المثقفين الكولومبيين حتى في الفندق الذي كنا ننزل فيه، ولما ابديت استغرابي لصديقي الشاعر رافائيل باتينو الذي كنت التقيته في كندا قبل بضع سنين، قال ان استخدام الاعشاب المخدرة (وليس الكوكايين، المصنع من شجرة الكوكا) هو جزء من التقاليد الثقافية للسكان الاصليين.
٭ ٭ ٭
نتذكر ان العقيد اورليانو بوينديا في رواية ماركيز »مائة عام من العزلة«، كان من تيار الاحرار المشبع بالروح الغاريبالدية الذي قاتل في واحدة من الحروب الاهلية التي اجتاحت كولومبيا، لعلها ان تكون »حرب الألف يوم« (1899- 1902).
نتذكر ان جد ماركيز كان عقيدا في تلك الحرب التي خلفت وراءها نحو 100 الف قتيل، ولكنه، على الاغلب، ليس اساس شخصية اورليانو بوينديا بل لعل اصل هذه الشخصية الروائية، على ما يقول صديق ماركيز ورفيق خطواته الاولى الكاتب منذوزا، هو الجنرال رافائيل البرتي القائد الاسطوري لتلك الحرب.
الصراع بين اليمين واليسار، او المحافظين والاحرار، له جذور تاريخية في كولومبيا.
ولكن التطور الابرز في تحول هذا الصراع الى حرب أهلية مسلحة حصل في الاربعينيات في ظل نظام دكتاتوري عسكري.
ويبدو ان أطرافا راديكالية من حزب الاحرار والحزب الشيوعي قد غادرت اللعبة السياسية الحزبية في كولومبيا لتأسيس تنظيم يدعى (Farc) يسيطر اليوم على مناطق واسعة من الريف الكولومبي ويبلغ عديده نحو 17500 مسلح، تشكل النساء نسبة 30 في المائة.
في مقابل هذا التنظيم الاكبر في قوى اليسار المسلح (هناك تنظيم آخر اقل حجما واهمية منه يدعى (ELN) متأثر بالتجربة الكوبية) فان قوى اليمين المتطرف، مدعومة من النظام، تمتلك ميليشيا عسكرية وتخوض حرباً هي الاخرى ولكن.. ضد اليسار.
ويمارس الطرفان الاغتيال حيال رموزهما او المتعاطفين معهما في معظم انحاء كولومبيا، وعلى الاخص، في المدن.. التي سنتلقى تعليمات صريحة بالحذر اثناء تحركنا فيها.
تعليمات صارمة
كانت اول تعليمات تلقيتها من المشرفين على المهرجان الشعري الذي دعيت اليه في كولومبيا عندما وصلت الى فندقي في بوغوتا الا أخرج بمفردي من الفندق.. وان خرجت فيستحسن ان يكون برفقة أحدهم.
قلت لهم: هل الأمر خطر الى هذا الحد؟
فقالوا: هناك اشكالات امنية قد لا تعرفها، ولا تعرف اطرافها، ويفضل ان يكون احدنا معك.
وفعلاً لم أخرج مرة واحدة وحدي، رغم انني، شكلاً، لا اختلف عن كثير من الكولومبيين.
فأي شخص بسحنة اوروبية، سوداء، متوسطية قد يكون كولومبياً، ولكن الاختطاف (او حتى السرقة، وهي شائعة في المدن الكبرى) لا يتعلق بالاجانب وحدهم، بل يطال الكولومبيين.
هكذا، لم أتمكن، فعلاً، من مشاهدة الكثير من معالم بوغوتا، اقتصرت جولاتي القصيرة (بمرافقة كولومبيين دائما) على مناطق قريبة من الفندق، كان ابرزها »المتحف الوطني« الذي كان في الاصل سجناً قديماً.
وفي المتحف الذي يضم مقتنيات فنية عديدة من العالم (أغلبها لفنانين اوروبيين شهيرين) كان الجناح الذي تعرض فيه أعمال جديدة لرسام ونحات كولومبيا المعروف بوتيرو (botero) هو المفضل لدي.
العنف الذي يطبع حياة كولومبيا، اليوم، هو الهاجس الذي يسيطر على أعمال هذا الفنان.
سيارات مفخخة، اختطافات، قتل بالبنادق القديمة التي تذكر بأفلام »رعاة البقر« او بالسكاكين الطويلة (الماشيتي) الدم الذي يسيل من أجساد الضحايا، تتكرر في جنبات الصالة المخصصة لأعماله، ولكن الألوان، التي تعكس بيئة كولومبيا، دائماً قوية (الأحمر، الأخضر، الاصفر) لا مجال فيها للتوسط او الالتباس.
وهذه، بالمناسبة، ألوان حافلات الركاب التي تراها سواء في العاصمة ام في المدن الاقليمية، ومعظمها من ماركة »شيفرز« الامريكية ولكنها مصممة، على الارجح للسوق اللاتينية، ليس بسبب ألوانها الفاقعة فحسب ولكن بسبب طرزها الغريبة التي تذكر بمثيلتها في الهند وباكستان.
وكان يتعين علينا ان نمتثل في »مديين« الى تعليمات لـ»السلامة العامة« اكثر تشددا مما كان عليه الامر في العاصمة »بوغوتا«.. فلهذه المدينة الاقليمية الكبيرة سمعة سيئة في الخارج لم تكن خافية على منظمي المهرجان الشعري الذي يعتبر الاكبر في امريكا اللاتينية.. فحاول ان يخففوا وقعها علينا ولكن من دون ان »يغامروا« بأرواح ضيوفهم، لذلك طلبوا الينا بشكل واضح وصريح ان لا نغادر الفندق من دون علمهم.. والافضل من دون مرافق من جانبهم.
كنا فعلا نريد الخروج، ان لم يكن من اجل ان نرى هذه المدينة ذات »السمعة السيئة«، فمن اجل الطعام. فالاكل الذي يقدمه الفندق رغم اشراف »صديقة« الشعراء العرب الفاتنة »باولا« على مطبخ الفندق الذي نقيم فيه، كان غريبا، بل عديم المذاق (مع ان احدا منا لم يجرؤ على ان يخبر باولا بذلك)، الى درجة ان »بهارات قاسم« الشهيرة التي يحرص قاسم حداد على التزود بها (وتزويد الآخرين، كذلك) مع كل سفرة له خارج البحرين لم تتمكن، بكل طاقتها السحرية، من جعل هذا الطعام »الماسخ« قابلا للأكل.
الطعام الكولومبي، او على نحو اكثر حذرا، طعام هذا الفندق، ابطل كل مفعول مأمول لـ»بهارات قاسم«، بما في ذلك اشدها تأثيرا: »الاجار الهندي«!
قررنا في يوم بلغ به الجوع فينا كل مبلغ ان نخرج بحثا عن مطعم يمكن ان »نفهم« أكله، كانت المهمة الاصعب من مغامرتنا بحثا عن الطعام في مدينة بدت لنا من فرط ما سمعنا من اخبار سيئة عنها كحقل ألغام، ان نتمكن من انتشال سيف الرحبي من استرخائه الابدي في احدى »كنبايات« الفندق.
ولكن بهمة عبداللطيف اللعبي واغراءات الطعام المنشود الذي لابد ان يكون موجودا في مكان ما في هذه المدينة تخلى سيف عن »كنبايته« الاثيرة.
كانت المدينة تعج بالحركة والحياة.. لم تبد خطرة من خلال مسحنا السياحي السريع لواجهتها.. فما دام هناك بشر يتحركون وحياة تدب في كل شيء فهذا يعني ان الخطر افتراضي.. لكن كثرة عناصر الشرطة والجيش والامن الخاص الذين تكاد تراهم في كل مكان تقريبا اكدت لنا ان الخطر حقيقي والا لما كان هذا العدد الكبير من رجال الشرطة والجيش منتشرا في كل مكان حيوي في المدينة.
الخطر حقيقي.. لكن الجوع كان حقيقيا فعلا، وبسبب هذا الجوع بالذات تمكنا، بعد ان قام شاب من العاملين في المهرجان بمرافقتنا، من التجول في المدينة ورؤية الساحة الشهيرة التي تنتصب فيها تماثيل بوتيرو غريبة الاشكال والاحجام خصوصا النساء السمينات الى درجة كاريكاتورية.. سمنة لم نر شيئا يشبهها في نساء »مديين« التي لا ادري من وصفها منا، نحن الشعراء العرب، بالمنحوتات الحقيقية.
داء السياسة
الـ(Farc) القوات المسلحة الثورية الكولومبية- الفصيل الرئيسي في اليسار المسلح لا تسيطر على أرض بمساحة سويسرا وتقيم عليها دولتها (جمارك، صحة، تعليم، الخ)، فقط، بل لها وجود قوي في صفوف الشباب الجامعي.
وكان عليّ أن اكتشف »قوة اليسار« في القراءة الشعرية التي اقيمت على احد مدارج الجامعة الوطنية في بوغوتا.
فما ان تصل الى حرم الجامعة حتى يطالعك ملصق عملاق لتشي غيفارا، ولكن ما ان يعرف الحضور الشبابي الكثيف انك عربي وذو مسحة يسارية حتى تكون في بيتك.. وبين أهلك.
وهؤلاء يعتبرون، على نحو مسلّم به ولا يقبل الشك او المساءلة، ان كل عربي هو بالضرورة، معاد للولايات المتحدة، فما أن يشتمّوا، في شعرك او كلامك، ما يشي انه تعريض بأمريكا حتى يعلو الهتاف والتصفيق.
وسيتكرر هذا المشهد في كل المدن الاخرى التي قرأت فيها.
ولكن هذا لا يعني ان كل الشباب الكولومبي متعاطف مع الـ(Farc) بل هناك، بالتأكيد من يعتبرها (جنبا الى جنب مع عصابات المخدرات)، سببا في العنف المتواصل في بلادهم.. وتعويق تطورها.. والاهم عزلها عن العالم.
المتعاطفون مع اليسار المسلح لا يعبرون عن مشاعرهم علنا خشية قوى الامن الحكومية والميليشيات اليمينية، ولكنهم يصبون جام غضبهم على النظام الكولومبي وحليفته واشنطن فتعرف، بذلك، ميولهم من دون أن تسأل في أي صف يقفون، بينما المعارضون لليسار المسلح فلا يترددون في اعتباره آفة ينبغي اقتلاعها.
ورغم انني كنت أتحرك، خلال هذه الرحلة، في اوساط ثقافية الا ان السياسة كانت دائما حاضرة، ويبدو ان الكولومبيين، وربما كل شعوب امريكا اللاتينية، مصابة مثلنا بداء السياسة. تاريخ هذه البلاد يؤكد ذلك.
يسار ويمين، وحروب خاسرة تطوي حروبا أخرى، هذا يشبه الى حد ما العالم العربي:
كأن لا تراكم يحدث ولا ذاكرة تتذكر وتشهد.
أخذت أتذكر، من خلال أحاديث، ذات فراغات كثيرة أملاها غياب الوسيط اللغوي الناجع، مع عدد من المثقفين الكولومبيين صورة العالم العربي مع الأفكار »التقدمية« و»الرجعية« والتجارب السياسية التي لم تفلح في قيام نظام يحقق الحد الادنى من صبوات العرب.
بدت لي كولومبيا، وربما امريكا اللاتينية كلها، مصابة، مثلنا أيضا، بفقدان الذاكرة.
هذا ما قاله الممثل الشاب »موريسيو« عن كولومبيا، وقد وجدت اصل الفكرة عند ماركيز الذي قرأت له حوارا صحفيا اجراه صديقه منذوزا قبل نيله جائزة »نوبل« عام 1982 ونشر في كتاب بعنوان »رائحة الجوافة«. (ترجمته العربية صادرة عن دار »ازمنة« الاردنية)، حيث يقول: »ان تاريخ امريكا اللاتينية يتشكل من مغامرات هائلة عديمة الفائدة، وسلسلة من الاحداث المأساوية الكبيرة المحكوم عليها بالنسيان مسبقا. نحن أيضا نعاني من داء فقدان الذاكرة. بمرور الوقت لم يعد احد يتذكر مذبحة عمال شركة الموز قد وقعت فعلا، كل ما يتذكرونه هو العقيد اورليانو بوينديا«.
الناس تنسى الهزائم وتتذكر »الابطال«.
تصنع الابطال وتتذكرهم، وتنسى ما جلبه هؤلاء »الابطال« من مآس كان يمكن تفاديها.
التاريخ العربي الحديث مليء بمثل هؤلاء. ولا داعي لذكرهم، فصورهم لا تزال تطل علينا في الشوارع، في صدور البيوت، وفي الكتب. عندما كان »موريسو«، وهو ممثل مسرحي شاب قام بسبب معرفته بالانجليزية بالترجمة لي اكثر من مرة، يحدثني باشمئزاز عن حكومة الرئيس الفارو اوريبي الذي يعتبره عميلا صغيرا لامريكا وعن احتقانات بلاده السياسية، كان يتلفت يمنة ويسرة الامر الذي ذكرني، أيضا وايضا، بأحوالنا العربية حيث لا يستطيع كثير من العرب الجهر بآرائهم ومواقفهم من أنظمة بلادهم لان »للحيطان اذان« حسب تعبير المثل العربي الشائع.
أتذكر هذا الشاب الذي يريد السفر الى بريطانيا للتعرف على مسرحها الشهير وهو يردد، باشمئزاز، هذه الكلمات التي بدت لي كأنها جملة مقتطفة من عمل شكسبيري: ان حياتنا تتعفن هنا.
ثلاثة آلاف مستمع للشعر
ورغم ان 45٪ من سكان كولومبيا يعيشون في فقر مدقع فان ما لفتني (الى جانب التنوع البيئي المذهل) هو قوة الحياة التي تسري في أجسادهم وأرواحهم.
حياة ميالة للفرح والخفة في مواجهة ظروف اجتماعية واقتصادية وأمنية قاهرة.. بكل معنى الكلمة.. الى درجة ان اناسا كثيرين يعيشون في الشوارع: يأكلون ويشربون وينامون على الأرصفة.. او الى جانب الكنائس حيث تلتمس الصدقات والرجاء، ولكن مع ذلك تسمع الموسيقى تصدح في الشوارع، وترى سيل الحياة يتدفق مع الحافلات الفاقعة الالوان، امام البيوت المشرعة دائما التي تجلس أمامها في العصاري المنعشة العائلة بأكملها.. الرجال دائما بالفانيلات البيضاء الداخلية.. والشورتات.. والنساء، الفتيات خصوصا، بما خفَّ من الثياب.
أما محبتهم للشعر (.. وهي في نظري محبة للجمال والمعنى) فتفاجئ حتى القادم من العالم العربي الذي يحلو له ان يردد، من دون براهين ملموسة اليوم، ان الشعر »ديوان العرب«.. يكفي ان اذكر ان عدد الذين حضروا افتتاح مهرجان »مديين« الشعري الذي دعيت اليه بصحبة قاسم حداد، عبداللطيف اللعبي، سيف الرحبي، عيسى مخلوف تجاوز ثلاثة آلاف شخص!
× × ×
ويمكن لي أن أتذكر طويلا تلك الامسية التي أقيمت في بلدة »انفيغادو« مسقط رأس زعيم كارتيل المخدرات الشهير بابلو اسكوبار الذي قتلته الشرطة، بالتعاون مع المخابرات والجيش الامريكيين، بعد فراره من السجن عام 1992.
كان موقع الامسية التي سأقرأ فيها، بمعية عدد من الشعراء الناطقين بالاسبانية، ساحة عامة يحيط بها من جهة صف من المطاعم والمقاهي ومحال البقالة ومن جهة أخرى كتدرائية البلدة.. ويبدو ان وقت القراءة ترافق مع قداس (او صلاة) يقام في ذلك المساء.
لم أفهم، في اول الامر، لماذا كان يتعين علينا الانتظار رغم تقاطر عدد لا بأس به من الناس الى الساحة: شابات وشبان، نساء مع أطفالهن، متشردون، أناس من سحنات مختلفة، كانوا قد جلسوا على الارض او احتلوا المقاعد القليلة التي كانت في الساحة، فيما رائحة المأكولات المقلية تعبق في الجو.
فهمت من أحد المنظمين اننا ننتظر انتهاء القداس. كان بامكاننا ان نسمع التراتيل التي تتلى في الكتدرائية.. ولما طال الوقت اكثر مما ينبغي خطر لي أن أذهب الى الكتدرائية التي تواجه المنبر المفترض للامسية الشعرية. كانت الكنيسة الكبيرة ذات الزخرف الكاثوليكي المعتاد مكتظة بالمصلين.
فوقفت قريبا من الباب.. رأيت اخلاطامن الاعمار والسحنات خاشعين، ولكن ما شدني اكثر من أي شيء آخر هو ذلك الرجل الواقف بالقرب من احد أعمدة الكنيسة ممسكا بتمثال صغير للسيدة العذراء وينتحب في صمت. رجل في الستينيات من عمره ظل، طول الوقت الذي قضيته في الكنيسة، منكبا على التمثال الصغير فيما جسده النحيل يهتز. لعله الرزء أو الرجاء هو ما يدفع هذا الرجل الى بكاء صامت يهتز له سائر بدنه.
فكرت ان الدين، بهذا المعنى، ليس »افيونا« حسب المقولة الماركسية الشائعة، بل هو نوع من الرجاء، الدين وحده، على ما يبدو، هو القادر على منح هذا الرجاء.
ما ان انتهى القداس حتى أخذ المصلون يتصافحون استعدادا للخروج.
كان بالقرب مني شاب وفتاة تبدو عليها علائم الحمل، صافحاني متمتمين شيئا بالاسبانية لم أفهمه.
خرجت الى مكان الامسية الشعرية فوجدت المنظمين قد فقدوا أثري وخافوا أن يكون وقع لي مكروه.. فنحن، بعد كل شيء في مسقط رأس زعيم اكبر كارتيل مخدرات في العالم.
الشيء الذي لم أجد له تفسيرا هو الغياب شبه الكامل لرجال الشرطة او الامن الخاص الذين تراهم، عادة، مشرعين بنادقهم أمام الدوائر الحكومية والامكنة العامة.. والاسواق التجارية.. وهذا يعني، تقريبا، في كل مكان.
فهل كان هذا المكان آمنا فلا يحتاج، والحال، الى وجود الشرطة، أم انه خطر حتى على الشرطة أنفسهم؟
لم أعرف.. وان قال عيسى مخلوف، الذي كان يقرأ هو والشعراء العرب في أمكنة أخرى مجاورة لـ»مديين«، مازحا: يبدو ان المنظمين قد تدبروا أمرهم مع »الجماعة«!
كان مدهشا ان أرى معظم المصلين ينضمون الى المنتظرين في الساحة العامة لسماع الشعر. اعرف ان منظمي مهرجان »مديين« ذوو مسحة يسارية، ولعلهم لهذا السبب بالذات، لا يعرفون مواعيد الصلوات، فقد تكرر مشهد قريب من ذلك في »سنتافي« البلدة التاريخية التي تعتبر أول مستوطنة كولونيالية اسبانية في كولومبيا.
فبينما كنت أقرأ في ساحة عامة، ولكن صغيرة هذه المرة، تقابلها، أيضا، كنيسة فاذا بالاجراس تقرع فتوقفت عن القراءة.. وقد ذكرني هذا المشهد بالقراءات الشعرية في »بيت الشعر الاردني« و»دارة الفنون« في عمّان حيث تترافق القراءات، دائما، مع رفع اذان صلاة المغرب!
ولكن رغم حضور الدين البارز في حياة الكولومبيين فان ذلك لا يمنع حضور الجسد.
الدين والجسد ليسا، هنا، على طرفي نقيض، مع ان المسيحية عموما، الكاثوليكية خصوصا، ترى في الجسد خطيئة.
فالطقس الحار والتقاليد الثقافية ما قبل المسيحية لمعظم السكان (هنود، افارقة) لا تجعلان من الجسد (الانثوي) عورة ينبغي سترها أو مواراتها. فالسيقان والاذرع والبطون والنحور المكشوفة هي مظهر عادي لا يثير استنكارا أو فضولا. ويبدو ان العلاقات بين الجنسين، بل العلاقات بين الناس عموما، لا تخضع للتوجس الذي يراه المرء في اوربا. فالمسافة بين الناس تكاد تكون منعدمة. فهم يتلامسون ويتعانقون ويتحدثون بأعلى أصواتهم، والعاطفة التي ينبغي أن تدفن جيدا في أعماق الفرد الاوربي واضحة، هنا… بل فاقعة.
انها مثل شمس بلادهم، مثل حرارتها، مثل ألوان طبيعتهم لا تقبل تأويلا أو مواربة.
كان عيسى مخلوف الذي يقيم في باريس محقا وهو يعانق صديقتنا »باولا« المشرفة على المطبخ في الفندق، قائلا لها، بين المزج والجد، انه يريد أن يتزود بـ»حرارة« كولومبيا لمواجهة برودة باريس. فما عساي أقول أنا الذي يقيم في لندن.. وبين »ابرد« شعوب الأرض: الانجليز؟!
أمجد ناصر (شاعر وكاتب من الاردن يقيم في لندن)