توفي عبد الكبير الخطيبي في صبيحة الإثنين السادس عشر من مارس 2009. وتلك نهاية بشرية طبيعية لاتكون موضوع مناقشة بالنسبة لأي كائن بشري، وكذلك هي بالنسبة لهذا الرجل.توقف قلبه عن النبض، وتوقف بوصفه جسما عن الحياة. ورغم اعترافنا بالحقيقة التي عبر عنها الفيلسوف الفرنسي مارسل غابرييل مارسل في يومياته الميتافيزيقية حين أكد معرفا الأنا بقوله « أنا جسمي»، فإننا نفكر في الكاتب عامة والفيلسوف خاصة في إضافة أخرى هي كتبه. الفلاسفة، كما قال عنهم هيغل، يوجدون في كتبهم التي تحفظ ذكراهم بعد وفاتهم.وقد كان الراحل عنا عبد الكبير الخطيبي فيلسوفا في بعد من الأبعاد المتنوعة لكتاباته.نعرف الآن أن المجال الثقافي المغربي عامة، والفلسفي والاجتماعي منه خاصة، فقد بموت الخطيبي أحدالمساهمين الأساسيين خلال النصف الثاني من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين،في بلورة ما نسميه الآن بالفكر الفلسفي المغربي، فضلا عن مساهماته الأدبية والنقدية.
لانتحدث هنا عن كاتب عرفناه عن بعد عن طريق مؤلفاته فحسب، بل نتحدث أيضا عن شخص كنا نكن لمساره التقدير عبر معرفتنا به منذ مايزيد عن ثلاثة عقود من الزمن. الخطيبي بالنسبة إلينا باحث بدأنا التعرف على أفكاره منذ سنوات السبعين من القرن العشرين، ولكنه كان أيضا الزميل الذي شاركناه في العمل، والصديق الذي ربطتنا به صلة احترام متبادل. وإذا كانت الثقافة المغربية قد فقدت بوفاته مبدعا اصيلا، فاننا فقدنا شخصيا صديقا كان اجتهاده الفكري مثالا يقتدى بالنسبة إلينا.
هناك ميزة للخطيبي لابد من ذكرها. فقد كنا نلتقي به أكثر من مرة: نتبادل التحية والسؤال، ثم يتجاوز الخطيبي ذلك مباشرة إلى السؤال عن حال الفلسفة والأنشطة المتعلقة بها، ويمضي مباشرة الى الحديث عن المشروع الذي يشغله في تلك اللحظة ويكون بصدد إنجازه مع دعوة للانخراط في التفكير في نفس الموضوع،إذ كان يروق له أن يجعل أفكاره دعوة للانخراط في تفكير جماعي.
الآن، وقد رحل الخطيبي ولم يعد حضوره الشخصي ممكنا، لم تعد هناك إلا ذكراه ممكنة المثول. وذكراه الأساسية هي ذكرى الأفكار التي بلورها وكان يعيشها ويحاور الآخرين بها. لايمكن في محاولة مستعجلة مثل هذه بدأنا كتابتها في نفس يوم وفاته أن نستحضر كل مساهماته الفكرية والأدبية والنقدية. ولذلك نكتفي باستحضار فكرتين أساسيتين من تحليله الاجتماعي: فكرة النقد المزدوج، ثم فكرة المغرب المتعدد. هتان فكرتان موجهتان لتحليل واقع وآفاق التحليل الاجتماعي، من جهة، ثم فكرة المغرب المتعدد وهي موجهة لتحليل واقع المجتمع المغربي.
تعرفنا على الفكرة الأولى عند الخطيبي، أي النفد المزدوج، حين صدرت مقالا قبل أن يصير موضوعها عنوانا لكتاب بكامله صدر للخطيبي في مرحلة لاحقة. ويهمنا هنا أن نسجل مناسبة تعرفنا على تلك الفكرة ، حيث يتعلق الأمر بطريقة في العمل. فقد دعانا الخطيبي إلى جلسة علمية إلى جانب عدد محدود من الأساتذة ليعرض مقاله للنقاش، وفي ذلك إشراك للجميع في بناء تلك الفكرة والعمل ضمن أفقها. الفكرة منبثقة عن شخص هو عبد الكبير الخطيبي، ولكن محاولته كانت هي دفع تلك الفكرة إلى مصير التداول الفكري لدى المهتمين بموضوعها.
بالنسبة لنا، على الأقل، فقد اثمرعرض فكرته إدماجنا لها في مناسبة لاحقة ضمن مادعوناه النقد الإبستمولوجي لواقع العلوم الإنسانية في العالم العربي. وهكذا اعتبرنا عبد الكبير الخطيبي، إلى جانب عبد الله العروي وأنور عبد المالك، نموذجا لذلك النقد الإبستمولوجي من حيث هو عودة العلوم الإنسانية إلى ذاتها بنقد اسئلتها ووضعها المعرفي.
مانقد المزدوج؟ نقول بإيجاز بلائم مقامنا إن الخطيبي كان يرى أن علم الاجتماع في العالم الغربي بصفة عامة، ومنه العالم العربي بصفة خاصة والمغرب بصفة أخص، في حاجة إلى نقد مزدوج. كان الخطيبي يقصد بهذه الفكرة مهمة تفكيكية للمعرفة الاجتماعية خول العالم العربي في مستويين متمايزين ومرتبطين في الوقت ذاته: تفكيك المعرفة التي تتعلق بالعام العربي والتي كان يغلب عليها الطابع الغربي وإيديولوجيته المتمركزة حول الذات، ثم تفكيك المعرفة الاجتماعية التي أنتجها العالم العربي حول ذاتها ونقد مفاهيمها.وفي نظر الخطيبي فإن عملية النقد المزدوج ستحرر المعرفة الاجتماعية التي ينتجها العالم العربي عن ذاته من استلاب مزدوج لاتكون فيه إلا مجرد تكرار لنمطين من المعرفة لم يواجه أي منهما موضوعها في خصوصيته. يعني النقد المزدوج تخرير المعرفة الاجتماعية عن الذات من الخلفيات الإيديولوجية لنمطين قائمين هما المعرفة الغربية، من جهة، ثم المعرفة التي أنتجها العالم العربي عن ذاته في الماضي والحاضر من جهة أخرى. النقد المزدوج بالمثال هو نقد مفهوم الزمن الدائري عند ابن خلدون، ونقدالنمذجة التي وضعها ماركس لأنماط الإنتاج.
نسجل قيمة أخرى لاجتهاد الخطيبي المتعلق بمهمة النقد المزدوج المطلوب، حيث لم ينحصر ذلك المجهود في وضع تلك الفكرة البرنامج، بل سعى إلى جعلها فكرة منطبقة عبر عدد من الدراسات التي أنجزها والتي نذكر منها دراسته حول المراتب الاجتماعية بالمغرب قبل الاستعمار، ثم دراسته عن الطبقات المجتمعية والدولة، مضيفين أيضا نقد الخطيبي لجاك بيرك تحت عنوان «جاك بيرك أو النكهة الشرقية». ليس من مهمة أي باحث يتقدم بمشروع أن ينجز إطاره النظري، ويقوم في الوقت ذاته بكل التطبيقات الممكنة. ولكن مايهمنا كقيمة هو السعي الذي قام به الخطيبي لاقتراح مهمة النقد المزدوج، ثم جعل هذه الفكرة معرفة منطبقة.
فكرة النقد المزدوج ليست، مع ذلك، من القوة بحيث تؤسس وحدها علما للاجتماع خاص بالمجتمع المغربي. وقد قام الخطيبي، كما ألمحنا الى ذلك، بدراسات تطبيقية ظهرت معها فكرة أساسية أخرى في تفكيره الاجتماعي، وهي فكرة المغرب المتعدد.(Maghreb pluriel هو عنوان كتاب صدر للخطيبي سنة1983) وهذه الفكرة نابعة عن فكر اختلافي لدى الخطيبي الذي ردد في مناسبات كثيرة أن الاختلاف واقع لايمكن إهماله عند التحليل. الواعي لهذا الاختلاف هو الدافع على تأسيس فكر آخر يبدو ضروريا أما واقع الاختلاف الماثل للفكر. فلكي نفكر في واقع المعرب بكيفية موضوعية علينا أن نفكر فيه بصيغة مختلفة عن تفكير علم الاجتماع الذي نشأ في الغرب وتناول المغرب بالدراسة ،وخاصة علم الاجتماع الذي تطور في الفترة الاستعمارية وقام بأبحاثه باحثون كانوا ينتمون بصفة أساسية إلى السلطات الاستعمارية أو كانوا يعتمدون على دعمها لهم على الأقل. وقد ظهرت فكرة الاختلاف عند الخطيبي في الكتاب السابق الذكر، ولكن ايضا في كتاب آخر أصدره سنة 2002، وضمنه بعض الدراسات القديمة وأخرى جديدة. (Chemin de traverse,essais de sociologie)
عمق فكرة الاختلاف هو التفكير في الآخر لابوصفه معطى خارجيا بالنسبة غلينا فحسب، بل بوصفه يسكننا ايصا، أي يوجد بداخلنا. هكذا تكون علاقتنا بالغرب الذي نحاوره ونريد أن ننتقده، ونسعى إلى إقامة فكر اجتماعي مختلف عنه. ونحن أيضا بما يميزنا من معطيات ومشاكل نسكن الآخر أيضا وندفعه على ان يكون التفكير فينا جزءا من تفكيره الشامل.
الاختلاف أعمق من ذلك يوجد بداخل الغرب وبداخلنا. الغرب الذي نفكر فيه لأنه آخر بالنسبة إلينا ليس واحدا، بل هو مختلف في داخله. وكذلك الأمر بالنسبة إلينا لسنا بالنسبة للغرب كيانا واحدا لااختلاف فيه، بل وأكثر من ذلك، لسنا بالنسبة لذاتنا أيضا كيانا واحد. نحن كيان يسكنه الاختلاف، وينبغي أن نفكر في ذاتنا بوصفنا كذلك حتى لايظل تحليلنا خارج واقعها وحقيقتها.
إذا كان الخطيبي قد تبنى فكر الاختلاف الذي زامن تطوره واتصل بمفكريه، فإن هذا لايعني أبدا تبعيته لفكر آخر. الخطيبي مفكر اختلافي مغربي، أي أنه واحد من مفكري الاختلاف المعاصرين.
في العجالة التي دفعتنا إلى كتابة هذه الكلمة عن الخطيبي بعد رحيله، أوجزنا الحديث عن فكرتين أساسيتين له نرى فيهما أفقا منفتحا للتفكير في قضايا العلوم الاجتماعية وفي واقع مجتمعنا في نفس الوقت. وإذاكانت الوفاة قد غيبت عنا مفكرا كان له إسهام رائد في تطورنا الفكري، فإن أفكاره ستظل، وينبغي ان تظل، حاضرة في معرفتنا. أسس الخطيبي معرفته وفق سعي لكي تكون معرفة مندمجة لدى غيره، وعلينا أن نجعلها كذلك تخليدا لشخصه ولطريقته في التفكير والعمل.
مع غياب الخطيبي غاب عنا أمل شخصي كان قد منحنا إياه عندما بادرنا إلى زيارته في المستشفي. كان الرجل متفائلا بأنه سيتجاوز أزمته ويعود إلى إتمام مساره الفكري والإبداعي. ولذلك دار الحوار بيننا قليلا حول مرضه، وكثيرا حول ماكان يأمل إنجازه، وغادرناه دون أن نعاود الزيارة رغبة في عدم إزعاجه في حالته، وقد جعلنا بكلامه نعيش أمل اللقاء به من جديد. ولم يقدر لذلك اللقاء أن يكون. فالعزاء لذويه، وللمجتمع الثقافي والفكري في فقدان هذا المفكر الذي كانت له مساهمات أساسية في تطوير الفكر المغربي.
محمـــد وقيــــدي
كاتب وأكاديمي من المغرب