لطيف القصّاب
كنتُ قد قرأتُ في مجلتكم الغراء مقالا عن الاستشراق، للكاتب محمد شاهين (في العدد 108 نوفمبر2021) حمل عنوان (الاستشراق لإدْوارد سعيد- الكتاب الذي خذلته الترجمة)، وبمقدار ما وجدتُ فيه من أفكار مساقةٍ بأسلوب رصين يُغبَط عليه صاحبه وجدتُ شيئا غير مسوّغ من التجني عليّ شخصيًا؛ لكاتب كاد أن يبني أساس مقاله برمته على بحث أكاديمي لي منشور في مجلة علمية (دراسات استشراقية).
وكُنْهُ هذا التجنّي يتمثّل في أن الكاتب المومأ له لم يحصِ لي حسنةً واحدة في قبال ما ذكره عنّي مما حسبه خَطَلًا من قبيل السلبيات!
وهذا خلاف المروءة العلمية فضلًا عن مجانبته الرشاد والسداد…
وإليكم البيان:
الدكتور محمد شاهين يصوّرني كما لو أنني أحد خصوم إدوارد سعيد، أو كارهيه في حين أن العكس تمامًا هو الصحيح، ولولا أنني موقنٌ بسعة اطلاع الأستاذ محمد شاهين لقلتُ إن الرجل غير مُدرك لمجازات العرب، ومنها ما يردُ من أساليب الذم ويُراد بها المديح الخالص!
لقد قلتُ في إطار ما اقتبسه الكاتب منّي “اجتزاءً” عن إدوارد سعيد:
” كثيرًا ما ينطق اسمه الأول “إدوارد” بسرعة مشددًّا على اسم “سعيد”، وأحيانًا كان يستعجل في ربط الاسمين معًا، فينطقهما بشكل لا يتّضح -معه- أيٌّ منهما.احتاج إدوارد سعيد -كما كتب في مذكراته- إلى أن يسلخ أكثرَ من خمسين عامًا من عمره كي يعتاد على هذا الاسم (إدوارد)، أو لكي يشعر بحرجٍ أقلّ حيال اسم إنكليزي بعيد الاحتمال عن أن يكون مقرونًا بـاسم “سعيد”، الاسم العربي الصميم”.
يُعرّض الكاتب بي هنا بالقول: “إنه لمن المؤسف حقًا أن يقوم لطيف القصّاب بحشد الكثير من الإيجابيات في مسيرة إدوَرْد سعيد ثم ينقلب عليها بهذه الطريقة العشوائية التي تظهر تناقضًا بيّنًا في عرضه. من قال إن أسلوب إدوَرْد سعيد الذي ينمّ عن موهبة فريدة شهد له بها صفوة المفكرين والمثقفين في الغرب والشرق، يعدّ نقصًا يعيَّرُ به صاحبه؟ من منا لا يستذكر القول الفرنسي المشهور “الرجل هو الأسلوب”؟ أليس الأسلوب في حدّ ذاته هو الذي يقف وراء الشهرة التي يحققها مشاهير الفنانين والكتاب؟ أليس التحوّل في الفن من الواقعية التقليدية إلى الأسلوب والتقنية والشكل الفضائي من أهم خصائص الحداثة؟ ما العيب في أن يكون اسم إدوَرْد سعيد أجنبيًا، وأكثر من ذلك أن يجد إدوَرْد سعيد نفسه حرجًا في أن اسمه الأول لا ينسجم مع الاسم العربي لأسرته؟ أليس هذا المأخذ شبيهًا بالاعتقاد أن المسلم أو العربي إرهابي لأنه مجرّد حامل لعقيدة مختلفة عن بقيّة الديانات؟ ألم يردد إدوَرْد سعيد في مناسبات عدة أنه ابن ثقافة إسلامية، وأنه لا يعيب على المسيحي العربي أن يكون كذلك؟ هل هنالك من عيب في موقف إدوَرْد سعيد العلماني الذي يقر به (ربما سهوًا) لطيف القصاب في سياق حديثه عن الاستشراق، وهو أن الاختلاف بين البشر يجب ألا يعني التفوق أو الدونية؛ كأن يكون طرف متفوقًا وآخر أدنى بسبب اختلاف الدين أو العرق أو اللون أو الثقافة؟ هل من الإنصاف أن نوجه لومًا إلى إدوَرْد سعيد لأنه عربي كتب الاستشراق بلغة إنكليزية ليشهد له لطيف القصاب بإتقانها إلى درجة الإعجاب بقدرته على التعامل معها؟”.
أقول: هل يستحق (لطيف القصّاب) هذا الهجوم اللاذع لا لشيء إلا لأنّه ذكر حقيقة لا يجد (إدوارد سعيد) نفسه أيَّ غضاضة في الإقرار بها، أعني هنا نطقَه لاسمه الأول (إدوارد) على نحو من السرعة، وتركيزه على لفظ اسمه العربي الخالص (سعيد) من غير ما استعجال…
هل فيما ذكرتُه آنفًا -مما نشرتُه في (دراسات استشراقية)- أيُّ ملمح للازدراء بشخصيّة فذة من طراز إدوارد سعيد؟ هل يتناسب ذلك مع ما لم يستشهد به الكاتب مما اقتبسه منّي (غفلَةً) منه، أو سهوًا أو ….، ويحمل في طيّاته احتفاءً بسعيد وإجلالًا، وإكبارًا، ومنه مثلًا:
“عاش إدوارد سعيد عمرَه منافحًا عن عدالة قضيّة بلده الأم فلسطين، ومعجبًا بأمريكا التي تقدّم الكفاءة على أي اعتبار آخر، أمريكا التي فرشت له الطريق بالورد ليعتلي أعلى سدّة منبر أكاديمي في جامعة كولومبيا العريقة، لكنّه جوبه بإزراء من الأوساط السياسية الفلسطينية والأمريكية، فهو من وجهة نظر ياسر عرفات مستشرق يعمل لحساب الغَرْب، وهو من وجهة نظر مواطنين أمريكيين ناكرُ جميلٍ يعمل لحساب العَرَب”.
أو مما نقلتُه من نصوص لنقّاد غيري، كمثل ما صرّح به صبحي حديدي مترجم كتابه (تعقيبات على الاستشراق) إذ يقول:
“انتمى إدوارد سعيد إلى تلك القلّة من النقاد والمنظّرين والمفكّرين الذين يسهل تحديد قسماتهم الفكرية الكبرى، ومناهجهم وأنظمتهم المعرفية وانهماكاتهم، ولكن يصعب على الدوام حصرهم في مدرسة تفكير محددة، أو تصنيفهم وفق مذهب بعينه، كان سعيد يساريًا، علمانيًا، مع ذلك فقد كتب نقدًا علميًا معمّقًا جريئًا ضد يسار أدبي يبتذل الموهبة”.
من قرأ بحثي عن إدوارد سعيد، ونشرتْه أكثر من مجلة، ومنها (دراسات استشراقية) يلحظ بوضوح ترجيحي بصورة رئيسة لترجمة (محمد عناني) على ترجمة (كمال أبو ديب)، لكنّ الدكتور محمد شاهين ينقل خلاف ذلك، فيزعم قائلًا: “إذ قام لطيف القصاب بكتابة مقالة ظهرت في مجلة دراسات استشراقية (العدد 17، شتاء 2019)، اعتمدت اعتمادًا رئيسًا على قراءة مغلوطة لمقدمة إدوَرْد سعيد التي ترجمها كمال أبو ديب”.
فيا لله، وهذا الافتئات!
لم يكتفِ الأخ الكاتب بالإزراء بـ (لطيف القصّاب)، بل جمعه مع الدكتور محمد عناني على صعيد هجاء واحد، فقال: “لا أرى جدوى من الوقوف على تفاصيل التناقض الذي تقوم عليه مقالة لطيف القصاب؛ إذ إنني سأكتفي بعرض مقتطف منها يقع تحت عنوان فرعي “منهج الكتاب وعيوب التعميم والتعتيم”، وفيه يقتبس لطيف القصاب ما يريد من مقدمة محمد عناني وكأنه وجد ضالته. والمقدمة نفسها مغلوطة؛ ذلك أن عناني يقوّل إدوَرْد سعيد ما لا يقوله ويسيئ فهمه جملة وتفصيلًا” !
بالمناسبة فإنّ الدكتور محمد عناني، أو كما ينعته كثيرون بلقب (شيخ المترجمين العرب) أجدرُ منّي بالدفاع عن نفسه، ولكنّي سأضع بين يدي الدكتور محمد شاهين بعض الروابط، وهي بمجملها شهادات رصينة تكشف عن جوهر عناني النفيس الذي يجهلُه (محمد شاهين) عمدًا أو سهوًا. (1)
الحقّ أني لم اطلّع على ترجمة كتاب الاستشراق لـ (محمد عصفور) الذي (يرى) فيه (محمد شاهين) أنّه المترجم الذي سبق من سبقه، وأتعب من لحقه! مسطّرًا ذلك بالقول:
“ظلت قضية الترجمة تشكّل عبئًا على مريم سعيد بعد رحيل زوجها، ليس فقط بسبب الترجمات المسيئة التي ظهرت في القاهرة ودمشق؛ بل أيضًا لأنّ حقوق إعادة نشر ترجمة جديدة بقيت منوطة بدار النشر التي نشرت ترجمة كمال أبو ديب. استمرت مريم سعيد عبر السنوات الماضية تفاوض دار النشر المذكورة إلى أن حصلت على حقوق نشر ترجمة جديدة لـ (الاستشراق) من تلك الدار، وبذلك أصبحت حقوق النشر كاملة بيد الورثة ممثَّلين في مريم سعيد. وقد تشرفْتُ بتكليفي بمتابعة المشروع. وكانت سعادتي غامرة عندما وافق محمد عصفور، بالقيام بمهمة الترجمة؛ إذ أُعطيت القوس لباريها كما يقال. ويعلم الله المعاناة التي مرّ بها الصديق في العامين المنصرمين ليخرج علينا بترجمة تستحقّ الثناء لأسباب عدة، أولها أنّها تصحّح المسار الذي مرت به ترجمة السلف؛ إذ إنها تقدم لنا الاستشراق في أبهى حلله. وثانيها أن ترجمة محمد عصفور تشكل مرجعًا مهمًّا للباحثين، ليس فقط في قضايا الترجمة (أقصد هنا مقاربات الترجمات المختلفة)، بل إنها أيضًا تثري المكتبة العربية بترجمة تُعين الباحثين في شؤون الاستشراق”.
لكن من (المحتمل) أنّ يكون الثناء الجميل الذي أسداه (شاهين) لـ (عصفور) لا يعدو كونه” أكذب من خرافة”.