1 – كتابة البنات
فجأة , وفي أواسط التسعينيات من القرن العشرين, أصدر عدد من الكاتبات الشابات في مصر رواياتهن الأولى, ودواوينهن الشعرية, ومجموعاتهن القصصية الأولى.. وهو ما شكل ظاهرة أدبية ملحوظة, تناقش حولها النقاد فيما عرف بـ<<كتابة البنات>>أو <<النساء الصغيرات>>(1). وقد تبلورت الظاهرة على نحو واضح حين صدرت رواية <<الخباء>> لميرال الطحاوي في 1996, إذ تلقفتها الصحف والندوات والمتابعات النقدية وأصبحت – بعنوانها المثير الدال – مادة خصبة للجدل, ناهيك عن الترجمة السريعة للغات الأجنبية. وفي عام 1997, صدر في القاهرة عدد متزايد من الروايات الأولى لكاتبات شابات أخريات, <<دنيا زاد>> لمي التلمساني, <<قميص وردي فارغ>> لنورا أمين, <<مرايا الروح>> لبهيجة حسين, <<السيقان الرفيعة للكذب>> لعفاف السيد, <<دارية>> لسحر الموجي..إلخ. ولم يكد عقد التسعينيات ينتهي حتى كانت الرواية الثانية والثالثة قد صدرت لنفس المجموعة من الكاتبات, مثل <<الباذنجانة الزرقاء>> و <<نقرات الظباء>> لميرال الطحاوي, و<<هليوبولس>> لمي التلمساني, و<<أوراق النرجس>> لسمية رمضان .. وغيرها. وسرعان ما انضمت كاتبات أخريات – من أقاليم مختلفة في مصر, ومن فئات اجتماعية متنوعة – برواياتهن الأولى, مثل صفاء عبد المنعم , وأسماء هاشم, ونجوى شعبان .. وغيرهن.
وعلى امتداد عقد التسعينيات نفسه, كانت أجيال من الكاتبات الأكبر سنا, اللواتي أصبحن معروفات في مصر وخارجها (مثل رضوي عاشور وسلوى بكر وابتهال سالم ونعمات البحيري وهالة البدري وسهام بدوي.. إلخ) يجتهدن في إصدار المزيد من الروايات . وكانت كاتبات عربيات أخريات تنشطن في أماكن أخرى من العالم العربي, كما يمكن للمرء أن يلاحظ في روايات أحلام مستغانمي من الجزائر, وهدى بركات من لبنان, وكاتبات أخريات من فلسطين والخليج العربي على سبيل المثال. هذا بالإضافة إلى ما تنشره الكاتبات العربيات من خارج العالم العربي, مثل روايات آسيا جبار, وروايات أهداف سويف المثيرة للإعجاب وللجدل. وفي هذه الأثناء كانت دوريات نسوية واعدة – وإن كانت قصيرة العمر – تظهر هنا وهناك, مثل <<هاجر>> و<<الكاتبة>> و<<نور>> و<<عيون جديدة>> …إلخ , هذا فضلا عن تكوين جماعات نسوية مثل جماعة <<المرأة والذاكرة>> بالقاهرة. ولقد بلور هذا كله في النهاية حلقة مكتملة ومتنوعة ومكثفة من الكتابة الروائية النسائية العربية , وهذه من غير شك ظاهرة تستحق المراجعة والدراسة من جهات متعددة(2), وربما تستحق الندوات والمؤتمرات التي سرعان ما تبارت الدول العربية في عقدها لـ<<أدب>> المرأة و<<إبداع>> المرأة ..إلخ
بيد أن ما يرمي إليه البحث هنا ليس مجرد دراسة هذه الحركة النسوية الطالعة, أو حتى دراسة الرواية النسائية في العالم العربي المعاصر. ليس الهدف هنا دراسة نوع من الأدب النسائي الذي طالما جذب المستشرقين الباحثين عن الوجه الآخر لمجتمعاتنا, مجتمعات العالم الثالث خلال الاستعمار الأوروبي القديم وبعده, عبر كتابات النسوة والبنات المقموعات, مما جعلهم يتدافعون ويتنافسون في ترجمة هذا النوع من الأدب والتعرف عليه من الوجهة الاجتماعية. الهدف هنا -قبل ذلك – هو دراسة نوع من النصوص القصصية الجديدة التي تكتبها الأجيال الجديدة في مصر التسعينيات, سواء كانوا ذكورا أم إناثا(3).
وسيتم التركيز هنا على جناح واحد فقط من هذه الكتابة القصصية الجديدة, هو ما يسميه صبري حافظ <<الجناح النسائي>> , وعلى نوعية واحدة من النصوص التي باتت تعرف باسم <<رواية السيرة الذاتية>>. وليس الغرض من ذلك بالطبع مجرد حصر نطاق البحث, وهو غرض مشروع من الوجهة البحثية, بل الغرض قبل ذلك هو محاولة رؤية هذه الروايات التي كتبها البنات, بصفتها جزءا من تيار عام أوسع وأقدم, ثم محاولة تمحيص هذه العلاقة الشائعة الغامضة بين كتابة النساء على وجه العموم, وبين الصيغة السير- ذاتية في كتابة الرواية.
وحيث إن هناك زعما شائعا ومتزايدا بأن كتابة البنات عموما, ورواياتهن خصوصا, تتضمن بعدا سير- ذاتيا واضحا; فقد أصبح من اللازم درس هاتين الظاهرتين مقترنتين معا, أعني:
– هيمنة رواية السيرة الذاتية.
– توالد روايات البنات في السنوات الأخيرة, وتزايدها كما وكيفا.
رواية السيرة الذاتية ليست ظاهرة جديدة في تاريخ الأدب العربي الحديث, بل كانت على العكس واحدة من أكثر الظواهر شيوعا في المراحل الأولى من تاريخ هذا الأدب, فقد استخدم رواد الرواية المصرية مادة حياتهم الشخصية ليصنعوا منها رواياتهم الأولى في صيغة سير ذاتية واضحة, والأمثلة هنا كثيرة, أبرزها طه حسين في <<الأيام>>, وهيكل في <<زينب>>>, والعقاد في <<سارة>>, وتوفيق الحكيم في <<عصفور من الشرق>> و<<يوميات نائب في الأرياف>>(4).
كما أنها لم تكن يوما ظاهرة نسائية; فمعظم الروائيين الرجال في الأدب العربي المعاصر استغلوا فعلا حوادث ووقائع وأطياف من حياتهم الشخصية, ليصنعوا منها روايات سيرة ذاتية جديدة. من بينهم: إدوار الخراط, وعبد الفتاح الجمل, وجمال الغيطاني, وعبد الحكيم قاسم, وإبراهيم أصلان, ومحمد البساطي, ومحمد مستجاب, ومنتصر القفاش.. وغيرهم.
وعلى وجه العموم, يبدو أن هناك علاقة عميقة لا مفر منها بين مخطط حياة الكاتب الفرد كحكاية من ناحية, وبين شكل الرواية نوعا أدبيا من ناحية ثانية. لكننا يجب أن نلقي مزيدا من الضوء على هذه العلاقة الإشكالية المتزايدة في القص العربي المعاصر; ذلك أنها أضحت سمة مهيمنة على هذا القص. لقد أصبح من دأب الكتاب أن يستخدموا مواد من حياتهم الشخصية الفعلية, وأن يعلنوا عن ذلك في متن النص الروائي نفسه. ولم يكن من قبيل المصادفة أن أشهر النصوص القصصية في السنوات الأخيرة كانت نصوصا سير ذاتية, أو شبه سير ذاتية. ومما يجدر ملاحظته هنا أيضا أن هيمنة الصيغة السير ذاتية جاءت مواكبة لاتجاهات طليعية وتجريبية في الكتابة, لا في الأدب العربي وحده, بل في كل آداب العالم. لقد جاءت هذه الصيغة وكأنها إعادة اكتشاف للعلاقة الخصبة المربكة بين الذات والواقع, بين عالم الداخل وعالم الخارج.
2- السيرة الذاتية, ورواية السيرة الذاتية
السيرة الذاتية هي قصة حياة المرء التي يتذكرها ويكتبها بنفسه, ولذلك تكون خاتمة لحياة الشخص, وقد يكتبها كاتب أو سياسي أو مجرم أو قائد; لأن الشهرة والمعرفة المسبقة بصاحبها شرط ضروري للإقبال على قراءتها. أما رواية السيرة الذاتية فعمل فني متخيل ينهض على أحداث ووقائع من حياة صاحبه مهما كان مغمورا, ولذلك يحدث أن يكتبها شاب غير معروف كما في حالتنا هذه, أو يكتبها كاتب شهير كما في حالات كثيرة. لكن هذا الاختلاف بين السيرة الذاتية ورواية السيرة الذاتية لا ينفي أن بينهما تشابها بديهيا, مردّه أنهما كليهما يستندان إلى تذكّر خاص لوقائع وشخوص من حياة الكاتب. وتلك هي المشكلة: أنهما معا يقعان في المنطقة التي تفصل بين الخيال والحقيقة.
يميز نقاد الأدب بين السيرة الذاتية Autobiography من ناحية,والعنصر السير-ذاتي Autobiographical من ناحية أخرى. السيرة الذاتية نوع أدبي, له حدوده الواضحة مهما تكن مراوغتها, له تقاليد محددة, وله عمر قصير في التاريخ ربما لا يزيد عن عمر الرواية. أما العنصر السير ذاتي, أو المنظور السير ذاتي, فهو صيغة فنية; ولهذا فإن له ككل الصيغ الأدبية حدودا مرنة منته كة, وتقاليد غير محددة, وتاريخا طويلا ربما يغطي كل تاريخ الفن, منذ ظهور الصيغ الفنية الأساسية.
حين نتحدث عن الصيغ الفنية لا شيء محدد ولا شيء حاسم; فمصطلح <<صيغة>> نفسه يشير إلى معان عدة : فهو مرة أسلوب, ومرة تقنية, ومرة موضوع معين, ومرة موقف عام أساسي. قد تلحق الصيغة السير ذاتية أو العنصر السير ذاتي بأي نوع أدبي أو فني, فينتج عن ذلك مصطلحات من قبيل <<القصيدة السير ذاتية>> أو <<الفيلم السير ذاتي>>, <<القصة القصيرة السير ذاتية>>, أو <<الرواية السير ذاتية>>.
في كتابه <<أنواع الأدب: دراسة في صيغ الأدب وأنواعه>>, يشير فاولر Fowler إلى الخلط الهائل الذي تعاني منه المصطلحات في دراسة النوع الأدبي, بسبب الطبيعة المراوغة لهذه المصطلحات الصيغية;إذ يمكنها أن تلحق بكل شي وبكل نوع في كل مكان وزمان,بينما نعاملها نحن وكأن لها وجودا تاريخيا وجغرافيا محددا, شأنها في ذلك شأن الأنواع الأدبية المعروفة والمحدودة بتاريخ معين(5).
هناك على الدوام, ولأسباب متعددة, خلط بين السيرة الذاتية (نوعا أدبيا Literary Genre) أو (نوعا تاريخيا Historical Kind) بمصطلح فاولر) والعنصر السير ذاتي بصفته صيغة أدبية literary mode; إذ لا يمكن لأحد أن ينكر, على سبيل المثال, أن العنصر السير ذاتي كان قائما في الأدب العربي القديم من زمن طويل, ولكن من ذا الذي يزعم – كما زعم رينولدز Reynolds مثلا – أن >> نوع السيرة الذاتية قد تم تأسيسه بوضوح في الموروث الأدبي العربي قبل بدايات القرن العاشر الميلادي <<أو من ذا الذي يتخيل أن>> أول نماذج السيرة الذاتية العربية يمكن للمرء أن يتتبعها هناك في القرن التاسع الميلادي(6).
السيرة الذاتية, شأن الرواية والقصة القصيرة, نوع أدبي حديث له خلفيته الاجتماعية, وتقاليده الفنية, وتنويعاته الشكلية المختلفة. أما العنصر السير-ذاتي, أو الصيغة السير- ذاتية, فربما تكون حتى أكثر مراوغة من غيرها من الصيغ الأدبية, فهي موجودة ومستخدمة قبل نشأة السيرة الذاتية نوعا أدبيا بوقت طويل. إنها صيغة أساسية أو موقف أساسي في التعبير الفني, شأن غيرها من الصيغ الكبرى الشهيرة, الأساسية والمراوغة, أعني الصيغ الغنائية والملحمية والدرامية. ولهذا, حين يرد ذكر رواية السيرة الذاتية اليوم, فإن هذا يعني الإشارة إلى تفاصيل غامضة معدلة من حياة المؤلف الحقيقي التاريخي, أكثر مما يعني استخدام تقاليد فنية تنتمي إلى نوع السيرة الذاتية.
إن ما يحدد الشكل في النهاية هو المصطلح النوعي لا المصطلح الصيغي; فمصطلحات النوع – ربما لأنها تعني تقاليد محددة مجسدة في شكل خارجي واضح – يمكن أن تصاغ دائما في مصطلح يأخذ لغويا صورة الاسم (إبيجراما – ملحمة – رواية) بينما تميل مصطلحات الصيغة إلى أن تكون صفة لا اسما ( ملحمية, غنائية , درامية, كوميدية, مأساوية.. إلخ.) أما استخدام الصفة في مصطلحات النوع فأمر أكثر تعقيدا .. بإيجاز: حين يلحق المصطلح الصيغي باسم النوع فهذا يشير إلى نوع مركب, لكن الشكل العام يحدده النوع وحده. ولم يحدث في تاريخ الأدب أن كان هناك – إلا في حالات استثنائية جدا – جمع بين شكلين خارجيين في عمل أدبي واحد(7). وعلى هذا تكون رواية السيرة الذاتية نوعا مركبا, يجمع بين نوع (الرواية) وصيغة (السير-ذاتية), لكنه يبقى <<رواية>> في النهاية; لأن الرواية هي التي تحدد شكله العام, تماما مثلما يحدث مع الرواية التاريخية, والرواية الرعوية, والرواية الرسائلية, والرواية الغنائية .. إلى آخر تلك التركيبات بين نوع الرواية والصيغ الفنية المختلفة.
حتى لو نظرنا إلى رواية السيرة الذاتية بصفتها جمعا بين نوعين أدبيين تاريخيين, هما الرواية والسيرة الذاتية, ستظل العلاقة الإشكالية بين النوعين قائمة; فكلا النوعين تخلّقا في نفس المرحلة من التاريخ (القرنين السابع عشر والثامن عشر), وكلاهما يتأسس على قصة حياة بطل فرد يدخل في علاقة إشكالية مع محيطه, وكلاهما نوع مرن ومراوغ ومفتوح على الجديد.
لكي تصبح السيرة الذاتية شكلا متماسكا لابد من صبِّها في القالب الروائي الأساسي, الذي هو – كما أوضح جولدمان مرة – رحلة بطل إشكالي يبحث عن قيم أصيلة في عالم متفسخ.. إن العنصر الأساسي في نوع الرواية, خاصة في المراحل الأولى من تاريخها هو سيرة حياة فرد(8). ومن ناحية أخرى, فإن كل رواية, إن لم نقل كل عمل فني, يتضمن بالضرورة عنصرا من سيرة مؤلفه وما خاضه من تجارب; ولهذا السبب يشكك بعض النقاد في وجود نوع السيرة الذاتية نفسه, وينظر آخرون إلى كل نص له صفحة عنوان بصفته نوعا من السيرة الذاتية(9).
أضف إلى هذا أن <<رواية السيرة الذاتية>>, أو <<السيرة الذاتية الروائية>> كما يحب بعض الكتاب والنقاد أن يسموها(10), تحتل مكانة رفيعة في تاريخ القص الحديث, لا في القص العربي وحده وإنما في كل ثقافات العالم, والأمثلة كثيرة, من جويس إلى بروست, ومن فرجينيا وولف إلى مارجريت دورا .. إلخ. وما من شك أن العنصر السير ذاتي قد قاد إلى ثورات هامة في تاريخ النوع الروائي, لا سيما مع بروز علم كالتحليل النفسي, وتقنية سردية كتيار الوعي.
بإيجاز, يمكن للمرء أن يقول إن تاريخ النوع الروائي قد مر بمرحلتين استراتيجيتين, المرحلة الأولى هيمنت عليها الرؤية الواقعية القائمة على محاكاة الواقع الخارجي, مع عدم إهمال البعد الداخلى النفسي للشخصيات والأحداث والظواهر, والمرحلة الثانية سادتها رؤية ضد-واقعية, تجسدت في تقنيات واتجاهات أدبية عديدة. ومع قدوم المرحلة الثانية وتصاعدها (نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين)بدأت الحدود بين ما هو رواية وما هو سيرة ذاتية في التلاشي, وفي هذه اللحظة صعدت رواية السيرة الذاتية وازدهرت واحتلت مساحة واسعة من النصوص التي تقع بين النوعين; ولم يكن من قبيل المصادفة أن أكثر روايات القرن العشرين ثورية – على مستوى العمق النفسي والفلسفي, وعلى مستوى تقنيات السرد – كانت روايات سيرة ذاتية, تماما كما كانت أخصب السير الذاتية سيرا روائية بامتياز.
أما إذا انتقلنا إلى الأدب العربي الحديث, فسنجد أنه ربما لم تكن هناك سير ذاتية بالمعنى الكامل لهذه الكلمة, ربما لأسباب دينية و اجتماعية و تاريخية متنوعة. وعلى طول تاريخ الأدب العربي الحديث (والقديم) كان هناك تداخل بين ما هو حقيقة وما هو قص; فكل كاتب يتوجه إلى قرائه زاعما أنه يكتب الحقيقة ولا شيء سوى الحقيقة (طبق الأصل). وكل كاتب في الوقت نفسه يزعم أن ما يقدمه ليس إلا خيال(11). وهكذا, لعبت رواية السيرة الذاتية دورا بارزا من اللحظة الأولى في تاريخ الأدب العربي الحديث, هو نفسه الدور الذي قام به نوعان مختلفان في الآداب الأخرى, أعني الرواية, والسيرة الذاتية. كان النوعان متداخلين إلى الحد الذي جعل نقاد الرواية ومؤرخيها العرب عاجزين عن التمييز بينهما, وخاصة في المراحل الأولى من تاريخ القص العربي الحديث. وكثيرا ما حاول بعض هؤلاء النقاد تفسير تغلغل العناصر السير ذاتية في هذه الروايات العربية الأولى(12).
وهكذا, كانت دراسة رواية السيرة الذاتية, ولا تزال, دراسة في صميم النوع الأدبي الروائي, من حيث مصادره, وأساليب تشك له وتطوره.
3- متى تنتشر رواية السيرة الذاتية, ولماذا?
متى يحب الناس أن يكتبوا عن حياتهم الداخلية الخاصة وعن تجاربهم, لينقلوها إلى عالم الفن, فيتأملوها, ويعيدوا تركيبها كما يحلو لهم? الإجابة عن هذا السؤال يمكن أن تفسر لماذا انتشرت كتابة الذات بأنواعها في بدايات العصر العربي الحديث, وفي العقود التي تلت هزيمة 1967, ولماذا توارت في الأربعينيات والخمسينيات. من الواضح أن للمسألة علاقة بأزمة الذات و تصاعد أسئلتها الداخلية التي تبحث عن إجابة.
ولكن لماذا يكتب الناس رواية معتمدة على السيرة الذاتية, ولا يكتبون سيرة ذاتية صريحة? هناك إجابة بسيطة وصحيحة: لأنهم كتاب <<رواية>> وليسوا أناسا عاديين. ولكنها إجابة غير كافية ولا شافية. ويحاول روي باسكال أن يقدم إجابة أخرى: <<ما من شك أن التخفي وراء القناع الروائي كان أمرا ضروريا في الأزمنة التي كان الكتاب فيها أقل جرأة في الحديث عن أنفسهم أو أقاربهم. وبالطبع كانت هناك على الدوام حيطة إزاء الأحياء من الناس,إن لم يكن تحرجا من الذوق العام, فخوفا من العقاب القانوني بتهمة التشهير>>(13).
ريما لهذا السبب كانت كتابة السيرة الذاتية الصريحة أمرا نادرا وصعبا في الأدب العربي الحديث. ولكن لأن رواد الكتابة القصصية في هذا الأدب وجدوا في أنفسهم حاجة ملح ة لعرض خبراتهم الذاتية الخاصة, في الوقت الذي كانوا فيه يخشون من البوح الصريح ويعجزون عن تمث ل تجارب الآخرين من الداخل; فقد وجدوا ضالتهم في رواية السيرة الذاتية, الصيغة التي أعطتهم فرصة البوح دون خوف من المؤاخذة (من طه حسين, إلى هيكل, إلى العقاد, إلى المازني, إلى الحكيم .. إلخ)
غير أن هذا ليس الحافز الوحيد لاختيار رواية السيرة الذاتية بدلا من السيرة الذاتية الخالصة; فطبقا لباسكال كذلك, هناك بعض الميزات الفنية لشكل الرواية على شكل السيرة الذاتية, أولها ميزة أن تكون قادرا على سرد الظروف التي تقع خارج نطاق التجربة الشخصية المباشرة للمؤلف; فالروائي يمكنه أن يستدعي أحداثا من خارج نطاقه الشخصي, وان يتخيل أفكارا ضمنية لم يعبر عنها الآخرون, كما يمكنه أن يعيد تشكيل الحوارات التي لا قدرة للذاكرة على الاحتفاظ بها, أضف إلى هذا أن بطل الرواية يمكن وصفه بضمير الغائب ومن كل جوانبه. أما الميزة الأهم, فهي اختلاف المنظور العام للعمل, إذ يكون المؤلف في رواية السيرة الذاتية مستقلا , شأن المؤلف في كل عمل فني آخر, أو فلنقل إنه لا يكون موجودا داخل صفحات عمله, يمكنه أن يصف مراحل الحياة الأولى للشخصية, دون أن يتورط في متابعة مستقبلها , ويمكنه – من حيث المبدأ – أن يستدعي تجربة طفل بكل طزاجتها, دون أن يشير إلى ما آلت إليه أمور هذا الطفل. الرواية تمنح الكاتب حرية أوسع بهذا الخصوص(14).
وبإمكانات رواية السيرة الذاتية هذه, كان بمقدور طه حسين – على سبيل المثال – أن يكتب سيرته الذاتية الفعلية والكاملة في <<الأيام>> بضمير الغائب, كأنما يكتب عن شخص آخر, وكان بمقدوره في الوقت نفسه أن ينظر من الخارج, وأن يصف مجتمع الريف والصعيد المصري في عمومه, كأنما يكتب دراسة أو مقالة.
حين نصل إلى القص العربي المعاصر, وفي أعقاب وهلة عابرة ساد فيها القص الواقعي في الخمسينيات, سنلاحظ أن رواية الترجمة الذاتية – خاصة في العقود الثلاثة الأخيرة – قد تسيدت الموقف وباتت تحتل مكانة بالغة الأهمية. لقد بدت في غزارتها وخصوبتها وكأنها نوع من تفحص الذات ومراجعتها ومساءلتها, بعد هزيمة هائلة حلت بالأحلام القومية العربية بواسطة إسرائيل والغرب الأوروبي والأمريكي في حرب عام 1967. لم يعد لدي الكتاب العرب أية قدرة على الثقة في واقعهم الخارجي (الاجتماعي, والسياسي, والاقتصادي) ولم يكن أمامهم إلا أن يركزوا على واقعهم الداخلى (النفسي والعاطفي والميتافيزيقي) الذي كان مضطربا لكنه ظل مع ذلك أكثر مدعاة للثقة. وربما لهذا السبب كانت رواية الترجمة الذاتية العربية المعاصرة – في أغلب نماذجها وأبرزها – صيغة مضادة للواقعية. لقد بدت نوعا من التحول الانقلابي العنيف, من السرد الواقعي المحافظ الشائع في الخمسينيات, إلى سرد مغامر ينتهك كل ما أرساه الواقعيون من أسس.
ولعله من اللافت أن هذه النصوص السير- ذاتية المعاصرة, المستمدة من أحداث واقعية في حياة كتابها, قد اتخذت أشكالا واستعانت بأساليب مضادة للواقعية تماما. ويمكن الإشارة هنا – على سبيل التمثيل – إلى كتاب من قبيل إدوار الخراط (رامة والتنين -الزمن الآخر – ترابها زعفران ..إلخ) وجمال الغيطاني (خطط الغيطاني – التجليات – خلسات الكرى ..) وإبراهيم اصلان ( مالك الحزين -وردية ليل ) وآخرين. هل يمكن أن ننظر إلى نصوصهم هذه باعتبارها نوعا من السير الذاتية?
ليس شك في أن هذه النصوص تنطوي على بعض العناصر السير ذاتية الصريحة التي لا سبيل إلى إنكارها ولا حاجة للتدليل على وجودها; فبين حياة هؤلاء الكتاب وحياة أقاليمهم وقراهم ومدنهم وأحيائهم التي يكتبون عنها من ناحية, وبين نصوصهم القصصية من ناحية أخرى, توجد علاقة من نوع خاص, تكشف عنها حتى عناوين هذه النصوص وإهداءاتها. غير أن هناك أيضا مسافة واسعة من نزع الألفة بين الحيوات الحقيقية لهؤلاء الكتاب وأقاليمهم من جانب, وبين نصوصهم القصصية, السير ذاتية, والتجريبية من جانب آخر. هذه نصوص أقرب من غير شك إلى وظيفة الرواية وشكلها المراوغ, منها إلى وظيفة السيرة الذاتية وشكلها المباشر التعليمي.
لقد أصبحت الحيوات والأماكن الحقيقية شيئا مختلفا تماما بعد أن شكلتها النصوص, أصبحت شيئا أشبه بالـ <<أحلام>> أو الـ<<ممالك الأسطورية<<. والحق أن هذه النصوص الستينية لم تعرض لحياة الكاتب الشخصية ولا لإقليمه الخاص في صورة كاملة ومتماسكة; ذلك أن أولئك الكتاب عرضوا لحيواتهم وأقاليمهم مفككة ومتشظية, تماما كما خبروها وعانوها(15).
هؤلاء الكتاب الذين عرفوا باسم <<كتاب الستينيات>>, ومن بعدهم هذه المجموعة من الكتاب والكاتبات الشباب الذين أصبحوا يعرفون بـ<<كتاب التسعينيات>>, قاموا بتوظيف واحدة من أهم وظائف رواية السيرة الذاتية, وهي الوظيفة التي يشير إليها روي باسكال حين يقول: <<تتعامل رواية السيرة الذاتية مع تجارب حاسمة في حياة الشباب>> أو حين يقول: <<رواية السيرة الذاتية في جوهرها هي تلك الرواية التي تتمركز حول التجارب التي ت شك ل الشخصية وتبلورها, وليست مجرد رواية تتخلق حول تجربة حقيقية متفردة وبارزة>>.(16)
وهكذا, وعلى خلاف السير الذاتية العادية التي يكتبها رجل يقترب من نهاية حياته, وله مكانته في مجتمعه, ومعروف لنا مقدما, جاءت روايات السيرة الذاتية الجديدة هذه وقد كتبها كتاب شباب, وغير معروفين في العادة لقرائهم . لم يكن من قبيل المصادفة إذن أن غالبية هذه الروايات كانت الروايات الأولى لمؤلفيها. وحيث إنه ليس في مقدور أحد أن يؤكد أو يثبت أن هذه الروايات تتضمن عناصر من الحياة الشخصية لأصحابها, وهي حياة مجهولة, سيكون من الأيسر – وربما سيكون من الأفضل – تناولها بصفتها <<روايات>> قبل أي شيء آخر.
الأمر الأهم هنا أن نلتفت إلى ما أتاحه شكل الرواية لهؤلاء الكتاب من حرية واسعة في تشكيل عوالمهم الخاصة والتلاعب بها كما يشاؤون; إذ أصبح بإمكانهم أحيانا أن ينتقوا تجربة واحدة حاسمة يركزون عليها, وهو ما يفضي إلى نصوص تتمتع بحبكة تقليدية أكثر كثافة وتماسكا. كما أصبح بإمكانهم – في أحيان أخرى – أن يقدموا تجاربهم مكسّرة كما عاشوها , فتتحول إلى شيء آخر أقرب إلى أن يكون روايات تجريبية. بل إنهم في أحيان ثالثة قد يتقدمون إلى كتابة نصوصهم عن قصد وبجهاز نقدي معقد, فيتلاعبون مستمتعين بالعلاقات المتجددة بين الحياة الواقعية (بما فيها حيواتهم الشخصية) من ناحية, والأعمال القصصية الخيالية Fictional من ناحية أخرى, وذلك كما سنرى بعد قليل في بعض روايات البنات.
4- روايات السيرة الذاتية التي تكتبها المرأة
حين ننتقل إلى روايات السيرة الذاتية النسائية, سنجد أن القضية تبدو أكثر تعقيدا; إذ ان هناك اتفاقا ضمنيا بين القراء, لا سيما في مجتمعاتنا المحافظة,مؤداه أن الصلة بين الكاتبة وبطلتها القصصية أمر بديهي ومفروغ منه. والواقع أن هناك عاملا مهما يجعل هؤلاء القراء مقتنعين تماما بهذا الافتراض; فبينما يكون الرواة والأبطال في الروايات التي يكتبها الرجال متنوعين, معظمهم رجال وبعضهم نساء, يلاحظ القراء والنقاد(17) أن كل الرواة والأبطال في الروايات النسائية من النساء. وربما يلاحظون أيضا هذه العلاقة المحتومة بين الروايات التي يكتبها نساء ودعوات الحركة النسوية المعاصرة(18).
في تقديمه لمختاراته من القصة النسائية المصرية, يقول يوسف الشاروني: <<من هذه الصعاب التي تواجهها المرأة كقصاصة, تلك القضية التي أثارتها السيدة سعاد زهير في مقدمتها لكتابها <<يوميات امرأة مسترجلة>>, ذلك هو خلط القراء بين شخصية الكاتبة وبطلة القصة, فكثير من القراء لا يريدون أن يفرقوا بين التجربة الشخصية والتجربة الفنية, لا سيما إذا كانت كاتبتها امرأة, ويعتبرون الاثنين شيئا واحدا. إنهم يرفضون أن يصدقوا أنهم يقرؤون عملا فنيا استوحته كاتبته من أكثر من تجربة وأنشأت من الكل معمارا جديدا. وهم لا يستمتعون بما يقرؤون إلا باعتباره اعترافا تدلي به المرأة عن أسرارها الخاصة, فهم لا يقرؤون إلا للاستمتاع بتلك اللذة الخبيثة, لذة التلصص من ثقب الباب, لرؤية المرأة وقد تجردت من أقنعتها الاجتماعية وبدت في عريها على النحو الذي يحلم به قارؤها ويشتهيه. ولعل ما يساعد على هذا الوهم الشائع هو أن معظم قصاصاتنا يكتبن قصصهن بضمير المتكلم, ضمير الاعتراف, مما يوحي أنهن يتحدثن عن تجربة شخصية. ولا يريد القارئ أن يصدق أن هذا الضمير إنما هو ضمير الشخصية الفنية وليس ضمير الكاتبة>>(19)
وتقدم ناقدة أخرى أسبابا مختلفة لهذا التطابق بين الكاتبات وبطلاتهن ; <<فالتطابق بين المؤلفة والبطلة ليس أمرا غريبا في كتابة المرأة في مصر وفي غيرها; ذلك أن المؤلفة وبطلتها على السواء لابد أن تواجها طائفة من القيم المتوارثة المتعلقة بكونهما تنتميان معا إلى جنس الأنثى. والحق أيضا أن النساء – خاصة في المراحل الأولى في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين- لم يكن قد طو رن بعد استراتيجيات نصية تعينهن على نقل تجاربهم المعيشة وتجسيدها في شكل فني>>(20). والحق أن علاقة النساء بذواتهم المأزومة ربما تكون أكثر إلحاحا وحضورا من علاقة الرجال بذواتهن, خاصة إذا كنا نتحدث عن مجتمعات لا يزال النساء فيها يعيشون إلى الداخل أكثر مما يعيشون إلى الخارج. ولهذا تبدو كتابة الذات لدى النساء هي الكتابة الأساسية والمتاحة.
في الآداب الغربية هناك الكثير من الدراسات التي تتناول الكتابات السير ذاتية للمرأة, لا سيما بعد صعود الحركة النسوية المعاصرة, ومعظم هذه الدراسات تركز على التفرقة بين خصائص كتابات السيرة الذاتية التي تكتبها المرأة, وخصائص كتابات السيرة الذاتية التي يكتبها الرجل. ويمكن للمرء أن يوجز نتائج هذه الدراسات في نقطة رئيسية واحدة : أن كتابات السيرة الذاتية النسائية لها خصائص مختلفة تماما عن تلك التي يكتبها الرجل, وقريبة تماما من خصائص القص ما بعد الحداثي. وقد حاولت إحدى دارسات السيرة الذاتية النسائية في مختاراتها النقدية المعنونة <<السيرة الذاتية التي تكتبها المرأة: مقالات في النقد>>, أن توجز الفروق بينهما كما يلي:
هناك شبه إجماع بين النقاد على أن السيرة الذاتية الجيدة ليست تلك التي تركز على مؤلفها, بل التي تكشف في الوقت نفسه عن صلته الوثيقة مع مجتمعه. إنها تمثيل لزمنه, ومرآة لعصره. غير أن السيرة الذاتية النسائية نادرا ما تكون مؤرخة لعصرها أو مرآة له. وقلما تركز الكاتبات على الجوانب العامة من حياتهن, أو على قضايا العالم, أو حتى على تطور حياتهن الوظيفية. إنهن يركزن بدلا من ذلك على حياتهن الشخصية, التفاصيل العائلية, صعوبات الأسرة, الأصدقاء المقربين, وخصوصا أولئك الناس الذين أثروا عليهن.
نزوع الرجال إلى تجميل سيرهم الذاتية يفضي إلى تقديم صورة للذات مليئة بالثقة, مهما تكن الصعوبات التي واجهوها, وهذا مضاد تماما لصورة الذات التي تعرضها السير الذاتية النسائية; فما تكشف عنه قصص حياتهن هو وعي بالذات, ورغبة في غربلة حياتهن سعيا إلى الشرح والفهم. وغالبا ما يكون الدافع وراء كتابة السيرة هو إقناع القراء بجدارتهن, وتوضيح صورة الذات, وتدعيمها, وتأصيلها.
عبر سرد تعاقبي خط ي يعمل الكتاب على إضفاء الوحدة على العمل الفني, وذلك بالتركيز على فترة واحدة أو تيمة واحدة من حياتهم, أو سمة واحدة في شخصياتهم, وليس غريبا في حالة الرجل الذي يسعى – محكوما بشروط مجتمعه – إلى هدف واحد هو النجاح في الحياة العملية, ليس غريبا أن نجد مثل هذا الاتساق والإحكام في سيرته الذاتية . أما في سير النساء فنجد سيادة لغير المألوف في مقابل الإحكام في سير الرجال, وهو ما يشي بصورة أخرى للذات. إن سردهن لحياتهن غالبا ما يأتي في صورة غير تعاقبية من البداية إلى النهاية, وإنما يأتي في صورة متقطعة متشظية, أو مؤلفة في صورة وحدات مستقلة أكثر منها فصولا مترابطة. هذه الأشكال غير المترابطة كانت من البداية شيئا مهما بالنسبة للنساء لأنها مماثلة لطبيعة حيواتهن المتشظية المضطربة التي لا شكل لها, لكنها تؤكد أيضا ذلك التراث النسائي المتصل من التشظ ي الذي لا يزال قائما في كتابات السيرة الذاتية النسائية في وقتنا الحاضر.(21)
وتضيف ناقدة أخرى خصيصة رابعة للسير الذاتية التي تكتبها النساء; إذ تركز على ما تدعوه <<الأسلوب المهووس بالتفاصيل, المركب, المرتبط بالسياق, في السير الذاتية النسائية>>; فالنساء لا يهملن تفصيلة واحدة يتمكن من تذكرها, لأن كل التفاصيل لها علاقة بإحساسها بطبيعة <<ما حدث>>. أما الرجل, فيوجز ويعطيك الخلاصة والنتيجة وبيت القصيد. حياة المرأة – من حيث الشكل – تميل إلى أن تكون شبيهة بالقصص التي تحكيها. إنها لا تهتم بالتطور إلى الأمام في اتجاه هدف واضح, بقدر ما تهتم بالبنية التكرارية, التراكمية, الحلقية. التفاصيل اليومية تشغل كل النساء, والتفاصيل اليومية بطبيعتها ليست خلاصة, إنها عملية لا تنتهي(22).
ورغم أن هذه الخصائص قد تكون مفيدة – وهي مفيدة فعلا – في دراسة نصوص السيرة الذاتية النسائية وتحليلها; فإن الشيء المؤكد أنها تنطوي على خلط واضح بين سمات الفترة وسمات النوع, أي بين ما ينتمي إلى ما بعد الحداثة, بصفتها فترة عامة في تاريخ الفكر والفنون المعاصرة, وما ينتمي إلى كتابات السيرة الذاتية النسائية, بصفتها نوعا أدبيا خاصا. وهو خلط ناتج عن رغبة ساذجة في الانتصار لكتابة المرأة, وجعلها أكثر حداثة وصدقا مع الذات من كتابة الرجل, مما يؤدي إلى تكريس الفرقة المصطنعة بين كتابتين, إحداهما رجالية والأخرى نسائية.
5- سبع من روايات البنات
سنختار هنا عددا محدودا من روايات البنات هذه, ونتخذ منها عينة ممثلة للظاهرة المراد دراستها: رواية السيرة الذاتية الجديدة. وسيكون الهدف من دراسة هذه الروايات/ العينة أن نتلمس الفروق – إذا كان ثم فروق – بين رواية السيرة الذاتية التي تكتبها المرأة, ومثيلت ها التي يكتبها الرجل, وأن نتلمس قبل ذلك فروقا أخرى بين روايات البنات هذه, وروايات الأجيال الأكبر: كتابا وكاتبات ; وذلك في محاولة لفهم هذه التجربة التسعينية, و تقييم مدى ما قدمته من جديد للرواية العربية, واستكشاف ما فيها من عناصر أصيلة أو زائفة. سنختار سبع روايات فقط, هي: <<الخباء>> لميرال الطحاوي, <<مرايا الروح>> لبهيجة حسين, <<دنيا زاد>> لمي التلمساني, <<قميص وردي فارغ>> لنورا أمين, <<السيقان الرفيعة للكذب>> لعفاف السيد, <<دارية>> لسحر الموجي, <<أوراق النرجس>> لسمية رمضان. وهذه الروايات جميعا صادرة في النصف الثاني من عقد التسعينيات, وهي جميعها تمثل – ما عدا واحدة هي <<مرايا الروح>> – الرواية الأولى للكاتبة(23).
في جميع هذه النصوص السبعة, لا أثر لما يسميه فيليب لوجون <<العقد السير ذاتي>>(24) بين الكاتب وقرائه; فعلى صفحة العنوان سيلتقي القارئ بالصفة النوعية المائزة التي يحرص الناشر – والكاتب أحيانا – على لصقها أسفل العنوان, صفة: رواية; كما أن عناوين هذه الروايات لا تتضمن من قريب أو بعيد أية إشارة إلى البعد السير ذاتي, فلا كلمات من قبيل <<اعترافات>> أو <<مذكرات>> أو <<رسائل>>, ولا أسماء أشخاص أو أماكن حقيقية ترد في العناوين. على العكس من ذلك, اختيرت العناوين(25) بحيث تبدو حادة في دلالتها على البعد الخيالي والقصصي والرمزي. ومع ذلك, سرعان ما سيصادف القارئ كلما أوغل في قراءة النصوص, إشارات سير ذاتية صريحة ومتعمدة ولا سبيل لإنكارها(26), خاصة حين ترد هذه الإشارات في متن النصوص الروائية نفسها, لا في عناوينها أو مقدماتها.
وسواء كان للراوية/البطلة اسم قصصي مختلف عن اسم المؤلفة, فاطم في <<الخباء>> و مايسة في <<مرايا الروح>> و دارية في<<دارية>> و كيمي في<<أوراق النرجس>> (وهو ما يعني عمليا الابتعاد خطوة عن السيرة الذاتية), أو لم يكن لها اسم على الإطلاق كما في <<دنيا زاد>> و <<السيقان الرفيعة للكذب>> اللتين ترويان أيضا بضمير المتكلم; فإن بإمكان القارئ على كل حال أن يدرك بطريقة أو بأخرى, ما بين الكاتبة والراوية والبطلة من تقارب, إن لم نقل : يدرك ما بين هذه الأطراف من تطابق.
في <<قميص وردي فارغ>> ستأخذنا نورا أمين إلى الطرف النقيض في هذه المعادلة, معادلة الاقتراب/الابتعاد عن السيرة الذاتية; فالراوية/ البطلة لها اسم الكاتبة الكامل ذاته: نورا عبد المتعال أمين, ليس هذا فحسب, بل هي تتأمل ذلك الاسم وتردد حروفه على مسامعنا حرفا حرفا, في لعبة أخرى من ألعابها الكتابية الماكرة. ففي بداية الفصل الرابع والأخير, ستنتقل الراوية – كعادتها في الفواصل القليلة القصيرة بين فصول روايتها – من ضمير المخاطب المهيمن إلى ضمير المتكلم الاعترافي:
<<أدرك الآن أنني فقدت شيئا كبيرا كان يجعل مني تلك الفتاة التي ينادونها <<نورا>> فتستجيب للنداء جيدا لأنها تعرف أن ذلك الاسم عامر بها وهي عامرة به. كان قلبها يقفز ويتراقص كالكلب الصغير المدلل عندما تسمع ذلك الاسم, تتحمس وتستعد لإنتاج لحظات جديدة, كانت النون رمزا للرقة, والراء للمرح والإقبال على الحياة, ثم لم أعد <<نورا>>, ولم أعد أشعر أن هناك كلمة علي أن أتهيأ للبهجة بها عندما يطلقونها نحوي. صرت <<نورا أمين>>, شيئا آخر غير مشتق من النداء الأول, تكوين كتابي أقرأه على صفحات مطبوعة, أحيانا أرضى لأنهم قد استحدثوا لي إشارة يحددونني بها عندما يتحدثون عني فلا يحدث خلط, لكني دوما أسقط على أسفي لفقدان اسمي, أتذكر كيف كنت عندما كنت <<نورا>>, وأتحسر, أدرك أنني أصبحت كيانا بلا اسم.
عندما تم طلاقي في الرابعة والعشرين من عمري بعد زواج لم يدم أكثر من ثمانية أشهر سقط أول حروف ذلك الاسم في دفتر مأذون حي أدخله للمرة الأولى. كتبت <<نورا عبد المتعال أمين>> بينما تلك النون الافتتاحية تشحب, ومعها ذلك الشعور بذاتي الحرة الجامحة…إلخ>> ص56.
السمة السير ذاتية الأولى والواضحة التي تجمع بين كل هذه الروايات – ربما باستثناء الخباء ومرايا الروح إلى حد ما – هي ذلك النوع من التطابق المعروف في السيرة الذاتية, بين الكاتب الحقيقي التاريخي الموجود على صفحة العنوان, والراوي الذي ينهض بالحكي, والبطل القصصي أو الشخصية الرئيسية موضوع الحكي. جميعهم (الكاتب – الراوي -البطل) وفي الروايات السبعة, نساء شابات, تكتبن نصوصا إبداعية من نوع ما, ولهن نفس الاهتمامات والقراءات. أضف إلى هذا أن كل واحدة من هذه الروايات تقدم تنويعا على تجربة شخصية قاسية وحاسمة في حياة كاتبتها, مما يجبرها على استعادة مراحل التكوين الملتبسة هناك في الطفولة, في ألبوم الصور القديمة, أو <<صندوق الشرور الصغيرة>> كما تسميه راوية أوراق النرجس .
في مرايا الروح تمر الراوية/البطلة مايسة بتجربة زواجها الفاشل – ثم طلاقها – من إبراهيم العامل, بعد محاولة رومانتيكية لتجسيد حلمها الماركسي, لكنها تغرق أكثر في القهر القديم الواقع على جسدها; فتحاول عبر الرواية كلها أن تسترجع تفاصيل عالم الطفولة والصبا في محاولة للبحث عن موطن العلة, ثم تحاول حتى النهاية – دون جدوى ولا أمل – أن تصل إلى ارتواء لجسدها/روحها. وهذا نفسه ما تفعله راوية <<السيقان الرفيعة للكذب>> حين تستعيد في النصوص الأخيرة من كتابها ملامح من تجارب الطفولة في السويس, وحبها الأول ل-<<صلاح<<, وزواجها الأول. وفي دارية تعاني الراوية/البطلة دارية من إحباطات عميقة متكررة في علاقتها مع زوجها سيف, فتستعيد في صفحات متفرقة من الرواية عالم طفولتها, وتعرض صورة متسقة وصوفية ومثالية لأمها وأبيها, في محاولة – دون جدوى أيضا – لتقديم صورة متماسكة للذات, ثم ما تلبث أن تقفز على تجربتها, وتهرب منها بشكل مصطنع إلى ملجأ الكتابة.
في أوراق النرجس يصل انشطار ذات الراوية/البطلة إلى حد الجنون, و صفحات الرواية ذاتها تتحول إلى بحث محموم – على طريقة جويس – عن موطن الداء, في تفاصيل متفرقة ومبعثرة من طفولة الراوية وطبقتها وتاريخها الشخصي والوطني. أما في حالة فاطم, راوية <<الخباء>> وبطلتها الطفلة; فنحن لا نحتاج إلى الاستعادة, لأن كل شيء يأتينا من منظور هذه الطفلة المحاصرة بقيود متراكمة ومتداخلة, بدءا من طوق التقاليد الخانق, ومرورا بحصار الصحراء ورمالها من كل جانب, وانتهاء بعجز الجسد النحيل المتمرد وسط هذه الصحراء. لقد خرجت الشابة من الخباء, ولكنها تركت للطفلة استعادة الحكاية وتقديمها من الداخل.
أربع من هذه الروايات (مرايا الروح – قميص وردي فارغ – السيقان الرفيعة للكذب – دارية) تتناول – بدرجات مختلفة – تجربة عشق مركب جارف, وزواج وطلاق, تعيشها الراوية/الكاتبة, وترويها بالضمائر كلها: المتكلم المشارك, والغائب العليم, والمخاطب المضطرب (سواء أشار إلى الراوية ذاتها, أو إلى الرجل الذي يشاركها التجربة, أو إلى القارئ). وروايتان أخريان (الخباء – أوراق النرجس) تتناولان تجربة فلسفية وجودية, وإن ارتبطت بقضية القهر الواقع على المرأة بشكل عام, وحكيت من منظور أقرب إلى منظور الراوية الطفلة, التي تستدعي بعض التفاصيل الرمزية من طفولتها, في محاولة للكشف عن جوهر الأزمة المتراكمة التي تحياها المرأة العربية, وأزمة الإنسان في عمومها. الرواية السادسة (دنيا زاد) تتناول تجربة أم شابة تفقد طفلتها التي نكتشف أنها ماتت قبل الولادة, وت حك ى من منظور مزدوج: الأم/الراوية/الكاتبة نفسها, وزوج متعاون يدون مذكراته حول نفس التجربة, لتقتطف منها الراوية ما يقدم وجهة نظر إضافية.
ولو أن هذه الروايات اقتصرت على رصد التجربة الحاسمة في حياة الكاتبة/الراوية/البطلة, إذن لبهت الجانب السير-ذاتي, ولتحولت الروايات إلى مجرد روايات قصيرة مكتفة, أو <<نوفيلات>> تنطوي – شأن كل النوفيلات(27) – على نقطة تحول درامية حاسمة. لكن استعادة تفاصيل ملحة من الطفولة أضفت على هذه النصوص الروائية شكلا سير-ذاتيا, فيه محاولة للإلمام بحياة الكاتبة/الراوية/البطلة, ورسم خطوطها الرئيسية, من الطفولة إلى ما بعدها.
ولكي نتعرف على بعض الجوانب السير ذاتية, فضلا عن الجوانب الفنية في هذه الروايات, ربما يكون من الضروري أن ننظر أولا في الخلفية الثقافية والاجتماعية لهؤلاء الكاتبات الشابات; إذ لا يمكن للمرء – على سبيل المثال – أن يتصور أنها مجرد مصادفة أن معظم هؤلاء الكاتبات, إن لم نقل كلهن, يستندن إلى خلفية اجتماعية وثقافية بالغة التشابه; فمعظمهن ينتمين إلى الطبقة الوسطى الميسورة, التي أتيح لها أن تتعلم في مدارس اللغات, وأن تتلقى تعليما أجنبيا, وأن تتقن لغة أخرى على الأقل غير العربية, ومعظمهن يهتممن بمجالات النقد الأدبي ونظريات الفن والأدب والسرد المعاصرة اهتماما يصل إلى حد الاحتراف(28). وهذه جوانب دالة وحاسمة تعكسها بوضوح نصوصهم الروائية نفسها, وما تستند إليه من جهاز نقدي.
ومع أن معظم هذه الخلفيات التاريخية والاجتماعية والسياقية قد لا تحتل مكانا ذا بال في تحليل الروايات من منظور معاصر, فإنها تصبح خلفيات لا غنى عنها ويتحتم أخذها في الاعتبار, خاصة حين ندرس روايات يلح أصحابها بأنفسهم على عرض الجانب الذاتي فيها, والإعلان عنه في كل مكان داخل النص وخارجه, إذا لم يلتفت القراء والنقاد من تلقاء أنفسهم إلى هذا الجانب.
تزعم هؤلاء الكاتبات – كما يزعم رفاقهن من الكتاب – بأنهن لسن معنيات بالحركة النسوية ومزاعمها, ولسن معنيات بأي قضية اجتماعية أو سياسية. إنهن معنيات فقط بالأدب والأدبية. هذه مزاعمهن على المستوى النظري, أما عمليا, فهن منخرطات تماما في الحركة النسوية, وربما كان هذا أحد الأسباب – وربما أحد الدوافع الغامضة – وراء الاهتمام الملحوظ الذي يحظين به من قبل المستشرقين, الذين يولون – مثل مجتمعاتهم – اهتماما خاصا لقضايا المرأة المستضعفة في مجتمعات الشرق الغامضة.
حتى رواية <<الخباء>>, التي لا تتضمن عنصرا سير ذاتيا صريحا, تبدأ بإهداء دال يكاد لا ينفصم عن أزمتها الذاتية وأزمة المرأة في عمومها. يقول الإهداء :
<<إلى جسدي .. وتد خيمة مصلوبة في العراء>>
ففي رواية كل شخصياتها نساء باستثناء الأب, وفي رواية لا تهتم بالجسد الأنثوي المحاصر, قدر اهتمامها بالروح الأنثوية المقموعة; يعد هذا إهداء مضللا, يسعى إلى جذب القارئ الباحث عن كتابة الجسد التي طالما أخبره النقاد عنها في كتابة النساء الجديدة. قد تكون هناك علاقة معقدة بين أزمة الجسد المحاصر لدى الكاتبة خارج النص, وأزمة الروح المقموعة بالتقاليد والإعاقة الجسدية لدى الراوية داخل النص, وقد يصعب هنا الفصل الساذج بين أزمة الروح وأزمة الجسد, وهو ما قد يبرر هذا الإهداء إلى الجسد. لكن هذا لا ينفي أن في هذا الإهداء لعبا مقصودا على وتر النسوية الرائج.
ويعكس إهداء <<السيقان الرفيعة للكذب>> حالة قريبة من حالة الخباء, وإن أشار إلى القلب والروح والجسد جميعا, وقرن معاناتهم بالرجل الذي يتوجه إليه الإهداء أولا :
<<إليك
و
إلى قلبي الذي لم يعد به موضع لرتق
إلى روحي المنحصرة بين الحنين والفقد
إلى جسدي الذي عاش كل تلك التفاصيل>>
ورغم أن إهداء <<مرايا الروح>> يشير إلى الروح لا إلى الجسد الأنثوي, فإنه يتضمن إشارة نسوية لا باس بها, لأنه يتوجه إلى الصديقات النساء وحدهن:
<<إلى صديقاتي .. مرايا روحي .. ودفء أيامي .. وحمايتي من الإنكسار>>(29).
ولا يختلف إهداء <<دارية>> كثير ا; إذ يذهب بدوره إلى الروح الأنثوي المرفرف حبا وحنوا على الجميع, روح الأم وروح الراوية نفسها, رغم أن الأب هو الأكثر حضورا في الرواية:
<<إلى روح أمي .. جمالات الزيادي, ترفرف حولي أينما أكون. وإلى طفلي ريم ومروان, ترفرف روحي حولهما أينما يكونان>>.
أما إهداء قميص وردي فارغ, فيذهب إلى واحدة من أبرز الكاتبات الفرنسيات, <<مارجريت دوراس>> الكاتبة التي أعادت إنتاج سيرتها الذاتية في كل أعمالها, وعلى رأسها العمل الذي يتوجه إليه الإهداء, رواية <<العاشق>> التي تتحول إلى رابط خفي بين الراوية, ورجلها, والمؤلفة الفرنسية نفسها, ولهذا تتحول <<العاشق>> إلى <<عاشقنا>>:
<<إلى مارجريت دوراس .. وعاشقنا>>
6- بطلات جديدات , وهموم مختلفة
تحكي لنا روايات السيرة الذاتية التي كتبها كتاب- وكاتبات – الأجيال الأقدم, قصة حياة مكتملة أو شبه مكتملة. إنها تعطينا حياة البطل أو البطلة في صورة مكتملة ومتماسكة, من نقطة في الزمان إلى النقطة التي تليها, وغالبا ما تكون هموم البطل/البطلة ذات بعد عام لا يكاد ينفصل عن هموم طبقته ووطنه (الأيام لطه حسين, والباب المفتوح للطيفة الزيات, والتجليات لجمال الغيطاني أمثلة متنوعة ودالة في هذا السياق). أما روايات السيرة الذاتية الآن, وخاصة روايات البنات هذه, فلا تقدم إلا فترة محدودة جدا من حياة الكاتبة/الراوية البطلة, حيث تتركز تجربتها على النحو الذي نراه في قصة قصيرة أو نوفيلا; ولهذا يتم تغييب الجانب الجماعي أو العام من التجربة (وهو جانب روائي أصيل) إلى الخلفية البعيدة أو غير المرئية, بينما تتصدر الهموم الذاتية المحمومة مقدمة المشهد.
باستثناء الخباء, التي تقدم نوعا من البطولة النسائية الجماعية (أسرة بدوية معزولة في صحراء مصر الشرقية, معظم أفرادها من النساء المقموعات, تأتينا حكاياتهم المتنوعة من منظور الطفلة الراوية/ فاطم) ; فإن بقية الروايات تتناول تجربة مكثفة بالغة الذاتية, عاشتها الراوية/الكاتبة. كلهن مهووسات بتفاصيل التجربة الضاغطة, التي غالبا ما يسقط البعد العام من معناها; فراوية القميص الوردي الفارغ بدت محاصرة بتفاصيل علاقتها المشك لة مع حبيبها المشك ل, ولا تكاد ترى شيئا خارج حدود هذه العلاقة. وهي ليست علاقة اجتماعية, أو اقتصادية, أو جنسية, بقدر ما هي علاقة مع الذات, أو هي – كما تقول الراوية نفسها – <<علاقة ورقية>>. وكاتبة/راوية دنيا زاد لا تكاد تخرج عن دائرة الفقد إلا لتعود إليها من أبواب متعددة, تحكي تجربتها الخاصة بلغة مكثفة ومقتضبة وإن بدت ثرثارة, ولم لا إذا كانت -ككل النوفيلات – تحوم حول تيمة مأساوية, هي تيمة الفقد التي تبدأ وتنتهي بلفظة الموت. ولا يختلف الأمر كثيرا يالنسبة لكاتبتي/راويتي مرايا الروح وأوراق النرجس: تيمة مأساوية مهيمنة تحوم حول نفسها, وتمنع التفاصيل الروائية غير الذاتية من التدفق.
حتى روايات السيرة الذاتية التي كتبها <<كتاب الستينيات<<, وهم الذين قادوا السرد العربي المعاصر إلى هذا النوع من الكتابة, الكتابة الذاتية التجريبية المضادة للواقعية – حتى هذه الروايات كانت مسكونة تماما بالهموم والقضايا السياسية والاجتماعية, على نحو ربما لا نجده بهذا العمق الفلسفي حتى في روايات الواقعيين أنفسهم. أما رواية السيرة الذاتية التي يكتبها <<كتاب التسعينيات>> من النساء ومن الرجال أيضا, فليست مسكونة بهذه الدرجة من العمق الاجتماعي والفلسفي.
كل تجربة فنية- لرجل أو امرأة – هي تجربة ذاتية بطبيعتها, ولا أحد يستطيع أن يلوم الكاتبة أو الكاتب على هذا النوع من الذاتية, ولكن المهم – كما تقول لطيفة الزيات – هو كيف <<تبدع>> من هذه التجربة الذاتية الخاصة عملا فنيا مفهوما وموضوعيا. كثير من الكاتبات, وكثير من الكتاب أيضا, استخدموا ذواتهم مادة لأعمالهم الإبداعية, لكن الفارق بين ما هو <<إبداعي>> من هذه الأعمال وما هو <<غير إبداعي>> يكمن في كيفية استخدام هذه الذات, والهدف من استخدامها: هل تبقى هذه التجربة الذاتية ذات معنى على المستوى الخاص والشخصي فحسب, أم يتم تجاوز هذا المستوى إلى ما هو عام وغير شخصي, وتحويل هذه التجربة إلى تجربة جمالية تفتح بصيرة القارئ على الحياة(30).
صحيح – كما تقول فريال غزول – أن كتابة المرأة -ككتابة الرجل – تجمع بين ما هو حميمي وخاص وبين ما هو عام وسياسي, وأن ليس هناك فصل بينهما, وأن المرأة عندما تكتب عن ذاتها فهي تكتب أيضا عن مجتمعها, وعن السياق الخارجي, كما أنها ليست مسألة فقر في القدرة على التخييل, لأن الإنسان يكتب من تجربته, وإذا كان الإنسان يفتقد إلي التجربة, فإنه لا يستطيع الكتابة, وبالتالي من الطبيعي أن تكون هذه التجربة ذات طابع ذاتي. وصحيح أيضا أن المرأة تقدم في كتابتها نوعا من الحميمية والتصور لما لا يعرفه الرجل(31). كل هذا صحيح, ولكن هذه الكتابة النسوية المعاصرة تختلف – في الدرجة لا في النوع – عن الكتابة الرجالية المعاصرة, ربما لأن مصفاة الذاتية النسوية لا تسمح بمرور جوانب معينة من العالم الخارجي, أو قل لأنها غير معنية بهذه الجوانب وغير منخرطة فيها.
لقد قيل إن تجربة الرجل أقرب إلى الموضوعية وإن تجربة المرأة أقرب إلى الذاتية, وهو زعم ربما يجد ما يؤيده من شواهد المنظور الرجالي, حتى في الدراسات التي كتبتها النساء عن رواية المرأة(32), ولكنه لا يجد ما يؤيده من شواهد التاريخ والمنطق. وغالب الظن أن الأمر يتعلق بهذه القدرة على تحويل التجربة الخاصة الذاتية إلى تجربة إبداعية مؤثرة في الآخرين, وهي قدرة ربما لم تفلح المرأة في تحصيلها, وهي التي دخلت إلى حرفة الكتابة متأخرة , ومحاطة بعراقيل متنوعة.
ومهما يكن من أمر, فإن هذه العراقيل المتنوعة لا تعني وجود <<نزعة>> رجالية أو مجتمعية تضمر الشر للمرأة, وتسعى لاستبعاد الكتابة النسائية وتهميشها, أو ما يسميه صبري حافظ <<نزعة مضمرة>>: <<تلك النزعة المضمرة التي تحاول أن ترد كل كتابة المرأة إلى خبرتها الذاتية, وأن تجعلها نوعا من السير القصصية, لإخراجها من مجال الرواية الجادة, وناهيك أيضا عن نوع أسوأ من الإضمار, لا يريد أن يصدق أن باستطاعة المرأة أن تبدع أدبا أو أن تكتب عن شيء لم تعشه, ويسعى إلى استخدام كل ما تبدعه ضدها بصورة تحد من خيالها, وتحكم حصار التابو أو المحرمات حولها>>(33).
إن الحديث عن <<نزعة سيئة مضمرة>> وعن <<أنواع أسوأ من الإضمار>> لا يكاد يختلف عن بارانويا التفوق الفني على الرجل, التي تبنتها دارسات السيرة الذاتية النسائية في الغرب التي عرضنا لها منذ قليل. نعم, إن كتابة المرأة تميل إلى استخدام عناصر من السيرة الذاتية, ولكن كتابات الرجل أيضا, وخاصة الكتابة المعاصرة, تميل إلى استخدام العناصر نفسها. والفرق بين الكتابتين ليس سوى اختلاف في <<درجة>> الميل إلى الذاتية, أو في زوايا هذا الميل. هناك عناصر سير ذاتية متصاعدة في كتابة المرأة وكتابة الرجل على السواء. هذه حقيقة, ولن يفسر الظاهرة القول بوجود نزعة مضمرة لتأويل كل ما تكتبه المرأة بعناصر من السيرة الذاتية تهميشا لما تكتبه وحطا من قيمته. ولماذا تهميشه والحط من قيمته, إذا كان هؤلاء الكاتبات أنفسهن, يعددن استخدام السيرة الذاتية بهذه الكثافة وبهذه الطريقة, شقا لطريق جديد ومميز في الكتابة الروائية?
ربما يحتاج الأمر الآن أن ننظر في هذه الكتابات, ونتأمل خصائص البطولة الروائية التي تقدمها: إلى أي حد هي خصائص محتلفة عن خصائص بطلات الأجيال الأسبق, وهل تعكس هذه الخصائص رؤى اجتماعية أو فلسفية جديدة, وما هذه الرؤى ..إلخ
لأن هذه النصوص مبنية على عناصر من السيرة الذاتية; فإن بطلاتها بلا استثناء, مثل المؤلفات, هن من مثقفات الطبقة الوسطى الميسورة, يعشن قدرا لا بأس به من ترف العيش, ويملكن قدرا لا بأس به أيضا من الإرث البرجوازي. وتقوم الحبكة الأساسية في سيرتهن – بدرجات مختلفة, ومن خلال تجارب متنوعة – على تمزق واضح بين هذا الإرث التكويني الأساسي من ناحية, وطموح المثقفات إلى تواصل إنساني سوي ينسجم مع أحلامهن المتناقضة.
من الصعب أن يعثر القارئ على وظيفة لهؤلاء البطلات بعيدا عن وظيفة الكتابة الحرة; فصور المرأة التي تقدمها هذه الروايات ليست صورا متنوعة أو مختلفة. ليس بينهن عاملة أو طبيبة أو محامية أو زوجة تقليدية أو فتاة ليل أو حتى داعية لحقوق المرأة. ليس سوى تنويعات على صورة المثقفة الكاتبة المجنونة الطليعية غير المنسجمة مع الواقع المألوف, سواء كانت كاتبة إبداعية كما نرى في معظم الروايات, أو صحفية كما في مرايا الروح مثلا .
الكتابة في هذه الروايات هي مهنة البطلات جميعا, والكتابة أيضا هي مسعاهن الدائم ووسيلتهن الوحيدة المأمولة للتحرر والخلاص(34), رغم إدراكهن الحاد لمراوغة الكتابة وخيبتها وسيلة للتغيير. الحكي/الغناء/الكتابة هي وسيلة فاطم العرجاء للخلاص من خباء الصحراء المميت إلى الفضاء الحر للحكايات البدوية الرامزة, التي ترنو إليها وتتقنها وتلعب بها ضد صنوف القهر:
لا أحب العزف على الآلة التي تشبه تمساح بحيرات النيل, لا أحب طنينه, لا تجبرني على تعلمه, تقول: <<كما تشائين>>.
لكن حين يتكاثر ضيوفها في المساء ويملأون اقداحهم ويثرثرون, كانت تلبسني عباءة من التي طرزتها لي موجة بالتلاوين, وكانت ضفيرتي قد وصلت قريبا من كاحلي. وأحيانا تجذب إحداهن عكازي, فأصرخ ..
<<شعورك طويلة .. طويلة>>.
فأقول لها إن الجنية المسخوطة دقت لي مفتاح الحياة وقالت إن شعوري ستصبح أطول من شعور ست الحسن أم الضفائر, تبتسم بنهم, تحب حكاياتي, وتبتهج حين أشرد كأنها تكتشف معي أشياء مبهرة..
يطل علي وجه : <<صافية>> في مناماتي,جميلة وممتلئة ووجهها طافر بالصحة واللامبالاة, و<<ريحانة>> و<<فوز>> يتناجيان, و<<سردوب>> تمشط شعري, و<<ساسا>> تصب الماء, و<<زهوة>> لا تفارقني.
أقول ل- <<آن>>: إن زهوة لا تفارقني, تسكن تحتي أينما ذهبت, وأن في عيون تلك الغزالة روحها السفلية, تقهقه باستمتاع أكثر, وأعكز أمام ضيوفها بجديلتي وعباءتي فيلتفون حولي <<قولي يا فاطم .. غني يا فاطم>> يبحلقون في بعيون فضولية مليئة بالدهشة, فأغني: الخباء, ص 105 وما بعدها.
والكتابة هي وسيلة مايسة للخلاص من انكسار الروح وخيبة الجسد وتمزق الوطن الذي عاشته, إلى انتظار الخلاص على يد ابن مريم في نهاية الرواية, رغم قسوة الكتابة وانعدام جدواها: <<أجلس على مكتبي في الجريدة بعد عودتي من المذبحة.
يجب أن أكتب. ماذا أكتب, وكيف? ..
كيف أكتب مهانة الخوف خلف أبواب البيوت لبشر يعيشون في وطنهم?
كيف اكتب رائحة الفقر الذي يعشش في البيوت وبين الطرقات ويطفح على الوجوه?
كيف أكتب انكسار الروح وذل اليأس? ..
كيف أصرخ على الورق, الورق لا يحتمل الصراخ, الورق لا يحتمل سوى الكلمات الباردة التي تصف بحياد ماحدث ..>> مرايا الروح, ص 78 وما بعدها
في رواية دارية, وفي مواضع كثيرة, تصبح الكتابة – كتابة الشعر – هي الملاذ الذي تلجأ إليه الراوية هربا من عدم تحققها في علاقة الزواج, وبحثا عن عالم أفضل تحاول أن ترسم ملامحه. ولا أدل من أن يكون مشروع الكتابة/الحلم هو الفعل الذي تُختَتَم به الرواية في آخر فقراتها, بعد أن تفشل كل مشاريع التحقق في الواقع:
<<افتح عيني ورائحة زمن آخر تهدهدني, أفتح زجاج النافذة على نوت تنشر جناحين من زرقة خالصة, مشربة برائحة زهر الليمون, ينفض من فوقه رمال الخماسين الصفراء, وعبق الياسمين الهندي يتشكل حروفا وكلمات. أسحب من جانبي ورقة بيضاء, وأكتب.>> دارية, ص 169.
والكتابة أيضا هي وسيلة التحقق في رواية <<دنيا زاد>> التي يحتويها الموت والفقد من بدايتها إلى نهايتها . الكتابة وسيلة يستعان بها على النسيان والاستمرار في التكيف مع مآسي الفقد المحيطة بالراوية, والتكيف حتى مع مأساة الموت; ففي الفصل الختامي تكتب الراوية/الأم/الكاتبة: <<هذه آخر الكتابة>> ص63.
وفي الصفحة التالية تكتب: <<ولا زلت أكتب وقد ادعيت أنها آخر الكتابة>> ص46.
وبعد صفحة, وفي الفقرة الختامية تكتبها صراحة :
<<هذه خاتمة تليق بلحظة حداد متأخرة. أكتب <<دنيا زاد>> وأستعين على حروفها بالنسيان. تعلق وجهها المستدير وعينيها المسدلتين فوق رأسي. وتبدأ في الدوران في فلك معلوم. يمنحها الخسوف توهجا بين الحين والحين. وأعود معها طفلة بلا ضفائر ..>> دنيا زاد, ص65
في أوراق النرجس تصبح الكتابة بتداعياتها الرمزية هاجسا للخلاص, لكنها في الوقت نفسه الطريق إلى الصمت والموت والقتل, وسوف تهذي الراوية في مونولوجاتها الجويسية مرات متعددة, رابطة الكتابة بالحياة والموت :
<<أخاف أن أكون قتلتها. لو كتبنا الناس يموتون?>>, أوراق النرجس, ص24.
<<ولماذا أشعر بكل هذه الغربة وسط أهلي, وأهلي الناس جميعا. قتلتهم كلهم في ثلاثة أيام? كتبتهم ثم مزقتهم, عندما استولت أنفاسهم على هواء الغرفة وابتلعته ولم يعد لي متنفس في المكان>> ص32.
<<لو كتبتهم يموتون, ولو لم أكتبهم يحكم علي أنا بالموت>> ص33.
<<كيف يقاوم المرء القدر بالكتابة لو أن الكتابة قدر?<<ص65.
<<كنت أظن أن الكتابة يجب أن تكون احتفالا ببهجة الحياة, وأن بهجة الحياة تنتظر في العطفة التالية, لتعلن عن نفسها ويرقص الناس في الشوارع فرحا بانتهاء الحروب والفقر والمرض في كل البلاد, كنت أظن أن مزاج السأم والغثيان هو شيء خاص بأوروبا, وأن أوروبا شاخت واستهلكت عنفوانها وقدرتها على الغناء الطفولي الحر الطليق. ولم أع الدرس حتى وأنا أكتب>> ص74.
<<كيف يعرف المرء إلى أي عائلة من الشريفات ينتمي إذا كانوا حكوا له كل تلك الحكايا ثم حرموه الكتابة? كيف يعرف إلى أي اللغات ينتمي إذا قالوا : اقرأ في كل اللغات ولم يقولوا: اكتب? ..>> ص110.
<<قل لي بالله عليك في أي الأمصار نحن? باراليل, باراليل. رائحة البرتقال والبنات اللواتي حرموهن الكتابة في بر مصر, خافي. شكي. واعلمي أنك في نهاية الأمر لا تساوين بصلة ..>>ص 111.
أما في <<قميص وردي فارغ>> – وفي <<السيقان الرفيعة للكذب>> إلى حد ما – فالكتابة هي الرواية نفسها. الرواية ليست إلا <<سيرة الكتابة>> كما جاء على غلاف <<قميص وردي فارغ<<; ولهذا يتردد صدي الكتابة وهاجسها الملحاح على طول المناجاة أو الرسالة المفتوحة التي تتوجه بها الراوية/الكاتبة إلى رجلها, من بداية الرواية إلى نهايتها:
<<ونتعارف من جديد, وتبدأ قصة. أصارع نفسي حتى أكتبها عوضا عن أن أبكيها>> قميص وردي فارغ , ص11.
<<عندما ألتهم جسدك الشاب يوما سوف نفقد معنى وجودنا. أو سوف نصبح حبيبين وتنتهي القصة. لذلك فسوف نحافظ بحكمة على أخوَّتنا كي نكتب أكبر قدر من القصص بدلا من أن نبكيها. كي نظل نستكين إلى تلامسنا الموجز وشهوتنا المدهشة الرابضة وراء خيالنا, فتستطيع أن تحتوي يدي برهة نحلق فيها نحو لحظاتنا التي لا تتم لأننا نتعمد أن نفترق فيها. لتسافر أنت وأكتب أنا. ونمتد ..>> ص13.
<<وقعت في أسر افتتاني بكتابة نشوتي المأمولة. ضحيت بما كان يمكن في الواقع, أملا في أوراق بليغة وخيال موثق. اخترقت المحظورين: كتبت عن واقع سافرن عن رجل من لحم ودم, عن داخلياتي أنا المرأة الراوية الوحيدة. وأعطيته تلك الكتابة دون أن أعلم بأمر النصيحة التي بعثتها غلينا مارجريت دوراس: لا يجب على النساء أن يدعن عشاقهن يقرأون ما يكتبن>> ص24.
<<ربما سأظل أتطلع إلى <<القميص الوردي الفارغ>> معزية نفسي بأنه أفضل ما كتبت. وهكذا يصير ألا نلتقي مرة أخرى. ويصير أيضا أن يزداد نهمي للخيال. والكتابة>> ص24.
<<تأتي بحركة تأهب للإفصاح عن رأيك في التناقض الذي تراه بين توثيقي لمشاعرنا وإيماءاتنا وبين توظيفي له لأحقق كتابة ما أطمح إليها, تتساءل: كيف أجمع بين هذا وذاك, كيف اكتب سيرة ذاتية لنا وتكون متخيلة في ذات الوقت? أجيبك: تلك هي عبقرية الكتابة>> ص32.
<<.. لذلك سوف أترك كتابتي على سجيتها, لأني لم أعد أستطيع أن أخطط لها وما زلت لا أعرف بعد إذا ما كنا في فضاء قصة أم رواية. ويبدو أني لا أعرف أساسا كيف تصنع رواية. سوى سوف أحاول الاحتفاظ بحواس يقظة ونفس طويل إلى آخر المطاف>> ص35.
<<الآن. لا أستطيع أن أحصل عليك. انقطع عالمانا كل عن الآخر. وبطلت وسائل الاتصال. لم تعد أمامي إلا أقدم وسيلة أعرفها كي أستحضرك: الكتابة>> ص35.
<<لا فائدة. فلنعد إذن إلى الكتابة. المؤنس الوحيد في نهاية كل قميص وقبل بدايته. لعلها في النهاية تتحول إلى رواية, فقط لأني ألح عليك عبر تفاصيلك المكتوبة. وعندما لا أجد سبيلا إليك أكتبها جميعا حتى ألقاك على الأوراق وأعانقك. زاهدة في أن أستدعيك فعليا. في واقع الأمر, الأيام تلك التي تمر الآن من حولك لا يمكنها أن توجد إلا بالكتابة, لذلك يمكنني أن أدعوها <<أياما نصية..>> ص37.
<<توفيت مارجريت هذا الأسبوع .. ألم تكن تعلم بحلمنا? بكتابتي? بكيت أنا في ذلك اليوم. شعرت أنني وحيدة في مواجهة المارد الذي ربما ابتدعه خيالي. لأن المرأة التي علمتني الكتابة والحب كي أخرج من دائرة الإخفاق, قد رحلت وتركتني أنا وكتابتي, امرأتين وحيدتين, ربما تهبطان يوما إليك داخل قميص واحد ..>>ص38.
<<بهذه البساطة تجيء إلينا ونحن جالستان – أنا والكتابة – على مائدتنا>> ص43.
<<أنظر إلى بروفيلك الماضي في همة بينما وجهي كاميرا تتابعك عن كثب. هل أنت بالفعل أنت الذي يسير معي قرابة منتصف الليل في شارع سليمان باشا, أم أنك مخلوق من نبت كتابتي?>> ص49.
<<.. لذلك فأنا أندفع في كتابة هذا الروائي الوردي الطويل بجميع الرغبة التي كانت لدي في أن أكون, وأحيا, وأحتفظ باسمي. أن أعشق وأتحقق وأقوى على كل شيء. أحبك في هذه الكتابة ولا أستطيع أن أعانقك خارجها ..>> ص66.
<<لا أستطيع أن أستمتع بلحظاتنا معا. أكتبها. وأناضل حتى أعيد الدماء إلى عروقي بالوسيلة الوحيدة التي لم تتلوث بعد. أقد سنا بالكتابة ..>> ص67.
<<أنا أكتب حتى أتماسك. أكون قصة حبي في هذه الرواية وأحاول أن أنقذها من وساوسي وإخفاقاتي. أحاول أن أعالج ترددي في الواقع خلال هذه السطور>> ص68.
<<ولا تغضب يا عزيزي لأن العالم كله يمر إلي من خلال الكتابة. فيبدو أن حياتي بأكملها هي في الأصل تجربة كتابية, وكل شيء زائل فيما عدا الكتابة>> ص85.
<<لماذا تندثر طاقة الحب في زمننا هذا, وتتبدد فجأة كالولادة المبتورة, والكتابة المبتورة (وهذه البلاغة المبتورة!)?..
وهل وقعت في أسر افتتاني بالكتابة فوضعتك في منافسة غير متكافئة? ..
هل ينحسر الماضي عني بعد أن حكيت قصتي في هذا النص, وتصبح هويتي أنني <<امرأة تكتب في هذا الزمن>>? ص90.
تتحول الكتابة إلى جزء مطمور من الهوية النسوية للبطلات, اللواتي يشعرن أنهن مقموعات بقوة خفية غامضة تحرم عليهن الكتابة, وخاصة كتابة البوح أو الفضح أو الانتقام, فيتجهن إلى الإغراق في عالمهن الداخلي الخيالي, حيث يقعن في حبائل السيقان الرفيعة للكذب اللذيذ مرتين: مرة في التجربة الواقعية حيث كذب الآخر/الرجل, ومرة في تجربة الكتابة حيث كذب الذات على نفسها.
وهكذا, يمكن القول إن بطلات رواية السيرة الذاتية الجديدة مصنوعات من خيال الكتابة. ويمكن لإحدى دارسات السيرة الذاتية أن تقول إن هذه واحدة من سمات السيرة الذاتية النسائية; ف-<<حيث إن هناك بونا شاسعا بين الخيارات التي يقدمها المجتمع للمرأة, والإمكانيات التي تجدها المرأة داخل نفسها, فإنها كثيرا ما تمتلك حياة داخلية مركبة, وعوالم من الفانتازيا.. إن العلاقة بين الكاتبات وحياتهن الخاصة, بما فيها كتاباتهن, يبدو أنها تمثل بالنسبة للمرأة الخيار الوحيد الممكن للتحرر; فالنساء يسيطرن على تجاربهن بتخيلها, وإعطائها شكلا , والكتابة عنها .. إن هناك شكلا آخر من أشكال الخصوصية هو الواقع الذي تعيشه المرأة, لا أقصد الحياة العائلية, بل أقصد الحياة الداخلية, حياة الخيال, وهي أيضا حياة <<حقيقية>>. هناك إصرار على إضفاء الشرعية على حقيقية الخيال, لا سيما أنه كثيرا ما يتصارع مع حقيقية المجتمع>>(35)
وإلى جانب دورها الاعترافي التعويضي وربما الانتقامي أحيانا, تصبح الكتابة جزءا تكوينيا من ذات البطلة/الراوية. إنها وسيلتها الوحيدة للتجاوز والالتئام; ولهذا تضحي من أجلها وتستميت تمسكا بها. الكتابة بديل الواقع وبديل الرجل, أو هي أبقى من الواقع ومن الرجل نفسه, وليس العكس. هذا ما أشارت إليه رواية نورا أمين , وهذا ما تشير إليه مرة أخرى رواية عفاف السيد; ففي تشابه لافت بين الروايتين وبضمير المخاطب نفسه, تردد راوية <<السيقان الرفيعة للكذب>>:
<<ببساطة, سأكتبك وأنا أضحك هكذا, لأني أعرف أن للكذب سيقان(?) رفيعة, وأخاديد متعرجة, وحيل كالتي حول النقاط, وبين حرف وحرف, ومحشوة بها الكلمات الآن..>> السيقان الرفيعة للكذب, ص9.
<<قبل أن نبدأ, سأذكرك بشيء لطيف, أنت تعجبك كلمة لطيف, ولذلك سأكررها كثيرا, فقط لأني ربما أكتب هذا النص لك وحدك, مع أن القارئ سيشاركك إياه, إلا أن كل من سيقرؤه سيكتشف أنك من أوهامي, أو ربما رجل من حروف..>> ص12.
<<أتدري, لقد فكرت أن أقول لك إنك كنت مشروع كتابة فقط, وسوف أنتهي منك بانتهاء النص, فقط لأؤلمك. هكذا ببساطة سوف أنتهي منك عند آخر نقطة أضعها جانب آخر حرف في ذلك النص, فأحبسك في نصوصي للأبد, تجرحك الوحدة ومرور الزمن ..>> ص30.
<<تصور, أضحيت أحب هذا النص, أقصد أقيم معه علاقة تواصل حميم جدا, حتى أنني عندما تأخذني مشاغلي أفتقده بشدة.
أعلم أنا جيدا, أنني أستبدله بك, وها أنا أعشقه ولكن ..>> ص51.
<<لا أدري كيف أو متى بدأت تلك المشكلات تبزغ بكثافة, لكني أذكر يا قارئي انه كان يوما غريبا, ولقاء غريبا, وكنا نحن غرباء, أو ربما لم نكن حقيقيين إلا في تلك اللحظة, وأنا أخبره أنني لن أتخلى عن طموحاتي أبدا, فإن الكتابة هي أنا, حياتي, وبدونها لن أكون أبدا, بل سأتحول إلى كائن عدواني وتافه ..>> ص66.
ربما يحق للمرء أن يتساءل ما معنى كل هذا الاهتمام بالكتابة, ودورها في حياة البطلات الجديدات وصورتهن عن أنفسهن? أحيانا تبدو المسألة مجرد مبالغة في لعبة تجريبية من ألعاب الكتابة الجديدة, التي يشترك فيها الكتاب والكاتبات على السواء, وإن اختلفت الدرجة. ومؤدى هذه اللعبة أن يكشف الكاتب عن يديه وهما تلعبان وتصنعان العالم القصصي في حضور القارئ وبعلمه, في نوع من الاستمتاع الخبيث بتوريط القارئ في هذه المنطقة المراوغة بين الخيال والحقيقة, وهي المنطقة ذاتها التي تلعب عليها رواية السيرة الذاتية.
غير أن هذه اللعبة لا تفسر كل هذا الهوس النسائي بكتابة التفاصيل وتكرارها على هذا النحو, وهذا الإعلان المجاني أحيانا عن امتلاك سلاح الكتابة, والفرحة بامتلاكه, والمهارة في استخدامه. ولا شك أن الكتابة تلعب وظائف أخرى أساسية بالنسبة لهؤلاء الكاتبات, وراوياتهن, وبطلاتهن على السواء. الوظيفة الأولى وظيفة تعويضية; فهن يكتبن تجاربهن – كما رأينا في الاقتباسات السابقة – عوضا عن بكائها مرة , وعوضا عن ممارستها مرة أخرى. والوظيفة الثانية وظيفة ثأرية انتقامية; فهن يكتبن لتثبيت صورة الرجل وصورة المجتمع الرجالي المراوغة, في محاولة لأسرها وتقديمها من المنظور النسائي لأول مرة, وفضح ما فيها من كذب.
أما الوظيفتان الثالثة والرابعة, فمختلفتان في اتجاههما ومعناهما; إذ يتعاملان مع صورة الذات, ويتجهان إلى الداخل. الوظيفة الثالثة وظيفة اعترافية, تنطوي على محاولة لاكتشاف الذات وتعرية سوءاتها وفضح ما فيها من كذب, وتحميلها قدرا من المسئولية الموضوعية عن أزمتها. والوظيفة الرابعة وظيفة تبريرية; فشأن كل اعتراف, ينطوى اعتراف هؤلاء الكاتبات وبطلاتهن, على قدر من الكذب التبريري الغامض, في محاولة أخيرة لتبرئة الذات.
هنا يبدو عنوان رواية عفاف السيد بالغ الدلالة; فهذا الوله بقيمة الكتابة يعكس محاولة دءوبة لانتزاع <<السيقان الرفيعة للكذب>>, سواء كذب الرجل الغامض المحبوب كما في روايتي نورا أمين وعفاف السيد, أو كذب البطلات على ذواتهن كما في معظم هذه الروايات. وهذا النوع الأخير من الكذب هو أصعب الأنواع غموضا ومراوغة, وتحقق كل رواية إنجازها بقدر نجاحها في الكشف عنه. ولا يحدث هذا الكشف بالاعتراف التطهري الساذج على لسان الراوية, بل يبدو كأنه يحدث عفوا, حين تنبش الراوية في ألبومات الصور وخيالات الطفولة, وتكشف عن قدر عميق من التناقض الطبقي والثقافي الضارب في الجذور الأسرية للأزمة.
ولعل من المفيد هنا أن نراجع أنماط العلاقة بين الراوية والوالدين, أحدهما أو كليهما; حيث تتبدى في عمليات نبش الماضي وتقليب ألبومات الصور, ثلاثة أنماط مختلفة من العلاقة مع الوالدين:
الإهمال الكامل, إما بدافع التحرج المعتاد في السير الذاتية العربية من التعرض لأفراد الأسرة على وجه الخصوص, رغم دورهم الحاسم في تشكيل وعي الراوية بذاتها وبأزمتها, أو بدافع الرغبة في التركيز على الرغبة الانتقامية من الطرف الآخر في علاقة العشق المحبطة(الرجل) والانهماك في ذكر تفاصيله. هذا ما نرى صورا منه في روايات نورا أمين ومي التلمساني وعفاف السيد.
التبني الكامل, حيث تغرق الراوية في حبهما بصفتهما النموذج المثال, وهذا هو الموقف العكسي الذي نراه في رواية واحدة على الأقل هي <<دارية<<, وهو موقف لا يختلف كثيرا في نتيجته عن الموقف الأول, حيث تتبنى الراوية الموقف البطريركي بكامله.
علاقة العداء الممتزج بالحب, حيث يتم تغييب الأم بصورة ما وتقوم الخادمة بدورها العاطفي والتثقيفي إزاء الراوية الطفلة, كما يتم تصوير الأب في صورة بطريرك محبوب , لكن الراوية تدرك تماما ما تنطوي عليه طيبته من تدمير, وهذا ما نراه في روايات ميرال الطحاوي وبهيجة حسين وسمية رمضان.
في هذا النمط الثالث من العلاقة, تكون الروايات أقرب إلى الكشف عن جذور الأزمة وزواياها المركبة; حيث يكون الانصياع الكامل لرغبة الوالدين المحبوبين مدمرا للذات ومغيبا لإبداعها. يقتصر دور الأم في <<أوراق النرجس>> على إصدار الأوامر وتختفي من المشهد ليحتل مكانها عاطفيا خادمة حكاءة اسمها آمنة (تماما مثل الخادمة <<سردوب>> في رواية الخباء) وحين تعود الراوية البطلة من رحلة دراسة وعلاج ومنفى إلى أيرلندا يكون عنوان الفصل <<بيت أبي>>, ولكننا لا نجد ذكرا للأب/الوطن, لن نجد إلا حالة ام حاء وخرس مميتة تواجهها الراوية حين تعود إلى ما يفترض أنه بيت أبيها. إنه عذاب الصمت المهذب لسنوات طوال:
<<لم يخطر ببالي أنني لو عدت إلى بيت أبي يصبح علي التظاهر بأني لم أبرحه, لأصنع حكاية, أن أنصاع لهوفر معنوية, تشفط روحي مع تراب الأسى والألم, تمتص حكايتي وتحتفظ بشكلي وهيئتي. لم ي طل ب مني, لم ينبس أحد, لكن شيئا ما في الهواء نفسه كان يقول: هنا لا نقبل سوى حكاية واحدة, هذا إذا كان الحكي لابد منه:
<<كان يا ما كان في حاضر الأيام فتاة ذكية, سريعة ونظيفة, بريئة إلى حد السذاجة أحيانا. قرأ ت كتبا كثيرة, لكنا أعفيناها من التجربة, فلم نسمح لها أن تتألم, ووفرنا لها كل سبل العيش في رغد. ولما أرادت أن تكمل تعليمها, بعثنا بها إلى جامعة محترمة في بلد كاثوليكي محافظ. كنا نداوم الإشراف على حسن سلوكها من خلال أستاذ عربي جليل اختار لها تخصصها في جامعة كان يداوم هو على الحضور إليها, يطلع بنفسه على كل ما تكتب, يوجهها وينصحها ويحميها, فتاة دءوب, طيعة, محترمة. لم تتسبب يوما في إزعاج أحد. تذهب إلى المكتبة وتعود لتقرأ . وفي المدة المقررة أنهت دراستها وعادت. ونحن الآن نفخر بها وننتظر منها الكثير>>. أوراق النرجس ص61.
<<فرصة الاختيار صارت مطلقة: اختاري: كل الأمور متاحة, اختاري من تكونين, وكان هذا هو الحكم الأصعب. لم أتدرب. لم يعلمني أحد. لم يطلب مني مثل هذا من قبل في أي امتحان. لم أمتحن من الأصل. رخصة القيادة جاءوا بها إلي حتى البيت. بطاقتي الشخصية كذلك. وجواز السفر ..>> ص62.
أما في <<الخباء>> فهناك خمس عشرة شخصية نسائية وشخصيتان رجاليتان , وكل هذه الشخصيات الشبحية تستعاد في مائة وثلاثين صفحة من القطع الصغير, ومن منظور <<فاطم>>, الصبية البدوية التي ورثت قهرا مزدوجا على روحها وجسدها, إذ تصف بلغة الشعر والأغاني البدوية, عالما طفوليا فانتازيا مقموعا, يحتل مركزَه أمٌ مريضة مقعدة حبيسة حجرتها شبه مقتولة, وأب طيب فارس قهرته تقاليد القمع ذاتها التي تقاومها فاطم, ومن ثم فإنها تريد أن تشفى من حبه, تريد أن تكرهه حتى تتحرر:
لا , لا تجئ لتجلس بجانبي, أنا لن أكلم أحدا, لن أكلم أحدا, اذهب لابنتك <<سموات>> تحدثك, تمسح لعابك, وتهش الصغار عن مجلسك.
<<يا صغيرة أبيك ما يحزنك يا فاطم?>>
لا لن تفهم شيئا, أنا فاطم المشئومة أكرهك, لو عرفت فقط كيف أكرهك, لكرهتك ولفصدت كل الدم الفاسد في قلبي…إلخ>> (الخباء, ص127).
في <<مرايا الروح>> عالم آخر مزدحم بالشخصيات النسائية المقهورة التي تحيط بطفولة الراوية, تماما مثل عالم <<الخباء>>, وفيها أيضا درجات من الحب المغلف بالعداء للأب والأم والجد, كما في <<الخباء>> و<<أوراق النرجس>>. في الفصول الأولى تستدعي الراوية عالم طفولتها بما فيه من نسوة مقهورات, من ليلة الهبلة إلى راقية إلى آمال إلى زاهية إلى الجدة المغلوبة على أمرها..إلخ, كما تستدعي بوعي بالغ وبكراهية واضحة, صورة الجد, سلطان زمانه الذي يجمع كل المتناقضات مثل السيد عبد الجواد رمز الطبقة الوسطى المحفوظية: يدير مجالس الصلح, ينتصر للبنات ضد الرجال, مثقف وفنان يقرأ جبران و يسمع أم كلثوم, يبكي من أجل وطنه, لكنه أيضا يمارس الجنس مع امرأة غير جدتها, بعلم الجدة, وتحت نظر الجميع الذين يخضعون لقانونه الأبوي المركب.
هنا تبدو الأزمة أكثر تعقيدا وخصوبة وعمقا من مجرد أزمة ذاتية ضيقة, حيث تكتمل أبعادها التاريخية, على مستوى الأسرة, وربما تصل إلى مستوى الوطن بمعناه العام, وهنا قد نواجه خطورة أن تصبح الأزمة مفتعلة وساذجة وخطابية, تماما مثلما كانت أزمة الذات في حدودها الضيقة. هذا ما نجده مثلا في مرايا الروح, حين تستدعي الراوية صورا من الفتنة الطائفية أو من هزيمة 1967 أو من حوادث التفجير في قاهرة التسعينيات, في محاولة متعجلة لربط العام بالخاص, ولتقديم خلفية سياسية اجتماعية عامة تستند إليها أزمة الراوية الذاتية, وهي الأزمة التي تبدو جذورها مختلفة; لأنها أقرب إلى أن تكون أزمة طبقية لم تفلح الراوية في تجاوزها.
وهذا ما نجده أيضا في تداعيات جويسية كثيرة تتخلل <<أوراق النرجس>> كلها, خاصة حين نصل إلى ورقة عنوانها <<أمثولة الوطن>>; إذ تتأمل الراوية بغرباتها المتراكمة, ماهية الوطن المشك ل في داخلها, وخريطته المتبدلة, وعلاقتها الملتبسة بكل هذا: <<في كيانها وداخل دماغها حرب أهلية بين كل الأمصار, وهي كل الأمصار: إذا تكحلت هكذا وصارت نفرتيتي, وإذا زرعت الحلبة والعدس قبل عيد الفصح, وإذا قرأت الشعر العربي, وإذا حنت إلى بيت أبيها في الإسكندرية, وإذا تذكرت حكايا أمها عن جهاز حماتها التركي, وتهكمات أبيها من الأزهر وعائلاته. ووسط كل هذا ومن ثناياه يجيئها صوت أمها تحكي <<شابورون روج>> صباح يوم أحد مشمس في حديقة الأسماك ..>> ص37.
إنه إحساس ملتبس بالوطن يشق ذات الراوية في لعبة الضمائر: <<أنا>> و<<هم>> و<<نحن>>, ويزيد من نرجسيتها السائدة المعترف بها – وربما المعتد بها – في صدق من البداية. إنه انشقاق يقترب بها من الجنون أمام المرايا المتعددة, وربما يقترب بها من الموت أو الانتحار:
<<.. أمثل هذا هو ما كان يستدعي حديث الفروقات : نحن في مصر. الناس في بلادي. وأترجم لك الأشعار ويظل السؤال معلقا بعد الحديث: من <<نحن>> هؤلاء? أي <<ناس>> بالتحديد في تلك البلاد? وأنا هم ولست هم. أنا نحن وأنا, أنا فقط..>> ص49.
لكن بقدر ما تتم معالجة الجوانب العامة غير الذاتية من الأزمة, تتسلل السيقان الرفيعة للكذب, في محاولة لإخفاء جانب آخر أصيل وجوهري في هذه الأزمة, أعني هذا الجانب الذي نلمسه خصوصا في الاقتباسين الأخيرين من <<أوراق النرجس<<, حيث يتم الهروب من أزمة الانتماء الطبقى, وهي أزمة ذاتية, إلى ملكوت الخيال الذاتي الحر, أو إلى أزمة الوطن بالمعنى العام, أو ربما أزمة الإنسان المغترب.
ومن المؤكد أن معطم هؤلاء الكاتبات يدركن هذا الجانب من أزماتهن وأزمات بطلاتهن وربما يوظفنه بوعي كامل. لكن إدراك المشكلة لا يعني عدم وجودها أو عدم أهميتها, لدرجة تجاهلها أو حتى تبنيها والدفاع عنها ضد الخصوم الطبقيين من الرجال بمن فيهم قراء الرواية ونقادها الذين يشملهم ضمير المخاطب المراوغ. هذا ما يحدث في رواية نورا أمين التي تواجه عاشقها, حين يتهمها بأن رثاء الذات في كتابتها ليس من <<لوازم الكتابة الأنثوية>> بقدر ما هو <<من ضرورات الكتابة البرجوازية التي إن لم تجد لها هما غرقت في التأملات الوجودية>>. ستنتفض الراوية وترسل روايتها إلى الناشر, وتقول له (ولنا?) :
<<نعم أنا منغلقة على ذاتي, غارقة في تأملات وجودية حول وحدتي. لكنها ليست رفاهية برجوازية كما يتيسر للجميع أن يقول; فوحدتي يا عزيزي عميقة بعمق التاريخ, وغربتي في العالم تبدو بلا نهاية (سوى على صدرك?)..إلخ>> ص86.
7- من ألعاب الكتابة الجديدة
<<كان كتاب الأجيال السابقة يكتبون حول ما عاشوه في حياتهم, ويتنكرون تماما لفن النقد. أما في حالة جيلنا فالموقف مختلف; فنحن نتبع اتجاهات في النقد, وهذه الاتجاهات تنعكس على كتاباتنا. ونحن مهتمون بعملية كتابة النصوص ذاتها>>. هذا ما يقوله واحد من كتاب التسعينيات(36) الذين يعلنون في كل مناسبة أنهم قد تخلوا تماما عما كانت تهتم به الأجيال السابقة من قضايا سياسية واجتماعية كبرى, وأنهم لا يخجلون من كتابة الذات بالمعنى الضيق, ويرونها أصدق من الكتابة الطامحة إلى تغيير العالم, تلك التي خدعت الأجيال الأسبق بأوهامها, كما أنهم لا يخجلون من إعلان اهتمامهم التخصصي بالنقد الأدبي وتفاعل الفنون الأخرى مع الأدب, بما يسمح بتطوير حرفة الأدب وازدهارها. وربما لهذا السبب كانت اهتماماتهم وممارساتهم المتنوعة في مجال النقد الأدبي والفنون الأخرى.
ولا غرابة أن قامت نصوصهم -من ناحية – على هذا الإيمان المعلن بالذات والتنكر للقضايا العامة, وإن ظلت هذه القضايا العامة صامتة وقابعة هناك في خلفية ما يحدث.كما قامت -من ناحية أخرى – على هذه المعارف النقدية النظرية المركبة التي تعوق تجاربهم الحية , وإن قادتها أحيانا إلى مزيد من العمق. إن ما يميز هذه الأعمال, وربما ما يعيبها في الوقت نفسه, يكمن في الوعي النقدي النظري بتقنيات ما بعد الحداثة وألاعيبها, وبخصائص نوع الرواية المفتوح على كل الاحتمالات. وهكذا, لابد أن ينتظر القارئ مزيدا من انطماس الحدود المتعمد بين الواقع والخيال, بين الداخل والخارج, بين الداتي والموضوعي, بين نوع أدبي وآخر. وفي حالة مثل هذه يصبح كل شيء متوقعا; فالكاتب يمكنه أن يتنقل بسهولة من نوع الرواية إلى نوع السيرة الذاتية, من شخوص وأحداث قصصية ومتخيلة إلى شخصيات حقيقية بأسمائها المعروفة وحوادث ومعالم بعينها, وبالعكس. يمكنه أن يضمن سرده ملاحظة نقدية أو مقالة أو قصة سبق نشرها, أو مقتطف من قصة كتبها زميل, أو أي شيء. يمكنه أيضا أن يتحدث إلى قرائه وشخصياته مباشرة عن نصوصه السابقة, أو عن فصول روايته التي يكتبها الآن, أو عن النهاية التي تتجه إليها روايته. كل هذا, وأكثر منه, يحدث فعلا وبلا غرابة في هذه الروايات.
في <<قميص وردي فارغ>> على سبيل المثال, تتجه الراوية /البطلة كالعادة إلى عاشقها المصنوع من خيالات الكتابة النسائية, وتفول له بضمير المخاطب, الذي يمكن في الوقت نفسه أن يشير إلى القارئ: <<.. ولن أقول لك إن القصة ما هي إلا أول قصة حب أكتبها وربما تكون رواية ذات يوم….>>ص29
<<.. تتساءل كيف أجمع بين هذا وذاك, كيف أكتب سيرة ذاتية لنا وتكون متخيلة في ذات الوقت, أجيبك تلك هي عبقرية الكتابة….>>ص32
<<.. لكن الواضح أنني لن أفلح في ذلك من الآن فصاعدا, وسوف يزداد نهمي بتفاصيلك أكثر فأكثر, حتى إنني ربما أذكر رقم هاتفك, وأكرس هذه الصفحات لسيرتنا الوليدة فننتقل من جنس القصة إلى الرواية إلى السيرة الذاتية….>> (قميص وردي فارغ) ص53
يمكنها أيضا أن تضمن روايتها إشارات إلى قصصها القصيرة المنشورة بصفتها مراجع لبعض أحداث الرواية ووقائعها, ويمكنها – ولم لا? – أن تشير حتى إلى ناشر روايتها التي تكتبها الآن وعنوانه, دون أن تخرج عن خطابها المفتوح لعاشقها, أو عن سياق العالم الخيالي لروايتها, أو لعلها بهذا تمعن – على العكس – في الإغراق في هذا العالم الخيالي للرواية الجديدة الجديدة, الذي هو ذاته عالم الكتابة:
<<حسنا, حسنا جدا يا عزيزي. تريد أن تردني إلى متن الواقع. فهل تظنني قد غادرته?..
غدا أذهب إلى <<شرقيات>> لأعرض نشر هذا <<النص>> (أم أقول <<الرواية>>) أستجمع قواي الذاهبة نحو إنهاك أكيد, وأحاول إنقاذ الكتابة من المد والجزر الذي يمارسه علينا الواقع ومبعوثه الوردي (أنت?!) أضع حدا لهذا الروائي ال-… قبل أن يدخل في متاهات السرد المتكرر , أضع حدا لترددي في مسألة النشر التي أصبحت تحاصرني عند الانتهاء من كل صفحة منذ أن كنا في <<إنارة كاملة>> (هل حقا هذه الكتابة جديرة بالنشر? هل عدد الصفحات مناسب لأسميها رواية? هل العنوان مفهوم? تساؤلات ربما يرد عليها الناشر في الوقت المناسب) أي أنني سوف أنتهي إلى الواقع رغم كل أوهامي , لن أبذر أوراق هذا الدفتر المزركش فوق مياه النهر لتنساب معه قصتنا, لن أضعها في درج مكتبي السري لأقرأها وحدي خلسة بعد منتصف ليالي الشتاء الوحيدة القادمة. بل سوف نتحول – ثلاثتنا – كيانا في واقع أشمل, يبدأ غدا عندما أصبح امرأة في السادسة والعشرين تغدو بثقة وحزن نحو الثلاثين, في شارع محمد صدقي بباب اللوق…>> ص84-85.
إنها كتابة حداثية, تتأمل نفسها وتمتلئ بالأخذ والرد, تمتلئ بالنقائض غير المصطنعة كما يقول شكري عياد; فالكاتبة <<لا تصطنع الحداثية, هي حداثية أصيلة; لأن التناقض أصيل في كتابتها أو في شخصية بطلتها, مهما تكن علاقة الكاتبة بها>>(37)
وهذا نفسه ما يتكرر مع مي التلمساني, إذ تشير في متن <<دنيا زاد>> إلى إحدى قصصها القصيرة المنشورة قبل الرواية, وهي قصة <<استقالة>>, كما تشير كذلك إلى صديقتها <<نورا>> التي تعمل معها في نفس مكان عملها, ولا بأس أن تضم ن روايت ها اقتباسات من نصوص نورا المنشورة, وأن تروي حكاية الاستقالة ذاتها من منظورين: منظورها ومنظور صديقتها نورا. كل شيء ممكن ومتاح في هذه اللعبة المفتوحة: <<.. قالت نورا وهي تتثاءب <<يجب أن تعودي الآن إلى عملك>>.
نورا صديقتي الصغيرة التي أحبها, والتي لم تدفن بعد في قبو سري داخل القلب قالت وقد كفت عن التثاؤب واكتسب صوتها نبرة أعرفها <<ماذا أفعل بدونك?>> وكانت نورا صديقتي التي أصطحبها إلى العمل أحيانا, والتي أثرثر معها عن الآخرين كل حين . هكذا .. قطعت مكالمتي الهاتفية مع نورا…إلخ>> (دنيا زاد, ص 26وما بعدها.
عنصر السيرة الذاتية في روايات هؤلاء الكتاب, ربما تكون مجرد جزء من لعبة كتابية أوسع تكشف عنها نصوصهم. ومؤدى هذه اللعبة أنه لا شيء في الكتابة يضمن الارتباط بينها وبين الواقع; فحتى أكثر عناصر الواقع صلابة, أي الحياة الشخصية لهؤلاء الكتاب, بما فيها من أسماء وأماكن وحوادث معروفة لهم ولقرائهم, وبما تقدمه هذه الحياة من إمكانية لوحدة العمل الفني وتماسكه – حتى هذه العناصر تتحول في عالم الكتابة إلى جزء من الخيال الكتابي. إن الأمر لا يتوقف عند حدود تذويب هذه العناصر, عبر تقنيات سردية أصبحت متداولة مثل التغريب وتيار الوعي والسرد الغنائي, (وهي تقنيات تمارسها بعض هذه الروايات بغزارة كما في <<أوراق النرجس>>) بل يتعداه إلى مزيد من التفتيت والتقطيع المتعمد في هذه الكتابة.
المستوى الأول من التقطيع يتمثل في تحويل الفصول الروائية إلى قصص قصيرة تتمتع بقدر واضح من الاستقلال, سواء استقلت هذه القصص بعناوينها, كما في <<دنيا زاد>> و <<قميص وردي فارغ>> و<<أوراق النرجس>> و<<السيقان الرفيعة للكذب>>, أو استقلت عبر علامات التقطيع المعتادة, مثل علامة(***) في <<دارية>>, أو تغيير شكل الكتابة على الصفحة مع بداية كل فصل كما في <<مرايا الروح<<, أو الأغاني والحكم البدوية التي تحل محل العناوين في <<الخباء<<. في كل الأحوال هناك درجات من التقطيع المتعمد يتعرض لها العالم الروائي بداية عبر كسر السرد التعاقبي من فصل إلى فصل.
المستوى الثاني من التقطيع يقع داخل الفصول الروائية نفسها, التي هي في حقيقة الأمر قصص قصيرة مستقلة بمعنى ما, ويتم التقطيع هنا بأدوات القصة القصيرة وقدراتها على الاختزال والتكثيف وتجميع الشتات في حيز محدود. هذا ما نرى نموذجا منه في رواية <<دنيا زاد>> التي تتقطع فصولها القصيرة أصلا , إلى فقرات مستقلة تشبه القصص القصيرة جدا. لكن كل هذا التقطيع يترك خيوطا رقيقة تربط بين القطع. في الفصل الثاني – مثلا – وهو قصة قصيرة عنوانها <<جريدة الصباح>>, يتم تقطيع الفصل إلى ثماني فقرات متصلة منفصلة تمضي على هذا النحو: <<ليس من السهل أن يفاجئك وجه باسم. تعرفه. ذات صباح مشمس في صفحة الوفيات المجللة بالمربعات السوداء الكبيرة. تقرأ الاسم بجوار النافذة ويروح بصرك يفتش في البدايات البعيدة عن ذكرى ما.. صورة ما تشبه تلك الصورة الباسمة. تتحرك فيها عضلات الوجه وتقول:<<كان هذا الوجه حي ا>>.
منذ أيام قلائل. صادفته في أحد الممرات وتبادلتما التحية على عجل. وقلت : تليفون بيننا. وموعد لم يتم. لأنك قتلت الفرصة ساعتها ونسيت.
* ليس من السهل أن يحدث هذا لي. بعدما فقدت <<دنيا زاد>>. وعرفت أن الحزن خيط ينساب بين الحلق والقلب. ويحفر في طريقه أخدودا خشنا. تحترق داخله صور الألم ويبقى جداره صلبا.. يمر الزمن, وأعرف كلما تحسست رقبتي أن الأخدود لم يزل. وكلما زال خيط ألم جديد.. تمتلئ شقوقه. يزداد توحشا.
* صباح يوم من أيام صيف حار – كانت <<دنيا زاد>> الآن قد رحلت, ورحت منذ رحيلها أتفقد صفحة الوفيات قبل الأخيرة في جرائد الصباح – حدث لي هذا. وفي الصورة الباسمة. تحت أحرف الاسم الثلاثي. بين سطور النعي الطويل طالعني وجهها مختلطا بدماء المخاض وزرقة الموت الذي لم يتأخر. دقيقتان – وبعد دقيقتين تحسست صفحة الوجه. وطويت الجريدة.. وقررت ألا أذرف دموعا للمناسبة – هل مات هو أيضا? هكذا?…إلخ>> ص22.
ويجرنا ضمير المخاطب الذي يطل من الاقتباس السابق, إلى ظاهرة أخرى لافتة في نصوص هؤلاء الكاتبات والكتاب التسعينيين(38), أعني صعود ضمير المخاطب ضميرا للسرد لا للشعر أو للخطاب; ففي روايتين على الأقل من هذه الروايات (قميص وردي فارغ, و السيقان الرفيعة للكذب) يتصدر ضمير المخاطب المشهد, بدلا من ضمير المتكلم أو ضمير الغائب, وهما الضميران التقليديان الشائعان في سرد الرواية والسيرة الذاتية, سواء كان ضمير المخاطب يشير إلى الرجل الذي تخاطبه الراوية وترسم أناها على مرآته, أو إلى القارئ الذي يستدعى بصورة ساخرة أحيانا, أو إليهما معا وفي الآن نفسه.
وضمير المخاطب وسيلة أخرى من الوسائل ما بعد الحدائية, تستخدم أحيانا – كما يقول بريان ماكهيل – لأغراض عدوانية وانتقامية جارحة, تستخدم لإزعاج القارئ, أو لتصوير انشقاق الذات, أو لصناعة حالة غرائبية مفتوحة على كل الاحتمالات.(39) وكلها أهداف سعى إليها هؤلاء الكتاب.
لقد بدا أن هؤلاء الكتاب, من الشبان والشابات, يحاولون تجنب أي نوع من الانخراط في القضايا العامة, ويركزون بدلا من ذلك على حيواتهم الشخصية وعوالمهم الداخلية ومشاعرهم ورؤاهم. كما بدا أنهم يحاولون تذويب الواقع الخشن – بما فيه واقع حياتهم الشخصية – ليصبح شيئا خياليا من إنتاج التقنيات الكتابية. ولأن هذا بالضبط ما حاوله قبلهم كتاب الستينيات; فإنهم لا يستطيعون الزعم بأن هذا هو منجزهم الخاص كمجموعة من الكتاب الجدد. والدليل أنه لم يقع أي انقلاب جذري في آفاق التلقي الجديدة التي صنعها كتاب الستينيات, ولم يُبْدِ أحد من النقاد صدمتَه القرائية حين تلقى هذه النصوص.
وهكذا يبدو هؤلاء الكتاب مجرد استمرار لما أنجزه أسلافهم من كتاب الستينيات. غير أن هناك اختلافين دالين بين كتاب الستينيات وكتاب التسعينيات في هذا السياق; الاختلاف الأول أن كتاب الستينيات كانوا في معظمهم من الرجال, إذ ليس هناك سوى مساهمة هامشية للنساء في المنجز الفني لكتاب الستينيات. أما كتاب التسعينيات, فنصفهم على وجه التقريب من النساء, ولهم منجزهم الذي يكاد يوازي منجز الكتاب الرجال, وهذه ظاهرة تستحق مزيدا من الالتفات والعناية.
الاختلاف الثاني أن كتاب الستينيات كانت لهم رؤيتهم الخاصة للحياة وللفن ودوره, وهي الرؤية التي كانت نتاجا طبيعيا ومنطقيا لهزة الهزيمة في 7691, كما كانت رد فعل مباشر ضد ما بشر به كتاب الواقعية المتفائلون. إن غموض نصوصهم, وغرابة الخلط بين عوالم مختلفة .. إلى آخر هذه الظواهر, كانت أمرا طبيعيا ومقبولا ومتوقعا في السياق الستيني الخاص. لقد كتبوا حياتهم الشخصية الداخلية نوعا من الاحتجاج ضد كل العوالم الخارجية المنطقية التي ضللتهم. أما بالنسبة لشباب التسعينيات من الكتاب والكاتبات, فكل شيء في عيونهم وحولهم موحل ومربك ولا أفق له, إلى الحد الذي لا يسمح لهم بامتلاك رؤية خاصة لحياتهم, ناهيك عن رؤيتهم لمجتمعهم أو لأوطانهم. ورغم أنهم يحاولون استكشاف الوصلات المفقودة بينهم وبين واقعهم, لتقليص الغموض المرتبك وغير الدال في نصوصهم; فإنهم يحاولون في الوقت نفسه أن يكونوا كتابا <<حداثيين<<, أو <<ما بعد- حداثيين>> إن أمكن. وربما لهذا السبب يبدو سعيهم وراء الحداثة وما بعدها سعيا مصطنعا ومعوِّقا أكثر منه سعيا طبيعيا ومُنتِجا.
الهوامش
1- في النصف الثاني من التسعينيات ك ت ب الكثير عن هذه الظاهرة, ففي عام 1997 كتب صبري حافظ في مجلة <<المصور>> مجموعة من المقالات عن روايات هؤلاء البنات , منتقدا التسمية <<كتابة البنات>> بما تنطوي عليه من استهانة ولمز في مقابل كتابة الرجال. وكان هذا واضحا بشكل خاص في مقالته عن رواية نورا أمين تحت عنوان<<قميص وردي فارغ وإبداع الجناح النسائي للكتابة الجديدة>>, كتب يقول :<<ثمة مقولة شائعة بأن عقد التسعينيات في مصر هو عقد كتابة البنات, فيه ظهرت مجموعة من النصوص المتميزة لكاتبات وفدن إلى الساحة الثقافية بأعمال أولى مثيرة للتأمل والاهتمام. من ميرال الطحاوي ومي التلمساني وسمية رمضان إلى بهيجة حسين وسحر الموجي ونورا أمين, ناهيك عن الشاعرات اللواتي تتصدرهن فاطمة قنديل وإيمان مرسال وهدى حسين. لكن هذه الكتابة التي دعوها بكتابة البنات في البداية, في محاولة مضمرة لتهميشها, سرعان ما فرضت نفسها على اهتمامات الواقع الثقافي>> . ولا أدل على هذا الاهتمام الذي يشير إليه صبري حافظ من سلسلة المقالات التي كتبها نقاد كبار كعلي الراعي في جريدة الأهرام وشكري عياد في مجلة <<الهلال>> حول الروايات نفسها. وقد كان هذا آخر ما كتباه . راجع على سبيل المثال:
– صبري حافظ: قميص وردي فارغ وإبداع الجناح النسائي للكتابة الجديدة, مجلة المصور, القاهرة, 22 أغسطس 1997.
دنيا زاد , كتابة الغياب.. كتابة الجسد.. حضور الموت, مجلة المصور, القاهرة, 1 فبراير 1998.
– شكري عياد: نساؤنا الصغيرات يعلمننا الحب, مجلة الهلال , أعداد يوليو, وأغسطس, وسبتمبر 1998.
– فاروق عبد القادر : في مشهد الرواية المصرية الجديدة .. نصف الروائيين نساء, جريدة السفير اللبنانية 2/7 و 2/8 /2002.
في ملاحظاته يذكر فاروق عبد القادر أن <<نصف النماذج تقريبا (سبعة من خمسة عشر) لكاتبات. وإنني أعتقد أن هذه الحقيقة في ذاتها هي واقعة ثقافية واجتماعية جديرة بالاهتمام والتقدير (بعيدا, بطبيعة الحال, عن الغمزات واللمزات والكلمات المسمومة!), فنحن جميعا نعرف أننا نعيش واقعا مازالت ترتفع فيه أصوات جاهلة أو مأجورة أو هما معا تُجرِّم الإبداع وتؤثِّمه, فضلا عن أن الطابع العام للمجتمع ما يزال <<ذكريا>> و<<بطريركيا>> في كثير من جوانبه, يكاد أن يحول بين المبدعة الشابة وتكوين ثقافتها الجادة, واكتساب الخبرات الحقيقية بالحياة والناس والأفكار, وهما جناحا الإبداع الذي لا يمكن أن يحل ق بدونهما
This article is a reprint of her keynote address given on November 19,1999
at the AMEWS Business Meeting, which took place in Washington DC, USA,
as part of the annual Middle East Studies Association Meeting.
Shaaban. Arab Women Novelists: Creativity and Rights Bouthaina
وتقول بثينة شعبان في دراستها هذه: <<مع اقتراب القرن من نهايته أصبحت روايات المرأة العربية اليوم موضوعا لأوراق ومحاضرات أكثر من روايات الرجل, وكما هي العادة يود النقاد أن يلحقوا بهذا التيار. وأولى المشكلات الصعبة في العام الماضي كانت كيف يمكن تناول هذا العدد الهائل من روايات المرأة الذي ينشر يوميا. في معرض الكتاب الأخير بالقاهرة جاءت رواية أحلام مستغانمي تالية لرواية نجيب محفوظ كأحسن الكتب مبيعا. وليس مصادفة أن الروائيات العربيات في 1999 ربما كن الأكثر شعبية في العالم العربي, تماما كما كن اللواتي بدأن الرواية نوعا أدبيا منذ مائة عام مضت>>.
2- عقدت ندوات وظهرت كتابات كثيرة هنا وهناك تتابع هذه الرواية أو تلك, كما وردت إشارات متعددة في مناقشات الندوات وفي ثنايا المقالات المنشورة, إلى تصاعد الكتابة النسائية العربية في العقد الأخير كما وكيفا, لكن أحدا لم يقدم تفسيرا مرضيا لفيضان الكتابات النسائية: ما دوافعه, وما معناه, وما علاقته بازدهار الحركة النسائية في مناطق مختلفة من العالم, وما نتيجته النهائية على مجمل الكتابة الروائية العربية..إلخ. ولا شك أن هناك اهتماما لافتا بالظاهرة في السنوات الأخيرة من قبل دوريات كأخبار الأدب فضلا عن الصفحات المختصة بالمتابعة في الصحف المختلفة. أما معظم الكتابات النقدية – إذا تجاوزنا بعض المقالات الهامة المشار إليها سابقا لشكري عياد وعلى الراعي وصبري حافظ – فتدور في نطاق المتابعة الصحفية السريعة للروايات وقت صدورها, وقد قام بعض هؤلاء النقاد بتجميع متابعاتهم في كتاب, قد ينبني على نسق مصطنع إلى حد ما مثل كتاب شرين أبو النجا: عاطفة الاختلاف, قراءة في كتابات نسوية, الهيئة المصرية العامة للكتاب 1998 وقد ينبني الكتاب على مجرد التجميع دون نسق, مثل كتاب شمس الدين موسى: تأملات في كتابات المرأة العربية, الهيئة المصرية العامة للكتاب 1997 وكتاب عبد الرحمن أبو عوف: الكتابة الأنثوية العربية, القصة القصيرة والرواية, الهيئة المصرية العامة للكتاب 2001.
3- بعيدا عن الخلاف الحاد حول مصطلح >> الأدب النسائي>> و<<السيرة الذاتية النسائية>> وغيرها من الاصطلاحات التي تدخل في علاقة مباشرة أو غير مباشرة مع الحركة <<النسوية>> الصاعدة; ومهما تكن جدوى هذه الاصطلاحات وقيمتها العلمية; فإن معظم هؤلاء الكاتبات الشابات ربما يرفضن أن يوسم أدبهن بأنه <<نسائي>> لأن هذا يعني بطريقة ما أنه ليس أدب ا; فالأدب أدب, ولا يصح أن يوصف بأنه <<نسائي>> أو <<رجالي>> أو <<عيالي>> أو <<عجوز>>, ولكن لا مانع لدى كثير من هؤلاء الكاتبات في الوقت نفسه, من الاستفادة إعلاميا على الأقل من صعود الحركة النسائية ودعواتها, ولا مانع من أن تتقمصهن الروح النسوية السائدة, وأن يتحدثن باسمها في المحافل المختلفة, وخاصة الاستشراقية منها. أضف إلى هذا أن بعض هؤلاء الكاتبات الشابات يتحركن مع بعض رفاقهن من الكتاب الشباب كأنهن مجموعة واحدة متكاملة, وكثيرا ما يشير الكتاب إلى نصوص الكاتبات وبالعكس.
4- لمزيد من التفاصيل راجع:
– عبد المحسن طه بدر: تطور الرواية العربية الحديثة في مصر, دار المعارف, القاهرة,1983.
– يحيا عبد الدايم: الترجمة الذاتية في الأدب العربي الحديث, دار إحياء التراث العربي, بيروت, 1975.
5- Alastair Fowler. Kinds of Literature: An Introduction to the Theory
of Genres and Modes, Oxford University Press, 1982, P: 108.
6- Dwight F. Reynolds(editor). Interpreting the Self: Autobiography in the
Arabic Literary Tradition, University of California Press, 2001, p:61
7- Fowler. Kinds of Literature, p:106-107
8- راجع ترجمة للفصل الأول من كتاب جولدمان نحو علم اجتماع للرواية, ضمن كتاب <<القصة, الرواية, المؤلف: دراسات في نظرية الأنواع الأدبية المعاصرة>>, اختيار وترجمة وتقديم خيري دومة, دار شرقيات للنشر والتوزيع, القاهرة 1997, خاصة ص 118. وكان روي باسكال قد لاحظ أيضا مثل هذه العلاقة العضوية بين الرواية والسيرة الذاتية :<<في كاتب السيرة الذاتية على كل حال شيء من الروائي; ذلك أنه لابد أن يستخلص من مادة حياته المتنوعة قصة متماسكة وشخصية متسقة. ولكي يحقق هذا الغرض لابد أن يختار مادته وينظمها من المنظور الذي يكتب منه الآن, لابد أن يقسم حياته إلى فترات وفصول, فيعطيها بذلك شكلا فني ا>>. راجع
– Roy Pascal. The Autobiographical Novel and The Autobiography,
Essays in Criticism, Volume 9, 1959. P: 134.
9- تقول واحدة من منظرات السيرة الذاتية النسائية: >> إنه لأمر حتمي وغريب أنه كلما ازداد حديث النقاد عن السيرة الذاتية أخذت تقاليدها النوعية في الغموض. حتى تعربفها نفسه يبدو الآن شيئا عسيرا, لدرجة أن البعض الآن يتساءل ما إذا كان نوع السيرة الذاتية له وجود على الإطلاق. السيرة الذاتية كما بقول جيمس أولني ليست إلا صيغة من صيغ الأدب, تماما كما أن الأدب صيغة من صيغ السيرة الذاتية, ولكنه ليس الصيغة الوحيدة الممكنة. راجع:
Sidnie Smith. A Poetics of Womens Autobiography
Indiana University Press, 1987 ,p:3
أما بول دو مان, الناقد ما بعد الحداثي, فقد كتب مرة يقول:<<من الوجهة العملية, ومن الوجهة النظرية أيضا, ليس من السهل تعريف السيرة الذاتية نوعا أدبي ا; فكل نص جديد يبدو بمثابة استثناء من القاعدة. السيرة الذاتية إذن ليست نوعا أو صيغة, بل طريقة في القراءة أو الفهم تحدث بدرجة ما مع كل النصوص.. كل كتاب له صفحة عنوان مقروءة هو -بصورة ما – نص سير ذاتي. ولكن يبدو أنه كما أكدنا أن كل النصوص هي نصوص سير ذاتية, يجب أن نقول أيضا أنه لا يوجد نص سير ذاتي ولا يمكن أن يوجد>>.
Paul de Man. Autobiography as De-facement, MLN, VOL: 94, (1979),
by the John Hopkins University Press, p: 919-920
01- على غلاف الجزء الأول من سيرته الذاتية <<الخبز الحافي>>, يصف الكاتب المغربي كتابه بأنه <<سيرة ذاتية روائية>> لكنه يطلق على الجزء الثاني من كتابه <<رواية>>. أما نجيب محفوظ فيختار عنوانا دالا لروايته السير ذاتية; إذ يسميها <<أصداء السيرة الذاتية>>.
ورغم أن معظم النقاد يفضلون استخدام مصطلح <<رواية السيرة الذاتية>>; فإن بعضهم لا يزال يستخدم مصطلح <<السيرة الذاتية الروائية>> للدلالة على نفس النصوص. وقد استخدم جورج ماي المصطلحين كليهما, وذلك لكي يميز بين لونين من النصوص الواقعة في المنطقة الوسطى نفسها, الممتدة بين نوع الرواية ونوع السيرة الذاتية, أحدهما أقرب إلى منطقة السيرة, واسمه <<السيرة الذاتية الروائية>> والآخر أقرب إلى منطقة الرواية, واسمه <<رواية السيرة الذاتية>>. وتستخدم الناقدة اللبنانية يمنى العيد مصطلح <<السيرة الذاتية الروائية>> في دراستها لثلاثية حنا مينا. أما الناقد العراقي عبد الله إبراهيم فيستخدم مصطلح <<السيرة الروائية>> وهو يتحدث عن بعض النصوص الروائية العربية المتنوعة التي تقع في هذه المنطقة الوسطى, نصوص مثل <<الخبز الحافي>> و<<الشطار>> لمحمد شكري, و<<بيضة النعامة>> لرءوف مسعد, و<<بقايا صور>> لحنا مينا, و<<أصداء السيرة الذاتية>> لنجيب محفوظ, و<<خلسات الكرى>> لجمال الغيطاني, وغيرها. راجع:
جورج ماي: السيرة الذاتية, ترجمة محمد القاضي وعبد الله صولة, بيت الحكمة, تونس 1992, ص ص 199-207.
يمنى العيد: السيرة الذاتية الروائية والوظيفة المزدوجة, مجلة فصول, القاهرة,م15-ع4 , شتاء 1997.
عبد الله إبراهيم: السيرة الروائية, إشكاليات النوع والتهجين السردي, مجلة نزوى, عمان, ع 41 , 7991.
11- يمكن أن نجد المثال النموذجي لهذه الحالة في واحدة من أوائل الروايات العربية, أعني كتاب <<حديث عيسى ابن هشام>> لمحمد المويلحي; ففي مقدمته القصيرة للكتاب يكتب المويلحي هذه العبارة الدالة: <<وبعد, فهذا الحديث وإن كان في نفسه موضوعا على نسق التخييل والتصوير, فهو حقيقة مترجمة في ثوب خيال, لا أنه خيال مسبوك في قالب حقيقة..>> راجع:
محمد المويلحي: حديث عيسى ابن هشام, دار الشعب, القاهرة 1984, المقدمة.
12- حاول عبد المحسن بدر – على سبيل المثال – أن يفسر انتشار العنصر السير ذاتي في النصوص الأولى من الرواية العربية الحديثة, فوجد أن كتابنا الرواد لم يكن في مخزون تجاربهم تجربة فنية شبه مكتملة إلا في إطار حياتهم الشخصية الخاصة, فكتبوا هذه التجارب. ومن الغريب والمثير أنه كان يتحدث عن كتاب رجال, لا عن كاتبات من النساء. راجع:
عبد المحسن طه بدر : تطور الرواية العربية الحديثة, مرجع سابق, ص ص 283-400.
: الروائي والأرض, دار المعارف, القاهرة 1891, المقدمة.
13 – Roy Pascal. The Autobiographical Novel and the Autobiography,P: 135.
14- – Roy Pascal. The Autobiographical Novel and the Autobiography, P: 136.
15- ما من شك أن معظم ما كتبه إدوار الخراط وجمال الغيطاني في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين يتضمن بعدا سير ذاتيا واضحا, ولكن لا أحد يمكنه أن يزعم أن كتبهم هذه مجرد سيرة ذاتية. إنها في أحسن الأحوال سير ذاتية معدلة. لمزيد من التفصيل حول هذه النقطة راجع:
خيري دومة: تداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة, الهيئة المصرية العامة للكتاب, القاهرة 1998, ص ص 276-280.
16-oy Pascal. The Autobiographical Novel and the Autobiography, P: 136.
17 راجع هنا:
سوسن ناجي: المرأة في المرآة, دراسة نقدية للرواية النسائية في مصر, دار العربي للنشر والتوزيع, القاهرة 1989,ص 167-168.
18 طرحت إحدى الدارسات هذه النقطة حينما قالت: <<هناك تقليد راسخ في كل هذه الروايات, وهو تقليد يميزها تماما عن نوع الرومانس مثلا : أننا كثيرا ما نصادف فيها بنية شبه سير ذاتية; فكل هذه الروايات تظهر الكاتبة وهي تناضل من أجل تحويل تجربتها إلى أدب, ثم إن <<صوت>> البطلة المحورية, إن لم يكن يقدم نفسه باعتباره صوت المؤلفة, فإنه كثيرا ما يقدم نفسه بصفته تمثيلا للمرأة بشكل عام>>. راجع:
Rosalind Coward. Are Womes Novels Feminist Novels in The New
Feminist Criticism: Essays on Women, Literature, and Theoryn
Edited by Elaine Showalter, Pantheon Books, New York, 1985, P: 231-232.
19 – يوسف الشاروني: القصة الثانية بعد الألف, مختارات من القصة النسائية في مصر, الهيئة المصرية العامة للكتاب, القاهرة 1975, ص 15.
20 – Modern Arabics Autobiographical Writing in Egypt, in Writing the
Dinah Manisty, Negotiating the Writing in Self: Autobiographical
Literature , Edited by RobinSpace between Private and Public: Women
Ostle, Ed Du Moor & Stefan Wild, Saqi Books, London, 1998, p: 276
21- Estelle C. Jelinek (Editor). Introduction: Womens Autobiography and
s Autobiography: Essays inTradition, in Women the Male
Criticism , Indiana University Press, 1980, PP: 7-19.
22- Suzanne Juhasz. Towards a Theory of Form in Feminists
Autobiography: Essays in Criticism , Edited with an Introduction
by Estelle C. Jelinek, Indiana University Press,1980, PP: 223-224
23- فيما يلي البيانات الببليوجرافية للروايات الست:
– ميرال الطحاوي: الخباء, دار شرقيات للنشر والتوزيع, القاهرة 1996.
– بهيجة حسين: مرايا الروح, دار الثقافة الجديدة, القاهرة 1997.
– مي التلمساني: دنبا زاد, دار شرقيات للنشر والتوزيع, القاهرة 1997.
– نورا أمين: قميص وردي فارغ, دار شرقيات للنشر والتوزيع, القاهرة 1997.
– عفاف السيد: السيقان الرفيعة للكذب, دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع, القاهرة 1998.
– سحر الموجي: دارية, الدار المصرية اللبنانية, القاهرة 1998.
– سمية رمضان: أوراق النرجس, دار شرقيات للنشر والتوزيع, القاهرة 2000.
هذا, وسترد الإشارات إلى الصفحات بعد ذلك في المتن, عقب كل اقتباس.
24- مصطلح العقد السير ذاتي أو <<العقد الأوتوبيوجرافي>>
Le pacte autobiographique أصبح واحدا من المصطلحات الشائعة في دراسات السيرة الذاتية, وذلك بعد أن استخدمه الناقد الفرنسي فيليب لوجون, ليشير به إلى مجموعة من المؤشرات على صفحة العنوان, أو في الإهداء, أو في المقدمة, إلى آخر ما يطلق عليه <<عتبات النص>>, وهذه المؤشرات تجعل القارئ يقارب النص انطلاقا من تعاقد ضمني مع الكاتب, مؤداه أن ما سيقرؤه الآن سيرة ذاتية للمؤلف. لمزيد من التفاصيل راجع:
فيليب لوجون: السيرة الذاتية, الميثاق والتاريخ الأدبي,ترجمة عمر حلي, المركز الثقافي العربي, بيروت 1994.
25- <<الخباء>> كلمة يندر استخدامها في حياتنا اليومية اليوم, لكنها واحدة من الكلمات التي اقترنت دوما بحياة العربي في الصحراء. ورغم أن الكلمة لا ترتبط بسيرة ميرال الطحاوي ارتباطا مباشرا, فإنها تشير إلى هذه السيرة من ناحيتين: أن الكاتبة ابنة لثقافة العرب البدو في صحراء مصر الشرقية, حيث قضت فترة التكوين من حياتها, وأن الجذر اللغوي للكلمة <<خبأ>> ترتبط ارتباطا عضويا بوضعية المرأة العربية قديما وحديثا, حيث الحصار من ناحية والحماية الأبوية من ناحية أخرى.
أما قميص وردي فارغ فعنوان يتألف من كلمات ثلاث: اسم نكرة (قميص), وصفتين لهذا الاسم (وردي – فارغ). وكلمة قميص في العربية تتضمن تداعيين يرتبطان بمعنى الرواية, أولهما الجنس , فالقميص هو لباس المرأة المرتبط بممارسة الجنس (قميص النوم في العامية المصرية), وثانيهما الخلاف والعراك الذي يصل إلى حد الجنون ( قميص عثمان الدامي, وقميص المجانين) والمعنيان كلاهما يرتبطان بمحتوى الرواية, خاصة إذا أضفنا الصفتين المتناقضتين: وردي, وفارغ.
دنيا زاد أيضا عنوان وثيق الصلة بعالم القص الخيالي العربي في ألف ليلة وليلة. إنه إشارة إلى شخصية نسائية أهملها التاريخ الأدبي كأنها لم تولد أو ولدت ميتة, تماما مثل ابنة الراوية التي تولد ميتة, لكن الراوية تصنع لها حياة كاملة في الخيال وعبر الكتابة وحدها.
مرايا الروح و أوراق النرجس عنوانان يتضمنان معنى مراجعة التجربة في مرآة الروح أو مراياها, وإن كانت كلمة <<أوراق>> في العنوان الثاني تقترب من العناوين السير الذاتية, حيث الإشارة إلى الأوراق الخاصة, كما في أوراق نوال السعداوي, وأوراق لطيفة الزيات الشخصية, وأوراق لويس عوض .. إلخ.
دارية هو اسم البطلة الراوية في الرواية. ورغم أنه أمر تقليدي تماما أن يحتل اسم الشخصية الرئيسية عنوان الرواية, وخاصة إذا كانت امرأة – رغم ذلك لابد أن نلاحظ أن العنوان يحرص – من خلال غرابة الاسم وندرته – على الابتعاد عن ظلال السيرة الذاتية.
26- الواقع أن هذا الحكم سيظل -مع الأسف – حكما اعتباطيا بلا سند علمي موثق; فهؤلاء الكاتبات لسن شخصيات عامة معروفة للقراء, ولا أحد يستطيع أن يقرر العناصر السير ذاتية في نصوصهن, ما لم يكن على صلة شخصية بهن تسمح له بهذا الحكم, وهو أمر غير متاح لأي ناقد, أو ما لم تعطنا الكاتبة نفسها في حواراتها وأحاديثها الصحفية معلومات عن حياتها الشخصية, وهو ما يمكن أن يكون متاحا بدرجة ما, نظرا لكثرة أحاديثهن وشهاداتهن.
27- لعلها سمة لافتة للنظر أن هذه الروايات الست جميعا تتميز بالقصر, فكبراهن <<دارية>> لا تتجاوز 169 صفحة بما فيها اللوحات والمقدمات التي تستهلك حوالي خمسة عشرة صفحة, وصغراهن <<دنيا زاد>> لا تتجاوز 65 صفحة بقطع شرقيات وإخراجها.
وهذه سمة أولية تقرب بين هذه النصوص وخصائص النوفيلات أو الروايات القصيرة, وإن حاولت هذه الروايات الابتعاد عن كثافة النوفيلا ومأساويتها, وذلك عبر التقطيع إلى فصول بعناوين مستقلة أو نصوص لها استقلالية القصة القصيرة, بحيث تبدو الرواية أقرب إلى حلقة القصص القصيرة. حول خصائص النوفيلا وحلقة القصص القصيرة راجع:
خيري دومة: تداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة, مرجع سابق, الفصلان الثالث والخامس.
28- قد يمثل التعميم هنا مزلقا خطرا يحذرنا منه منظرو ما بعد الحداثة, لكن لا أحد يستطيع أن ينكر أن التعميم خطوة ضرورية من أجل التصنيف, الذي هو بدوره وسيلة ضرورية للإمساك بأية ظاهرة. إن لكل تعميم شذوذاته التي لا تنفي القاعدة. والقاعدة هنا أن هؤلاء الكاتبات – ولعلني أبالغ فأقول كل الكاتبات في الثقافة العربية الحديثة – ينتمين اجتماعيا إلى الطبقة الوسطى الميسورة, وينتمين ثقافيا إلى خلفية ثقافية غير عربية, حصلنها من الانتماء المشكل إلى لغة أخرى غير العربية.
وبعض المعلومات العامة قد تكون مفيدة في هذا السياق; فقد تخرجت كل من مي التلمساني ونورا أمين من قسم اللغة الفرنسية بكلية الآداب, وتستكملن دراساتهن العالية في دراسة الرواية والمسرح, وتحترفن التدريس الجامعي. كما درست كل من سمية رمضان وسحر الموجي اللغة الإنجليزية وحصلن على الدكتوراة في دراسة آدابها وتعملن أيضا بالتدريس الجامعي في المجال. وفي الأجيال الأسبق يكفي أن نعود إلى أبرز الأمثلة: من سهير القلماوي إلى لطيفة الزيات إلى رضوى عاشور. وكلهن يؤكدن نفس الحالة.
ويمكن للقارئ التعرف على كثير من المعلومات البيوجرافية عن هؤلاء الكاتبات الشابات في بعض مقابلاتهن وشهاداتهن, وهي كثيرة, بالإضافة إلى ما كتب عنهن من تحقيقات في الصحف وعلى شبكة الإنترنت. راجع على سبيل المثال:
– ميرال الطحاوي: ألملم سيرة روحي من بقايا صور , هل تكف عن التلصص علي العالم من فوق الأشجار ?حوار: إيهاب الحضري
أخبار الأدب , العدد 1422 الأحد 10 مارس 2002
– ميرال الطحاوي : للسفر طعم القسوة , أخبار الأدب, العدد 1423 31 مارس 2002
الروائية المصرية ميرال الطحاوي: أنا ابنة ثقافتي العربية ورواياتي ليست موجهة للقارئ الغربي! الرباط – القدس العربي :23/10/2002, حوار محمد معتصم.
– حوار مع الكاتبة مي التلمساني, منشور في موقعelaph.com على شبكة الانترنت, في اكتوبر 2002.
– – No.586, 16 – 22 May 2002 Rania Khallaf. In their own voices, Al-Ahram Weekly, Issue
Post 17 june 200. Unveiling the Lives of Egypts Bedouin Women, Washington
– Adel Abdel Moneim. Elegy to a vanishing world of contraditions,
the Middle East Times.
– Richard Woffenden. A voyage of self -discovery, Cairo Times,
– (VOL: 3, ISS: 2, 18-30 march 1999).
29- ربما لم تدر الكاتبة التي تقصر إهداءها على جماعة الصديقات, أنها تبني بروايتها وإهدائها هذا على تيمة الروح في الرواية العربية, التي بدأها توفيق الحكيم في عودة الروح, واستأنفها محمد المنسي قنديل في انكسار الروح, واستكملتها هي في مرايا الروح. وفي الحالات الثلاث كان الروح الوطني العام هو الأساس, لا الروح النسائي أو الرجالي.
30 راجع: حول الالتزام السياسي والكتابة النسائية في مصر, حوار مع لطيفة الزيات, مجلة ألف, العدد العاشر, القاهرة 1990, ص ص 134-150. وراجع أيضا:
– sDinah Manisty, Negotiating the Space between Private and Public: Women
Autobiographical Writing in Egypt, in ((Writing the Self: Autobiographical
Writing in Modern Arabi Literature((, Edited by Robin Ostle, Ed Du Moor &
Stefan Wild, Saqi Books, London, 1998, p: 276
Own, in ((Writing the Self: s- Sophie Bennett. A Life of On
Autobiographical Writing in Modern Arabic Literature((, Edited by Robin Ostle,
Ed Du Moor &Stefan Wild, Saqi Books, London, 1998, pp: 283-291.
31- راجع: حوار مع الناقدة العراقية فريال غزول, حاورها: محمود عبد الغني ( جريدة القدس العربي 23 نوفمبر2002)
32- راجع هنا :
سوسن ناجي: المرأة في المرآة, مرجع سابق.
إيمان القاضي: الرواية النسوية في بلاد الشام: السمات النفسية والفنية, دار الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع, دمشق 1992.
33- صبري حافظ: أفق الخطاب النقدي, دار شرقيات, القاهرة 1996,ص 245.
34- حول مسالة الكتابة ودورها المحوري في كتابة البنات, راجع:
محمد بريري>> فعل الكتابة وسؤال الوجود, قراءة في أوراق سمية رمضان النرجسية, مجلة ألف, العدد 22, القاهرة 2002, ص ص: 95-97.
35-Suzanne Juhasz. Towards a Theory of Form in Feminist
Autobiography, P: 230-231
36- الكاتب هو <<منتصر القفاش<<, والاقتباس من:
Adel Abd el- Moneim ((Spain experiences new literature movement,
Middile East Times, Cairo, 7 April 2000.
37- شكري عياد: نساؤنا الصغيرات يعلمننا الحب3, مجلة الهلال, القاهرة, أغسطس 1999, ص20 .
83- ربما يكون من المفيد هنا أن أشير إلى أن استخدام ضمير المخاطب ضميرا أساسيا للسرد موجود لدى الكتاب التسعينيين أيضا وبنفس القدر من البروز, وأوضح الأمثلة على ذلك يمكن أن نجدها في رواية منتصر القفاش <<تصريح بالغياب<<, ورواية حمدي أبو جليل <<لصوص متقاعدون<<.
39- Brian Mchale. Postmodernist Fiction, Methuen, London, 1987, PP:223-225.
يقول بريان ماكهيل في معرض حديثه عن ضمير المخاطب في سياق الكتابة ما بعد الحداثية: <<لقد وسعت الكتابة ما بعد الحداثية هذه الحالة الغرائبية وعم قتها , مستغلة تلك العلاقات الاحتمالية التي يثيرها ضمير المخاطب . ويقوم ضمير المخاطب ما بعد الحداثي بوظيفة أساسية , هي دعوة القارئ لكي يقذف بنفسه داخل الهوة التي فتحها في الخطاب حضور الأنت.. وسوف تُستغَل <<مراوغة>> الأنت إلى أبعد مدى . وهذه المراوغة الاستراتيجية ستؤدي إلى نوع من الأنت <<المتأرجحة>> أو <<الطافية>> , أنت يظل الغموض فيها باقيا ومتصدرا حتى نهاية النص , ويظل القارئ يحاول أن يضع نفسه في موقف الخطاب.. ولا يمكن أن نخطئ أن الهدف المباشر لضمير المخاطب هو عنصر العدوانية ; فهذه الصفحات(التي يستخدم فيها ضمير المخاطب) تنتهك القارئ , بل إنها حتى تهدده . و<<إزعاج القارئ>> عنوان مسرحية لبيتر هاندكه (1966) , ويمكن أن نستخدم هذا العنوان لوصف كثير من نصوص ضمير المخاطب ما بعد الحداثية . إنه موضوع متكرر وواسع الانتشار.