حمزة قناوي
نطرحُ مع جيرار جينيت سؤالاً حولَ عنونةِ النصوصِ الأدبيةِ، ونَقول: «هل للعنونةُ وظيفةٌ إيحائية؟»(1)، ومن ثمَّ في حالة قراءتنا لرواية «الملكة» لـ(أمين الزاوي) يصبح السؤال: ما الإحالة التي توجِّهُنا إليها كلمة «الملكة»؟ هل يتحدث عن امرأةٍ بعينها، أم عن حادثةٍ بعينها، أم عن رمزيةٍ ما؟ ولن تفيدنا أيٌّ من الإجاباتِ حول فهم وتأويل المعنى الكامن لعنوان «الملكة»، حتى لو استشهدنا بما يقوله الراوي نفسه في الرواية: «كلُّ رجلٍ يَبحث عن ملكة، يتوجها على قلبه.»(2)، ثم في مقطع آخر: « هل جرَّبتَ ذاكَ الإحساس الذي يملأ القلب ويرتجف له الجسد، وأنت تنتظر ملكة تنزل في غرفتك، تقرفص كالقطة على مخدة محشوّة بريش النعام موضوعة على سجاد أصيل…»(3)، فمحاولة اختزال الإجابة بأن الملكة هي «ساكورا» الفتاة الجزائرية المطلَّقَة ذاتُ المشاكل السابقة مع طليقها ومع مجتمعها الذكوري الذي ينظر للمرأة نظرةً رجعيةً بها الكثير من القهر، وأنَّ الروايةَ مُجرد نقد اجتماعي- حسيِّ لمجتمعٍ يمرُّ بمرحلة حرجة من مراحله التاريخية دون أن يشعر بفداحة الوضع الذي يواجهه، وأنه في ظل كسله وفي ظل تعطّله عن العمل وانتشار الفساد الحكومي والإداري يواجهُ خطراً يهدِّدُ الهويةَ الجزائرية باكتساحٍ صينيٍّ قد يغير الخريطة الديموغرافية للجزائر، هو أمرٌ- رغم صوابه- إلا أنه – من منظوري – يمثل الجانب الأوَّلِيِّ مِن قِراءةِ الرواية.
لقد وضع الزاوي عنواناً جانبياً: «الفاتنةُ تقبِّلُ التنينَ على فمه»، وبهذا المعنى فإن الملكة اكتسبت مكانتها هذه بقدرَتِهَا على أن تُقبِّلَ التنين، أو أن قبلةَ التنين هي التي أحالت هذه الفاتنة– المُهمَلة المنبوذة في مجتمعها– إلى ملكة، إن محاولة القراءة التأويليّة(4) لأفق خطاب النص تستشرفُ ملاحظات سردية مهمة حولَ أسلوبِ الخِطاب في هذه الرواية:
أولاً: بدأ المؤلف بتأكيدِ أنه هو من ألَّفَ هذه الرواية وفقَ حكايةٍ ما سمعها في الصين، ومن ثّمَّ فإن المصدرَ الذي سمع منه – يُفترض – أنهُ الجانِبُ الصيني، وبما أن المؤلَّف يؤكدُ أنه لم يلتقِ الجانب الجزائري فقد كنا نتوقع أن الحكاية عن لسان «يو تزو صن» أو «يونس الشينوي» قد تأخذ الجانب الأكبر من الفضاء السردي للرواية، إلا أن عكس ذلك هو ما تحقق، فقد استنطق المؤلف الداخل والعاطفة والإحساس والنشوة الجنسية الخاصة بـ«ساكورا» المطلقة الجزائرية التي تحمل خطيئة أمها من جارِها الفرنسي بلون عينيها الخضراوين.
ثانياً: تقفُ الروايةُ موقفاً متذبذباً بين فكرة الجنّة والنّار، ولكنها تُصدِر حكما مطلقاً باستِحقاقِ الرجال الجزائريين للنار، تقول «ساكورا»: «الرجال الجزائريون لن يدخلوا الجنة لأنهم يكرهون النساء. من يكره المرأة أو يحتقرها أو يشتمها لا طريق له إلى الجنة، أهل الجنة سترتاحون دون وجود للجزائريين.»(5)، وقد تكررت هذه الفكرة التي تحمل بين طيّاتها حكماً قاسياً على الرجل الجزائري، فيتم وصفه بالآتي: « في السرير يعود الجزائري إلى أصله: تيس!»(6)، وهنا نطرح سؤال ديفيد جاسبر لكن بشكلٍ عكسيٍّ، فإذا ما كان جاسبر يتحدث عن القراءة بفكرة سابقة، وعما يحمله القارئ إلى النص بأفكار تؤثر على طريقه تلقّيه للنص(7)، فهل يمكن طرح السؤال نفسه عن المؤلف؟ هل جاء أمين الزاوي إلى روايته وهو يحمل بين تصوراته الذهنية قبل كتابتها واستنطاق دواخل شخصياتها، فكرةً مسبقةً عن جلد الذات للرجل الجزائري؟ أو عن تعنيفه وامتهانه؟ هل من الصوابِ سوسيولوجياً إطلاقُ حكمٍ موحد على جميع أفراد مجتمعٍ به طبقات مختلفة وتفاوت اجتماعي ووعيٌّ غير منمَّط وفق توحيدٍ قياسيٍّ؟
ثالثاً: بأي قدر يمكن اعتبار أحكام «ساكورا» التي كان زوجها «شاذاً جنسياً»، وعاشت في جو من الكآبة الأسرية، ومِن تحكُّمِ حماتها في كل مجريات حياتها، بما في ذلك اسم مولودها التي أصرَّت أن يكون «محنَّد» الذي هو التسمية الأمازيغية للرسول «محمد» صلى الله عليه وسلم، بأي قدر يمكن الحكم على آرائِها بشأن الرجال بأنها صائبة؟ والرواية ذاتها تؤكد أن التقاء «ساكورا» و«يونس الشنيوي» جاء في جو الاغتراب لكل منهما، فهي تشعر بغربة روحية – جنسية داخل مجتمعها الجزائري الذكوري، وفي الوقت نفسه يشعر «يونس» أيضاً بالغربةِ في الأرض الجزائرية، خاصةً بعدَ وفاة زميله الصيني « سون بتيا ستي» ابن مربي الحجل، الذي كان على علاقةٍ بأمه، ويحتمل أن يكون أخاً له عن طريق خيانة أمه لأبيه، ومع أنّنا لا نعرف إن كان «يو تزو صن» له علاقة بهذا الأمر أم لا- ولم تجب الرواية عن ذلك- ولم تتحرَّ الرواية واقعة مقتل «سون بتيا ستي» سوى في حوارٍ له مع نفسه وهو تحتَ تأثيرِ حالة السُكرِ يسأل فيها ذاته: هل قتل صديقه؟ هل له علاقة بذلك؟ وإن كان فكيف حدث ولماذا؟ إذن فالرواية أساساً بين شخصيتين مأزومتين، شخصية رجل صيني يعاني مشكلاتِهِ الخاصةَ في جوٍ من الضياع ويبحث عن الخلاص في حب أو عشق أو مغامرة– دون وجود لنية الزواج أو البقاء طوال العمر مع المحبوبة– والطريف أنه لا حديث أيضاً عن هذه النية لدى «ساكورا»، ومن ناحية أخرى شخصيّة امرأة جزائرية تعيش معاناتها الخاصة من عدم شعورها برجولةِ زوجها السابق – فقد كان غير سويٍّ جنسياً – ومعاناتها في التأقلم مع المجتمع الجزائري الذي عانى الاحتلالَ الفرنسيَّ، وهي تحملُ عينينِ خضراوينِ تعيدهما إلى هذا المحتل، وتُذكِّرُها دائماً بخطيئةٍ ما قامت بها أمُّهَا في زمنٍ سابِق– رغم أنه لا تأكيد حول هذه الخطيئة وإنما مجرد تكهناتٍ يعزِّزها صمتُ الأم.
رابعاً: إن أي قراءةٍ «تأويلية» لهذه الرواية تطرحُ تساؤلاتٍ حولَ اختفاء الجو العام لعلاقات «يو تزو صن» لعلاقاتهِ مع بني جنسه من الصينيين المقيمين في الجزائر، فهو في لحظةٍ قام بترك موطن الإقامة الجماعي ليتخذ لنفسه شقةً وسيارةً، ولكن رغم أن الرواية – أو الجانب الذي يُحكى منها من خلال «يو تزو صن» يراوح بين حياته في الصين، وحياته في الجزائر بعد قدومه إليها، إلا أن الروايةَ في جانبٍ كبيرٍ منها لم تقف عند حدود العلاقة وطريقة حياة الصينيين في الجزائر، وكيفية التأقلم العام بين أصحابِ هذه الجنسية الجديدة التي وصل تعدادُها إلى قُرابةِ نصفِ مليونِ صينيٍّ بالجزائر، وبينَ مُجمَلِ الشعبِ الجزائري، وإن كانت الرواية تضج بالحديث عن رؤية الجزائريين للصينين، يقولُ أحد أبطال الرواية: «وقال:
أنتم الصينيون خُلِقتُم للعمل، للعمل فقط، أنتم الذين ستبقون في هذا البلد بعد أن يهجره أهله جميعًا. سيخرج الجزائريون واحِدًا بعد الآخر من هذا البلد لتكونوا أنتم ورثةَ هذه الأرض بعد أن يفسدها المفسدون من أهلها، أنتم من سيعيد الحياة إليها: إلى أرضها زرعًا، وصناعتها إبداعًا، وشبابها حلمًا.» (8)، وخوفهم من رجال الصين– ولم تطرح الرواية أيضاً سؤالاً اجتماعياً لافتاً: لماذا لا تقوم المرأةُ الصينيةُ بالاغترابِ والذِهابِ للجزائر؟- إلا أنَّها لم تتناول كيف يتعاطى الصينيون مع هذه الرؤيةِ؟ وكيف ينظرونَ لَهَا؟ وهل هي رؤيةٌ خاصة بالمجتمع الجزائري فقط، أم أنها رؤيةٌ تكاد تكون عالميةً تجاهَ الجنسِ الآسيوي عامةً في أي مجتمع سواء عربي أو غربي، فالجنس الآسيوي، ولفترةٍ طويلة من التاريخ يحتفظ بخصوصية هويته سوسيولوجياً في المجتمعات التي ينتقل إليها– ربما تراجعت هذه الظاهرة مع مطلعِ ثمانينيّات القرن الماضي في أوروبا وأمريكا– لكنّنا مازلنا حتى اليوم نشاهد مشكلاتِ الأحياء الصينية في المجتمعات الغربية وفي أمريكا، إلا أنَّ رواياتٍ كثيرةً ودراساتٍ عديدة تناولت مشكلات تأقلم المجتمع الصيني مع واقعه الجديد في هجراتهم إلى هذه الدول.
خامساً: بمقارنةِ كمِّ النقدِ السياسي والاجتماعي الذي وجهته الرواية لكلٍ من الجزائر والصين، نجدُ أن الانتِقادَ الموجَّهَ للجزائر أكثر من الانتقاد الموجَّه للصين، ومع أنّه لا خلافَ جوهرياً في أخطاءِ السلطةِ بين الصينِ والجزائر، فالصين ليست الدولة الديمقراطيُة المُثلى ذات الممارسات الهينة مع مواطنيها – وهو ما ألمحَ له الراوي في أكثر من موضعٍ من الرواية على لسان بطلهِ الصيني، يقول: « أمي كانت تريد ذكرًا، وقانون تنظيم النسل في بلادنا صارم كالنصل، لا يرحم، وهي التي من أجل أن أكون لها أنا، أنا الذكر، رمت بأختي التي تكبرني بسنة على الرصيف. لقد حكت لي أمي كيف حملت طفلتها، وقد ألبستها ثيابا خشنة خوفًا عليها من البرد، كان الفصل بداية الربيع، وقد قررت بالاتفاق مع أبي أن يضعا أختي، التي كان عمرها آنذاك عشرين يومًا، في سلة المهملات! رميُ البنات على الرصيف هي عادة اجتماعية وثقافية وديمغرافية يعرفها المجتمع الصيني، وقد أغمض النظام عينه عنها؛ تطبيقًا لقانون تنظيم النسل الذي هو واحد من مواد الدستور ومبادئ الحزب، فإذا ما كان للزوج ولد، فليس من حقهما إنجاب مولود آخر، وإذا ما رزقت المرأة بطنا بنتًا فلها حظ ثانٍ أملاً في ذكر، وهو الحظ الأخير: أكان المولود ذكرًا أم أنثى؛ لذا تضطر الأم التي أنجبت بنتًا في الوضع الأول أن تمارس عملية وضع الرضيعة الثانية على الرصيف، ومن جرّاء تفشي هذه الظاهرة فقد تكونت جمعيات خيرية صينية مدعومة، وبسرية كبيرة، بجمعيات عالمية ومنظمات غير حكومية دولية، تعمل من أجل جمعِ بنات الرصيف وتهريبهم إلى أوروبا وأمريكا، والاهتمام بهن من حيث التعليم والتربية والصحة وتحضيرهن لمستقبل ما.»(9)
إذن من بينِ هذه الأسئلة التي تثيرها القراءة التأويلية لهذه الرواية، يتولَّدُ سؤالٌ جوهريٌّ: ما الذي يُكسِبُ الروايةَ جَاذبيتّهَا؛ مع أنّها تنبعث من وسطِ لقاءٍ مأزوم وشخصيات تقع تحت طائلة الضغط الاجتماعي– الاقتصادي– الجنسي ما بين ثقافتين متقابلتين: الصينية – العربية؟
في اعتقادي، إن ما يضفي على الروايةِ جاذبيةً خاصةً جانِبُ الوصفِ فيها، والرؤية الشاعرية التي يتحدث بها الراوي على لسان أبطالِهِ، إذ- في تصوري أيضاً- إن ذات المؤلف واضحة تماماً وغير متوارية على لسان أبطاله شخصياته، حتى إننا نشعر بتدخله في ليِّ سياقِ الحوارِ بين الشخصيات ليوجهه لتوصيلِ رسالةٍ معينة للقارئ، ومن ذلك ما ورد على لسان بطله الصيني؛ فيقول: «”هل سيجيءُ زمنٌ يكونُ فيه يوم عيد رأس السنة الصيني يومَ عطلةٍ مدفوعةِ الأجرِ في الجزائر، كما هو عيد الميلاد وعيد المولد النبوي المحمدي؟”. أردت أن أطرح على هذه السيدة هذا السؤال، لكنني ترددت، خفت أن تكون أمازيغية من حركة الماك (MAK) (حركة الاستقلال الذاتي للقبائل) التي يقودها الفنان المغني فرحات مهني، أو عضواً في (MCB) (الحركة الثقافية البربرية)، فتبصقُ في وجهي قائلةً: «”ليك لنا نحن أولاً الحق في ترسيم رأس السنة الأمازيغية، وأن يكون يناير عيدًا وعطلة مدفوعة الأجر للجزائريين، وهو ما نطالب به منذ نصف قرن ونصف.. وبعد ذلك ننظر في أمر رأس السنة الصينية!”»(10)، الإيضاح وشرح الاختصارات وتعريف الحركات هنا، وعلى لسان شخصية غير جزائرية – قالت عن نفسها من قبل إنَّهَا غيرُ مُهتمةٍ بالسياسة – تجعلنا نعتقد أن المؤلفَ كان حاضراً وصوتُهُ هو الغالب على توجهاتِ أبطالِ شَخصياته، ومع ذلك فإنَّ من الفنياتِ الجميلةِ التي تُعطِي للروايةِ رونقاً خاصاً هو الوصف، الشاعريةُ أيضاً في الوصف، الرؤيةُ والنظر للمحيط من حول الشخصيات بشكلٍ مُختَلِف، خاصةً عندما تعلَّق الأمر بالعلاقة الحميمة، تقول «ساكورا»: «السجاد الذي أجلس عليه مغرٍ لممارسة شيئين لا ثالث لهما: الجنس، والصلاة. قلت في نفسي وأنا ألامس نعومة السجاد بأصابع رجلي العارية: “ممارسة الجنس فوق هذا السجاد صلاة، وأكبر صلاة ، أمُّ الصلواتِ وسيِّدتُها”.»(11)
الجانبُ الثاني المهم في الرواية هو تناولُ بشاعةِ التطرُّفِ والإرهاب، وتسليط الضوء على قضية «جهاد النكاح» وخطف الفتيات، من خلال شخصية «حفيظة» التي تقول: «خطفوني من عند باب الثانوية، جاءت سيارة سوداء، توقفت بالقرب مني، غير بعيد من باب الثانوية، خاطبني من داخلها أستاذُ الفيزياء الذي كان قد اختفى منذ بداية الموسم الدراسي، ناداني باسمي من خلف زجاج النافذة: صافو.. صافو..»(12)، تم اغتصابُهَا في سَريرِ أمراء الجهاد، حتى أنها تنجب طفلاً لا تعرف له أباً، وتتركه خلفها وتفرُّ بنفسِهَا هاربة، وبعد أن تفرَّ من هَذا الجحيم – مثل كثيرٍ من الفتيات – لا تستطيع أن ترجع لأهلها، لا تستطيع أن تواجههم بعارٍ ليس لها فيه ذنب، ومع أنها ضحيَّة؛ إلا أنها لا تريد لأهلها أن يكونوا ضحيةً أكبر منها في تحمل هذا العار، فتصابُ بالهلاوسِ والمرض النفسي، وتبقى في مخفرٍ للشرطةِ تُنظِّفُهُ وتعمَلُ فيهِ، وما إن تَعرِفَ أن طفلها «قتيبة» لا يزالُ على قَيدِ الحياة حتى يجنُّ جنونُها من جديد، وتعرضت الروايةُ أيضاً لما لاقاه رجال الشرطة في الجزائر من ترويعٍ وتَهديدٍ واستهدافٍ لأقربائهم وأهلهم من هذا الإرهاب الأسود، حتى إنّ أهل رئيس المخفر الشرطي جميعهم أصبحوا مهددين وفي مرمى الاستهداف الإرهابي.
ومن ناحية أخرى، تطرحُ الرواية التساؤل حولَ المفاهيم وقيمة العمل، والمنظور الجزائري والآخر الصيني حول سبيل العمل «قال آخر: “يا رجل، الجزائري لا يشتغل لا في ورش البناء ولا في الزراعة. الجزائري حين يدخل المدرسة من أول يوم تملأ له الأسرة رأسه بحلم وحيد: أن يصبح طبيبًا أو مهندسًا أو إداريّا أو أستاذًا.. كل عمل يدوي هو عمل سخرة وعبودية في مفهوم الجزائري!”.»(13).
إنها روايةٌ تنكأُ جراح الرجل الجزائري في استعراضِهَا لأخطائه وسلبياته، وتحاول أن تنتصر للمرأة الجزائرية، وأن تقول للمجتمع الذكوري ما لا تستطيع هذه المرأة في ظل قمع ديني أو عرفي أو اجتماعي أن تقوله، صحيح أنه يرد على لسان إحدى الشخصيات العابرة في سيارة نقل: «قالت امرأة كانت تتابع عن قرب الحديث بين الشباب: “نساء الجزائر ما جبروش فيكم ما يصلح! لو أنه وجدن فيكم العمل والثقة والرجولة التي كانت في الأجداد، لما ذهبن إلى أسرَّةِ الصينيين، ظل رجل صيني ولا ظل جدار جزائري”»(14)، لكن يصعب أن يُقال هذا في الواقع، فأراد الكاتبُ أن يقوله عبر تصورٍ يحلِّلُهُ ويدرسه ويوثقه لخطر مصيري على الرجل الجزائري أن ينتبه له، فلم يعد الخيار الأوحد المفروض على المرأة الجزائرية وعليها الالتزام به والاستجابة له مجبرةً، فقد ظهر له منافسٌ في أرض الواقع الجزائري، منافسٌ رغم اختلافه وثقافته البعيدة إلا أنّه يشكل باعثاً كافياً ومقنعاً للتمرد على الصورة النمطيّة للرجل الجزائري في التصاقِهِ بتابوهاتٍ مُقيِّدَةٍ للمرأةِ، هذه التابوهات التي حاولت الرواية تتبعها وتفكيكها في إطار سعيها إلى تعميق أسئلة هوية المرأة وحريتها وتوقها إلى الحبِ الكامل والإنسانية المكتملة.