قد تفصل أعوامٌ عدّة صدورَ كتابٍ ما لأحد الكتّاب عن صدورِ غيره لكاتب آخر، لكنّ تشابهاً لافتاً بينهما لابدّ أنْ ينبّه الذاكرة، فتستحضر ما سبق ومرّت به. والحالُ في المقامِ هذا، أنّ الفاصل بين صدور كتابين هو عامٌ واحد فقط، إلاّ أنّهما يحملان من التشابه ما ينبّه الذاكرة، ويحرّضها لِتُقَلّبَ أوراقها جيداً لعلها تصيب حقيقةً ما.
عام ألفين وسبعة صدر للكاتب المصري (إبراهيم المصري) كتابٌ حمل عنوان (الزهرورديّة)، وهو عبارة عن نصّ واحدٍ ينتمي إلى فصيلة النصّ المفتوح الذي غالباً ما يتلبّس حالةً شعريّة، فتشرّع له تسمية «شعر»، وإذا بهذه التسمية مكتوبة على غلاف الكتاب الذي يضمّ النصّ الواحد، أو مجموعة النصوص. وبالمقابل، فقد صدر عام ألفين وثمانية للكاتب العماني (زهران القاسمي) كتاب بعنوان (الهيولى)، يحمل ما حمله (الزهروردية)، من نصٍّ مفتوح متلبّسٍ بالشعر، وبالطبع، هذا ليس كافياً لإلقاء تهمةِ الشبه مع سابقه، لكنّ الشبه الذي تدّعيه هذه السطور وتجتهد لإثباته كامنٌ في نقطٍ عدّة، منها الحالة التي تلبّست الكاتبين حتّى أبدع كلٌّ منهما نصّه الخاصّ، أو قصيدته المتفرّدة، مع عدم إغفال تمايز عالم الواحد منهما عن الآخر من حيث الجو الخاص، لا العام، لأنّ جوّاً عامّاً يشتركان فيه، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإنّ تشابهاً يُلْمَس بقوّة بين خصائص كثيرة أضفاها كلٌّ من المصري والقاسمي على الزهروردية والهيولى، سيأتي ذكرها تباعاً.
وقبل أنْ يتمّ التطرّق لذكر بعض تلك الخصائص المشتركة، لابدّ من الإشارة إلى بعض السمات الأسلوبية التي اشترك بها النصّان، من ذلك ظاهرة الالتفات، حيث تُلحَظ فيهما هذه الظاهرة بقوّة، فمن غائب إلى حاضر، ومن متكلّم إلى مخاطَب، ولا يختلف حال الأفعال عن هذا، إذ يراوح الكاتبان بين الأزمنة، فمن ماضٍ إلى مضارع، ومنه إلى أمر.
لقد اشترك النصّان بأساليب عدّة منها أنْ يخاطب كلٌّ من الكاتبين زهرورديّته وهيولته بالضمير (أنتِ)، يقول المصري:
أنتِ الزهروردية ويا أنتِ…
ويقول القاسمي:
أنتِ لستِ شقيقةَ الروح لستِ الحبيبة …أنتِ الهيولى.
ومما يُلمَس بوضوح في لغة كلّ من الكاتبين، هو السريالية التي صبغت أجواء النصّين، بحيث تُسهم تلك السريالية بالرفع من سوية الاختراق في لغتيهما، وبجعلهما يصخبان بأساليب الانزياح واستعارة القرينة لما لا ينتمي إلى حقلها، والمزاوجة بين مفردات لا صلة منطقيّة تربط بينها، من ذلك ما جاء في الزهروردية:
أنا ذَكَرُ البرقِ الذي لا أنثى له من فصيلته وأنا فأرُ أحراشٍ يحتاج إلى نظارة طبيّة
وكذلك:
الإدراكُ أقلّ من اليقظة، والليل أقصر من غابة تسأل عنكِ في مقهى يرتاده الأنبياء.. واللامرئي من وجودك طالت أظافره حتى أنني أشعر بها في قلبي.. وكلما مرّ قمرٌ أعطيته عنوانك.
أما من أمثلة حضور السريالية في الهيولى:
كلّ صباح… تسحب الهيولى الشمس من قرنيها لتسحق الزهرةَ الغافية.
ومنه أيضاً:
الهيولى هي الانطلاق بدراجة نارية حتى الاصطدام بغابة عطر.
وفي عودةٍ لابدّ منها إلى الخصائص المشتركة التي تمّ ذكرها بدايةً، لابدّ أنْ يتمّ القول إنّ كلا الكاتبين يلعب اللعبة نفسها، بحيث يوهمان القارئ بتسليمه طرف الخيط الذي سيوصله إلى معرفة مَنْ تكون كلّ من الزهروردية، والهيولى، فيذهبان في وصفهما حتى يُأخَذ القارئ بذلك الوصف، ويظنّ أنّه بدأ يكتشف الشيء الذي يتمّ الحديث عنه، وإذا به يُصعق فجأة بتحوّل وجهة الحديث إلى طريق آخر، وهكذا لا يكفّ كلٌّ من المصري، والقاسمي عن توجيه صعقات متلاحقة للقارئ، الذي يُنجز قراءة النصّين على الوتيرة نفسها من الانجذاب والتشوّق للمتابعة، لا يخلوان من المتعة، سيّما بعد كلّ صعقة تعتريه.
وعلى هذا، فإنّ انتقال الكاتبين من إسباغ صفة إلى إسباغ صفة أخرى أدّى إلى تعدّد الصفات. والطريف أنّ الزهروردية تلتقي مع الهيولى في معظم صفاتها وخصائصها، وإنْ اختلفت اللغة المعبّرة عن ذلك في كلٍّ منهما.
ولمّا كانت الصفات المشتركة بينهما كثيرة، كان من الضروري انتقاء بعضها وعرضه هنا، من ذلك: الزهروردية المرأة، والهيولى المرأة:
الزهروردية امرأة لا ريبَ في هذا
الهيولى تلك المرأة التي نلقاها صدفةً في الشهيق
لقد أضفي الكاتبان على الزهروردية والهيولى صفات كثيرة اشتركتا بها، من ذلك الإطلاق والعدم والالتباس وإدراك الأسرار وصنع الخوارق والتحكم بالماضي والحاضر والمستقبل، وأمثلة ذلك تمتد على طول النصين، مثال ذلك ما جاء في الزهروردية الملتبسة التي تمثّل الشيء ونقيضه:
هل الزهروردية ذكرٌ أم أنثى الشمسُ أم المظلّة هل هي الكفر أم الإيمان؟ وماذا لو كانت كلّ هذا.
وبالمقابل، يعثر القارئ على الالتباس نفسه في هوية الهيولى، الذي يدفع إلى الشك في طبيعتها، وتناقضها المستمر، ويترك الاحتمالات مفتوحة في شأن مَنْ تكون:
قد يقول شاعر عن الهيولى إنها قصيدته التي لم يكتبْها ويقول عاشق إنّها وردة سوف يدسها في حلم حبيبته قد يحكم القاضي على متّهم بالسجن معلقاً على حافة الهيولى لكنها تبقى صامتة على كرسي خشبي في حديقة ناقشة اسمها على مسنده.
ومثلما يقدّم القاسمي الهيولى على أنها نهاية مطاف الإنسان، كذلك يقدّمها على أنها مادة الحياة الأولى، يقول:
يحطّ المسافرون حقائبهم على الأرصفة فتستقبلهم الهيولى على يديها لينعموا أخيراً بانتهاء حيواتهم.
ويقول:
لا نعرف شيئاً عن الهيولى إلا كونها المادّة الأولى لخلق الكون.
ومما يُلفت في الخصائص المشتركة بين الزهروردية والهيولى، ارتباطهما بعلاقة وطيدة مع البحر، فالمصري يقول عن الزهروردية:
البحرُ مزاجها المندلع شالاً أزرق على حجرها
أما القاسمي فيخبر:
هناك حيث الماء حيث تبحر بحثاً عن شواطئ هناك… تنتظرك الهيولى
وكذلك علاقة كلٍّ منهما بالموسيقى، فالزهروردية «عملها هو الموسيقى»، أما الهيولى في إحدى تعريفاتها فهي «أنْ تطعنَ قلبكَ بالموسيقى».
ومما تقدّم، قد يسأل سائل: ما سرّ هذا التشابه بين النصّين؟ هل هو توارد خواطر، أم تأثر، أم هو احتذاء حرفيّ ومتعمّد من قبل القاسمي كون المصري هو السابق في نشر نصّه. لكنّ إيجاد إجابة يبقى صعباً، سيما في وقفة سريعة كهذه.
ومهما يكن من سرّ التشابه، فإن الكاتبين أبدعا نصّين يوحدهما السياق الإشكالي، وما تلك الإشكالية إلا جزء من شعريّة تصيب الروح بهزة شعورية، من غير أن تفسح مجالاً لمعرفة سببٍ محدّدٍ لها.
ويبقى البحث في تشابه النصين مفتوحاً على مزيد من الشرفات، وما تم ذكره لا يعدو جزءاً صغيراً من حالة التقارب الملفتة بينهما.
_الزهروردية، إبراهيم المصري، شعر، مطبعة المستقبل، أبو ظبي، الطبعة الأولى2007 .
_ الهيولى، زهران القاسمي، شعر، دار فرقد، دمشق، الطبعة الأولى2008 .
ناديـــن باخــــص
كاتبة من سورية