إلى روح إيلان هاليفي
كانت لحظة الحرب العالمية الثانية الحدّ الذي يفصل بين حقيقتين في حياة جان بول سارتر (1905-1980)، أو بالأحرى، هي التي حدّدت الجانب الأساسي في مواقفه الفلسفية والسياسية. فإن عاد ريمون أرون من ألمانيا (1933) التي أقام فيها حيزا من الزمن وهو مقتنع أن التحوّلات الألمانية لن تنتهي سوى بالحرب، فإن جان بول سارتر الذي قضى فترة دراسية في المعهد الفرنسي ببرلين (1933-1934) لم يستوعب المعنى التاريخي لما كان يجري أمامه، بل أنه بقي بعيدا عن مجريات الشأن العام وهمومه على شاكلة بطل روايته «الغثيان» (1938) حيث اعتبر روكتان نفسه مثقفا منفصلا ومترفعا عن محيطه وغير إنسانوي أي أن لا شيء يعنيه مما لا يخصه مباشرة اعتبار أن «الإنسان شغف لا فائدة منه» كما كتب سارتر في خاتمة مؤلفه : «الوجود والعدم».
لكن، نهاية الحرب كانت المرحلة التاريخية التي انحاز فيها سارتر وخصوصا بعد محاضرته الشهيرة : «الوجودية هي نزعة إنسانوية»، إلى مبدأ الالتزام في حقلي الفلسفة والسياسة، وذلك كان التوجه الأساسي لمجلته التي أسسها مع الفيلسوف موريس ميرلوبنتي الموسومة : «الأزمنة الحديثة» (1945).
وسارتر الذي كان فيلسوف الانفصالات كما أشار إلى ذلك عبد السلام بنعبد العالي، حين تساءل «ألم تكن فلسفته، وربما حياته سلسلة من الانفصالات : الانفصال عن برغسون، عن جيد، عن النزعة الفردانية اللاإنسانية، عن الحزب الشيوعي، عن مارلو، عن ميرلوبونتي، عن كامو…»(1)، والقائمة قد تكون أطول. لكن ما هو مهم فلسفيا هو الوقوف عند الأساس النظري الذي صاغ على أساسه سارتر مفهومه للالتزام والانفصال.
إن ظاهرة الالتزام – ونعني التزام المثقفيين – ظاهرة سبقت سارتر وتعود – في مجال الثقافة الغربية – إلى ممارسات ومواقف فلاسفة الأنوار الفرنسيين أو حتى إلى الفيلسوف بلاز باسكال حسب تقييم بونوا دوني(2). لكن برنارد هنري ليفي اعتبر أن سارتر هو مخترع مفهوم الالتزام في القرن العشرين(3) والحال أنّ علماء اجتماع الثقافة والسياسة والمؤرخين أجمعوا على أن الظاهرة ولدت بمناسبة قضية دريفوس، ودور الروائي أميل زولا فيها.
التصق مفهوم الالتزام (التزام المثقفين، وأدب الالتزام) بسارتر، وقد اختصر بعض النقاد المسألة في جانبها السياسي، والحال أن سارتر يؤسس نظرته على أساس فلسفي شرع في بلورته قبل نهاية الحرب حيث أنه كتب في «دفاتر من أجل الأخلاق» (1943) «لم تتميز الأخلاق، بالنسبة لي عن الميتافيزيقيا…» بالرغم من أنه كان يرفض بشكل مطلق أخلاق الواجب، معتبرا أن القيم التي تؤسس مفهوم الواجب يمكن أن تتحوّل إلى مادّة للإرادة مما يجعل «الأخلاق تبدأ من حيث تنتهي الآمال (…) وهي القيمة الميتافيزقية لذلك الإنسان الذي ينهض بأعباء حياته وأصالته. ذلك هو المطلق الوحيد»(4).
ذلك هو الشرط الإنساني، لكن سارتر اعتبر أنّ المثقف هو المرشح الأكثر قابلية للحفاظ ولتطوير الممارسة التي تربط بين الحياة من «أجل الذات» والحياة من «أجل الآخر» مستندا في ذلك إلى مقاربة أوسع وأشمل من العناية بممارسة المثقف ليتعدّاها إلى مفهوم الشرط الإنساني أو شرط الوجود الإنساني كما تناوله بالتحليل مارتان هيديغير والذي اعتبر أن فهم الإنسان لواقعه كإنسان هو المقدّمة الضرورية للتفكير في واقع الإنسانية، وبالتالي محاولة بلورة انتروبولوجية كمنطلق لتفسير الوجود (5).
تشكل بلورة ذلك الوعي ماهية عمل المثقفين. وقد حدّد سارتر في محاضرات ألقاها باليابان (1966) مفهومه للمثقفين بعد أن شجب الانتقادات التقليدية والمحافظة الموجهة ضدّهم والتي تخصّ «عجزهم عن تغيير الأوضاع»، و«اهتمامهم بما لا يخصهم» وميلهم إلى المبالغة والكذب نتيجة دغمائيتهم المعهودة…»(6)، حيث أنه اعتبر أن المثقف هو الإنسان الذي يعي بالتناقض بينه وبين المجتمع، بين البحث عن الحقيقة العملية (مع كل الضوابط التي تفرضها) وبين الإيديولوجية المهيمنة (مع نظامها للقيم التقليدية) حتى يكون ذلك الوعي حقيقيا لدى المثقف، في مستوى أنشطته المهنية ووظيفته، «فلا مناص من تعرية التناقضات الأساسية في المجتمع أي صراع الطبقات والصراع العضوي صلب الطبقة الحاكمة ذاتها، بين سعي هذه الأخيرة إلى الحقيقة تطالبها لعملها والأساطير والقيم والتقاليد التي تحافظ عليها والتي تحاول فرضها على باقي الطبقات حتى تضمن هيمنتها عليها»(7). وحتى تتجسّد ممارسة المثقف وفق وجهة نظر سارتر فإن الالتزام بالجانب العملي والانخراط في الممارسة يصبحان شرطا من شروط فعاليته ونجاعة عمله ودوره في المجتمع. تلك هي نظرة سارتر لمسألة التزام المثقفين في إطارها العام وهو حدّد خريطة عملها في افتتاحية العدد الأوّل من مجلة الأزمنة الحديثة (1945) : «نحن ننحاز إلى جانب أولئك الذين يرومون تغيير الشرط الاجتماعي للإنسان ونظرته لذاته». وقد أكد سارتر أن الالتزام لا يقود، آليا إلى إسقاط الجانب الجمالي من العمل الإبداعي لدى المثقفين (خاصة منهم الأدباء)، فهو كتب في ذات النصّ : «إن الكاتب هو في صلب وضع عصره. وكل كلمة لها أصداء. وكل صمت كذلك. إني أعتبر كلا من فلوبير وغنكور مسؤولين على القمع الذي جاء بعد الكمونة لأنهما لم يكتبا سطرا واحدا لمنع ذلك. وقد يقال أن ذلك لم يكن شأنهما. لكن هل كانت محاكمة كالاس شأن فولتير ؟ وهل كانت إدانة دريفوس شأن زولا ؟ وهل كانت إدارة الكونغو شأنا جيدا ؟ كل واحد من هؤلاء تحمل مسؤولياته كأدباء في ظل الظروف الخاصة لحياة كل منهم»(8).
ويتحدّد المفهوم السارتري للالتزام كحالة واقعية وثيقة الإرتباط بالشرط الإنساني ونعني بـ«الحالة الواقعة» أن الالتزام – حسب سارتر – لا يمكن أن يتجسّد إلا في ظل الواقع وفي خضم الأحداث والمواقف أي عبر الممارسة الملموسة. ويعتبر سارتر أن المثقفين مجبرون على الالتزام كما أنهم (مثل كل الناس) مجبرين على أن يكونوا أحرارا. فالالتزام، إذن ليس نتيجة لقرار إرادي وإختيار مسبق للإنسان، بل أنه حتمية لا مهرب منها، لأن الوجود يقود إلى الالتزام وذلك شرط لا خيار فيه فضلا على أن الالتزام والاعتزال هما وجهان لحقيقة واحدة يعيشها الإنسان حسب سارتر ولا تقود النظرة الوجودية إلى مسألة الالتزام إلى تمثل سلوك بشري آلي تحدده عوامل وأسباب مادية واقتصادية وإن كانت تلك النظرة لا تقبل بمفهوم الطبيعة البشرية الأبدية التي تحدّد سلوك البشر تحت تأثير عوامل عقدية أو إيمان شخصي مصدره المعتقد الديني أو الأخلاقي دون اعتبار تفاعله مع معطيات الواقع.
لم يستلهم سارتر مفهومه للالتزام من الفلسفة الماركسية (وفلسفة البراكسيس) الذي قضى حيزا مهما من حياته في الحوار الفكري معها. كما أنه لم يتبن مفاهيمه من الفلسفة الوجودية المسيحية (التي كانت مؤثرة في الأوساط الأكاديمية الفرنسية إثر الحرب العالمية الثانية)، والحال أن الوجودية المسيحية (غابريال مارسيل) قد حدّدت الالتزام كوفاء للنفس، أي الفعل الطوعي والفعلي الذي يحدّد به الشخصي ذاته واختياره وفق مسعى ينطوي على قسط من الخطر والمجهول»(9). وعلى أساس ذلك، يتجلى، لنا اليوم، أن سارتر، كان يروم تأكيد استقلال إشكالية تفكيره عن المذاهب الفلسفية المعاصرة له.
انتصب سارتر أمام السلبية التي صبغت حياة ومواقف بعض الكتاب، ورفض أن تكون تلك الممارسة غير الإيجابية من سمات المثقف أو الأديب الحقيقي لأنها نفي للحرية وتملص من مقتضيات الحياة وتحدياتها. إن السلبية، بالنسبة لصاحب «نقد العقل الجدلي» هي انسحاب من الحياة وعجز عن تحمل مسؤولية الوعي بالتاريخ. على أساس تلك النظرة بلور سارتر مفهوم «واجب الالتزام» الذي ينبع من رفض دعوة «الانسحاب» أو «الاقتناع» أو «الانطواء» التي انتشرت ضمن مدونة الأدب الحداثي، والتي ترفض مبدأ المشاركة في حياة المجتمع الذي ينتمي إليه الأديب ويتحتم عليه المساهمة في تغييره ولكي تتطابق الكتابة منذ ذاك بمشروع تغيير العالم، ولكي يكون الأدب مشروعا حقيقيا لتغيير الواقع، يتوجب على الكاتب أن يقبل الكتابة من أجل الحاضر… وإذا فإن الكاتب الملتزم يرفض أن يكتب من اجل الأجيال القادمة… ويختار مصمما الإجابة عن مقتضيات الزمن الحاضر… وبذلك فإن صورة العمل الأدبي تغيرت مادامت الكتابة لم تعد موجهة للأجيال القادمة، وإنما للوقت الحاضر، إذ لا وقت لديها لتأخذ طريقها المعتاد إذ عليها أن تبلغ هدفها هنا والآن»(10).
اعتبر سارتر أن قدر المثقف أن يكون حرا لأنه مجبر على ذلك وبالتالي فإن التزامه ضرورة وجودية أو بصيغة أدق، واجب وجودي، لأنه ملزم في كل حين على الاختيار بين ممكنات مختلفة. ذلك هو الأساس الفلسفي لنظرية الالتزام لدى سارتر. فالإنسان لا يوجد «ككائن في العالم» حائز على حرية إزاء الأشياء التي تحتويها (11).
حسب سارتر لا يمكن للمثقف (والأديب) أن ينعزل في ذاتية محضة لأن شرطه الإنساني فرض عليه وجودا مثلث الأضلاع فيه الحرية والمسؤولية والجزع النفسي إزاء ما يجري حوله بما يجبره على الاختيار والالتزام لأن عدم الإختيار هو إختيار في حدّ ذاته. وهو لا يلغي كونه (أي المثقف) مبحر في قضايا عصره ككل الناس حسب مفهوم بلاز باسكال الذي يوظفه سارتر في تحليله(12) ليخلص إلى اعتبار الالتزام واجب أخلاقي تحدّده المقتضيات المعنوية والسياسية التي أوجدتها الظروف التي يعيشها المثقف. لذلك فإن عملية الكتابة – حسب سارتر – ليست ممارسة إعتباطية واستلهام من لا شيء أو تعبير تأمّلي محض بل هي حالة من حالات الممارسة في ظل ظروف وأوضاع تحدّدها وتمليها. وقد فكك سارتر إجابته على السؤال المتعلق بمغزى الالتزام في مؤلفه «ما الأدب» عبر استعراض مبسط لأسئلة عميقة : تخص «معنى الكتابة» «ولماذا نكتب ؟» «ولمن نكتب؟»(13) ليؤسس علاقة ثلاثية الأطراف لا يمكن الفصل بينها : الواقع، الكاتب، والمتلقي.
ويتمثل سارتر تلك العلاقة كعناصر يحدّدها «الوضع» أو «الظرف» أي يختار كل من المثقف / الأديب / الكاتب من ناحية والمتلقي من ناحية أخرى موقعه حسب واقعه واختياراته الواعية حيث أنه – على سبيل المثال – لا يتحرّر العبد من عبوديته كمواطن عادي – بل كعبد يروم تحطيم قيوده… لذلك يعتبر صاحب «ما الأدب ؟». ان مفهوم الوضع مولـّد لثلاثة عناصر محددة للممارسة حيث أن كل وضع قابل للتجاوز والتغيير بمعنى أنه لا يوجد وضع غير إنساني، وأن هاجس خلق أوضاع «توسع مجال الإمكانيات» و«النضال من أجل التحرر» ينطلق من أخلاق الالتزام، وأن هناك ضرورة لتعرية الاستيلاب الذي يحدّ ويفسد الحرية المحتملة بسبب وجودنا إلى جانب الآخر واختياراته واستراتيجيات إلتزامه.
ومهما يكن أمر التأسيس الفلسفي لمفهوم الالتزام فإن سارتر يعتبر أن الإنسان مسؤول بشكل مطلق وأن خاصية «الشرط الإنساني لا يحتمل الاعتذار»(14) لأنه ينتج شعور «المسؤولية من أجل الذات» وهو الشعور المرهق لأنه هو اصل الوعي بأن العالم موجود»(15).
على أساس ذلك اعتبر سارتر نفسه معنيّا بمجريات الواقع المحيط به فلسفيا، وفكريا واجتماعيا وسياسيا، لترتقي اهتماماته إلى مرتبة الهاجس المطلق الذي جعل منه «مثقفا شاملا» حسب عبارة أنا بوشيتي(16) معتبرا أنّ مقاومة جنون التاريخ يكون عبر الالتزام والنضال.
انتشر صيت فكر جان بول سارتر في أوروبا منذ نهايات الحرب العالمية الثانية، بل أنه هيمن على باقي المدارس الفكرية والفلسفية في بعض الأحيان لكن تلك الهيمنة كانت سطحية رغم إنتشارها. وإن لم ينتصر عدد مهم من كبار المبدعين والأدباء الفرنسيين (والأوروبيين) إلى وجهة نظر سارتر (سمويل بيكيت، أوجين يونسكو، جان جيني، ألبار كامو…) فإن الثملة الجوهرية في الممارسة الفكرية السارترية تكمن في تجاهله لمدونات فلسفية خطيرة مثل فلسفة نيتشة الذي لم يعره أي اهتمام (على عكس ميشال فوكو) أو علم النفس الفرويدي (على عكس لويس ألتوسير) دون اعتبار إهماله لفكر غاستون باشلار، وجان هيبوليت (في فرنسا) وللمساهمات الحيوية والمهمة ولمدرسة فرانكفورت بمختلف إعلامها… والحال أن بعض تلك الأعمال كانت قادرة على إثراء مقارباته المنهجية على الصعيد الفلسفي والعملي. فقد اختار سارتر أن يركز اهتمامه وحواره مع الفلسفة الماركسية التي اعتبرها أفقا فكريا لا يمكن تجاوزه. لذلك أقرّ سارتر أن فلسفته الوجودية هي جرعة فكرية لإنعاش الماركسية وتقليص نزعة الجمود الدغمائي الذي سيطر عليها منذ نهاية الثلاثينات وعمقته ظروف الحرب الباردة. وهو اعتبر أن ذلك الموقف هو الواجب الفلسفي المطلوب إنجازه حتى تنفتح الماركسية على مفاهيم ونظريات حديثة تتعلق بشكل رئيسي بمسألة الحرية وبمكانة الفرد في التاريخ وفي تطور الواقع الجدلي. لكن سارتر ظل «عاجزا عن خلخلة حقيقية للماركسية التقليدية، بعيدا عن إعادة قراءة نصوصها على ضوء مستجدات الأبحاث الابستمولوجية والانتروبولوجية والتحليلية، وكل تلك الأدوات التي سيتسلح بها الجيل الذي عاصره وأعقبه مباشرة أمثال ألتوسير وكاننغليم وفوكو…»(17). وبالرغم عن ذلك العجز، فإن تأثير سارتر في الماركسية حقيقة ملموسة تجلت في المواقف السياسية التي تبناها تيّار فكري وسياسي راديكالي واسع ومتنوّع المنطلقات والآراء والتي كان من نتائجها دفع جيل بكامله من المثقفين والناشطين إلى الانخراط في العمل السياسي والجماهيري وفي التفكير النقدي والتقدمي الذي ساهم في القطع مع الدغمائية الفكرية والانغلاق السياسي والايديولوجي وإن أفرط بعضه في الراديكالية السياسية (خاصة منهم من خاضوا تجارب التنظيمات اليسارية المتطرفة في أوروبا).
لقد تولد عن تفاعل وتحاور الفلسفة السارترية مع الماركسية تبنّي جان بول سارتر مواقف ايديولوجية وسياسية جذرية من المنظومة الهيمنية الإمبرايالية. ولعل ذلك يؤكد الرأي القائل أن «سارتر هو بالنسبة إلينا «مواقف» أكثر منه فلسفة ونظريات»(18). وذلك الرأي لا يمنعنا من الإشارة إلى أن فكر سارتر نجح في التحول إلى «بؤرة» تختمر فيها مختلف العوامل التي شكلت شخصية المثقف في المعنى الحديث للكلمة والتي كانت تظهر متفرقة ومتفارقة الأهمية والقدرة على التأثير في السابق. كذلك كان سارتر ظاهرة فكرية خصوصية وظاهرة اجتماعية – سياسية خصوصية كذلك مشكلا نموذجا فريدا من نوعه صلب المثقفين والمفكرين المعاصرين حيث كان نموذجا للمثقف «الشامل» أو «المثقف الكلي» حسب عبارة بيار بورديو وذلك بمقابل جمهور «المثقفين الجزئيين» الذين عاصروه والذين «وإن كانوا فلاسفة مثل ميرلوبونتي، فهم ليسوا نقادا وكتاب مسرح أو سيناريو أو رواية. وإن كانوا كذلك مثل كاموا فهم ليسوا فلاسفة. وإن كانوا علماء اجتماع أو مفكرين سياسيين مثل أرون فهم ليسوا ملتزمين ولا علاقة لهم بالنقد والأدب. أما سارتر فكان كل هذا، بل كان وحده كذلك»(19) لكن بورديو يبالغ في الإطناب في التأكيد على استقلالية سارتر وحريته في مواقفه السياسية وعلى طابعها الثوري النقيّ، حيث أن مواقف «دروب الحرية» من الإمبريالية والاستعمار وإن كانت واضحة ولا غبار عليها فإنّ سارتر عجز على فهم الطبيعة الاستعمارية للظاهرة الصهيونية من ناحية، ولم يتناول موضوع حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وفق مقاربة صحيحة وجذرية – وفق عادته – من ناحية أخرى.
الاستعمار :
كان سارتر مناهضا للنظام الإمبريالي العالمي ونصيرا لكل حركات التحرّر الوطني والقوى الثورية المقاومة للاستعمار. وهو كان يعتبر ذلك الموقف التزاما بالقضية المركزية في فلسفته : الحرية السياسية : «إن هدفنا الملموس الذي هو معاصر وواقعي جدّا، هو أن نحرّر الإنسان. وهذا له ثلاث جوانب : أولا، الحرية الميتافيزقية، جعل الإنسان واعيا وحرّا كلية وأنه يجب أن يكافح ضد أي شيء يساهم في تحديد أو تقييد الحرية. ثانيا، الحرية الفنية تتمثل في توسيع إتصالات الإنسان الحرة مع الأفراد الآخرين من خلال الفن، وبمساعدة ذلك لوضع الإتصالات مع مجال واحد من الحرية. ثالثا، الحرية الإجتماعية والسياسية : تتمثل في تحرير المستضعفين والأفراد والآخرين»(20). على أساس تلك النظرة ناهض سارتر المجتمع الرأسمالي الفرنسي وساند النضالات التي ولدتها تناقضاته كما أنه – على طول عشرات السنين – دعم حركات التحرر الديمقراطي في العالم ضد الفاشية والدكتاتورية والاضطهاد والميز العنصري (في كوبا تحت حكم الدكتاتور باتيستا، وإسبانيا تحت حكم فرانكو وفي المجر إثر ثورة 1956 وتشيكوسلوفاكيا بعد موت ربيع براغ، وكمبوديا وفيتنام إثر فشل حرب التحرير والبناء الشيوعي، بعد أن كان من أكبر مناصري المقاومة الفيتنامية وباقي شعوب الهند الصينية ضد الهيمنة الأمريكية قبل 1975، الخ…) وقد اعتبر سارتر أن نظام الهيمنة الاستعمارية في العالم يختزل كل أصناف القهر والاستغلال والقمع مما يبرر معارضته بشكل مطلق حيث أن الاستعمار في نظر سارتر «نظام» كما وسمه في مقال شهير (21)، إعتبره المؤرخ الجزائري محمد حربي نقطة التحول في فكر سارتر الذي عرف «زحلقة قيمية قادته عبر لمسات متتابعة إلى اكتشافه قوّة تاريخية جديدة أكثر جذرية من البروليتاريا أي المستعمرين»(22). ولما كان الإستعمار نظاما شاملا. اعتبر سارتر أن مقاومته يجب أن تكون شاملة ومطلقة ومتعدّدة الساحات والمستويات. فالاستعمار نظام قهر وعنف حيث أن «الغزو (… الاستعمار…) حدت عنفا، وأن الاستغلال والقهر يتوجبان استمرار العنف، بما في ذلك الحضور العسكري (…) يرفض الاستعمار حقوق الإنسان لبشر أخضعهم بواسطة العنف واحتفظ بهم في الفقر والجهل بواسطة القوّة، إلى حدّ السقوط فيما «تحت الإنسانية» كما يقول ماركس ففي الأحداث ذاتها، وفي المؤسسات، وفي طبيعة التبادل والإنتاج تكمن العنصرية»(23).
إن ما توفر من معلومات عن الممارسات الاستعمارية في مختلف أنحاء العالم وعن إفرازات السياسيات والبرامج المنجزة فيها دفعت سارتر إلى التعبير عن شجبه لها في مختلف الحالات (فيتنام، الكنغو، الجزائر، تونس، المغرب، كوبا، ساحل العاج، السينغال، الغوادلوب، المارتينيك… الخ) وإلى تجذير تلك المواقف عبر بلورة مفاهيم تطابق حقيقة مما يجري على أرض الواقع ونتائجه. كذلك نرى سارتر يحتفظ بمفهوم «ما تحت الإنسانية» ليحدّد بواسطته ظروف حياة المستعمرين خاصة في مقالاته أو في مقدمات بعض الكتب النقدية التي ألفها مثقفون ينتمون إلى شعوب مستعمرة ومضطهدة مثل التونسي ألبير ممي والطبيب من أصول إفريقية، وإن كان من جزر الأتنيل (الفرنسية) : فرانس فافون (24).
إن البشر الذين يعيشون في ظروف «تحت إنسانية» هم الذين وضعوا بواسطة نظام اضطهاد في مستوى الحيوانات»(25) لأن حياتهم يصنعها الفقر والجهل والأمراض والبؤس المطلق فضلا على تخريب تراثهم وثروات بلدانهم لصالح المستعمرين مما يربك صحتهم النفسية والمعنوية كما بيّن ذلك فرانس فانون في مؤلفه «المعذبون في الأرض» (1961). ويشكل جمهور الذين هم «تحت البشر» أو «أقل من البشر»، أساسا، أول ضحايا العنف الاستعماري الشامل حيث اعتبر سارتر مثل ألبير ممي جزئيا وفرانس فانون تماما أن الواقع الاستعماري سوف يترك دمارا ماديا – في حضارة الإنسانية – ومعنويا في نفسيات وذهنيات البشرية خلال مرحلة تاريخية طويلة تتجاوز حقبة الاستعمار المباشر وغير المباشر. ومن الطبيعي أن يكون سارتر مناهضا للنظام الاستعماري وللواقع الذي ينتجه لأن هذا الأخير نقيض لكل ما يمكن أن ينشده الفيلسوف الوجودي. فالاستعمار نفي للحرية وللقيم التي يمكن أن تقود سلوك ومواقف الأشخاص إلى الالتزام من أجل إنجازها. والدّمار الذي يلحقه الاستعمار بالشرط الإنساني يعقد ظروف الحياة والنضال أكثر من غيره من كوابيس التاريخ الأمر الذي يجعل أهداف الكفاح التحرري وقائمة ضحايا الواقع الاستعماري ترتفعان إلى درجة قصوى مما يعقد أولويات الصراع ومضامينه ودوافعه ومآلاته وصيغه.
كان سارتر على وعي شديد بأن لا معقولية واقع النظام الاستعماري تربك منطق مقاومته بسبب حجم فظاعته الممنهجة التي تؤدّي إلى تشويه الإنسان في حدّ ذاته حيث «أن العنف الاستعماري لا يسقط هدف احترام البشر المستعمرين فحسب، بل أنه يسعى إلى نزع إنسانيتهم عنهم. سوف لن يدخر أي جهد من أجل تصفية تقاليدهم، وتعويض لغاتهم بلغاتنا، وتدمير ثقافاتهم دون أن نمنحهم ثقافاتنا : سوف نفسد عقولهم تبعا…»(26).
يفسد النظام الاستعماري البشر والشرط البشري للحياة. وهو يلوث روح المستعمر والمستعمر في ذات الحين. وهو يشوه تاريخ الأول والثاني ليفسح المجال أمام أبشع الصور لكل منهما. وإزاء ذلك الفساد المطلق الناجم عن النظام الاستعماري، كان رد فعل النخبة الفكرية التقدمية في العالم متمحورا حول مبدإ الرفض المطلق والنقد الجذري لذلك النظام الفاسد والمفسد والمولـّد للقهر والاستغلال والعنف كمجمل الظواهر التي اعتبرها جان بول سارتر مسؤولة عن «سجن المستعمرين» داخل نظام اضطهادي ووضعهم في رتبة الوحوش»(27). وكان إيمي سيزار قد إتبع ذات المقاربة الجذرية في التشهير بالنظام الاستعماري كمفسد للإنسان مستعمرا كان أم مستعمرا وكمبيد لحسهما المدني مما يشكل «تقهقر شامل وانحلال متمكن وورم منتشر»(28).
وبعد موجة الاستقلالات التي شملت العالم المستعمر فيما بين الخمسينات والستينات من القرن العشرين وتراجع – نسبيا – آثام النظام الاستعماري الشامل. بقي سارتر متابعا للشأن الدولي وفق نظرة نقدية متحفزة محاولا الإنتباه إلى النكسات التي عرفها تيارا لتحرّر الوطني في العالم المستعمر – قديما – وتيار العمل الثوري المعادي للرأسمالية. وقد كان سارتر من أول المثقفين الغربيين الذين أشاروا إلى ولادة وحش دولي جديد : الاستعمار الجديد. أي ذلك النظام الذي لا يحتاج إلى الهيمنة العسكرية والسياسية المباشرة على البلدان والشعوب حتى يبقيها في حالة تبعية وخضوع له ولمصالحه الحيوية. وكان سارتر قد بلور تحاليل جذرية ومناهضة للاستعمار الجديد (كأحد وجوه النظام الامبريالي العالمي)، وإن كانت جذريتها الفكرية قد أضعفت وجاهة وعقلانية نظرها السياسي كما تجلى ذلك في تقديمه لكتاب حول الفكر السياسي للزعيم الكنغولي باتريس لوممبا(29).
ومهما يكن من أمر تطور أشكال وصيغ الهيمنة الاستعمارية ونتائج سياساتها فإن سارتر بقي ملتزما بقضايا التحرر منها كما أكدته مواقفه بعد إستقلال الجزائر بمتابعته حرب الفيتنام التحررية وإمتدادها في كامل الهند الصينية (كمبوديا – لاوس) ودوره في إنعقاد محكمة روسال لجرائم الحرب في تلك المنطقة (1964)، وبمساندته للنضال ضد الميز العنصري في إفريقيا الجنوبية وتحركات الاحتجاج الشبابي والطلابي في العالم وحركة المطالبة بالحرية والديمقراطية في مختلف البلدان الشيوعية الرازخة تحت النفوذ السوفييتي : المجر (1956) وتشيكسلوفاكيا (1968) وبولونيا (1970)… مما دفعه إلى الابتعاد عن مواقف الأحزاب الشيوعية الأوروبية بعد أن قضى فترة طويلة من حياته كرفيق طريق لها…
ما من شك أن مواقف سارتر بخصوص النظام الامبريالي العالمي وقضايا التحرّر الوطني والنضال الثوري كانت تنبع من قناعات وتحاليل فلسفية وسياسية تحررية، لكن ذلك لا يلغي – بالنسبة لنا – حقيقة أن تلك العقائد والتحاليل كانت – مثل كل الفكر السارتري – نتاجا لوعي غربي (أو أوروبي) متمركز حول ذاته ولم يقارب شؤون العالم إلا من خلال وجهة نظره الخاصة…
الجزائــر :
شكلت القضية الجزائرية، بعد انطلاق الثورة (نوفمبر 1954) امتحانا بالنسبة لسارتر ولباقي المثقفين الفرنسيين حيث كان ذلك الامتحان موجها لضمير كل واحد منهم. وقد حدّد سارتر نظرته للمسألة الجزائرية على أساس عنصرين حيويين بالنسبة إليه : أولهما نظرته لمسألة ممارسة الحرية الفردية والجماعية، وثانيهما رفضه للممارسة السياسية للدولة الفرنسية التي ترفض تنفيذ قيمها الجمهورية والإنسانية في البلدان الخاضعة لسيطرتها الاستعمارية. فقد كتب سارتر في نهاية الحرب العالمية الثانية : «إننا لم نكن أبدا أحرارا بمثل ما كنا في ظل الاحتلال الألماني، لقد فقدنا كل حقوقنا، وبخاصة حق التعبير (…) كل واحد من مواطنيها (أي فرنسا) يعلم بأنه مسؤول أمام الجميع، ولكنه لا يمكن له إلا الاعتماد على نفسه. وكل واحد منهم يحقق دوره التاريخي في ظل اللامبالاة التامة. كل منهم يعمل من أجل أن يكون هو بذاته في حرية ضد المستغلين، كما يختار حرية الجميع»(30). ونستنتج من ذلك أن سارتر اعتبر أن الانحياز إلى مبدأ الالتزام بالحرية الذاتية وبالحرية لفائدة الجميع هي حرية لا تنفصل عن الذات وأن ظروف القهر والهيمنة الأجنبية لا تلغي تلك الحرية ولا تنفي ذلك الواجب من ممارسة كل فرد. وعلى أساس ذلك يمكن تمثل مقاربة سارتر لفهم الوضع الجزائري فضلا على أنه كان رافضا للمفارقة التي وسمت سياسة الدولة الفرنسية الرافضة لمبدإ إنتفاع الشعب الجزائري بمبادئ وقيم حقوق الإنسان والحرية، الأمر الذي جعلها في تناقض مع تاريخها (من ثورة 1789 إلى مقاومة النازية) وفي تعارض مع تيار التحرّر في العالم.
بدأ اهتمام سارتر بالوضع الجزائري يتنامى منذ مشاركته في «مؤتمر السلام» في هلسنكي (جوان 1955)، ثم تنوعت تحركاته ومبادراته إلى حدّ أنه أصبح هدفا لحملات التشويه والمضايقة السياسية والإدارية والإعلامية وحتى محاولات الاغتيال (تفجير شقته…). ولم يعتبر سارتر أن الأزمة في الجزائر وانفجار ثورتها الوطنية تنبع من أرضية إقتصادية كما يرجح ذلك الخطاب الاستعماري، بل أن المسألة في جوهرها سياسية ونتيجة لسياسة الاستعمار الفرنسي، وأن ردها إلى البؤس الاقتصادي والاجتماعي هو بحث عن سبل حصر معالجتها في ترتيب بعض الإصلاحات الجزئية كما هي عادة الاستعماريين حتى وإن ادعوا الميولات الإصلاحية والإنسانية. فقد لاحظ سارتر– على عكس عدد كبير من المثقفين والإعلاميين والساسة الفرنسيين – بأن المشكلة ليست اقتصادية أو سياسية فقط، بل تطوّرت وأصبحت استغلالية ووحشية حيث طبق الجيش الفرنسي أقسى وأبشع طرق وأساليب التعذيب على الشعب الجزائري»(31) والتي فضحها الكاتب الشيوعي هنري ألليغ في مؤلفه «الاستجواب» (1958) والذي حرّر سارتر مقدمة له. بل ان سارتر كتب في مؤلفه «عارنا… في الجزائر» ما يفيد وضوح رؤيته السياسية الجذرية بخصوص الوضع الجزائري : «إن حالة الجزائر الراهنة تشبه أسوأ ألوان البؤس الإقتصادية في الشرق الأقصى، ومع ذلك فيستحيل البدء بالتغييرات الإقتصادية لأن بؤس الجزائريين ويأسهم هما النتيجة المباشرة والضرورية للاستعمار، ولأنه لا يمكن إزالتها إطلاقا مادام الاستعمار قائما. وهذا ما يعلمه جميع الجزائريين الواعين، وجميعهم يقرون قول ذلك المسلم : «خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الخلف : ذلك هو الإصلاح الاستعماري»(32).
حسب سارتر، لا تختلف المسألة الجزائرية عن بقية المسائل التي أنتجها «النظام الاستعماري»، وهي لا يمكن أن تفهم أو أن تعالج فكريا وسياسيا إلا وفق مقاربة حق الشعوب في تقرير مصيرها، مثلما كان الحال في فرنسا تحت الهيمنة النازية. ولا يمكن أن يقبل الإنسان الحر لغيره، ما يرفضه لنفسه لأن القيم والمبادئ لا تتغير حسب الأصول العرقية أو الدينية، بل ان طبعها الكوني يشمل كل الناس وكل الإنسانية التي ترتقي نوعيا إذا ما كانت منتفعة بذات الحقوق. وقد إعتبر سارتر أن مساندة النضال التحرري الجزائري ضد الإستعمار هو مساهمة في الجهد لتحقيق خلاص البشرية – عامة – من مساوئ النظام الاستعماري التي أشرنا إلى بعض الجوانب منها والتي رصدها صاحب «المواقف» وهو كتب : «نحن فرنسيو المتروبول، الدرس الوحيد الذي تننتجه من المعطيات السابقة أن الاستعمار في حالة تحطيم نفسه بنفسه… ودورنا هو مساعدة الاستعمار لكي ينتحر ليس فقط في الجزائر ولكن أينما كان، إن أولئك، الذين يفكرون في التخلي هم أغبياء. لا يمكن التخلي عن شيء لا نملكه بل بالعكس يجب إنشاء علاقات جديدة مع الجزائريين بين فرنسا الحرة وجزائر متحررة»(33).
أقر سارتر بأن النظام الاستعماري هو نظام غير شرعي سياسيا وأخلاقيا مناديا بإسقاطه والانقلاب عليه بكل الوسائل والأساليب بالنظر إلى فضاعته ووحشيته الأصلية. وسارتر لم يناضل ضد الاستعمار بالكتابة فحسب، بل أنه ساهم في جميع أنواع الأعمال المساندة للنضال الوطني الجزائري المتاحة حسب الظروف السياسية والقانونية في فرنسا وحسب تراثها الديمقراطي والمناهض للإستبداد. والإستيداد هو ما اعتبره سارتر كنه النظام الاستعماري والذي وسمه بالفاشي، إذ كتب أنه يشكل «… عارنا حيث أنه يسخر من قوانيننا أو يشوهها (…) وهو يفسدنا بعنصريته (…). وهو يفرض على شبابنا الموت، رغما عنهم من اجل المبادئ النازية التي كنا نقاومها منذ عشر سنوات، وهو يحاول تعزيز قواه عبر إفراز فاشيته داخل بلادنا فرنسا. إن الأمر الوحيد الذي يمكن لنا، بل يجب علينا المبادرة به (…) هو النضال إلى جانب الجزائريين لتحريرهم وتحرير الفرنسيين من الطغيان الاستعماري»(34).
أشرنا – بما فيه الكفاية – إلى أن المسألة الجزائرية كانت بالنسبة لسارتر لحظة تعميق لفهمه لظاهرة الهيمنة الاستعمارية وفواجهها ولتعميق وعيه السياسي المناهض للامبريالية. فقد شارك سارتر في عدد لا يحصى من لجان الدفاع عن ضحايا القمع الفرنسي في الجزائر وهيئات مساندة للنضالات وللمناضلين الجزائريين ورفاقهم الفرنسيين المتعاطفين معهم والمساعدين لهم وشبكات «حملة الحقائب»، وهو مثل في عديد المحاكمات، كما أنه شارك في فعاليات الدعاية والإعلام المتعلقة بالنضال الجزائري في فرنسا وأوروبا وعدد من البلدان (أمريكا اللاتينية…). وما من شك أن القضية الجزائرية قد ساعدت سارتر على توسيع آفاق فكره وفهمه للنضام العالمي وواقعه (مثلما انتفع الوطنيون الجزائريون من مساندة الفيلسوف الفرنسي لقضيتهم). لكن سارتر تصدر بمناسبة اهتمامه بالمسألة الجزائرية إلى تحليل بعض الظواهر الجديدة في المجتمع الفرنسي وبعض الجوانب في تطور ذهنيات وأفكار وسلوكيات الإنسان من خلال الظروف الجديدة للحياة البشرية. وإذا كانت بعض المعطيات الاجتماعية والسياسية قد كشفتها الأزمة الجزائرية مثل سقوط الإعلام الفرنسي في متاهات التبرير للقمع والاضطهاد والخديعة للرأي العام(35)، فإن سارتر اعتبر ذلك وجها جديدا للمثقف (ذلك الفاعل الذي كرس له عدد من المحاضرات والأبحاث) وبعدا جديدا لممارسة الالتزام (والالتزام المضاد). ويعود سارتر بعد ذلك إلى تأثير سلوكيات الحرب على ضحاياها (المستعمرين) المحرومين من كل حماية ومن كل اعتبار ومن كل تضامن مع معاناتهم ونضالهم غير المتكافئ ضد القوى الاستعمارية، يسقطون في أتون الحرب (المقاومة) حتى الاحتراق والتشوه المعنوي والروحي وحتى يتملك بهم في النهاية وكما أوضح ذلك فرانز فافون، جنون القتل الذي يتحول لديهم إلى لا وعي جماعي(36).
بالنسبة لسارتر، تنتج السياسات الاستعمارية والحروب التي تفرزها وتقودها ضد حركات التحرّر الوطني في بلدان العالم الثالث أوضاعا وظواهر وتيارات تؤكد تصدعا حضاريا في العالم الغربي بل أنه يتحدث عن «انهيار حضاري» ينخر أسس بنائه الثقافي ويجعله لا يعرف كيف يتقدّم أو يتراجع عن سياساته المناقضة للجانب التحرري من تراثه ولا يعرف كيف ينهي الرعب الذي يفسد ضميره وخطابه السياسي والأخلاقي المزدوج. وقد زاد الوعي الذي حصل لدى سارتر من تصلب مواقفه من الحكومة الفرنسية فيما يتعلق بسياستها في المستعمرات، كذلك وجد سارتر نفسه في حلبة المساندة للوطنيين المغاربة والتونسيين والهند – صينيين والأفارقة مما جعل منه قطبا فكريا وسياسيا في فرنسا وأحد مكوّنات مشهد الحياة العامة فيها. وقد تجاوز ذلك الوضع مرحلة مقاومة الاستعمار وصولا إلى الصراعات السياسية والاجتماعية والإيديولوجية خلال السنوات الستين (خاصة أثناء وبعد الانتفاضة الطلابية في ماي 1968) والسبعين بما في ذلك تجربة مساندته للحركة الماوية «اليسار البروليتاري» و»قضية الشعب» ولبداية جريدة «ليباراسيون».
وقد ركز سارتر على أساس تحليله للسياسة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر وانعكاساتها على الرصيد الحضاري التقدمي في بلاده، على مسألة التعذيب الممنهج والذي مورس ضد الوطنيين والمقاومين للحضور الكولونيالي الفرنسي في الجزائر. وهو أعطى لمسألة التعذيب أهمية قصوى تتعدّى المستوى السياسي ومقتضياته الأمنية ليجعل منها مسألة قيمية وأخلاقية تسائل الروح الفرنسية وتراث الشعب الفرنسي وضمير الإنسان في فرنسا. وقد كان سارتر قد فكر طويلا في موضوع التعذيب الذي عرفه التاريخ الفرنسي بفزع مدمر أثناء الاحتلال النازي، وهو جعل منه مادّة روايته المسرحية : «موتى بلا قبور» (1949) وواجهه لاحقا في الواقع الجزائري وكتب عنه ثانية بمناسبة ما وقع لهنري ألليغ صاحب كتاب «الاستجواب» الذي كان «أول من بلـّغ الرأي العام الفرنسي والعالمي عن طرق التعذيب المفروضة على الشعب الجزائري منذ نوفمبر 1954»(37).
إن التعذيب الذي كان – بالنسبة لسارتر ولسائر الفرنسيين – ممارسة نازيّة واستبداديّة، يصبح عملا فرنسيا ويقلب الضحية إلى جاني ويطمس الحق والقيم التي قاوم من أجلها الفرنسيون «إن الفرنسيون يكتشفون في غمرة دهشتهم هذه الحقيقة الهائلة : إذ لم يكن هناك ما يحمي أمة ضد نفسها، لا ماضيها، ولا أمانتها ولا قوانينها الخاصة، وإذا كانت خمس عشرة سنة كافية لتحويل الضحايا إلى جلادين، فذلك لأن الظرف هو وحده الذي يقرره : فحسب الظروف يستطيع أي كان وفي الوقت نفسه، أن يصبح ضحية أو جلادا»(38).
فضح سارتر سياسة ممارسة التعذيب وحمّل فرنسا المسؤولية الأخلاقية في ذلك، لكنه حاول بذات المناسبة مساءلة المجموعة الوطنية الفرنسية عن مسؤوليتها الجماعية في ذلك وفق أفكاره وفلسفته المتمحورة حول الحرية والالتزام بتحقيقها. وقد شكلت مسألة التعذيب، بالنسبة لسارتر مناسبة للخوض في تحليل الشرط الإنساني التي شكلت حيزا مهما في مدونته الفلسفية ولتعميق النظر في ماهية الإنسان : «أما في التعذيب، هذه المباراة الغربية، فإنما يقيس الجلاد نفسه بالضحية من أجل صفة الإنسان، وكل شيء يحدث كما لو أنهما ينتميان معا إلى الجنس البشري، إن هدف الاستجواب لا يقتصر على إجبار الضحية على الكلام وعلى الخيانة : بل على الضحية أن تشير إلى نفسها بالصراخ والخضوع على أنها بهيمة بشرية، في عيون الجميع وفي عينيها بالذات. يجب على خيانتها أن تحطمها وتخلص المجتمع منها على الأبد. وأن من يستسلم للاستجواب لا يراد فقط قسره على الكلام، وإنما هو قد دمغ إلى الأبد بصفة كونه : أقل من إنسان»(39).
إن قائمة أسئلة سارتر المتعلقة بممارسة التعذيب طويلة ومربكة لأنها تحيل إلى المناطق الغامضة في النفس البشرية. وإلى اللامعقول في علاقات البشر وإلى درجة «إنسانية» الإنسان أحيانا. وقد كان سارتر قد تطرق إلى تلك الهواجس في مسرحياته مثل «موتى بلا قبور» وفي قصصه مثل «الحائط»… وحاول سارتر أن يفهم هل أن من يمارس التعذيب يبقى إنسانا عاديا أم لا ؟ وهل أن من يقع تعذيبه يحافظ على إنسانيته وهو في وضع التعذيب ؟ وهل أن المؤسسة التي ترعى التعذيب وتمنهجه تبقى جزء من دولة مؤسسات أم أنها تحيل إلى واقع آخر… ؟
كما تساءل سارتر عن طبيعة الأوضاع وموازين القوى التي تقود إلى «ضرورة» التعذيب وعن السياسات التي تنتج التعذيب كوسيلة لإنجازها… هل كل ذلك ممكن أن يحصل بعد الحرب العالمية الثانية وبعد أن عرفت البشرية بشاعة الدكتاتورية وبعد أن تبنت الإنسانية إعلانا عالميا لحقوق الإنسان… ليخلص إلى الإقرار : «لقد فرض التعذيب نفسه تلقائيا، وقد أصبح «روتينيا» قبل أن يلاحظ الناس ذلك، غير أن الحقد البشري الذي يتمثل فيه إنـّما يعبّر عن العنصرية لأنه إنما يراد تهديم الإنسان نفسه بكل صفاته الإنسانية : الشجاعة والإرادة والذكاء والأمانة، الصفات نفسها التي يطالب بها المستعمر. ولكن إذا استخف الغضب بالأوروبي إلى درجة أن يحتقر صورته نفسها، فذلك لأن عربيا قد عكس هذه الصورة»(40).
عندما كتب سارتر أثناء الحرب العالمية الثانية مؤلفه «الوجود والعدم» اعتبر أن العنف هو من العوامل السلبية في السلوك البشري اجتماعيا وخاصة على الصعيد السياسي، لكنه أدرك – عبر الممارسة المباشرة وغير المباشرة – وبخاصة أثناء المقاومة الفرنسية للاحتلال النازي ثم عبر ممارسات حركات التحرّر الوطني ضد الاستعمار أن العنف هو من مكونات الثورة وأن العنف يمكن أن يكون وسيلة دفاع عن الإنسان وعن حريته. وضمن كتاب «الوجود والعدم» تناول سارتر مسألة الاضطهاد كمولـّد للعنف لدى المضطهدين والمعذبين في الأرض الذين لم يخرجوا من وضعية الجماعة المضطهدة إلى فضاء الحرية عبر الوعي فحسب بل انهم منقادون إلى الانتماء إلى كيان الجماعة عبر ممارسة الوسائل التي تحررهم بما في ذلك ممارسة العنف في سياق التغيير الاجتماعي المتمحور حول الصراع الطبقي الذي هم طرف فيه لا محالة. وقد أكد سارتر رأيه في خصوص المضطهدين : «… ولهم وبهم تنكشف هوية حالي وحال المضطهدين الآخرين، وبالنسبة إليهم أوجد في موقف منظم مع آخرين، وممكناتي بوصفها ممكنات – مدينة تتساوى تماما مع ممكنات الآخرين. وبمعنى هذا أنني أكتشف «نحن» الدلالة على الإنسانية المعذبة»(41).
يتجلى ممّا قد ذكرنا حرص سارتر على تجذير فكره في مسألة ربط إنسانية الإنسان بوعيه بضرورة حريته وصولا إلى حتميتها في الواقع لذلك جاء في «الوجود والعدم» تأكيده على أن الوعي التاريخي لدى الإنسان هو الوعي بحقيقة معطيات حياته الملموسة والواقعية، كما أنه اعتبر ان الأخلاق هي قاعدة السلوك الإنساني الأمثل مؤكدا في نهاية مؤلفه أنه سوف يحرر كتابا في «علم الأخلاق» التي يجب أن تحدّد السلوك الإنساني. لكن سارتر لم ينجز عمله فكريا لكنه حاول عبر ممارسته ومواقفه في سياق مناهضته للاستعمارا لفرنسي في الجزائر أن يبلور ذلك السلوك ويحققه وفق نظرته التي بلورها في مؤلفه «نقد العقل الجدلي» والذي إعتبر فيه أن «… العنف الوحيد الذي يمكن تصوره هو المتمثل في الحرية ضد الحرية التي تكون من قبل وساطة مصطنعة لشيء»(42).
تفاعل سارتر مع التاريخ الحي الذي كان يعيشه كمادة فلسفية كما أنه جعل من الفلسفة سراجا لفهم التاريخ الذي يتطور أمامه. فهو كان مشدودا إلى تحليل وفهم ونقد الاضطهاد كممارسة اجتماعية وسياسية وعرقية والعنف الذي يولد الاضطهاد والحرية التي تنفي هذا وذاك. وقد إعتبر سارتر أن الخوف هو قاتل الحرية والإنسانية لأن الخوف هو المناخ والفراغ الذي يسده الاستبداد، وهو السم القاتل للالتزام والنضال : «… إن اللاإنساني لا يوجد في أي مكان، إلا في الكوابيس التي يولـّدها الخوف»(43).
أذاب سلوك سارتر ومواقفه من الثورة الوطنية الجزائرية خوف عدد هائل من المثقفين الفرنسيين أو على الأقل ساعدهم على ذلك، وهو جر في التيار الذي انساق إليه أسماء مهمة مثل موريس ميرلوبونتي، وبيار فيدال ناكي، وجان بيار فارنان ومكسيم رودنسون، وسيمون دي بوفوار وغيرهم… بل ان تأثيره تجاوز حدود المثقفين اليساريين وحتى الشيوعيين الذين عرف سارتر مع حزبهم بعض التصدّع في علاقته به منذ منتصف الخمسينات فضلا على مناهضته لسياسة الاشتراكيين (حكومة غي مولي) في خصوص الجزائر وفي باقي المستعمرات. كان إلتزام سارتر بالقضية الجزائرية التزاما مبدئيّا وشجاعا وهو جاب العالم للتعريف بها (في البرازيل وكوبا) واقترب من آراء فيدال كاسترو بخصوص الوضع الدولي.
القضية الفلسطينية
إذا كانت مواقف سارتر إزاء مسألة الاستعمار على الصعيدين المبدئي والسياسي واضحة وجذرية كما جسدها فيما يخصّ القضيتين الجزائرية والفيتنامية فإن تفاعله مع المسألة الفلسطينية والاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين يتميز بقدر هام من الالتباس والتردّد لا يتجانس مع صورة الفيلسوف الرافض للاستعمار والقهر الاستبدادي التي برز فيها سارتر منذ منتصف الخمسينات من القرن العشرين.
تعود أصول عائلة سارتر إلى اليهودية لكنها بدلت ديانتها في مرحلة ما (مثل عائلة كارل ماركس)، لكن سارتر كان ملحدا ونحن نجزم أن أصول عائلته لا تأثير فيها عليه فيما يخص مواقفه من المسألة الفلسطينية التي اتسمت بالتردّد بين مقاربتين متضاربتين من ناحية وبغموض في الرؤيا العامة لها كما سوف ندقق ذلك لاحقا.
لم يتناول جان بول سارتر بالتحليل أو التعليق الأحداث التي رافقت اتساع رقعة الاستعمار الإستيطاني الصهيوني لفلسطين وارتفاع نسق اغتصاب حقوق وحريات العرب الفلسطينيين، وذلك إلى حدّ سنة 1967، بل أنه كان بعيدا عن الشأن العربي عموما (باستثناء الحالة الجزائرية التي كانت بدورها، شأنا فرنسيا) وذلك رغم ما أشرنا إليه من مناهضته للنظام الاستعماري العالمي الذي كانت أغلب البلدان العربية ضحية له بدرجة من الدرجات وقد كان سارتر قد زار مصر قبيل حرب 1967 وتحادث مع عبد الناصر وزار منطقة قطاع غزة(44) ثم أصدر مباشرة بعد ذلك مقدمة لعدد خاص لمجلة «الأزمنة الحديثة» حول الصراع العربي الإسرائيلي(45) حدّد فيه الإطار العام لنظرته للأزمة. أكد سارتر أن مسألة الصراع «العربي الإسرائيلي»… لم تعد تحتمل «الحياد» أو «الغياب» الذي ساد على موقف المثقفين في الغرب لأن تلك الأزمة ليست (حسب عبارة شكسبير التي يستحضرها سارتر) «حكاية مثقلة بالصخب والعنف يرويها مجنون…» بل أنها تعرف في تطورها ضرورة جدلية يمكن أن تقود إلى حلول لو تمّ البحث عنها. لكن سارتر لم يقترح حلا سوى الحوار بين أطراف النزاع. وهو لم يحسم الأمر المتعلق بطبيعة الوجود الصهيوني في فلسطين : هل هو إستعمار أم لا؟ كما أنه لم يحسم أمر حقوق الفلسطينيين : هل هو حق في تقرير المصير والاستقلال والحرية أم لا ؟ وان إستعمل سارتر في نصّ مقدّمته مفردة «الحياد» مرات عديدة فإن السمة الرئيسية لموقفه هو التردد وعدم الحسم. وقد تجسد ذلك الموقف المزدوج في نصّ عريضة «نداء المثقفين الفرنسيين من أجل السام» التي تزعمها سارتر (30/5/1967) (46) والتي أكدوا فيها «الصداقة مع الشعوب العربية» و«المناهضة للامبريالية الأمريكية» ومساندتهم «لسيادة وأمن إسرائيل بما في ذلك حقها في الإبحار الحر في المياه الإقليمية…» لكن ذلك النداء شكل صدمة لأصدقاء العرب في صفوف النخبة الفرنسية ولدى المثقفين العرب»(47) لأن العريضة لم تكن متوازنة بل أنها كانت إعلانا واضحا لمساندة إسرائيل.
وقد بقيت نظرة سارتر للمسألة الفلسطينية (1967) مسألة إقتصادية وإجتماعية متلخصة في الفقر الذي عاينه في مجتمعات اللاجئين في غزة(48)، أما على الصعيد السياسي فهو كان مهتما في المقام الأول بضمان أمن ووجود إسرائيل. وقد كان سارتر – إبان الثورة الجزائرية – يرفض فهم السياسة الاستعمارية وفق نظرة اقتصادية واجتماعية بل أن الجانب السياسي كان هو الجوهر فيها لكن سارتر – وفي كل ما كتبه وما صرّح به في خصوص «الصراع العربي – الإسرائيلي» لم يتناول إسرائيل كظاهرة استعمارية»(49) وسياستها كاستعمار عنصري وتوسعي… وقد إعتبر سارتر دون تحليل الأسباب التاريخية والسياسية المباشرة لانفجار الصراع في منطقة الشرق الأوسط أن العرب هو المعتدون في حرب 1948، وأن إسرائيل هي المسؤولة عن عدوان 1956 50 وأنها أصبحت مهدّدة من قبل العرب بعد ذلك (1967) لذلك وجب منح المساندة إليها لضمان أمنها وإستقرار المنطقة دون إعتبار أن الاستعمار والأستيطان الصهيوني هو أصل الأزمة فيها.
إعتبر سارتر أن الحل في الأزمة الجزائرية يكمن في منح الجزائريين حريتهم وحقهم في تقرير مصيرهم، أما فيما يخصّ المسألة الفلسطينية فإن سارتر إكتفى بالمطالبة بالاعتدال والحوار. فهو أسس نداءه على اعتبار أن «صراع إسرائيل مع العالم العربي يتضمن – إن لم يكن ذلك راهنا فمستقبلا» – حلولا عبر التفاوض. وأن الحرب – خاصة الحرب «المقدسة» – التي هي قابلة للتحوّل إلى حرب عالمية تكشف منذ البداية ومنذ الطلقة النارية الأولى – وذلك يصدم النظر لمن يريد أن يرى – عجزها المبدئي على توفير أي حل»(51).
قد يتبادر للذهن أن مقاربة سارتر لمسألة «الصراع العربي الإسرائيلي» تنهل من نظرة إنسانوية ومعتدلة ترفض منطق الحرب. لكن ذلك الفهم لا يفي بإلحاحه علميا لأنه يضمر في كامنه موطنين لضعف منهجي.
أولا : يقتصر سارتر في تحليله للأزمة على مفهوم «الصراع العربي الإسرائيلي» دون إعتبار وجود مستقل للمسألة الوطنية الفلسطينية التي أنتجها واقع الإستعمار البريطاني ثم الإستعمار الاستيطاني الصهيوني. كما أن سارتر لا يتجرأ – منهجيا – على طرح مسألة طبيعة ودور الكيان الصهيوني محل الدرس والتحليل بطرح الأسئلة المشروعة علميا وتاريخيا وسياسيا : هل أن الصهيونية هي الحل الطبيعي «للمسألة اليهودية» ؟ هل أن إسرائيل كيان استعماري أم دولة وطنية (يهودية)؟ هل أن جوهر الصراع في منطقة الشرق الأوسط هو مسألة حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم وعودتهم لأرضهم أم هو متعلق بمقتضيات أمن دولة إسرائيل ؟….
كل تلك الأسئلة لم تعرف جوابا لدى سارتر، بل أنه أضاف في ذات النص القصير المتردّد فقرة نعتبرها ملخصا مكثفا لحقيقة وجهة نظره وهي تتضمّن بوحا بالحدود التي لا يمكن لسارتر أن يتجاوزها فيما يخصّ «الصراع العربي الإسرائيلي» فقد كتب سارتر : «أريد أن أذكر فقط أن هناك، عند الكثيرين منا، هذا العزم العاطفي، وليس هو سمة بقدر ما هو نتاج التأثير العام للظروف التاريخية والموضوعية التي لا يبدو أننا سننساها قريبا ولذلك نحن حساسون إزاء كل ما يمكن أن يشبه، من قريب أو من بعيد، العداء للسامية. وهذا ما يجيب عليه عدد من العرب القول : «لسنا معادين للسامية بل للإسرائيليين» وهم على الأرجح على حق : لكن هل يمكنهم أن يمنعوننا ان ننظر لهؤلاء الإسرائيليين على أنهم يهود أيضا»(52).
تلخص هذه الفقرة كل نظرة سارتر للمسألة. وهي تتكوّن من العناصر التالية :
– مناهضة إسرائيل هي معادة للسامية.
– إرث الوعي التاريخي الأوروبي تمنع قيام معارضة لسياسة إسرائيل ومعاضدة خصومها.
لقد لامس سارتر في نصه المذكور الحدود القصوى التي يمكن أن يصل إليها دون تجاوزها مثلما فعل ذلك بخصوص القضية الجزائرية. وقد كان إدوارد سعيد قد أشار التردّد الذي يميز مواقف سارتر إزاء القضية الفلسطينية وإنحيازه – في نهاية التحليل – إلى الموقف الإسرائيلي(53).
فقد شارك سعيد في ندوة نظمتها مجلة «الأزمنة الحديثة» حول أزمة الشرق الأوسط سنة 1978. وحيث كانت مساهمة ساتر في فعاليات تلك الندوة باهتة (مثل مساهمته في 1967) ومتردّدة ومنحازة إلى إسرائيل. ونلاحظ هنا أهميّة الإشارات التي تضمّنها التقييم (والحسرة) الذي صاغه إدوارد سعيد لموقف ساتر ومعطياته الخاصة حيث كتب سعيد : «كان لسارتر شيء ما يقدمه إلينا… وفيه بشكل أساسي (…) لجوء إلى أسوأ الأفكار السطحية من أجل إمتداح شجاعة أنور السادات…
ولا أذكر كثيرا من الكلمات للحديث عن الفلسطينيين أو عن ماضيهم المأساوي أو عن أراضيهم المحتلة. ولم يكن هناك، وهذا شيء مؤكد، أي ذكر للناحية الاستعمارية للوجود الإسرائيلي، المماثل في كثير من نواحيه للممارسات الفرنسية في الجزائر»(54).
صعق إدوارد سعيد وخاب أمله في المثقف الذي كان يرمز بالنسبة إليه، كما بالنسبة لعدد لا يحصى من المثقفين العرب وغير العرب إلى الشجاعة والزعامة الفكرية والروحية المدافعة عن قيم الحرية والعدل. ولفت سعيد النظر إلى تأثير بيار فيكتور (بيني ليفي(55) على سارتر في آخر فترة من حياته. وهي ملاحظة شديدة الأهمية كما سوف نبيّن ذلك.
لم يكن سارتر مطلعا على الثقافة والحضارة العربية كما أنه لم يكن مطلعا على الواقع العربي (باستثناء الواقع الاستعماري في الجزائر). فهو (أي سارتر) نتاج محض للثقافة الغربية بمختلف أبعادها وأطوارها. وبالتالي فهو حلل الواقع العربي من وجه نظر الثقافة والواقع الغربيين (نذكر كيف كان يقول أن تحرير الجزائريين هو تحرير للفرنسيين وفرنسا بالذات…) لكن، يبدو أن سارتر كان يعتبر أن إسرائيل جزء من ثقافة وواقع العالم الغربي، وذلك ما شكل لديه أرضية الانزلاق إلى تبني معايير مزدوجة لتحليل الواقع الاستعماري الصهيوني. فسارتر الذي ناهض الاستعمار والاستيطان والاضطهاد والاستغلال والتعذيب الفرنسي في الجزائر، والأمريكي في فيتنام لا يسعى إلى تبني ذات الموقف بخصوص كل الممارسات الإسرائيلية، إزاء العرب والفلسطينيين والحال أنها ذات الممارسات وذات السياسة.
لم يكن سارتر يعتبر أن إسرائيل كيان استعماري. ذلك هو جوهر موقفه وذلك هو منطلق أخطائه التحليلية والسياسية في المسألة بالرغم من أنه حافظ على هواجسه الإنسانوية المبثوثة في بعض آرائه والتي قادته إلى الاعتناء بشعار إقتسام أرض فلسطين بين العرب والصهاينة وإهتمامه بمقترحات الرئيس التونسي بورقيبة في 1965 المطالبة بالعودة إلى حلّ الدولتين على أساس تقسيم 1948 وبمبادرة أنور السادات (1978).
ثانيا : نظر سارتر إلى المسألة الفلسطينية كثمن لحل المسألة اليهودية التي سكنت ضميره ووجدانه وخصص لها كتابا «تأملات في المسألة اليهودية» (1946)، وهو كتاب جاء ليتفاعل مع الإرث الثقافي للوسط الذي عاش فيه سارتر من ناحية ومما خلفته الحرب العالمية الثانية وجرائم النازية من مخلفات في الوعي الغربي عموما فيما يتعلق باليهود واليهودية. وكتاب سارتر حول المسألة اليهودية كتاب سطحي مقارنة بما كتبه ماركس أو إبراهم ليون في ذات الموضوع لأنه لا يعالج جذور المسألة التاريخية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية كما حاول ذلك بعض دارسيها. أما سارتر فهو اقتصر في تحليله المسألة اليهودية على الجانب السلوكي في وعي اليهود والوعي باليهود وجانب الوعي في سلوك اليهود وفي السلوك إزاء اليهود… وحاول سارتر عبر المقاربة الانتروبولوجية التي اختارها سارتر أن يقدم تقييما تاريخيا يبرز المكوّنات الأصلية للهويّة الشخصية والجماعية لليهود. لكن إستنتاجات سارتر تفضح تردده أو إزدواجية نظرته للقضايا السياسية التي أنتجتها الصهيونية والاستعمار الإسرائيلي : «في كل أعماله، يكون اليهودي الأصيل مسكونا بالوعي بأنه يهودي»(56).
لم يتناول سارتر بالدرس المسألة اليهودية وامتدادات تأثيرها في المجال السياسي لذلك نحن لا نجد فيما كتبه حول الموضوع قاعدة لنظرته فيما يخص الصراع العربي الإسرائيلي وإن كان سارتر قد فتح المجال لإبراز تعنـّت العقلية اليهودية وتشبثها بما تراه في صميم مصالحها : «إذ فكر اليهود وصارع خصمه، فإن ذلك لإنجاز، منذ البدء، وحدة الأفكار : فهو يروم قبل كل حوار، الاتفاق على المبادئ التي ينطلق منها. وبواسطة ذلك الاتفاق، فهو يقترح بناء نظام بشري مؤسس على شمولية الطبيعة الإنسانية»(57).
لكن المقاربة التحليلية للشخصية اليهودية التي اعتمدها سارتر تقود إلى إستنتاج هزيل مفادها أن اليهودي، في نهاية التحليل، هو الذي ينظر إليه كيهودي من قبل الغير (الآخر). وذلك ما انتقده ريمون آرون وإن كان يشاطره رأيه الفلسفي القائل أن معاداة السامية شغف عدواني لا يمكن له أن يؤسس قيما أخلاقية «كذاك يكون معادي السامية نخبة الرداءة». لكن ريمون آرون ذهب إلى أن سارتر قد أخطأ في إعتباره أن اليهودي موجود بسبب نظر الآخر إليه لأنه اليهودي (حسب آرون) موجود في حدّ ذاته (وربما من أجل ذاته) دون إعتبار نظر الآخر إليه. ويضيف أرون في مذكراته (58) أن سارتر اقتصر في كتاب «تأملات في المسألة اليهودية «على صورة نمطية للمعادي للسامية كما يتجلى في الحياة اليومية والحال (حسب آرون) أن هناك عددا لا يحصى للنماذج من معاداة السامية. وفي نهاية التحليل، فإن كتاب سارتر كان في المقام الأول تفكير في دوافع وسلوك خصم اليهودي : أي معادي السامية. أما بالنسبة إلى ريمون آرون – وخاصة في كتابه «ديجول، إسرائيل واليهود»(59). فالقضية المركزية لديه كانت الدفاع عن إسرائيل.
وقد يكون الفرق بين سارتر وآرون يكمن في ارتباطات كل منهما على الصعيد السياسي. فالأول ينتمي لليسار… والثاني استقرّ في أوساط اليمين. لكن ذلك التشخيص لا يعكس الحقيقة حيث أن سارتر تحمس كثيرا لإعلان قيام دولة إسرائيل خلال سنتي 1947 و1948 مما دفعه إلى الانتماء إلى «الرابطة الفرنسية من أجل فلسطين الحرة «التي أسسها بعض قادة الإرغون (الصهيونية المتطرفة) والتي جمعت ثلة من كبار المثقفين الفرنسيين مثل سارتر، سيمون دي بوفوار، فاركور، إيمانويل مونيي، إدغار فور، بول كلوديل، ريمون آرون، لويس جوفي… ولم يتوان سارتر إثر ذلك في الاحتفاظ بعلاقاته مع الأوساط الصهيونية المتطرفة مثل دفاعه عن روبرت ميسراحي (أحد تلاميذه، وصاحب مؤلف نقدي لتحاليل كارل ماركس للمسالة اليهودية) الذي كان ينتمي لجماعة «ستارن» (الصهيونية المتطرفة). وكان تصريح سارتر في محاكمة روبرت ميسرحي (سنة 1948) (بسبب حوزته متفجرات…) : «اعتبر أن واجب غير اليهود هو مساعدة اليهود والقضية الفلسطينية» (يعني يهود فلسطين…)(60).
واصل سارتر اصطفافه في معسكر أنصار إسرائيل ونشاط الشبكات الصهيونية في أوروبا، وإن كان يضفي على موقفه بعدا قيميا ومعنويا شامل مثل قوله: «لقد كنت دائما أتمنى ومازلت أتمنى أن ينجز حل نهائي للمسألة اليهودية في إطار إنساني دون حدود، وذلك لأنه لا يمكن لأي تطور إجتماعي أن يتجنب مرحلة الاستقلال الوطني. يجب الامتنان لما جاءت تحققه الدولة الإسرائيلية من آمال وكفاحات يهود كل العالم»(61) مضيفا أن قيام إسرائيل يجب أن يعتبر «كأحد أهم الأحداث في عصرنا، تلك الأحداث القلائل التي تسمح بالاحتفاظ بالأمل»(62).
استبطن سارتر الايديولوجية، المهيمنة في العالم الغربي إثر الحرب العالمية الثانية والتي وضعت وفق مسارات مختلفة اليهودي في خانة الضحية الأبدية التي تستوجب الرعاية والحماية وذلك على أساس تمشي فكري مبسط : مساندة إسرائيل كجبر لما لحق لليهود من أضرار تحت حكم النازية وأثناء الحرب العالمية الثانية، حق اليهود في حل لوضعهم المشتت في العالم عبر إقامة دولة خاصة بهم (حتى وإن كانت على أرض غيرهم)، مساندة الصهيونية كإمتداد للصراع ضد النازية، واعتبار مناهضة الصهيونية إمتدادا للمعاداة للسامية واليهود(63). بطبيعة الحال عززت بعض الاعتبارات الاستراتيجية المرتبطة بطبيعة العلاقات الدولية الناجمة عن الحرب العالمية الثانية (الحرب الباردة ومقاومة الشيوعية…) الرأي السائد في الغرب شعوبا ونخبا.
إستقر سارتر في موقفه المساند لإسرائيل دون التخلي عن مطالبته بتحسين ظروف حياة اللاجئين الفلسطينيين معتبرا في 1967 أن إسرائيل «مهددة بالإبادة» وأن المطالبة بجعل منطقة الشرق الأوسط منزوعة من السلاح (مقترح الجنرال ديجول في 1967) خطر على سلامة إسرائيل، كما أنه إعتبر حرب أكتوبر 1973 عدوانا ضد إسرائيل. كل ذلك لا يلغي أن سارتر إقتنع بأن الأراضي المحتلة من قبل إسرائيل في حرب 1967 يجب أن تعاد إلى العرب وأن تقام دولة للفلسطينيين إلى جانب إسرائيل حتى تتمكن هذه الأخيرة من العيش بسلام مع جوارها الجغرافي.
يمكن حوصلة نظرة سارتر للمسألة اليهودية في مثلث يكون ضلعه الأول مفهومه الفينومولوجي لمعاداة السامية الذي بلوره في مؤلفه «تأملات في المسألة اليهودية»، أما الضلع الثاني فهو مكون من مجموع مواقفه السياسية المترددة والهشة (من وجهة نظر عربية…) بخصوص مختلف الأحداث المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي، ويبقى الضلع الثالث وهو ما حصل له من تطور فكري في آخر حياته بتأثير من كاتبه بيار فيكتور. وكان إدوارد سعيد قد أشار إلى أهمية الدور الذي لعبه بيار فيكتور في آخر حياة سارتر والذي تحول لديه من سكرتير إلى مرافق ثم إلى «ولي أمر» فكري وسياسي. وكان ليفي تحت تأثير فكري شبه مطلق للفيلسوف اليهودي إيمانويل ليفيناس وهو أحدث إنقلابا في نهاية حياة سارتر (حيث أصبح صاحب «الوجود والعدم»، معزولا عن محيطه وشبه أعمى وتحت «رقابة» (أو مساعدة) بيني ليفي الذي فاجأ وأزعج كل أصدقاء وأنصار وخصوم سارتر في مطلع 1980 حين أصدر، رغم معارضة سيمون دي بوفوار(64) حوارا أجراه مع جان بول سارتر يبيّن أن هذا الأخير قد اكتشف – في نهاية حياته – الفكر الديني اليهودي وأنه أقرّ آنذاك بأن الإيتقيا (القيم الأخلاقية) لا يمكن أن تستقيم دون التبشير بالآخرة.
يقدم الحوار(65) صورة مختلفة لسارتر غير الصورة المعروفة لفيلسوف حر وعقلاني وغير ديني (ملحد)وملتزم بقضايا الحرية وفق منهجه الوجودي ومهووس بالحوار مع الفلسفة الماركسية ومنخرط في التيار الفكري والسياسي الداعي إلى الثورة ضد النظام الإمبريالي وضد الاقتصاد الرأسمالي.
من أقوال سارتر ضمن ذلك الحوار :
– «كانت فكرة الآخرة بالنسبة لي فكرة خالية من المعنى (…) وإذا أصبحت لها دلالة ثرية بالنسبة لي، اليوم، فالفضل يعود في ذلك إلى حواراتي معك…».
– «كان من المفروض أن نعتقد أن التاريخ يمكن أن يكون مغايرا إذا أردنا أن نقول أن هناك تاريخ يهودي، كان حري بنا ان نتمثل التاريخ اليهودي كتاريخ تشتيت اليهود عبر العالم، بل كوحدة ذلك الشتات، وحدة اليهود المتشردين…»
– «… بالتأكيد، إن فلسفة التاريخ تتغير إذا ما اعتمدنا وجود تاريخا يهوديا أم لا. والحال أن هناك تاريخ يهودي. ذلك أمر بديهي (…) لأن ذلك يؤكد وجود وحدة حقيقية لليهود خلال الزمن التاريخي، وتلك الوحدة الحقيقية لم تكن نتيجة الاجتماع على أرض تاريخية، بل نتيجة أفعال وكتابات وروابط لا تمرّ عبر فكرة الوطن، أو تلك التي تمرّ عبره منذ سنوات قليلة…»
-»المهمّ أن اليهودي عاش ويعيش ميتافيزقيا (…) وذلك الطابع الميتافيزيقي ناجم عن الديانة (…) وذلك يعني أن لليهودي مصير (…) أن النهاية عند اليهودي هي بداية الوجود للإنسان من اجل الآخرين. هي نهاية أخلاقية او بالأحرى درس أخلاقي. يرى اليهودي أن نهاية العالم وقيام الآخرة، هو ظهور الوجود القيمي للبشر بعضهم من أجل بعضهم الآخر (…) وبالنسبة لي أرى أن التبشير بالخلاص هو مسألة هامة بالنسبة لليهود الذين فكروا فيها بشكل منفرد وخاص يمكن أن يوظفه غير اليهود لأغراض أخرى… يجب أن تبقى الحالة اليهودية في الثورة (في تيار الثورة العالمية…) ويجب أن تمنح لها قوة الأخلاق… ».
يستغرب قارئ هذا الحوار الطويل من تبحر سارتر – على غير عادته – في القضايا الفقهية التي لم تظهر إطلاقا في مدونته الفلسفية والأدبية على تنوّع مواضيعها وتيماتها. كما يظهر مضمون ذلك الحوار إنسياق ساتر في الاقتراب من القراءة الدينية (اليهودية) للتاريخ عموما وقطيعته مع فلسفة التاريخ الهيغلية ومناقشة الماركسية لها التي كان سارتر يتبناها بشكل مجمل وخاص. ونحن لا نعرف نصوصا متأخرة لسارتر تتناول مسألة فلسفة التاريخ وحقيقة التطورات الفكرية التي عصفت به في آخر حياته وإن جاءت بعض مواقفه وتصريحاته بخصوص محاكمة المجموعة الألمانية اليسارية (مجموعة بادر ماينهون) خاصة بمناسبة زيارته لبادر في سجنه وبمناسبة موته بعد ذلك، وبمناسبة مشاركته إلى جانب أندري كلوعسمان وبرنارد هنري ليفي وريمون آرون في تنظيم عمليات الإنقاذ البحري (بوت بيبل) للهاربين من فيتنام وكمبوديا واللاوس (1979)، وتعمق قطيعته مع الحركة الشيوعية (السوفياتية)، كل تلك العوامل تؤكد عمق المراجعات التي قام بها سارتر لأفكاره السياسية والفلسفية. وقد أكد برنارد هنري ليفي (الفيلسوف الفرنسي المناصر للصهيونية) أن سارتر ورغم كل التطورات الفكرية التي حصلت له لم يتراجع أبدا عن مناصرة إسرائيل ومساندتها. وذلك رأي صحيح وإن أكد ميشال أنفري في دراسته عن الفكر الفلسفي لألبار كامو 66 أن سارتر – على عكس صاحب «الغريب» و»الطاعون» – قد تعامل مع السلطات الفرنسية المتواطئة مع الاحتلال النازي لفرنسا. ومهما كانت وجاهة تقييمات وصحّة معلومات معاصري سارتر، خصوما له كانوا أم أنصارا، فإن مسيرته الفكرية والسياسية تؤكد أنه لم يقطع مع الفكرة البسيطة والمهيمنة في أوساط النخبة (وحتى الأوساط الشعبية) في أوروبا الغربية والمتعلقة بضرورة مساندة إسرائيل في مختلف جوانب سياستها إزاء العرب كشكل من أشكال جبر الأضرار التي حصلت لليهود من جراء معاداة السامية لمدّة قرون في أوروبا ومن جرّاء فظائع السياسة النازية إزاءهم، حتى وإن كان ذلك على حساب العرب الذين لا يتحملون أية مسؤولية في كل ذلك.
لم يقطع سارتر، رغم تجذره في المنظومة الإيديولوجية لليسار الفرنسي، مع تلك الفكرة البسيطة والمهيمنة التي ذكرنا. بل أن أساس تكوينه الذهني والحضاري يجعل منه نتاجا فكريا متمركزا حول الذات الثقافية الغربية، وهو لم ينفتح ثقافيا فكريا على تراث وإبداع العرب والمسلمين ولم يقترب من قضاياهم وهواجسهم أو بالأحرى لم ينخرط فيها أو يشارك في مخاضاتها. أما الثقافة اليهودية – فهي جزء من الذات الثقافية الغربية وعقلها التي لم يقطع معها سارتر رغم التجذر في النقد الذي يفتح آفاق الشمولية.
لم يتناول سارتر بالدرس الإيديولوجية الصهيونية ونظرياتها الخصوصية واقتصر عبر مسيرته السياسية على مواقف مبدئية لا تبتعد عن هدف مساندة إسرائيل في كل الحالات والوقائع (وإن طالب كما ذكرنا – بتحسين الظروف المعيشية لأهالي المخيمات في غزة، أو عودة اللاجئين أو تقسيم أرض فلسطين التاريخية بين إسرائيل والعرب…)، لكن نص الحوار مع بيني ليفي (إذا كان أمرا ثابتا) يؤكد اقترابه من مقولات الفكر اليهودي الديني المتصهين وهو بذلك يزيد في ابتعاده عن الفهم الموضوعي والتفاعل الإيجابي مع الموقف العربي (الفلسطيني). كرس سارتر حياته من أجل تجذير فلسفة الحرية البشرية ولكنه عجز على تعميم قيم التحرر لفائدة القضايا العربية (الفلسطينية).
د. زهيـــر الذوادي
1 عبد السلام بنعبد العالي : سارتر والثقافة العربية. مجلة نزوي عدد 45 ص 35.
2 Benoit Denis : littérature et engagement. De Pascal à Sartre. Ed. seuil. Coll. Points. Paris. 2000. P 107-125.
3 Bernard Henry Levy. Eloge des intellectuels. Paris. Ed. Grasset. 1987. P 40.
4 J. P Sartre : les mots. Ed. Gallimard. Call. Folio. Paris. 19. P 122-123.
5 Gerarad Wormser : Sartre, du mythe à l’histoire.
www.sens-public.org.
6 J. P. Satre : Situations philosophiques. Ed. Gallimard. Paris. 1990 (Coll. Tel). P 219-220.
7 J. P. Sartre: ibid. p 238.
8 J. P. Sartre : Situations II. Ed. Gallimard. Paris. 1984. P 16.
9 أورده جمال مفرج : سارتر والالتزام تجاه قضايا المقاومة. أعمال الندوة الفلسطينية السادسة عشرة التي نظمتها الجمعية الفلسطينية المصرية بجامعة القاهرة. مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت 2007. ص 275.
10 بينوا دونيس : معنى الالتزام… ص 300، أورده جمال مفرج : المصدر السابق ص 275-276.
11 Patrick. Wegner : la notion d’intellectuel engage chez Sartre. In. www.lepolitique.revues.org/document.381.
(recherches1. Cahier.1. 2003)
12 J. P. Sartre : situations II. Ed. Gallimard. Paris 1948. P 222.
13 J. P. Sartre : Qu’est ce que la littérature ? Ed. Gallimard. Paris 1948. P 374.
14 J. P. Sartre. L’être et le néant. Ed. Gallimard. Paris 1943. P 613.
15 J. P. Sartre:l’être et le néant. Op.cit. p 612.
16 Anna Boschetti : Sartre et les « temps modernes ». Une entreprise intellectuelle. Ed. Minuit. Paris. 1985.
17 سعيد بنعبد العالي : سارتر… مصدر مذكور.
18 المصدر السابق.
19 أورده بنعبد العالي في المصدر السابق.
20 J. P. Sartre : à Berlin : discussion autour des « Mouches » Verger. Paris. Vol 1 n°5 1948. Pp 109-123.
21 الأزمنة الحديثة : عدد مارس 1956.
22 Mohamed Harbi : Une conscience libre. In. Les temps mpdernes. Paris. Oct-Dec. 1990. P 1034.
23 J. P. Sartre : les temps modernes n° Juillet – Aout 1957. In. Situations V. Edit. gallimard. Paris 1964. P 51-52.
24 Nourredine Lamouchi: un maitre- préfacier. jean Paul Sartre et l’autre colonise. Ceres. Edition. Tunis. 2002. P 204. P 109-169.
25 J. P. Sartre. Situations V. op.cit. p 56.
26 Frantz Fanon : les donnés de la terre. Ed. F. Maspero. Paris 1961. Preface J. P. Sartre. P 9.
27 J. P. Sartre. Situations V. op. cit. p 56.
28 Aimé Cesaire : Discours sur le colonialisme. Ed. Présence Africaine. Paris. 1955. P 11.
29 Jean Van Lierde : la pensée politique de Patrice Lumumba. textes et documents recueillis et présentés par J. V Lierde. Edit. Présence Africaine. Paris. 1963. Préface. J. P. Sartre.
30 J. P. Sartre: situations III. Ed. Gallimard. Paris. 1949. P 11-14.
31 عبد المجيد عمراني : فكرة الحرية في فلسفة جان بول سارتر وموقفه تجاه الثورة الجزائرية 1954-1962 في ثقافة المقاومة… مصدر مذكور… ص 292.
32 جان بول سارتر : عارنا في الجزائر. ترجمة عايدة إدريس وسهيل إدريس، ط 2. دار الآداب. بيروت 1958. ص 24.
33 J. P. Sartre : le colonialisme est un système. In. Les temps modernes. N°123 (1956). P 1368.
34 J. P. Sartre : situations V. op.cit. p 47-48.
35 J. P. Sartre : situations V. op.cit. p 59.
36 J. P. Sartre : situations V. op. cit. p 179.
37 عبد المجيد عمراني : فكرة الحرية في فلسفة جان بول سارتر… مصدر مذكور. ص 297.
38 سارتر : عارنا… في الجزائر… مصدر مذكور. ص 47.
39 أورده عبد المجيد عمراني : فكرة الحرية في فلسفة جان بول سارتر… مصدر مذكور. ص 296.
40 سارتر : عارنا… في الجزائر… مصدر مذكور. ص 45.
41 جان بول سارتر : الوجود والعدم : بحث في الأنطولوجيا الظاهرانية. ترجمة عبد الرحمان بدوي. دار الآداب. بيروت. 1966. ص 672-673.
42 جان بول سارتر : الوجود والعدم : مصدر مذكور…ص 72.
43 جان بول سارتر : عارنا… في الجزائر… مصدر مذكور ص 52.
44 جابر عصفور ك هوامش للكتابة : ذكريات سارتر. جريدة الحياة 4/1/2006 (لندن).
45 Le conflit israelo-arabe. N° spécial de la revue. Les temps modernes. N°253 bis. 1967. P 991.
وقد حرّر سارتر مقدمة لهذا العدد تحت عنوان «من أجل الحقيقة» ص 5-11. وقد كانت هذه المقدّمة المقتضبة شكلا من الكتابة السياسية في حدّها الأدنى.
46 ساند تلك العريضة وأمضى عليها كل من : سيمون دي بوفوار، مارغريت دوراس، كلار مالرو، بيار إيمانويل، فلاديمير يانكليفيتش، إيتمبل، إدغارد موران، لوران شفارتز، بيار فيدال ناكي…
47 مباشرة بعد نهاية حرب العدوان الإسرائيلي (جوان 1967) صدرت بباريس عريضة عن بعض المثقفين الفرنسيين المساندين للقضية العربية أمضاها كل من مكسيم رودنسون، جان بيار فيجي، جيرار شاليان، جان دارش، بيار نافيل، شارل بيتلهايم، فرانسوا شاتلي… نددت بـ «السياسة التوسعية لإسرائيل» وبـ «الهجمة الشاملة للامبريالية الأمريكية…»
48 J. P. sartre : Pour la vérité. Op.cit. p 7.
49 ذلك هو رأي مكسيم رودسون مثلا. راجع مساهمته في المصدر السابق :
Maxime Rodinson : Israel, fait colonial ? pp 17-88.
50 المصدر السابق. ص 7.
51 المصدر السابق : ص 8.
52 المصدر السابق : ص 10.
53 راجع جريدة لومند ديبلوماتيك. عدد سبتمبر 2000. مقال : إدوارد سعيد : لقاء بجان بول سارتر.
54 المصدر السابق.
55 بيار فيكتور (هو الملقب بإسم بيني ليفي) وهو ناشط ماوي سابق في حركات اقصى اليسار الفرنسي خلال السنوات الستين والذي تحوّل بعدها إلى حاخام شديد التطرف في عقيدته الصهيونية. مات ودفن في إسرائيل لاحقا. وهو شقيق أحد الثنائي (الماوي سابقا) المصري والملقب بمحمود حسين صاحب كتاب «الصراع الطبقي في مصر» (وهو قراءة ماركسية متطرفة لتجربة عبد الناصر في مصر) وكتب أخرى، فيما بعد، تهتمّ بالتاريخ الفقهي للإسلام والسيرة والسنة النبويتين.
56 J. P. Sartre : réflexions sur la question juive. Ed. gallimard. Coll. Folio. 1985. P 129.
57 المصدر السابق : ص 139.
58 R. Aron. Memoires. Ed. Julliard. Paris. 1982. P 522.
59 R. Aron. De Gaulle. Israël et les juifs. Ed. Plon. Paris. 1968.
60 Michel Contrat et Michel Rybalka : Les écrits de Sartre. Ed. gallimard. Paris. 1970. P 205.
61 المصدر السابق : ص 212.
62 المصدر السابق.
63 Farouk. ???. Bey : Sartre, Israel et les Arabes : la détermination affective. In matériaux pour l’histoire de notre temps. 2009/4. N°96. P 38-41.
64 Farouk. Mardam. Bey : Sartre … op.cit. p 41.
65 نشر الحوار في مجلة (الفرنسية) Le nouvel observateur (1980) واعتمدنا نسخته الالكترونية
www.e.conception.co.il/ohelaharon/files.1362689372.pdf
لم يؤكد سارتر إجراء ذلك الحوار ويرفض من كانوا مقربين منه (مثل الكاتبة سيمون ديبوفوار…) القبول بصحته ويعتبرونه أمر مفتعل من بيني ليفي. في حين يرى فريق ثالث أن مضمون الحوار مخالف لأهم النظريات السارترية.
66 Michel Onfray : l’ordre libératoire, la vie philosophique d’Albert Camus. Ed. Flammarion. Paris 20123. P 292-298.
زهيـــر الذوادي