كان ذلك عند أوّل المساء:
الفصلُ ربيع
الطقسُ بارد قليلا
كلّي خفيفٌ
لا حلم ولا انتظار ولا أمنيات.
الجسدُ مثقلٌ بالموت والفراغ
الروح عاريةٌ من غموضها
طفلة لا تبالي بفقه العورة كعراء الشجر الخاشع في الخريف.
لا أدري من أفشى له تعلقي بالمساءات
بلحظة حياء الشمس المسمى غروبا
واستسلامها الأنثوي لذكورة الظلام
الهابط ليلا يُعربد في نعاس يذهب ويعود ثم لا يعود.
كان ذلك عند أوّل المساء:
كنتُ هناك
في أقاصي العزلة
لستُ فوق الركح ولا على مقاعد الجمهور.
مفردةٌ
أفردني الوجعُ
لا صوت لي
ولا أغنيات
غارقة في صمتي
في ضجيج الألم
أدمتني قسوةُ الأسئلة
وزاد في تعفن الجرح الإجابات الجاهزة المرصفة في الأطباق نفسها
والموجودة في كل مطبخ وكوخ وخيمة وبيت.
كنتُ هناك
بلا موسيقى
ولا دواوين شعريّة
ولا ضوء الشموع الذي أحبّ
كنتُ وحدي في حضرة الحزن
أتدربُ على الحياة بجسد يجر فكرة العدم الثقيلة
وفراغ الشغف من الشغف.
كان ذلك عند أوّل المساء
وأنا أعيدُ تشكيل موتي البهلواني في الحياة
وأمارسُ بذخ الشجن الحاجب للدهشة والشهقات الخجولة.
هاتفٌ من السّماء رن
كأنّه الرعد في أيلول…
ولم يحصل أن هاتفتني السّماء قبل الآن.
رفعتُ سماعة الهاتف من السماء:
رأيتُ قلبا يركض نحوي
دقاتُه تُمطر بقوة
زوبعةٌ من عشق مجنون
بوحٌ كثيفٌ غزيرٌ كالماء
هائلٌ كالنّار الموقدة.
قلبٌ
دعاني إلى الرجوع من هناك
إلى هتك القبر
ونفض التراب
وهدم جدران العزلة
وإعلان اللاموت
وترك المقبرة للمقبرة.
دعاني إلى فتح نافذة بعينها
النافذة التي تطل عليه
النافذة الشجرة الجالس تحت ظلها
يرتل لي ما تيسر من الحبّ كلّه.
فجأة،
تكلم:
دونك أموت
آتيت دنياك
لأمنع الحصى عن قدميك
واقتلع من حدائقك القلق والشجن
قال:
أنت الشمس والهواء
إني أتنفسكُ
أنت أوّل النّساء وكلّهن
دونك يقاتلُ بعضي بعضي.
قال:
أنت دمي
ومائي لك
فكوني لي حتى الخيال
ليبدأ عمري من الخمسين
نبيا تدرب عقدا ونيفا على النبوة.
اختلطت عليّ الأشياء
أصبحتُ هنا وهناك
لا أعرف هل أنّ الهاتف حقا
من السماء أم أني في رحلة مختلفة
من الإسراء والمعراج؟
يا إلاهي
كم أحببتُ مهاتفتك
سرّني ما سمعت
سرّني ما رأيت
أخذتُ أمرر أناملي الجميلة
على الغبار حتى يطير
أبحث عن أسطوانات
الموسيقى
وبدأ جسدي يرغبُ
في الرقص.
كان صوته عاشقا
طفلا
شابا
طاعنا في المحن
مجهدا
بطلا كما حلمت وأحبّ
أسدا
طائرا مسجونا
خائفا
مرتبكا
حالما
خجولا
مخمورا
في منتهى الصحو
شاعرا
رجلا حفظ خريطتي
عن ظهر قلب.
كنتُ الحزن
وهو الوعد بالفرح
كنتُ خارج المتن
انسحبتُ خلسة مني
وكانت يده الدكناء قليلا تأخذني
لأرقص في قلبه.
يا إلاهي
لم يحدث أن غمرتني الأنوثة كلّها
فلتكتب الملائكة
هذا الزفاف السريّ
قلبي بدأ يرقص ويرقص
وكنتُ أغني:
نهايةُ الرقص موت.
( مقطع من ديوان قيد الكتابة)
آمال موسى *