إعداد وتقديم وحوار: هدى حمد، وعبدالرحمن المسكري
الكتابة الروائية وأزمة اللجوء الهووي لدى ألبير قصيري ورومان غاري
زهير الذوادي
باحث وناقد تونسي
كانت الحياة في فرنسا لألبير قصيري لجوءًا لغويًّا وليس ثقافيا؛ فلم يكتب سوى عن مصر والمصريين مستعملا في ذلك اللغة الفرنسية
تفاعل غاري مع ترجمات كتبه ليغيّر بعض مضامينها، حسب ما يمكن أن يتماشى مع مهجة وتفاعل القراء في اللغة المعنية
قامت علاقة رومان غاري مع اللغة على أساس مقاربة مفادها أن السيطرة على المكان رهينة السيطرة على اللغة السائدة فيه
وإذا كان جوهر اللجوء إلى الفرنسية لدى ألبير قصيري سعيا للاستقرار؛ فإن رومان غاري جعل من ذلك اللجوء منطلقا لحركة لامتناهية
-ابتدع قصيري لغة أدبية لذيذة يتجانس فيها شكل لغوي فرنسي أصيل مع مضمون عربي الروح والمعاني
لم يرغب قصيري أن يصبح فرنسيا في حين أن رومان غاري سعى بكل جهده إلى أن يكون فرنسيا مثاليا
لم يكن غاري مرتاحا في هويته الفرنسية (الجديدة) لانحيازه المتنامي إلى كوسموبوليتية منفلتة من عقالها، ولسعيه للحصول على الاعتراف من قبل الجميع
لم يعرف رومان غاري السكينة خلال الجزء الأخير من حياته، مع من أنه سخر من كل منافسيه حين افتعل كاتبا جديدا منحه اسم إميل آجار
إذا كانت كتابة ألبير قصيري نقدية لأزمة المجتمع والحضارة البشرية الحديثة؛ فإن رومان غاري جاء نقديًا لأزمته الشخصيّة في محيط لم ينجح في إخضاعه لطموحاته الكبرى
تمحورت أعمال رومان غاري حول تشابك التناقضات وعوامل الأزمات الراهنة والمحتملة، بينما شخصيات قصيري الروائية خفيفة الروح تنبض بحب الحياة
كتب فرانز كافكا أن “اللغة هي إحدى نواحي الروح”، فباللغة يكون الإنسان ويتفرد وينتمي. وقد اعتقد بعض النقاد أن لغة الكاتب هي هويته الأولى.
عموما لغة الكاتب هي حامل هويّته وأداة التعبير عنها. وإن لم تكن لغة الأديب كذلك فهي تشكّل أزمتها وتفضحها؛ حيث إنه ليس من البديهي أن يكتب أديب بلغة قوم غير قومه لأن ذلك يعلن أو يدشن تأزما ذاتيّا جوهريّا لديه متمحورًا حول الأسئلة الحارقة: لماذا يكتب ؟ لمن يكتب ؟ ماذا يكتب ؟ … فما الذي جعل كتَّابًا عربًا مثل ألبير قصيري، وطاهر بن جلون، وعبد الوهاب المؤدب، ومصطفى التليلي، ومالك حداد، وإدريس الشرايبي وغيرهم يكتبون بالفرنسيّة، وما الذي جعل الهندي سلمان رشدي، والنيجيريين وول سوينكا، وشينوا أشيبا، والبولوني جوزيف كونراد (وغيرهم !) يكتبون بالإنكليزية، وما الذي جعل الليتواني رومان غاري، والروسي أندري ماكين والأرمني أرتور أداموف، والروماني أويجين أونسكو، والتشيكي ميلان كونديرا يكتبون بالفرنسية؟؟ الخ …
إن قائمة الكتاب والأدباء الذين يبدعون في لغات غير لغات أقوامهم طويلة جدّا، وهي تحيل إلى نتائج تقلبات التاريخ (الحروب والاستعمار والهجرة والنفي والهيمنة والعولمة) كما أنها تكشف معاناة تأزم ذاتي لدى بعض أولئك المبدعين حتى وإن كان فعل الكتابة المتبني لغة الغير فعلا اختياريا في الظاهر أو المعلن.
اللجوء إلى اللغة الفرنسية ..
لقد كتب كل من رومان غاري (1914-1980) وألبير قصيري (1913-2008) باللغة الفرنسية. وهي لغة غريبة عن أصل كل منهما حيث أنهما استعملاها في إبداعهما الروائي والقصصي على سبيل اللجوء الهووي على المستوى الإبداعي، كما أشارت إلى ذلك سارة شريف.
كان ألبير قصيري، الشامي الأصل والمصري المولد والنشأة، عربيا مسيحيا متجذرا في هويته الشرقية. كما أنه كان منفتحا ثقافيّا، منذ الصغر، على الأدب الفرنسي ولغته حيث إنه اختار منذ انطلاق تجربته الأدبية أن يكتب في لغة تسمح له باقتحام الكونيّة والوجاهة العالميّة دون الخضوع إلى مضاعفات الانتماء إلى أمّةٍ وثقافة من “الدرجة الثانية” حسب تصنيفات الأيديولوجية السائدة في العالم خلال السنوات الثلاثين والأربعين من القرن العشرين. كان قصيري يبحث عن مكان في الشمس (كما يقول الفرنسيون …) لا يمنح لعربيٍّ مثله، فوظف انتماءاته الدينية والتعليمية قصد الولوج إلى عالم الثقافة الفرنكفونيّة ومجالات الأدب الفرنسي كتكريس لاختيار إرادي.
أما رومان غاري، فهو لم يقرّر مسار حياته. وهو وصل إلى مدينة نيس الفرنسية سنة 1928 مع والدته ليحيا كمهاجر صلب جالية “الروس البيض” وبالخصوص اليهود منهم. فقد عاش رومان غاري في فرنسا مكبلا بالانتماء إلى الأقليّة الليتوانيّة صلب المهاجرين الروس، بعد أن قضى طفولته في بولونيا كيهودي في بلد كاثوليكي. وقد دفعه ذلك الشعور إلى السّعي إلى تأسيس هوية خاصّة به حاولت عبر مسار معقد وغير مستقر أن توفر له ملجأ يقيه شرّ التشرد الوجودي، والصعوبات الناجمة عن الانتماء إلى الأقليات العرقية والدينية.
اختار ألبير قصيري أن يعيش في باريس انطلاقا من 1945، حيث استقرّ في غرفة في فندق لويزيان لمدة 56 سنة دون انقطاع. وهو لم يسافر كثيرًا ولم يعُد إلى مصر إلا في مناسبات قليلة لكنّه عاش في فرنسا كمصري مهاجر ولم يطلب الجنسية الفرنسية ولم يكتب سوى عن مصر والمصريين. إن لجوء قصيري إلى فرنسا هو فعل إراديٌّ وحرّ، كما أنه فعل اختياري بررته -حسب رأينا- ثلاثة دوافع، أولها التعلق بحياة حرة. وثانيها رغبة الانغماس في حياة ثقافية حافلة جعلته صديقا لسارتر، وألبير كامو وخاصة لورانس دورال وأرثور ميلير، وآخرها قرار نصفه اختياري ونصفه اضطراري يخص عزمه على التفرغ للكتابة الأدبية، باللغة الفرنسية. وكانت الحياة في فرنسا -بالنسبة إلى ألبير قصيري- بمثابة اللجوء اللغوي. ونحن نؤكد على أنه لجوء لغوي وليس لجوءا ثقافيا لأن قصيري بقي مصريا (عربيا) ولم يكتب سوى عن مصر والمصريين مستعملا في ذلك اللغة الفرنسية. وكان كل أبطال قصصه ورواياته مصريين بسطاء وعاديين. وكانت أحداث تلك القصص والروايات تدور في أحياء وأزقة كل من القاهرة ودمياط والإسكندرية. عاش قصيري مهاجرا. وهو سبح في بحر فرنسا دون أن يغفل عن مكان الضفة التي انطلق منها كما أنه استعار اللغة الفرنسية كما يفعل كل سائح ومتجول في “بلاد الناس”. وإن استحوذ كاتب ياسين (الجزائري) على اللغة الفرنسية معتبرا إياها غنيمة حرب، فإن ألبير قصيري استعملها كسيارة تاكسي ساعدته على التنقل في بلاد أحبها دون أن تكون بلاده.
أمّا علاقة رومان غاري باللغة فقد كانت علاقة إشكالية. فهو ولد في فيلنيوس (ليتوانيا) وقضى طفولته في بولونيا وعاش في نيس (جنوب فرنسا) ابتداء من 1928. ثم عاش في عديد البلدان، في أمريكا الشمالية والجنوبية، وفي أوروبا. فقد استعمل غاري في كتبه 17 لغة، وهو كتب بخمس لغات (فرنسية، بولونية، روسية، إنكليزية وإنكليزية أمريكية). كما أن دارسي أدبه قد لاحظوا أن غاري كان يتفاعل مع ترجمات كتبه إلى اللغات التي يتقنها ليغيّر بعض جوانبها أو مضامينها، حسب ما يمكن أن يتماشى مع مهجة وتفاعل القراء في اللغة المعنية.
قامت علاقة رومان غاري مع اللغة على أساس مقاربة خاصة مفادها أن السيطرة على المكان رهينة السيطرة على اللغة السائدة فيه. وقد اختزل غاري حياته حين وسمها بأنها “حياة حدودية” أو حياة على الحدود بين كيانين (أو أكثر). ويقودنا مفهوم “الحياة الحدودية” إلى تمثل حالة الأزمة التي يمكن أن تصبغ الوعي والوجدان الذي تعيشه الذات في منزلة البين بين، وما يستوجب ذلك من جهد التأقلم ومن طاقة توفيقية تتفاعل وفقها التناقضات دون أن تنفجر.
وإذا كان جوهر اللجوء إلى اللغة الفرنسية وإلى الحياة في فرنسا، لدى ألبير قصيري سعيا إلى الاستقرار النفسي والشخصي، فإن رومان غاري جعل من ذلك اللجوء منطلقا إلى الحركة اللامتناهية ملامسًا عدم الاستقرار المطلق في كل جوانب حياته الشخصية والأدبية.
وإذا ما تمعنّا في خلاصة التجربة الحياتية التي خاضها ألبير قصيري فنحن نتبيّن عمق صدقهِ مع نفسهِ من ناحية ونلمس عمق وعيه بحريته وحقيقة ممارسته لها، حيث إنه، وبخلاف رومان غاري لم يلجأ إلى فرنسا ليجعل منها منطلقا أو مسرحا لتحقيق حزمة من الطموحات والأهداف الخاصة في المجال الأدبي أو المهني. اختار قصيري أن يعيش في فرنسا ككاتب عربي (مصري) يكتب باللغة الفرنسية. فهو لم يكن غازيا للغرب (فرنسا) مثلما تمثل ذلك الطيب صالح وغاري؛ بل إنه طمح إلى أن يكون كاتبا وليس روائيا، وأن يكتب عن البسطاء (وليس عن الأبطال والعظماء) مكرسا تأثّره بغوغول وخاصة بدوستويفسكي ورواية (الناس البسطاء).
وحتى يتمكن من الكتابة عن البسطاء المصريين، فقد كان ألبير قصيري مجبرًا على تفعيل ذاكرته وإنعاشها بشكلٍ دائم الأمر الذي جعله متشبثا بهويته المصرية ودون السعي إلى الاندماج في المحيط الفرنسي الذي لم يكتب عنه جملة واحدة طوال حياته الأمر الذي جعل منه نموذجا فريدًا من نوعه في تاريخ الأدب (الفرنسي) … فقد حاول قصيري أن يجعل من الإطار المصري لكتاباته القصصية والروائية وسيلة لاقتحام الكونية محاولا في ذات الحين توظيف مجالات اللغة الفرنسية لتحقيق هدفه.
وأثَّرت مقاربة قصيري للكتابة الإبداعية المزدوجة الأركان، بمضمونها العربي، وعوالمها الشرقية من ناحية، وبلغتها الفرنسية الكلاسيكية والمتينة من ناحية، على أسلوبه في الكتابة السردية، عموما، مبتدعا لغة أدبية لذيذة يتجانس فيها شكل لغوي فرنسي أصيل مع مضمون عربي الروح والمعاني.
لم يرغب قصيري أن يصبح فرنسيا في حين أن رومان غاري سعى بكل جهده إلى أن يكون فرنسيا مثاليا عبر المشاركة في مقاومة النازية ومساندة شارل ديغول الذي عوض لديه رمزيا صورة الأب ومكانته بعد أن كان قد ارتبط بصداقة متينة بالزعيم اليساري ليون بلوم. وقد تكرّس حماس غاري للانتماء إلى فرنسا في عمله الديبلوماسي في أوروبا الشرقية قبل أن يصبح ناطقا رسميا للبعثة الفرنسية في منظمة الأمم المتحدة ثم قنصلا عاما في لوس أنجلس.
ولم يكن غاري مرتاحا في هويته الفرنسية (الجديدة) التي سعى حثيثا إلى التجذر فيها. ويعود ذلك الشعور إلى سببين أولهما انحيازه المتنامي إلى كوسموبوليتية منفلتة من عقالها تأخذه من مكان إلى آخر ومن مكانة إلى أخرى دون أن يحقق الدرجة المأمولة من الرضا، وثانيها توقه إلى التميّز وسعيه إلى الحصول على الاعتراف من قبل الجميع. فهو كان يحارب أسطورة سانت اكسوبيري الذي كان طيّارا مثله ومات إثر بطولة لم يعرفها غاري. وكان غاري يضيق بالمكانة الخاصة التي يحظى بها أندري مالرو لدى شارل ديغول مما سدّ في وجهه باب الإشعاع المطلق في مجالي الأدب والسياسة، وكان يغار من جوزيف كيسيل (الروسي الأصل) الذي حصل الاعتراف به أدبيا وثقافيا واجتماعيا ليصبح عضوا في الأكاديمية الفرنسية التي كان غاري يرنو إليها في شوق حزين ومحترق. لذلك افتعل غاري سبلا خاصّة به ليحصل على جائزة غونكور مرتين … وأن يكتب بأسماء مستعارة ثلاثة، وأن ينجح في مغالطة النقاد والناشرين والقراء عبر ابتكار تنويع في أسلوب كتابته حسب هوية الكاتب الذي يمضي نصوصه، والحال أنه الكاتب الحقيقي والأصلي لها، بل إنه شارك في نقد كتب ألفها بنفسه تحت اسم مستعار دون أن ينتبه إلى ذلك كبار الكتاب مثل ريمون كينو.
قضى رومان غاري حياته متنقلا بين طموح وآخر، وبين هوية وأخرى. كان اسمه لدى ولادته رومان كاتشوف، واستعمل اسم رومان غاري أيام مقاومة النازية، ثم تخفّى خلال عمله الدبلوماسي تحت اسم فوسكو دينالدي، واخترع اسما أدبيَّا مستعارا آخرَ وهو إميل آجار. وقد بحث رومان غاري طوال حياته عن مصير يشبع طموحاته وكان يبحث عن هوية يستقرّ فيها وبها، في مناخات أوروبا التي انقلبت رأسا على عقب فيما بين الحربين العالميتين وخلال الحرب البادرة. وقد جسّد رومان غاري حالة “الآخر” وحالة “الأقليّ” حيث ما حلّ وحيث ما استقرّ، ولم تسعفه أصوله القومية (ليتوانيا) والدينية (اليهودية) واللغوية (الروسية) في بحثه عن ملاذ هادئ، كما أشارت إلى ذلك ميريام أنيسوف.
لم يعرف رومان غاري السكينة خلال الجزء الأخير من حياته، بالرغم من أنه سخر من كل خصومه ومنافسيه الأدبيين حين افتعل وجود كاتب جديد منحه اسم إميل آجار، ونشر بذلك الاسم المستعار أربع روايات نالت إحداها جائزة غونكور مما جعل من رومان غاري الأديب الوحيد الذي تحصل على تلك الجائزة في مناسبتين، رواية “جذور السماء” (1956)، ورواية “الحياة أمامنا” بتوقيع إميل آجار (1975). وإذا برهن غاري على مهارته الأدبية وتميّز في إتقانها عبر النجاح المتكرر في الفوز بأهم الجوائز الأدبية، فإن اهتزاز توازن شخصيته، جعله يخلق شخصية الكاتب المزعوم : إميل آجار ثم يَسْتَنْجِبُ بول بافلوفيتش ليجسد شخصية آجار لدى الصحافة والناشرين. لكن غاري قرر في النهاية الموت انتحارا فمات معه إميل آجار ولحقهما بول بافلوفيتش في الموت دون أن يموت لأنه لا يمكن أن يحيا بعدهما، فكشف الحقيقة كاملة في جويلية 1981 ليعري عمق أزمة الهوية في شخصية رومان غاري ولينخرط بدوره في أزمة رهيبة حيث اقتنع في النهاية بأنه كاتب موهوب وليس مجرّد متحدث للصحافة ولبعض الناشرين عن كاتب لم يوجد في الحقيقة. انخرط بافلوفيتش في الكتابة الروائية وأصدر ثلاثة كتب لا ترقى إلى درجة عليا من الإبداع وتقتصر قيمتها في كونها تشكل علامات لفضيحة أدبية مبنيّة على خديعة لم يقدر الوسط الأدبي الفرنسي على تجاوزها وعلى فهم معانيها.
ومن دلالات خديعة “غاري- آجار- بافلوفيتش”، أن الوسط الأدبي والفكري الفرنسي أهمل واحتقر إنتاج غاري واعتبر أن إبداعه قد أفل في ذات السنة التي منحه خلالها -دون أن يعلم- جائزة غونكور للرواية في فرنسا تحت اسم مستعار. كما أن الصحفي الباهت الذي أجبر على الظهور تحت اسم إميل آجار، تمكن من الولوج إلى عالم الأدب من باب الكذب وانتحال الصفة وأصبح “أديبا’ … مما يجعل من غاري مبدعًا في مجال السّرد وفي مجال السُّخرية من الواقع الأدبي، فخلق أديبين من عدم وأعادهما إليه بعد انتحاره. ذلك حدث فريد وغريب يمكن أن يتحوّل إلى مادّة سردية وحالة هووية أو وجودية متجدّدة في أزمتها.
أزمة الشخصيات الروائية أم أزمة الكاتب ؟
عمل ألبير قصيري قبل أن يستقرّ في باريس سنة 1945 كمضيّف في باخرة. وسمح له ذلك العمل (وهو العمل الوحيد الذي مارسه في حياته قبل التفرغ للكتابة …) بأن يجوب العالم. وقد كان جوزيف كونراد قد اختبر ذات المهنة فيما بين 1939 و1943 قبل أن يتحوّل إلى الكتابة، كما أنه تخلى عن جنسيته البولونية ليصبح بريطانيا وكاتبا في لغة وطنه الثاني بخلاف قصيري الذي كتب باللغة الفرنسية وبقي مصريا وعربيا ومسيحيا طوال حياته. وكان قصيري يختلف كليا، في مسار حياته، مع رومان غاري. فهذا الأخير كان مسكونا بالنجاح والتأقلم مع تبدل الظروف بهدف النجاح وتحقيق الذات وبناء هوية. أما ألبير قصيري الشرقي الأصول الحضارية، فهو لم يكن يجرجر معه أزمة انتماء أو رغبة في النجاح الاجتماعي، بل إنه مال إلى الخمول والاستكانة اختياريا وجعل من الكسل فلسفة للحياة وشرطا للتأمل في مصير البشرية كما صور ذلك في روايته “كسالى الوادي الخصيب”.
ولم يعمل ألبير قصيري في حياته قط، باستثناء تجربته البحرية القصيرة لأنه اعتبر نفسه أصيل عائلة ميسورة، ولأنه اختار أن يكتب ويعيش وفق نظرة ووجدان أبطال مجموعته القصصية الأولى “الرجال الذين نسيهم الرب” (1941) (وساعده على نشرها ألبير كامو)، وأبطال روايته الأولى “منزل الموت الأكيد” (1942). وإذا كانت أعمال رومان غاري متمحورة حول تشابك التناقضات وعوامل الأزمات الراهنة والمحتملة، فإن كتابات قصيري الروائية تنبض بحب الحياة لدى شخصيات خفيفة الروح ومستهترة بالتحديات والصعوبات الحياتية الأكيدة من فقر وحاجة وحرمان من أبسط مقومات العيش. إن أبطال ألبير قصيري فقراء ومهمشون وشحاذون ومومسات وكناس شوارع ومستضعفون، لكنهم أشخاص بلا عقد، ومرتاحون نفسيا ومتسامحون مع الدنيا والأقدار، تسمح لهم سعادة بسيطة بالبقاء على قيد الحياة دون جهد أو شكوى.
وقد وظف كل من ألبير قصيري ورومان غاري ذاكرته من أجل بناء عالمه الروائي، لكن كلًا منهما اتّبع سبيلا مغايرا بالنسبة للآخر. رومان غاري طمح إلى إخضاع العالم والواقع إلى طموحاته الشخصية أما ألبير قصيري فهو قبل بما كان عليه عالمه وواقعه وجعل منه إطارا لسعادة هادئة وفردية. وكانت شخصيات روايات وقصص قصيري، قنوعة لا تسعى إلى تغيير أي جانب من الواقع المحيط بها مثل رضوان علي الذي وإن كان أفقر إنسان على وجه الأرض فهو لا يطمع في شيء سوى ألا يزعجه أي شخص أثناء نومه…
جعل رومان غاري أبطال روايته متعطشين للتغيير والحركة من أجل تحقيق أهدافهم الخاصة أو من أجل الانخراط في هموم جماعية (الحروب، المقاومة النازية، معاداة العنصرية، أو تحقيق سعادة عاطفية و شخصية…) في حين اختار ألبير قصيري ألا تزعج شخصيات رواياته وقصصه العالم والمحيط القريب منها، وكان منهجها هو الاكتفاء بما هو ممنوح والتزهد فيما زاد عليه. وعلى أساس ذلك كان الصنف الأول (شخصيات غاري) فاوستي وعملي، في حين كان الصنف الثاني (شخصيات قصيري) متصوف وزاهد وإن كان زهده في كماليات الدنيا يضمر روحا تمردية كما بينت ذلك طورية فيلي طولون.
لقد كانت شخصيات روايات رومان غاري متعطشة إلى الحرية الشخصية وإلى تحقيق الذات عبر الانغماس في حراك التغيير، أما شخصيات روايات ألبير قصيري فهي اختارت الكسل كنمط حياتي “شرقي” يؤدي إلى الحرية عبر رفض التملك والملكية. لأن ذلك الرفض يضمن ألا يسلب الفرد أي شيء (فاقد الشيء لا يسلب منه !!).
أبعاد أزمة الهوية والكتابة الأدبية
يحمل غاري انكسارا في داخله. وهو سعى إلى تجاوز ذلك الانكسار طوال حياته عبر محاولة تحقيق جملة من الأهداف تتجمع في مطلب دفين لديه: حيازة الاعتراف من قبل محيطه. وعندما أطلّ النجاح المهني والأدبي على غاري كانت أمه نينا قد رحلت مما عمق لديه شعور الخيبة الوجودية. غاري لم يعرف هوية والده، الذي يمكن أن يكون الفنان الروسي النبيل الأصل إيفان موسجوكين، وهو (أي غاري) لم يحمل سوى هوية زوج أمه الثاني الذي تخلى عنهما بسرعة. وبقي غاري (مع أمه) في موسكو ثمّ انتقل نحو فرسوفيا (1923) حيث عاش إلى حدود سنة 1927 قبل الرحيل إلى فرنسا سعيا وراء العيش الكريم والشهرة والتألق. كذلك قرر غاري (الروسي، الليتواني، البولوني، اليهودي) أن يحقق نجاحاته في فرنسا أو عبر فرنسا … لكنه حمل طوال حياته همّا هوويا عميقا. وبعد دراسة القانون ومهنة الطيران التحق بجيوش فرنسا الحرة أثناء الحرب العالمية الثانية متنقلا بين المغرب والجزائر وإنكلترا. وأصدر رومان غاري سنة 1946 روايته الأولى “تربية أوروبية” أكد من خلالها حيازته موهبة جلية في الكتابة السردية الممزوجة بشيء من الأسى الكامن في روحه. وقد فتح نجاح رواية “تربية أوروبية” الطريق إلى نجاح أكبر مع رواية “جذور السماء” (1956) التي حازت جائزة غونكور.
ومنذ سنة 1945، كان غاري قد اقتحم مجال العمل الدبلوماسي الفرنسي في بلغاريا وأمريكا. وبدأت موهبته الأدبية تفتر -حسب بعض النقاد- مع تعاظم انغماسه في حياة كوسموبوليتية منفتحة على نجوم الفن والسياسة (تزوج الممثلة جين سيبيرغ). وسريعا ما حاصر النقد الأدبي في فرنسا وأمريكا رومان غاري مشيرا إلى تراجع إلهامه ليصبح أدبه أقرب إلى كتابة التقارير المباشرة ومبتعدا تدريجيا عن النفس الإبداعي الذي طوّره في بدايات تجربته في الكتابة الروائية.
وقد فجرت المعالجة النقدية (القاسية) لأدب غاري في فرنسا منذ مطلع السنوات الستين من القرن العشرين، أزمة داخلية عميقة لديه أنعشت أزمته الهووية، فراح يخشى أن يكون قد فقد وهج الإلهام الذي عبر عنه في البدايات ليسقط -من جراء ذلك- في كآبة الخوف الدائم من السقوط في الفشل وانقطاع المهجة الإبداعية لديه وذوبانها في غمار التهذيب الكوسموبولوتي.
تسللت الأزمة الإبداعية لدى غاري إلى أعماق وعيه وإلى الثنايا الخفية من لاوعيه. وكانت خشيته عظيمة من أن يكون قد أصبح كاتبا ميتا أو باهتا وجافا. وهو لم يفلح في صياغة مخرج من ذلك الشعور بالفشل، فلا العمل الدبلوماسي يمكن أن يملأ فراغاته، ولا تجارب الحب السريعة تحقق آماله، ولا معتقداته الدينية (اليهودية) كفيلة بجبر الأضرار المعنوية والوجودية التي لحقته. (وهو القائل بمناسبة صدور روايته “سيكون الليل طويلا”: أفضل العيش في إيطاليا على العيش في إسرائيل …).
أصر غاري على العودة إلى النجاح الأدبي، فصنع اسما جديدا لكاتب (وهمي) جديد: إميل آجار. ونشر باسمه روايات ناجحة أدبيا ونقديا حيث تحصلت واحدة منها: “الحياة أمامنا” على جائزة غونكور مما شكل ثأرا عظيما ونصرا خفيا له ضدّ كل خصومه ونقاده الذين هشموا قواه وسمعته، خصوصا بعد صدور روايته “من أجل سغاناريل”.
إميل آجار… هو الاسم الرابع الذي استعمله رومان غاري (بعد الاسمين الأولين: شاتان بوغات، وفوسكو سينيا بالدي…). ويعكس الشغف بتغيير الهويات لدى غاري أزمة هوية في حدّ ذاتها. وقد تكون الأزمة في هوية رومان غاري لا تخص شعوره ووعيه بالانتماء الإشكالي فحسب، بل إنها تبدو مرفوقة كذلك برغبة في الاعتراف (في معناه الهيغلي) أي الرغبة في الحصول على الاعتبار المشروع في نظره، والمتعلق به وبمساره ككاتب يرفض الفشل ويصارع جفاف منابع التألق الإبداعي لديه بكلّ قوّة، حتى وإن كان ذلك مؤديا إلى الانتحار.
أمّا ألبير قصيري فهو لم يكن يواجه أزمة هوية كما أنه لم يكن احتجاجيا في طبعه أو ثوريا حيث إنه اعتبر أن الثورة لا طائل منها مادام يحمل كل إنسان في داخله كل عوامل إجهاضها من جراء تراكم خيباته، التي لا تبقي لديه سوى السخرية من شروط حياة البشر في “مجتمعات منحلّة” -حسب عبارته- مثل التي صورها في رواية “شحاذون متغطرسون” (1955). فقد أكد قصيري في رواية “شحاذون متغطرسون” والتي أكد فيها أن السخرية هي السلام الوحيد الذي يبقى للإنسان في مواجهة قسوة الدنيا، وأن الكسل هو سبيل مواجهتها وعنوان البديل عنها. وما الجريمة التي سردت وقائعها الرواية سوى مناسبة لرسم سيرورة تحرّر وعي الشرطي الباحث عن الحقيقة الكامنة بين أسس الحياة الظالمة التي يحياها البشر فيصبح كل إنسان مجرما محتملا وكائنا فاسدا رغم إرادته مثل جوهر (بطل الرواية) فهو أستاذ الفلسفة الذي عاين عمق الهوة بين مظاهر الحياة البشرية وحقيقتها فاقتنع أن “تدريس الحياة دون عيشها يشكل أفظع جرائم الجهل” الحقيقي. لذلك يصبح جوهر محتسبا في ماخور بعد أن تخلى عن مهنة تدريس الفلسفة مكتفيا بتحرير الرسائل الشخصية للمومسات قبل أن يتحوّل إلى مجرم تحت تأثير استهلاك المخدرات، قتل مومسات طمعا في أساورها التي تبيّن في النهاية أنها أساور مقلدة وليست ذهبا. وقد يكون الأسلوب الساخر الذي قارب من خلاله القصيري الأحداث وتفاعل الشخصيات معها في أغلب رواياته المدخل لرسم اللوحة الكبيرة من التشاؤم الذي يختزل عالمه الروائي والذي يمتزج فيه حلم السعادة بقسوة الواقع وعبثية الوجود.
ففي رواية “العنف والسخرية” (1964)، نقتحم عوالم مدينة صغيرة في الشرق الأوسط تعيش تحت وطأة حاكم طاغية ومتمردين متهورين. وإثر عملية اغتياله يتحوّل الطاغية في نظر أفراد الشعب إلى شهيد وإلى نموذج مجيد للتمدّن ولروح التضحية من أجل الأجيال القادمة، مخلدا بذلك الخديعة الأبدية التي تعكس هشاشة وعي الناس العاديين ووعي النخب الهجينة. وفي رواية “مؤامرة مهرجين” (1975) تتجسّد عبثية الأحوال في تشبث رئيس الشرطة في بلدة متواضعة بالاعتقاد في وجود مؤامرة يدبرها ويحيك خيوطها جمع من المهرجين المنغمسين في لعب ومجون ولا يهتمّون بما يجري في الدنيا التي لا تعنيهم في شيء. لكن براءتهم المطلقة، تبدو بالنسبة للشرطي كأساس قوي للشبهة، وستارٍ سميكٍ لتآمرهم المحتمل.
وحسب قصيري، فإن مقابل هذه العبثية الطاغية لا يملك الإنسان إلا السخرية والانسلاخ عن نواميس “الحياة العادية”. فلا يكون الملاذ إلا عبر الكسل والنوم ورفض العمل والكسب. فلا ملاذ إلا عبر الانفصال عن “الحضارة المعذبة” التي تواجهها البشرية بانكسار. فحيث تبرز حضارة التقدم الصناعي والطاقي، ينبت الطغيان والقهر والحروب، كما أكد ذلك قصيري في كل من رواية “طموح في الصحراء” (1984) ورواية “ألوان النذالة” (1999).
التأزم الهووي … وفعل الكتابة
عندما استقرّ ألبير قصيري في باريس (1945) كان هدفه بسيطا : الحياة في باريس والكتابة. ولم يكن يلهث وراء سبل الانتماء إلى فرنسا أو الحصول على الاعتراف والاعتبار كوسيلة لتأكيد ذاته أو ازدهارها. ولم يكتب قصيري باللغة الفرنسية بهدف الانصهار في الثقافة والمجتمع الفرنسيين. كان خياره أن يبقى مصريا يكتب باللغة الفرنسية. وتلك معادلة بسيطة على عكس تجربة رومان غاري الذي جعل كلًا من حياته في فرنسا واعتماد لغتها في كتابته الأدبية رهانا في سبيل تأكيد ذاته وتجذير انتمائه الاختياري (الاضطراري) للبلاد الفرنسية. لقد شكلت الكتابة باللغة الفرنسية بالنسبة لدى رومان غاري عنوانًا لأزمة انتماء ووسيلة للحصول على الاعتراف.
رومان غاري شخصية إشكالية، ولا يمكن فهم كل أبعادها إلا عبر تبصر حذر لأن التنوع والثراء المميزين لها يضعان رداءً سميكًا على أهمّ أوجهها. ولا يمكن للدراسات في سيرة غاري أن تساعدنا على تحليل أدبه إذا ما كانت مكتفية بسرد أحداثها وحقباتها التي جعلت من صاحبها مدهشا حقا. إن أدب غاري – آجار مدهش حقا وقد يجني عليه ما يدور حوله من فضائح وبهرج تجلبها نجومية الكاتب. إن ثراء قراءات أدب غاري يؤكد لنا ما حمله الكاتب من أزمات وجروح في ذاكرته وهويته وروحه، وهي أزمات فجرت عنده طاقة إبداع متدفقة، وإن تعطلت وتعطبت أحيانا وقادته إلى الانتحار في النهاية (1980).
وإذا جاءت كتابة ألبير قصيري في شكل صياغة نقدية لأزمة المجتمع والحضارة البشرية الحديثة، فإن كتابة رومان غاري جاءت في شكل صياغة نقدية لأزمته الشخصية في محيط لم ينجح في إخضاعه إلى طموحاته الكبرى. لكن كتابة غاري تضمنت بعدا ايتيقيًا شاملًا حسب الدراسة المعمقة التي أنجزتها صابينا هومانا، والتي اعتبرت أن كل رواية من روايات غاري كانت تجسيدا واقعيا لقيمة أخلاقية عليا ولمآلاتها في ظل ظروف العيش الحديثة مثل تلك التي يسردها الراوي في “جذور السماء” (1956) لينتقد وحشية البشر -في أوروبا- وميلهم للعدوان والحرب ويدعو إلى حماية الحيوانات (الفيلة) من الإبادة في إفريقيا، ليمجد شخصا مهما وعاجزا عن حبّ امرأة بقوّة مثل حبّه لأمه في رواية “وعود الفجر” (1960)، أو ليبرز أهميّة الوفاء والاعتراف بالفضل لدى طفل ابن مومس حضنته وربته مومس أخرى بعد موت والدته وإصراره على حماية أمه بالتبني إلى آخر رمق من حياتها ومرافقتها في عذاباتها الأخيرة في رواية “الحياة أمامنا” (1975).
لقد أثرت ظروفٌ وصيغٌ تلقي كتابات رومان غاري / إميل آجار على قيمة التعاطي النقدي معها. وذلك ما زاد في تعمق أزمة غاري الشخصية وفي تجذير شعوره بالفشل في مشروعه الأدبي والحياتي، بل إنه ذهب أحيانا في بأسه إلى حدّ الشك في كل الأبعاد الإنسانوية للحياة البشرية كما بيّن ذلك لو مورلان في مقارنة لبعض روايات كل من رومان غاري بالخصوص رواية “مداعبة” (1974) وروايات أناتول فرانس. ألم يكتب غاري في روايته “وعود الفجر” “أريد أن أصير إنسانا لكنني لا أدري ما معنى ذلك…” مضيفا قوله: “إني أشعر بغياب رهيب حولي…”. إن النظرة القائدة لكتابة غاري السردية تتأرجح بين تشاؤم هادئ وبين تفاؤل متردّد تختزلها كلمته في رواية “وعود الفجر” القائلة “إن سهم حياته لا وجهة له”. إن شخصيات رومان غاري تتشكل، في أغلبها، في خضم المغامرات والنضال والحرب ومقاومة العنصرية… وهي شخصيات غير حزينة بل مقتنعة أنها “محظوظة لأن السنوات الخمس والعشرين القادمة سوف تكون أصعب…”. وقد كتب تودوروف أن البناء النفساني لشخصيات رومان غاري بناء مكتمل ولا ينقص أي شيء، بل إنه يعاني من المبالغة في كل شيء”. ويشير ذلك الكلام إلى ميل ثابت لدى غاري يحاول من خلاله أن يلامس الحدود القصوى الممكنة من البناء السردي وصياغة الأحداث وترابطها وتفاعل شخصياته معها. وذلك أسلوب كتابي محفوف بمخاطر جمة في مستوى توازن النص الروائي ووحدة مكوناته.
وقد أشار بعض دارسي أدب غاري إلى أن هذا الأخير عبّر في العديد من رواياته مثل “مداعبة” و”الحياة أمامنا” عن صعوبة التواصل بين البشر في سياق علاقاتهم الاجتماعية المستندة إلى اختلاف بينهم فيما يخصّ دلالة الكلمات ومضامينها، وذلك ما يفسّر اهتمام غاري المفرط بمختلف أبعاد الجانب اللغوي في كتابته، كما أنّه كان يسهر شخصيا على مراجعة ترجمات روايته إلى اللغات التي يتقنها أو حتى على حوارات الأشرطة السينمائية التي تقتبس منها. وتوحي لنا آخر روايات غاري “الطائرات الورقية” بأهميّة اللغة بالنسبة إليه ضرورة أنه يعتبرها الوسيلة الوحيدة القادرة على استيعاب التاريخ في جوانبه المعقدة.
لقد كان ألبير قصيري يكتب باللغة الفرنسية كاختيار نهائي ولجوء دائم إلى ثقافة وأدب قرر الكاتب المصري أن يتجذر فيهما. أما رومان غاري فهو استعمل اللغة الفرنسية لذات الأغراض التي حدّدها قصيري من ناحية، واستعملها كمدخل إلى لغات وثقافات أخرى سعيا وراء التألق وتأكيد النجاح من ناحية أخرى.
وإن كانت مواهب غاري الأدبية ثابتة، فإن اختياره الكتابة باللغة الفرنسية هو عملية إرادية شقت طريقها بصعوبة بين التناقضات الداخلية التي عاناها رومان غاري طوال حياته، فهو ليتواني، روسي عاش طفولته في بولونيا، وشبابه في فرنسا واكتشف في كهولته العالم الأمريكي وهوليود. كما أن الأصول اليهودية لغاري لم تكن عنصر انسجام نفساني وثقة في التاريخ بالنظر إلى ما عاشته أوروبا إلى حدود سنة 1945. وهو عالج مسألة مصير اليهود من جراء النازية منذ أول رواياته “تربية أوروبية” ليعود إلى ذات الموضوع في رواية “رفقة جنجيس كوهي” وصولا إلى آخر روايته “الطائرات الورقية”.
لم يكن غاري متجذرا في المعتقدات الدينية اليهودية ولم يكن صهيونيا، ولكنه كان من أصل يهودي ومن الطبيعي أن يكون ذلك مصدر قلق وارتباك بالنسبة إليه وذلك بالنظر إلى ما تعرض له اليهود في أوروبا خلال النصف الأول من القرن العشرين.
أما ألبير قصيري فقد عاش حرّا وكتب بحرية عن التجربة المتاحة للبسطاء والمهمشين وضحايا المجتمع حسب تقييم تيري باكو. ولم يكن هاجس الحرية لدى قصيري مكبلا بقضية انتماء وهوية، بل إنه كان يضمر موقفا نقديا إزاء المجتمع (المصري) الشرقي الذي ولد وتربى فيه دون أن يكون منبهرا بمآلات حضارة الغرب ونمطها الاجتماعي الذي عاش فيه. رفض ألبير قصيري التحديث السريع والمشبوه الذي عرفته مجتمعات الضفة الجنوبية للمتوسّط والذي أفرز تهميشا مجتمعيا وحضاريا خطيرًا من ناحية، كما أنه لم ينسجم بسبب أصوله الحضارية والثقافية الشرقية مع نموذج المجتمع الاستهلاكي المتقدم الذي أخضع كل جوانب الحياة إلى قانون السّرعة والربح والفائدة. تلك هي عناصر الأزمة التي حدّدت مضامين وأسلوب الكتابة لدى ألبير قصيري والتي اختار أن تكون بمثابة احتجاج سافر وهامشي ضدّ شروط حياة المهمشين في الأرض عموما وفي مصر بالخصوص.
لقد كتب ألبير قصيري عن المهمشين والفقراء والمعدمين المصريين من خارج مصر (على عكس نجيب محفوظ مثلا) وبلغة الآخر (اللغة الفرنسية)، لكنه كتب كمصري. فهو لم يُنتج أدبا متأزما رغم أنه عالج في مختلف كتاباته أوضاعا مأزومة وشخصيات متأزمة. وهنا يكمن الفرق الأساسي بينه وبين رومان غاري. لم يكتب ألبير قصيري وهو مأزوم وتحت وطأة فقدان هوية أو استحالة الدفاع عنها أو السعي إلى الاعتراف بها مثلما كان الحال مع رومان غاري. لقد كان لألبير قصيري أجنحة قوية سمحت له بأن يحلق عاليا في العالم وفي الأوساط الاجتماعية العليا في مختلف البلدان التي زارها، لكن ضعف شعوره بالالتزام الوطني جعل من لجوئه اللغوي إلى الأدب الفرنسي لجوءًا ثقافيًا متأزمًا.