إعداد وتقديم: جرجس شكري
شاعر وناقد مصري
لم تكن سيزا قاسم «8 ديسمبر 1935 – 8 يناير 2024» التي لُقِّبَتْ بسيدة الأدب المقارن مُجرَّد ناقدة وأكاديمية متميزة ورائدة في هذا المجال فقط، بل تميَّزت بشجاعة نادرة في المواقف، وقدرة فريدة على الاستغناء، وإعلاء دائم للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة، ووفاء دائم للأصدقاء، فقد كانت تتحلى بالشجاعة في النقد بقدر ما كانت تتحلى بها أيضًا في الحياة. ورغم حصولها على رسالة الماجستير من خلال أطروحتها حول طوق الحمامة لابن حزم مع د. عبدالعزيز الأهواني ثم رسالة الدكتوراه وموضوعها ثلاثية نجيب محفوظتحت إشراف الدكتورة سهير القلماوي، وما كان للأطروحتين الأولى والثانية من أثر وصدى كبيرين، إلا أنها لم تكن من بين أعضاء هيئة التدريس في جامعة القاهرة؛ مِمَّا دفعها للعمل في الجامعة الأمريكية بالقاهرة لتدريس اللغة العربية وآدابها والأدب المقارن من سنة 1968 إلى سنة 1983، ثم تفرَّغت للقراءة والبحث. وعلى الرغم من كل ما قدَّمته سيزا قاسم من إضافات للدراسات النقدية والنقد المقارن من إسهامات مرموقة، فإنها لم تنل يومًا أيَّ جائزة من الجوائز المصرية أو العربية التي تتناثر هنا وهناك. لقد كانت تسمو فوق كل هذه الأشياء، كانت بعيدة كل البعد عن حسابات المؤسسة الثقافية الرسمية، كل الحسابات فيما عدا مشروعها النقدي، فهي من أصحاب المواقف الواضحة والآراء الشجاعة، ومن الجيل الذي آمن بالتحرر الوطني وقيمة الحرية في كل مناحي الحياة، وفي كل كتابتها كانت على يقين بأن استقلال المثقف ضرورة حتمية؛ إذ كانت كما يصفها د. طارق النعمان تمثل ’’نصًا إنسانيًا وأكاديميًا حافلًا بالقيم والمبادئ الجليلة».
ساهمت سيزا قاسم في تأسيس مجلة ألف «مجلة البلاغة المقارنة» في الجامعة الأمريكية بالقاهرة مع د. فريال غزول، كما ساهمت أيضًا بالترجمة والكتابة في «مجلة فصول» حال تأسيسها، وأصدرت ستة كتب «بناء الرواية، مدخل إلى السيميوطيقا، بناء الرواية: قراءة مقارنة، القارئ والنص: العلامة والدلالة، طوق الحمامة في الأُلْفَة والأُلّاف لابن حزم الأندلسي، شذور الذهب».
غالبًا ما كنت أتخيل سيزا قاسم، وأنا أقرأ أعمالها وخاصة التي تناقش التراث العربي، أنها تطوف بين بغداد والقاهرة ودمشق وبلاد فارس والأندلس، تطرق باب الجاحظ تجلس إليه تسامره، تناقشه وتطوف معه بين الألفاظ والمعاني في ليالي بغداد، تحاور ابن خلدون وتسأله عمَّا فعل الفقيه بالمؤرخ، وتقتحم بجرأة مروج الذهب مع المسعودي، تتلو على ابن حزم قصص الحب التي تعرفها من القرنين التاسع عشر والعشرين، تحكي لهم وتسمع منهم، حتى نجيب محفوظ لا تناقشه في القالب الذي وضع فيه «السكرية وقصر الشوق وبين القصرين» بقدر ما تخبره عن أقرانه في أوروبا، تحكي كما تحكي شهرزاد ولكن ليس عن السندباد والجن والأميرة المسحورة، بل عن بلزاك وفلوبير وسواهم من ساردي القصص في أوروبا.. سيزا قاسم الناقدة الأكاديمية التي يستمتع القارئ وهو يطالع أعمالها، تحافظ على المنهج العلمي وتمنح القارئ متعة القراءة، تعتمد على المنهج ولكنَّها على قناعة بأن الكلمة العُليا للمخيلة التي تلعب دورًا أساسيًا في كتاباتها، ففي كل نص تتناوله بالنقد والتحليل، تستمع إليه، تقيم معه حوارًا طويلًا وعميقًا عبر الزمان والمكان، تسأله وتسأل صاحبه عن تاريخه، تبحث عن مجموعة من القيم التي تُجسِّد الحق والخير والجمال، فلم تشأ أن تنشر أطروحتها الأولى عن ابن حزم إلا بعد أن أضافت إليها علاقة هذا النص الأندلسي المكتوب في القرن الثانى عشر بما كُتِب في أوروبا في تلك المرحلة وما تلاها، واصطحبت نجيب محفوظ مع كُتَّاب الرواية في القرن التاسع عشر، لقد اختارت الطريق الأصعب حيث يذهب الناقد إلى العمل الأدبي دون أسلحة وقوالب جاهزة يبحث في محتواه عمَّا يناسبه. وأنا أقرأ سيزا قاسم، أشعر رغم صرامة المنهج العلمي بأنها بعيدة عن المعايير الجامدة والقوالب النمطية، فهي لا تقرأ النص موضوع الدراسة لتقارنه بآخر بقدر ما تضع هذا النص وصاحبه في حوار مع أقرانه في الأدب العربي والعالمي، ليعني الأدب المقارن بالنسبة لها، الانفتاح على التراث والآخر.
بعد أن أنهت دراستها بكلية الآداب جامعة القاهرة التقت بالدكتورة سهير القلماوي وناقشتها في موضوع الماجستير الذي تنوي تقديمه، ومن خلاله تتناول إحدى الشخصيات المهمة في الأدب الفرنسي، وهذه كانت رغبتها الأولى، فقالت الأستاذة للطالبة الحاصلة على ليسانس الآداب في اللغة الفرنسية: ما الجديد الذي سوف تقدمينه أفضل من الفرنسيين في هذا الموضوع؟ واقترحت عليها أن تلتحق بقسم اللغة العربية ليكون هذا طريقها إلى الأدب المقارن، وبالفعل بدأت الدراسة في قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة لتتغيير حياتها وتحدِّد طريقها الذي سوف تسير فيه حتى النهاية، هذا ما أخبرتني به في لقائي الأول بها، وهذه المعلومة بداية التعرف على شخصيتها النقدية، وروت أيضًا فيما بعد كيف تدخلت سهير القلماوي لدى والدها كي تلتحق بالجامعة، إذ كان غير متحمس لهذه الخطوة فقد حصلت على ليسانس اللغة الفرنسية عام 1957 من كلية الآداب جامعة القاهرة ثم ليسانس الأدب العربي عام 1960 بعد أن تم إعفاؤها من السنة الأولى لتدرُسَ ثلاث سنوات فقط بدلًا من أربعٍ، ولم تكن هذه الدراسة طريقها إلى تخصصها فقط والذي سوف تتفوق فيه على الجميع وهو دراسة الأدب المقارن، بل كان هناك في مدرجات قسم اللغة العربية ينتظرها أستاذها ومعلمها الدكتورعبد العزيزالأهواني الذي سوف يحملها إلى الأندلس لتلتقي ابن حزم وتخطو معه أولى خطواتها العلمية من خلال أطروحة الماجستير عام 1971 «طوق الحمامة في الأُلفة والأُلَّاف لابن حزم الأندلسي – تحليل ومقارنة» ولم تنشرها إلا عام 2014 أي بعد ما يزيد على أربعة عقود من المناقشة وأضافت فصلًا جديدًا على الرسالة قارنت فيه «طوق الحمامة» بأعمال عن الحب في تراث الغرب من القرن الثاني عشر إلى القرن التاسع عشر، وبرَّرت هذه الإضافة وقالت: «لنعطي هذا العمل حقه في إطار التراث الغربي كما فعلنا بالنسبة للتراث العربي.»(1) .
عرفتُ سيزا قاسم أنا وأبناء جيلي من خلال الكتاب الأشهر «بناء الرواية» وأيضًا كتاب «أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة – مدخل إلى السيميوطيقا» الذي قدمت فيه للقارئ العربي مع د. نصر حامد أبوزيد وآخرين مجموعة من الدراسات حول هذا العلم، وقالت في تقديم طبعته الثانية فيما بعد: «عندما شرعنا في وضع كتاب يُعرِّف القارئ العربي بالسيميوطيقا لم يكن هذا العلم انتشر بعد -وكان ذلك عام 1986- وأضافت كنا مهمومين باستكناه المناهج الحديثة في العلوم الإنسانية وحريصين في الوقت ذاته على ألا نلهث وراء كل جديد، بل نلم بالتطورات الجذرية التي تنقل الثقافة من طور إلى طور، وربما يبدع في مجال الدراسات الإنسانية من مجالات جديدة، فبرزت أمامنا أهمية علم السيميوطيقا، فأخذ مؤلفو الكتاب على عاتقهم تقديمه للقارئ العربي»(2) وكان الكتاب حدثًا مهمًا ليس فقط لأهميته بل أيضًا لندرة ما تم نقله إلى اللغة العربية من هذا الاتجاه، خاصة أن الكتاب لم يقتصرعلى الترجمة، بل ضم مجموعة من الدراسات لسيزا قاسم، وفريال غزول ونصر حامد أبو زيد وأمينة رشيد. وتساءلت في مداخلتها.. السيميوطيقا.. لماذا؟ وقالت «الإجابة المباشرة على هذا السؤال هي أن السيميوطيقا قد تُعِيننا على تحويل العلوم الإنسانية من مجرد تأملات وانطباعات إلى علوم بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، ويتميز العلم بعدد من المنطلقات المنهجية قد يكون أهمها السيطرة على المادة التجريبية من خلال تجاوز المستوى المعاش اليومي الطارئ والتوصل إلى مستوى من التجريد يسهل معه تصنيف هذه المادة ووصفها من خلال أنساق من العلاقات تكشف عن الأبنية العميقة التي تنطوي عليها، وقد نتمكن من خلال هذا التجريد من أن نستخلص القوانين التي تحكم هذه المادة»(3) وشرحت للقارئ لماذا اهتمت هي بهذا العلم، فقد تولّد اهتمامها بالسيميوطيقا حين بدأت رحلة البحث عن منهج وأدوات تُمكنها من وصف الإنتاج الأدبي، أي الأعمال الأدبية، فلم يكن عملها في هذا الكتاب رغبة في تقديم اتجاه معاصر للقارئ بقدر ما كان حاجة أساسية في مشوارها الأكاديمي.
أما كتاب «بناء الرواية – دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ»(4) أطروحة الدكتوراه فقد كانت درسًا في الأدب المقارن، بل ولعبت دورًا مهمًا في التعريف بالبنيوية عربيًا في تلك المرحلة، وقبل أن تتناول موضوع الرسالة قدمت للقارئ دراسة وافية حول هذا العلم من خلال عرض للمدرستين الفرنسية والأمريكية في الأدب المقارن، وبرَّرت اختيارها لثلاثية نجيب محفوظ موضوع أطروحتها لأن القالب الذي كتب من خلاله مأخوذ من القوالب الغربية، فهذه الروايات المتتابعة الأجزاء انتشرت في الغرب أولًا، وحدَّدتْ ثلاث مدارس غربية تأثر بها نجيب محفوظ وفقًا لمقولات النقاد وقتذاك، الواقعية الفرنسية مُمثَّلة في«بلزاك وفلوبير» والطبيعية مُمثَّلة في «زولا» بالإضافة إلى الروائيين الإنجليز من خلال «جلزورذي وبينت» وحدَّدت أن هذا التأثير في أفكار عمومية مثل الوراثة عند زولا، أو نقد المجتمع عند بلزاك، أو عرض تاريخ أسرة برجوازية كما عند جلزورذي، لتقرأ نجيب محفوظ في سياق الرواية العالمية.
في المرة الأولى التي التقيتُ سيزا قاسم عام 2018 كنتُ أعرف عنها ما ذكرته سلفًا عن هذين الكتابين، ولكنَّها صورة من بعيد لناقدة أعرف جيدًا أنها بعيدة عن الصورة النمطية للنقاد في السنوات بل قل في العقود الأخيرة، قالت لي: سألتُ نفسي ما الفائدة في دراسة أدب أجنبي إن كنتَ لا تملك مفاتيح تراثك؟ وباستثناء «طوق الحمامة» لم أكن أتابع قراءة هذه الناقدة الكبيرة للتراث العربي، وكانت البداية مع كتاب «روايات عربية – قراءة مقارنة»(5) وإن كان يُقدِّم قراءة مقارنة في مجموعة من الأعمال الروائية لجبرا إبراهيم جبرا، وصُنْع الله إبراهيم، ونجيب محفوظ وسواهم، إلا أنها كتبت فصلًا متميزًا عن الأدب والصمت، بحثًا مُدْهِشًا تتجلى من خلاله شخصيتها الأكاديمية، نعم هناك رواية لكاتب فرنسي يعتمد عليها البحث، ولكن قبل أن نصل إلى الرواية تتساءل (هل يمكن أن يجتمع اللفظان في جملة واحدة «الصمت والأدب» ألا ينفي الأدب الصمت من حيث الوجود، فالأدب هو التعبير اللغوي في أعلى وأكمل تجلياته) وتعرض للصمت في العديد من الثقافات من خلال الأمثلة، وتتوقف عند كتاب لأبي عبدالله بن محمد المعروف بابن أبي الدنيا عنوانه «الصمت وأدب اللسان» صنّفه عن الصمت وضمّنه العديد من الآفات التي يقع فيها اللسان كفضول الكلام والتقعر، المراء والغيبة والنميمة والفحش والبذاءة والكذب ونحوها وكيف أشار لمحاسن الصمت ومساوئ الكلام، وفصل في أدب الكلام وأخلاقياته.. وبعد أن تحاور ابن أبي الدنيا وتداعبه إعجابًا وتقديرًا، تتأمل العلاقة بين اللغة والصمت في حياتنا اليومية وتشير إلى أنهما لا ينفي أحدهما الآخر، بل على العكس من ذلك في بعض الأحيان يكمل أحدهما الآخر، فالصمت جزء لا يتجزأ من الكلام، والحوار تبادل الصمت والكلام، ولا توافق على مقولة «الصمت واحد والكلام كثر» وترى أن ثمة مبالغة، «فالصمت ليس فقط علامة الرضا، بل أيضًا الرفض والاستعلاء واليأس والانهيار والازدراء والتشفي»، ولأن الانفتاح على الذات والآخر هو ما تؤمن به سيزا قاسم ومن أجله كان الانحياز إلى الأدب المقارن، تتجول بين تجليات الصمت كما يرويها «أوزفلد دوكرو» من خلال كتابه «قانون الصمت»، فالصمت طريق الراهب وملاذه ومسلكه، والصمت هو إفساح القلوب لاستقبال كلام الله، فالكلام البشري يقف عائقًا بين القلب والكلمة الإلهية، فالصمت ليس فراغًا ولكنه الوعاء الذي يستقبل كلام الرب! ومن الرهبان إلى المتصوفة، وما ذكره ابن عربي، الصمت قسمان: صمت باللسان عن الحديث لغير الله تعالى مع غير الله تعالى جملة واحدة، وصمت بالقلب عن خاطر يخطر له في النفس في كون من الأكوان. أمَّا عن الأدب والصمت فتستعير من روائي فرنسي اسمه «فيركور»مولود في باريس 1902 روايته المُعَنْوَنَة «الصمت والبحر» حول عجوز وابنة أخيه، وضابط ألماني يحتل البيت كما احتلت ألمانيا فرنسا، يشغل الضابط الغرفة العلوية، يقوم العجوز بدور الراوي في هذه الرواية والتي تأتي في شكل منولوج داخلي على لسانه، أمَّا الفتاة فصامتة تمامًا في الرواية، لا تُفصِح عمَّا يختلج في نفسها، وهي صندوق أسود مُصْمَت تمامًا، تفلت منها بعض الإشارات الخفية، من احمرار الوجه أو اضطراب يدها المُمْسِكة بإبر التريكو الذي تنهمك فيه كي تتجنب تلاقي النظرات مع الضابط.. وصمتها هو حوار الصمت العظيم. فالصمت في هذه الرواية، تقول سيزا قاسم: «قمة المقاومة، الصخرة التي تتلاطم عليها أمواج الكلام دون أن تنخر فيها الفتاة، تحافظ على كبريائها وطهارتها، تنتصر في النهاية بأن تضع هذا الغريب المحتل أمام الحقيقة.. تمثل الفتاة ما يجب أن تكون عليه فرنسا من وجهة نظر فيركور محترمة صامتة شامخة».تطوف سيزا قاسم مع الصمت وكأنَّها في رحلة عبر الزمان والمكان مع التراث العربي والغربي بين الرهبان والمتصوفة وعقل الجماعة، والكاتب الفرنسي! وكأنَّها تُنقِّب عن الصمت عبر العصور، عبرالثقافات المتباينة.
وفي كتابها الأخير«شذور الذهب في التفسير والتاريخ والفن والأدب»(6) الذي أعدَّ فصوله وقدَّمه د.طارق النعمان، قراءة مقارنة أخرى للخطاب التاريخي من خلال تحليل مناهج ثلاثة مؤرخين من قراءة أعمالهم «تاريخ الرسل والملوك» للطبري و«مروج الذهب» للمسعودي و«كتاب العِبر» لابن خلدون، لتبدأ من منهج المؤرخين العرب المقيد بقدسية النص والتي انتقلت من النص القرآني ونصوص الحديث إلى الكتابة التاريخية، وتُمارس هوايتها في التجول عبر سيرة هؤلاء من خلال رؤية شاملة للتراث العربي ولأصول هؤلاء الكتاب وعلاقتهم بالفقه الإسلامي وكيف تقيَّد منهج المؤرخين العرب الأوائل بقدسية النص وكيف لم يستبح المؤرخ لنفسه استيعاب المعنى الوارد في الخبر أو الرواية التي جاءت على لسان الشاهد الأول للحدث وإعادة تقييمها مُجرَّدة لقارئه، بل لم يقدم إلا متأخرًا على نقدها وتقويمها في ضوء غيرها من الأخبار والروايات، وتؤكد للقارئ أن هذا التقرير ليس بحثًا في علم التاريخ بل هو دراسة للخطاب التاريخي في محاولة لسرد خصائص كتابة التاريخ العربي من خلال قطبين من أقطاب المؤرخين، الطبري وابن خلدون، مع وضع المسعودي وسطًا بينهما. جميع مؤرخي العرب الأوائل كانوا فقهاء قبل أن يكونوا مؤرخين، هذا ما عملت عليه في البحث، وناقشت المسارات والتحولات الفكرية لهؤلاء المؤرخين. فقد كان الطبري شافعيًا في بداية حياته وتحول عن هذا المذهب، ووضع مذهبًا خاصًا به، في حين كان ابن خلدون قاضي قضاة المالكية في أواخر حياته، والاستثناء المسعودي على الرغم من أن له بعض الكتابات في الفقه كما أن له ميولًا اعتزالية ويُشْتَبه في تشيُّعه، وتحاول قراءة مناهج المؤرخين الثلاثة في ضوء هذه التحولات، وتستنتج الاختلاف الجذري بينهما، فالطبري قام بإملاء تاريخه على تلاميذه، أمَّا المسعودي فكان في حالة ترحال مستمرة، وكان يؤلف كتبه وهو يتنقل من مكان إلى مكان، وكان يعتذر عمَّا أصابه من تقصير بسبب تقاذف الأسفار، أمَّا ابن خلدون فقد كتب مقدمة كتابه أثناء اعتزاله الحياة العامة أربع سنوات في قلعة بن سلام يقول: «متخليًا عن الشواغل كلها، وفي تلك الخلوة، سأل ابن خلدون شآبيب الكلام والمعاني على الفكر حتى امتخضت زبدتها وتألفت نتائجها كما يقول، وهذا ما كانت تفعله سيزا قاسم في أعمالها، تحاوِر المعاني وتسائِل الشخصيات.
كذلك قدَّمت د. سيزا مقارنة دقيقة بين مناهج الثلاثة وحيواتهم، وبيئاتهم، لتخلص في النهاية إلى أن ممارسة الكتابة التاريخية تمت من خلال انتقال منهج علم آخر إلى حقل التاريخ: إذ نقل الطبري منهج علم أصول الحديث، ونقل المسعودي منهج العلوم التجريبية، ونقل ابن خلدون منهج علم أصول الفقه، ولا تتطور العلوم إلا بمثل عمليات التهجين هذه، وتؤكد أنه لكي تنجح عمليات التهجين لا بد أن تتلاءم المادة المدروسة مع المنهج المستعار، فالطبري لم ينجح في سعيه لأنه طبَّق قواعد علم يتعامل مع نصوص مقدسة، والمسعودي خرج من إطار العلوم الشرعية فعمل على تطبيق منهج تجريبي على مادة تجريبية، وأمَّا ابن خلدون فنجح في عملية تهجينية حقيقية، فقد استلهم علم أصول الفقه الذي كان معجبًا به، والذي لا يتعامل مع النصوص تعاملًا مباشرًا، ولكنه يقدم الطرائق التي تستخدم لاستخراج الأحكام من النصوص.. فهو علم على درجة عالية من التجريد، وعندما فصل بن خلدون الأخبار الشرعية عن الواقعات، وأتم عملية التهجين نجح في تحرير فرع من فروع المعرفة من وطأة سلطوية النص، وهذا البحث نموذج لمنهج سيزا قاسم في قراءة التراث العربي.
وأذكر أنها حين كتبت عن أحد دواويني راحت على مدى أكثر من شهر تُقيم معي حوارًا يوميًا حول الشعر عبر التاريخ، ماذا قرأت، ولماذا، ومن هم الشعراء الذين أحب من الشعر العربي والغربي، فتحملني تارة أنا وأشعاري إلى أوروبا نقف في فرنسا مع رامبو وبول فاليري، أو نذهب عند رينه ماريا ريلكه في ألمانيا، أو نعود إلى العصر العباسي نلتقي المتنبي وأبي نواس وبشار بن برد.. تسألهم عني وتسألني عنهم.. بل وفي أحيان أخرى نذهب إلى مكان بعيد مع شعر الهايكو. وفي النهاية كتبت مقالًا كله ليس لي أنا بل ومعي حشد من الشعراء! قرأت نصوصي مع هؤلاء، لم تكن تقارن بل كانت تبحث عمَّا أعجبها في هذا الشعر ولكن ليس وحدها وكأنها تسألهم، البعض قرأ وأصابته الدهشة وقالوا ليس كل المقال عنك. لأنهم يقرأون كما يعرفون من خلال قوالب جامدة ومناهج عقيمة، فهي لم تكتب فقط دراسة عن ديوان «أشياء ليس لها كلمات» بل حملتني إلى رحلة طويلة، كنتُ كل يوم أقرأ الشاعر الذي تسألني عنه وتسأله عني، فهي لا تكتب وحيدة، لا تستعير أو تحفظ منهجًا تكتب من خلاله أو تُطبِّقه حرفيًا، كانت تحمل الفكرة والنص إلى عالمها السحري، عالم الحكايات، تحكي كما كانت تحكي شهرزاد، إذ كانت تُروِّض النصوص والأفكار من خلال نصوص وأفكار أخرى، وفي كل محادثة بيننا كان يحضر معها حشد من الناس بعضهم أعرفه، وبعضهم تقدمه لي من خلال منولوج طويل، فمرة تأتي ومعها عبدالعزيز الأهواني، أو طه حسين أو الجاحظ، أو بول فاليري، أو إيتالو كالفينو، مرة دار بيننا نقاش طويل حول الثابت والمتحول، والشعر الجاهلي، فقالت لي: لا بد أن تقرأ ما كتبه الأهواني عن الشعر في كتابه «العقم والابتكار عند ابن سناء الملك» وفي حوارنا الأخير سألتني عن مقدمة طه حسين لكتابه على «هامش السيرة» وعن عظمة وثراء هذه المقدمة، وقالت لي إنها ترغب في أن تكتب السيرة النبوية من خلال أسلوب معاصر «السيرة تستحق الكتابة» وأنها ستعرض هذه الفكرة، فلم تعش مع مناهج أو أفكار مجردة، كانت تعيش مع حيوات، لتتحول المناهج والعلوم الجامدة إلى حكايات مثيرة وشيقة واحتفظت بطابعها العلمي والأكاديمي، وهذا أمر نادر الحدوث.
الهوامش
1- طوق الحمامة في الألفة والألاف لابن حزم –المجلس الأعلى للثقافة- 2014
2- أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة– مدخل إلى السيميوطيقا– سيزا قاسم– نصر حامد أبو زيد -دار التنوير– طبعة ثانية– 2014
3- المرجع السابق
4- بناء الرواية– رسالة الدكتوراه، نوقشت عام 1978، وطبع عدة مرات آخرها –مكتبة الأسرة 2004-.
5- روايات عربية– قراءة مقارنة– صدرت الطبعة الأولى في المغرب، والثانية في مصر 2020– طبعة مَزِيدَة ومُنَقَحَة أضافت لها مجموعة من الدراسات.
6- شذور الذهب في التفسير والتاريخ والفن والأدب– الهيئة العامة لقصور الثقافة 2023.