كانت آراء الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر ومواقفه تجاه النازية »الهولكوست« مثار عاصفة من الأسئلة والاستنكارات والسجالات تتواصل حتى هذه اللحظة التي يرتكب فيها أحفاد ضحايا المحرقة كل هذه الجرائم والمحارق والإبادات ضد الشعب الفلسطيني والإنسانية. وسط صمت معظم المثقفين في البلدان المتحضرة وغيرها: هذه المفارقة التي تندى لها كرامة الفكر وضمير الإنسان والتي تفوق في وحشيتها سلفها البربري وتثير ذعرا مضاعفا ورجاء أقل بكثير في مستقبل أفضل للبشرية على هذا الكوكب إذا ما سارت الأمور على هذا المنوال وشاكلته!! (المحرر)
ما من شك في أن علاقة بول سيلان مع مارتن هايدغر ستحاط, بدءا من عام 1970, بهالة من الغموض والانعتام الشيء الذي سيتولد عنه سيل من الظنون والترجيحات والتساؤلات يمكن صبها في استفهام كبير مؤداه: ما الذي يكون قد جرى فعلا بين الشاعر اليهودي الذي يكتب باللغة الألمانية وبين الفيلسوف, سواء في طودتنوبرغ أو في فريبورغ ? ومن حسن الحظ أن هناك وثائق – شهادات غزيرة تخول لنا, علاوة على ما حرره هايدغر من خطابات بعثها إلى سيلان, الاقتراب, من الآن فصاعدا, من حقيقة الأمر والتعرية عن خباياه.
يوم 13 أكتوبر 1995 سيعود جورج ستينر, ضمن الفقرة الأدبية الخاصة به في »التايمز«, إلى موضوع اللقاءات التي سبق وأن حصلت بين بول سيلان وهايدغر, وتحديدا إلى لقائهما في طودتنوبرغ في شهر يوليو من عام 1967, لكن الغاية من هذه العودة كانت هي الاعتذار عما سلف منه من تزجية متسرعة لجملة من الإشاعات التي لا ترتكز على أساس وانسياقه وراء بطلانها, ومن بينها تلك التي ذهبت إلى حد الافتراء بأن الفتور والبرودة اللذين اقتبل بهما هايدغر سيلان هما ما منع هذا الأخير من التماس إيضاحات من مضيفه حول مسؤوليته المحتملة عن أهوال المحرقة النازية, فكان أن اعتبر هذا إخفاقا للقاء الرجلين بل وأحد العوامل التي ستلعب دورا, لا يمكن التهوين منه, في حادث انتحاره بباريس ليلة 19 أبريل 1970, وهي الأطروحة التي رو جت لها, كما نعلم, إلزبييتا إيتينغر, المدرسة في معهد ماساشوسيت للتكنولوجيا بالولايات المتحدة, وانضوى إليها, في حينه, ستينر وتولى الدفاع عنها شخصيا, بصفة علنية, أمام الجمهور الباريسي.
فهو, أي ستينر, ينبه, في معرض مقالته المنشورة في »التايمز«, إلى كونه قد أخذ, للتو, علما برسالة كان قد تلقاها فرانز فورم من سيلان, تحمل تاريخ 7 اغسطس 1967, يتحدث فيها الشاعر عن أطوار زيارته لطودتنوبرغ وحيثياتها والأهم من هذا هو تنصيصه بالحرف على »أن كل شيء قد مر على أفضل حال« في أثناء ملاقاته لهايدغر الذي سوف يفتح معه حوارا مطولا »على درجة من الوضوح«, ليخلص, ستينر دائما, إلى الإقرار, وذلك بنبرة جازمة لا غبار عليها »بأننا كنا, لا أنا ولا إيتينغر, مخطئين نظرا لانعدام ولو أدنى حجة قد تدعم القول بأن سيلان غادر هايدغر مهزوم الكيان, محطمه «.
لكن, وعلى ما يبدو, فإن خرافة علاقتهما سوف لن تتراجع, مع ذلك, عن الاتساع والتضخم, ذلك أننا سنلفي, إثر هذا, جورج سيمب ران وهو بصدد توقيع خطاه هو الآخر, دونما تردد يذكر, في ممشى »يقال« أو »زعموا«, بحيث سيكتب, مثلا, في مصنفه الموسوم بـ»الكتابة والحياة«, الصادر عام 1995 عن منشورات غاليمار, وهو في مهب ما أسماه جولة في »أرض الموت القديم«, في بوخنفالد, الموت الذي تملكت بول سيلان رغبة عارمة في »أن ينتزع في شأنه من مارتن هايدغر صياغة غير ملتوية لموقفه من النازية, وتدقيقا لموقفه من إبادة الشعب اليهودي في المعسكرات الهيتلرية«. وفي هذا المضمار لن يخالج سيمبران أدنى شك في كونه أفلح في إثبات أن سيلان لم ينل من مخاطبه سوى الصمت المطبق أما تعليقاته المواكبة فلم تكن لتضيف شيئا من غير الإيحاء بعزوف إنسان »لا يملك قلبا« عن الكلام والنتيجة هي انغمار الشاعر في أتون وضعية قلقة ومتوترة لن تلبث عن الزج به في هاوية الانتحار. إن سيمبران, المعتقل السابق والمغترب عن الوطن حاليا, وقد اختار تلوين مصنفه المذكور بديكور بوخنفالد كيما يرتب تعليقه على قصيدة »طودتنوبرغ« لسيلان ويلطخ, بالتالي, سمعة هايدغر بوحل العار ليستحق, من هذا الضوء, أوسكار المونطاج الأكثر نحسا وكارثية وأيضا السيناريو الأوفى عبرا ومغازي, إذ سيبلغ به الأمر مبلغ التلصص على المراسلات الشخصية المتبادلة بين كارل ياسبرز وهايدغر (انظر الملحق رقم1) في مرمى إكساب روايته الملفقة للامبالاة هايدغر تجاه الهولوكوست وصمته غداة صدور »الجرم« عام 1946, مقالة ياسبرز حول المسؤولية الجنائية الألمانية في هذا النطاق, بعضا من الصدقية والتماسك غير آبه بما كان يردده هايدغر, أثناءها ومجريات المحرقة ما فتئت طرية, مشددا على كلامه حد الوثوق بأنه لا طائل من الانكباب على وقائع تند حاضرا عن فكر قد يتحلى بالاقتدار على تحليلها ضمن أفق غير قائم الآن, ملائم لفهم فترة عدمية, متوحشة, في تاريخنا.
إن الحقيقة لهي شيء آخر مخالف لهذا تماما, مثلما صرح بذلك سلفا الكاتب الألماني غيرهارت بومان ضمن كتابه »ذكريات بول سيلان« (سوهر كامب, 1986), هو من آوى الشاعر في أثناء سفرته إلى فريبورغ. فهو يتحدث من منطلق شهادته القريبة على اللقاء موردا, على سبيل التمثيل, جزئية انضمامه, بعد أن تركه الشاعر مواليا طريقه, إلى هذا الأخير وهايدغر بعد فراغهما من تناول طعام الغذاء بوقت وجيز في نزل ريفي: »بكثير من الاندهاش وبمزيد من الابتهاج رأيت الشاعر والمفكر وهما في غمرة الفرح تشي حالتهما بالرضا والارتياح, كانا يستعيدان ما فعلاه بالأمس ويدردشان في شأن زيارتهما المرتقبة للبيت الخشبي في طودتنوبرغ, وبدا لي سيلان كما لو تخفف من عبء كبير«. ثم إنه, أي بومان, لا يتورع عن التطرق إلى ما كان عليه سيلان من مزاج رائق ومعنويات عالية ساعة مغادرته في اليوم التالي نحو فرانكفورت إلى حد أن الشاعرة ماري لويز كاشنيتز سوف تفاجأ حين رؤيتها لسيلان آخر, مغاير, ولن تتمالك نفسها, وهي مع ثلة من أصدقائها, في الجهر بحيرتها في الشخص الذي تراه قائلة: »ماذا فعلوا فيه بفريبورغ? ما الذي جرى هناك? فهو غير الشخص الذي عهدناه «.
و على الغرار من استفهام الشاعرة الدال أليس لنا أن نستفهم نحن أيضا عن نوعية الأسئلة التي يكون قد طرحها سيلان على هايدغر, عن موقع الصمت ووظيفته في تضاعيف حوارهما ذاك. في هذا المنحى يفيدنا بومان, لمرة أخرى, بأن صديقه سيلان »لم يكن هو نفسه يدري ما الذي يبتغيه من هايدغر بالضبط أو يود الاستماع إليه منه « وخاصة وأن هايدغر كان يصدر في تحليله للتعالق الممكن بين الفكر والشعر عن أن كون أي ما »ترتيب لمهمة فكر ما« حابل بالأمل يبقى محكوما بمفارقته للشعر ما دام الأمل, بما هو محرك هذا الأخير, يستقيم باعتباره أكثر الأشياء ملحاحية واستعجالا ونحن عند عتبة عصر تقني – علمي.
و إذن ففي ثنايا مناخ برزخي يستدعي التسلح بعدة من الآمال العريضة الخلاقة سيكتب بول سيلان, على نحو ما يفيدنا به بومان, قصيدة »طودتنوبرغ« يوم الاول من سبتمبر 1967:
أرنيكا, عزاء العيون وسلوانها
تكرع من سلسبيل النافورة
و زهرة النرد متسامقة تطول النجمة
إنها
في البيت الخشبي
بل لعلها قابعة في الكتاب
حيث تقتطف الأسامي
قبل اسمي
ها هي ذي في هذا الكتاب
و حيث دو ن سطر
من أمل يومه
أمل يرعوي ويتفكر
الكلام
يجيء
نحو القلب…
و منذ الوهلة الأولى تستثير القصيدة في الذاكرة تلك النتفة من الأسطر الشعرية المخطوطة بقلم سيلان في الكتاب الذهبي لبيت الاصطياف الخشبي الصغير في طودتنوبرغ الذي تجاوره نافورة كأنها »زهرة نرد في إهاب نجمة«: »في سجل بيت الاصطياف, ونظرة تحدق في النجمة من النافورة, مع الأمل في كلمة تخطو صوب القلب«.
فلقد تصرمت مدة طويلة لم يكن لسيلان, المزوبع النفسية بسبب من مشاعره المتناقضة والحائر بين إعجابه بما يكتبه هايدغر وبين شكوكه المفرطة في نواياه وذلك تحت تأثير الحملات الصحفية التي كانت تشن دوريا على الفيلسوف تحت طائلة أهوائه النازية, مهرب من الإحساس بالذنب, بل وسيقع سوء تقدير الفائدة التي يمكن أن يسديها هايدغر لسيلان حتى ضمن الرقعة الضيقة لوسطه القريب الذي لم يكن له علم إطلاقا بجوهر الفلسفة الهايدغرية. لذا وجب ألا نستغرب صعوبة الخطوات الأولى في ممشى الشاعر نحو الفيلسوف, وفي هذا الباب يروي الأستاذ أوطو ب وغيلر, على ذمة بومان, بأن سيزان سيرفض, عام 1957, أن يكون محل إهداء مؤلفه حول هايدغر, مفضلا, على ما يستنتج, عدم إلحاق اسمه باسم الفيلسوف ولو أنه سيعترف له, أي لب وغيلر, ضدا على احترازه هذا بمدى ما يكنه من إعجاب للغة هايدغر في نصوصه الأخيرة وفي مقدمتها مقالاته التي كتبها عن هولدرلين وتراكل وريلكه.. ولعله في مكنتنا تخي ل سيلان عاكفا على قراءة تلك الصفحات التي يعمد فيها هايدغر إلى موضعة ماهية الهو ة التي تفصل اللغة المفهومية التي هي محض احتياطي من العلامات المسخرة لخدمة وظيفة »التواصل« – بما هو منطلق نظرية الإعلام – عن لغة الشعر التي تضع بين يدي الكلام الجوهر المستتر للأشياء ولو في وضح الكينونة, مشخصا ما يتعين على الكلام خوضه من رهانات ومجازفات في نطاق زمن يتسم بتفوق الفاعلية الحسابية على ترو ي البصيرة ورصانة الفكر.
ففي »مقاربة لهولدرلين« سيكتب هايدغر ما يلي: »ليست اللغة مجرد أداة يمتلكها الإنسان شأن ما يمتلكه من أشياء أخرى, بل إنها ما يضمن, في المقام الأول, إمكانية المكوث داخل المنفتح ولو في الصميم من العدم, إذ هنا فقط وحيث توجد لغة تلتئم قسمات عالم… «, كما سينص, من ناحية أخرى, على أن أي فكر يقتدر على بسط المعنى إلا ويعد شعرا بامتياز.
لقد انتبه هايدغر إلى قصائد سيلان بدءا من خمسينيات القرن الماضي, وفي رده على بومان الذي أخبره باعتزامه تنظيم قراءة شعرية عمومية للشاعر في فريبورغ يوم 24 يوليو 1967 سيصرح هايدغر لمخاطبه بما نصه: »يا ما تمنيت التعرف عن قرب على بول سيلان الذي أنجز خطوات ملموسة بينما يؤثر الانكماش, فأنا على علم بجماع ما أصدره كما لا تخفى علي الأزمة العميقة والطاحنة التي يكابدها وحيدا أعزل.. أخم ن أن بول سيلان سيسعد بالتعرف على الغابة السوداء «.
كذا, وبمناسبة القراءة الشعرية, المزمع إليها, وعلى هامشها سيحصل لقاء الرجلين لأول مرة, بحيث سيتصدر هايدغر جمهورا قوامه ألف شخص ونيف حضر للاستماع إلى الشاعر, أما هذا الأخير الذي لم يدر بخلده أن يبادر هايدغر فيتصل بالناشر فريتز فيرنير ملتمسا منه وضع إصدارات سيلان الشعرية في واجهة المكتبات الرئيسية بالمدينة, عربونا على الاحتفاء والتكريم, فلكم أبهجه هذا الصنيع وهو يشاهد ما يشاهد في غضون جولته بفريبورغ.
قبيل القراءة, في قاعة الاستقبال بالفندق, وبينما هما يواليان مناقشتهما الحامية الوطيس سيدنو أحدهم طالبا التقاط صورة تجمعها, غير أن »سيلان سيبدي رفضه لأن يصور رفقة هايدغر ويبتعد لهنيهة ثم يغير رأيه فجأة ويعود سيماه باستعداده لالتقاط الصورة, في حين سيلتفت هايدغر, المصدوم والمنبهر, إلى بومان ويقول له: »من الأنسب طي هذا الموضوع«.
وبصرف النظر عن هذه الواقعة فهما سيلتقيان ثانية, عقب انتهاء القراءة الشعرية, لتجمعهما جلسة احتسيا خلالها كأسي نبيذ فكان أن اقترح هايدغر على سيلان اصطحابه في الغداة, عند الفجر, إلى الغابة السوداء وهي مناسبة ليريه بيت طودتنوبرغ الخشبي. وإذا ما كان الشاعر قد رحب بالدعوة فالظاهر أنه ما إن انسحب الفيلسوف حتى دار جهة بومان وأعرب له عن ندمه على قبولها, وإذ أدرك بومان مدى تعكر مزاج سيلان واكتئابه لم يحجم عن تذكيره بأنه هو من عبر عن رغبته الشديدة في معرفة هايدغر وتمضية بعض الوقت معه, لكنه, أي سيلان, لم يوفق بحسب بومان دائما, وحتى ذلك الحين إلى المصالحة ما بين مشاعره المتضاربة. ولأنه منجذب, رغما من كل شيء, إلى عمل هايدغر الفكري انجذابه إلى شخصيته لم يقو على الثبات فما كان منه إلا أن صعد في الغد, رفقة هايدغر, إلى طودتنوبرغ وقضى الصباح معه في بيته الخشبي وإن كنا لا نملك فكرة مدققة عن محادثتهما في تلك الآونة.
و في هذا النطاق يتوافر كم هائل من الوثائق الألمانية, التي تساعد على تبديد بعض الزوايا المعتمة في قصة لقاء الرجلين, نخص بالذكر منها ما تم تجميعه على يد هادريان فرانس – لانور, وإمعانا منا في التحديد حسبنا أن نشير إلى:
1- شهادة كليمنس فون ب ودفليس, الكاتب العام لأكاديمية بافاريا للفنون الجميلة.
2- رسالة موجهة من هايدغر إلى سيلان.
3- نص لهايدغر موسوم بـ»توطئة لقصيدة (طودتنوبرغ) « (انظر الملحق رقم 2 ورقم 3).
فبصدور »تسميات.. ما الذي ائتمنني عليه سيلان? « (1) عام 1971 ببادرة من أقربائه سوف تنتشل من دائرة النسيان الشهادة القيمة لكليمنس فون بودليس وإلا لكانت بقيت لفترة طويلة في طي الكتمان. ويستفاد من هذه الشهادة أن بودليس الذي شغل منصب كاتب عام لأكاديمية بافاريا للفنون الجميلة, التي كان مقرها ميونيخ, بعد الحرب العالمية الثانية, أي خلال الفترة التي كان فيها إميل بريتوريوس على رأس إدارتها, لم يفز بلقاء بول سيلان سوى مرة واحدة يتيمة وذلك عندما كان هذا الأخير في طريقه إلى شتوتغارت لتقديم قراءات شعرية يوم 20 مارس 1970 إحياء للذكرى المئوية لميلاد هولدرلين.
في شهادته تلك يلجأ بودفليس إلى رسم لوحة تصور لنا بول سيلان لحظة قراءته جملة من قصائده في رحاب جمهور نوعي وتنقل لنا فيض الثقة الذي طفحت به, على حين غرة, ذاته, تشيد بتلاوته اللغوية الفصيحة والسليمة وبمراعاته لمبنى نصوصه التوليفي تطلبا لتضافر الفضاء والمفردات والصموتات. وإذ تستحضر الشهادة أجواء قاعة الاستقبال بالفندق لا تغفل ما كان ينخرط فيه الشاعر من حوارات ومذكرات محورها اللغة أو, بالأدق, إكراهات اللغة الشعرية موردة ما جاء على لسانه في إحداها, إما حرفيا أو في معناه التقريبي, بحيث يرى أن »تعبيرات لغوية وابتداعات مصطنعة« تحفل بها أمكنة عديدة لا تني ترسخ في الذهن استحالة تعويض المجاز ومن ثم توكيده على تلازم المعنى الشعري والصورة الشعرية. والواقع أن بودفليس سيندهش لا من شفافية قاموس سيلان ولا من سداد رأيه وأيضا من تماسك أحكامه البسيطة, لكن العميقة, والتي تنبثق من ؛نظرة شاملة تمسح كلية الأشياء وتدمجها في بعضها البعض«.
»أريد أن أتلفظ بما هو صميم حقا, أن أقوله من الفور وبلا تلعثم«, وهو يستشهد بهذه الجملة للشاعر فريدريش غيورغ, شقيق إرنست يونغر فإنما لكي يدلي لنا من جانبه بتساؤل بليغ متبوع بإجابة أبلغ »ما الذي يعنيني من دون الآخرين? يعنيني أن أط رح المفردات المسموعة معتبرا إياها مجرد علامات نعتية, أود أن أصغي من جديد إلى »تسميات« الأشياء في اللب من المفردات لأنه بقدر ما تقوم العلامة النعتية بعزل الشيء المتمثل فإن مقام هذا الأخير ليوجد أصلا في نطاق التسمية بل ويخاطبنا من هذا النطاق ذاته بحسبانه شيئا منفردا لا يتكرر أبدا ووثيق الصلة بالعالم«. (إذا كان هايدغر قد أطلق على »الشيء« اسم »موقع العالم« فإن سيلان سوف يذهب, في إحدى قصائده, أبعد من ذلك فيقول: ؛ليست هناك كلمة, ما من شيء هنالك, من كليهما تولد تسمية هي نسيج وحدها؛).
استرسالا منه في شهادته – روايته يكتب الأكاديمي البافاري ما نصه »امرؤ من معدن مارتن هايدغر لا أخاله مفتقرا إلى ملكة الحوار, الملكة التي أوتي سيلان بل وأتقن إعمالها بأثر من الخصيصة المفارقية لشعره ذي النزعة الفكرية«. وخلافا لمن تبهرهم طريقة كلامه أراني مسوقا إلى التشديد على كون هايدغر هو من سيكتشف في اللغة »نقاوتها«.
و إذا ما نحن اتخذنا »النقاوة« هاته متخذ »الانجلاء« فلا نظن أننا سننهك ما فيها من رنين أو سنستنفد ما ترخيه من ترجيع لأن المسألة تتعلق بذلك الصفاء أو الشفوف الذي يضع المنبع ذاته موضع انجلاء في دفق ماء فسقية ما. وإذن لا عجب في أن يشيح, أي هايدغر, نظره, في مجرى الحوار, جهة الشرق, صوب أروبا الأخرى التي بزغ فيها نور حياة سيلان ولم يتقاعس عن ترجمة لغتها: ماندلشتام, بلوك, يسنين, بحيث ما مغزى أن يدهمنا من هناك, عبر الشعر والأدب, ما هو أوفى من الحياة, نصيب وافر من القوة ولا يأتينا من عالمنا الغربي? هناك الكثير مما يمكن قوله في هذا الشأن ولا تنقصنا التفسيرات والمسوغات بيد أن سيلان سوف يعفينا من هذه المشقة ويختزل كل هذا قائلا »إن الألم لهو أم كل فن« بينما ؛الحزن يغشى عينيه وبسمة تخضبها المرارة ترتسم على فمه«, أو ليس هذا كافيا لتضامن هايدغر مع سيلان, وهو ما يفوح من ؛ذكريات بول سيلان, وأبعد من هذا أنه سيرتأي اصطحابه معه, عند حلول صيف عام 1970, في سفرة قصيرة بغرض إطلاعه على مشاهد في الدانوب الأعلى سلف وأن وصفها هولدرلين.
على أن صحة سيلان سرعان ما أخذت في التآكل, إن لم نقل الانهيار, ولم يعد مزاجه يستقر على حال, وهنا لا ضير في أن نستأنس لمرة إضافية بما يحكيه بومان عن حادث سيقع في أثناء آخر لقاء جمع بينهما. فعقب مناقشة موسعة حول الشعر أبان فيها هايدغر عن اطلاع حرفي, أو يكاد, على قصائد سيلان سيعاتبه هذا الأخير, هكذا بغتة, على عدم الإنصات إليه, ليفترقا تحت وطأة ملاحظة خاطئة من هذا القبيل, ولكأنما أدرك الفيلسوف, الواقع ساعتها تحت تأثير تلك المؤاخذة المفتعلة, ما يعانيه الشاعر فلم يفته أن يبوح لبومان, وهما يسيران سوية, بأن »سيلان في حالة مرض, أفي مقدور أحد منا إنجاده?… « هذا من غير أن يسهو عن قرابة سيلان مع »لانز« لبوخنر.
لست أدري هل في الغد أم بعد بضعة أيام قادتني خطواتي إلى الفيلسوف? تتساءل السيدة هايدغر مخاطبة إياي ونحن في الحديقة: » لقد زارنا سيلان, مسكين إن حالته ليست على ما يرام«, ولأني كنت, في تلك الفترة, أجهل جهلا مطبقا ولو النزر اليسير عن سيلان فإني غنمت, على الأقل, كلمات إلفريد هايدغر وصنتها في ذهني أما صوتها المجتف فسيظل محفورا, ما حييت, في ذاكرتي.
مسؤولية فكر
هادريان فرانس – لانور
هكذا
أو توجد معابد قائمة أبد الدهر
هل من دوام للضوء في أحشاء النجمة? ليس هناك من شيء
طاله الفقدان.
– بول سيلان: قصيدة »خاتمة«.
يوم 12 يناير 1968 سيبعث بول سيلان إلى مارتن هايدغر بنسخة من قصيدة »طودتنوبرغ«. وللإشارة فهذه القصيدة التي تردد صداها في ذهن الفيلسوف بالغابة السوداء يوما فقط قبل هذا التاريخ كانت قد كتبت يوم الاول من سبتمبر 1967 بفرانكفورت, وكما تشهد على ذلك كل الآثار المدونة التي تحد رت إلينا من الشاعر, وذات الصلة بلقاء الرجلين, (2) فإن سيلان سيترك فريبورغ وهو في منتهى الانتعاش النفسي, راضيا على الحوار الصريح الذي كان له مع هايدغر, بل وسيكاتب زوجته يوم ثاني غشت 1967 مخاطبا إياها: »في اليوم الموالي لقراءاتي الشعرية كنت بمعية م. نيومان, صديق إيلمار, في بيت هايدغر الخشبي بالغابة السوداء, بعد حين انطلق, ونحن نمتطي السيارة, حوار من الجسامة بمكان اتسمت فيه كلماتي بأوفى ما يمكن من الوضوح. سيقول لي م. نيومان, باعتباره شاهدا على الحوار, بأن بالأمر كان, بالنسبة إليه, بمثابة وضع النقط على الحروف أكثر منه جسا للنبض, أما أنا فكانت أمنيتي لو أن هايدغر تناول قلمه وخط بضع صفحات يضارع دويها قوتها التحذيرية وكيف لا والوقت كان وقت تصاعد المد النازي«. ولعل هذا التطلع الذي استحوذ على تفكير سيلان ومشاعره, مما ترشح به هذه الرسالة, هو ما نلقى في تلابيب الجملة التي دونها في الكتاب الذهبي الخاص ببيت هايدغر الخشبي والتي تقول: »في سجل بيت الاصطياف, ونظرة تحدق في النجمة من النافورة, مع الأمل في كلمة تخطو صوب القلب«, وهي الجملة التي تتم استعادتها, بحذافيرها تقريبا, في قصيدة »طودتنوبرغ«.
فيا ما حملنا هايدغر مسؤولية الإمساك عن تقديم جواب ما شاف عن سؤال الشاعر أو اللوذ, إن نحن استعملنا تعبيرا أصبح يشكل اليوم صعوبة بالنسبة لمعشر الجهلة, بالصمت لا أقل ولا أكثر, وبتحرينا عن الحقيقة سوف لن نعدم ثبوت جوابين اثنين مؤكدين للفيلسوف يزيحان ما علق بهذه القضية من لبس وبالتالي, من ترخ ص, الأول جسمته رسالة, تحمل تاريخ 03 يناير 1968, موجهة إلى الشاعر حم لها شكره وامتنانه بعد خلوصه من قراءة القصيدة التي لا ينسى هـ. ف. ب يتزيت (3) إخبارنا بما كان لها من مفعول شديد وغائر في نفسية هايدغر, ارتج معه كيانه, قائلا »لقد تأثر بها عميقا«, بينما يتمثل الثاني في نص عنوانه »توطئة لقصيدة (طودتنوبرغ«), غفل من أي تاريخ, عثر عليه هيرمان هايدغر ضمن ما عثر عليه من أوراق ومخطوطات أبيه (انظر الملحق رقم 2 ورقم 3).
وفي خطوة احترازية جد خاصة بهايدغر نستطيع تسميتها, استسعافا بمصطلح سيلعب دورا وازنا في الأشواط المتأخرة لمساره الفكري, بالحياء أو الرصانة سوف لن يبادر إلى إرسال التقديم المذكور إلى سيلان, وكقرينة أخرى لخصلة الحشمة هاته, التي قد تشكل أحيانا قاعدة لازمة لنشوء رابطة فعلية بين إنسانين, تلك الجملة الواردة في رسالة هايدغر والتي يقول فيها: »بعدها تبادلنا الرأي, والصمت يرين علينا, في العديد من الأمور«. ولاشك في أن سيلان الذي لم يكف شعره عن الإفادة بكون الصمت هو الشكل الأصيل للكلام لن يعسر عليه استيعاب لغة من هذا الطراز, وأكثر من هذا توجد جمل, وظفها في رسالة منه إلى ناشره روبير ألتمان تحمل تاريخ ثاني اغسطس 1968, تنوه إلى جواب هايدغر وتقر بحصوله. حقا إنه سيصرح بخيبة ظنه في هذا الجواب الذي لم يلب انتظاراته ولم يشف غليله في تلك اللحظة بالذات لكن هل كان ظنه أقل خيبة وهو يقرأ تقديم الفيلسوف لقصيدته? مع عجزنا عن استيضاح هذا الأمر فإنه ليس من المتعذر تخمين ما كان يشرئب إليه بال سيلان في ذلك الإبان.
فعندما نقرأ كتابات سيلان حول صعود النازية وتجبرها لا نستطيع الإضراب عن التفكير, مثلا, في »قضية غول« المشينة والفاضحة, كما يقول, والتي وإن كانت قد خلصت, بعد لأي, إلى خاتمتها متخذة طعم »انعتاق جوهري وبسيط ينعم به شخص هو مبدع في نفس الوقت« فإن سيلان سينمس بقوة بما اعتبره »قضية دريفوس حقيقية« فعمل, خارج نطاق ملاججته المثيرة للجدل لهايدغر, على فضح الإيديولوجيا النازية والكشف عن تواطؤها الخبيث, في هذه الحالة تخصيصا, مع »يسار« بعينه يعتنق نزعة وطنية – بلشفية, وهو ما حدث مع عدد محسوس من »اليهود« الذين سيعاملون »على منوال هذه الحالة المحصورة« مثلما يكتب في رسالة بعثها إلى جان بول سارتر. (4)
أن يكون سيلان قد طلب, بدون مراوغة, من هايدغر الإعراب عن تضامنه في قضية مثل هذه فهذا أمر قليل الرجحان بسبب من الانطباع الذي كان قد استقر في ذهنه, وشمل كذلك الكثير من الناس, عن الفيلسوف المستاء بطبيعة تفكيره مما يخالط تعبير »يقال« أو »زعموا« من افتراء ووشاية, وما يستنتج من طابع اختبار النوايا الذي اتخذته محادثتهما هو تمحورها حول موضوع النازية (وربما حصل ذلك من خلال كلمات مبتورة لا يضمها سياق مكتمل).
إن الفترة التي يسميها هايدغر ؛فترة مدركات العالم« وذلك في نصه »الطريق الغابوية«, الذي لم تفت سيلان قراءته, تميزها خمسة محددات جوهرية من بينها الافتقار إلى الآلهة, بمعنى اندثار القداسة, وأيضا انتشار التقنية الحديثة مما أكسب العلم القائم على الرياضيات سيادة خارقة لاجدال فيها, وبحلول عام 1949 سيعترف هايدغر بأحد الوجوه الأخرى الإضافية للتقنية الحديثة ضمن »صناعة الجثث في غرف الغاز ومعسكرات الإبادة«, (5) وللأسف فإن سيلان لم يصله خبر هذا الانتواء أو القصد المصرح به في غضون فترة بريم. مع هذا لسنا نستبعد بأن حواره مع الفيلسوف قد سنح له, بلا ريب, التأكد مما سبق وأن قرأه عن تفكير هايدغر, المتقعر والمتراحب في آن معا, في طبيعة الأزمنة الحديثة, هذا التفكير الذي يمكننا تلم سه, بأحد المعاني, مندسا في ما استثاره سيلان من صور تجسم ما خلفه »الانفجار النووي من دمار وخراب« (6) في قصيدة »خاتمة«.
و إذن فبمغادرته فريبورغ مطمئنا إلى هايدغر بناء على الخلاصات التي انتهى إليها حوارهما الجسيم والصريح لم يكن أمام سيلان سوى تعليق الأمل على محاوره وترقب, بالتالي, تعبير فوري منه, بله »تحذير«, بالنظر إلى ما كانت تتطلبه الأزمة الدالة التي عكسها, في رأيه, صعود النازية من فورية واستعجال في الإبانة عن رد الفعل. حقا إن هايدغر لم يصدر عنه, في هذا المقام المحصور للمسألة, أي موقف ولم ينبس ببنت شفة لكن من يتدبر تأملاته اللامنقطعة في قضية العدم, في مرتكزات النازية وقوله, بعد أن أدرك ذلك في مطالع الثلاثينيات, بأن اندحار الهتلرية لن يستتبع, لزوما, تقو ض مبادئها سيتيقن, لا محالة, من عميق درايته لتلك النازلة التاريخية الشيء الذي تثبته كومات المخطوطات المكدسة في خزانة كتبه والتي هي الآن قيد الطبع ضمن طبعة تامة ومكتملة, ولأن الأمر كذلك كان لابد وأن يقع تضارب بين الإيقاع المتعجل للشاعر وبين إيقاع الفيلسوف المتأني, المستغور لباطن الظواهر, أي بين إيقاعين ليسا من طبيعة واحدة ومتجانسة.
فما كان يفهمه هايدغر من العجلة هو بالأساس الهيئة الفكرية التي كان يتخلق في نطاقها مصير الغرب, ومن هنا سنلفيه يتحدث في »توطئته«, المشار إليها آنفا, عن العمل الذي يسخر أقصى الطاقات حتى يتهيأ للفكر رسم وجهته ولو أنه يتعين علينا التنصيص على ما يصح احتسابه خطأ »فلسفيا« وقع فيه مرة, عام 1933 تحديدا, لما استسهل, بداع من وثوقه المفرط في عمله الفكري, إجراء إسقاطات فورية على الواقع الملموس, وتكفيرا عن هذا الخطأ سوف يوطن ذهنه, من ساعتها, عن ترديد بأن الفكر لا ولن يوفق إلى إنتاج فعل مباشر, بالدلالة التي لكلمة الفعل, في سيرورة الأحداث, وأقصى ما يقوى عليه هو العمل على إيقاظ معنى إشكالية الوجود التي تغلفها مرحلتنا بطبقة من النسيان.
بيد أن عامل استعجال الوجهة, بما أنه يشكل جزءا لا يتجزأ من مهمة الفكر, يتلامح, في روح هايدغر, موصولا بضرورة إرساء حوار بين الشعر والفكر, وفي إطار هذا الحوار المستوجب سيلتقط, على وجه الدقة, مغزى لقائه مع سيلان ويعد ه بمثابة »يقظة واتعاظ« خليقين بالمتابعة والاهتمام.
لهذا لاعجب في أن تقع المجازفة, في هذا الحوار, بجوهر الكلام الذي يضع, هو بالذات, إقامة الإنسان في الأرض موضع تساؤل وأن يتحدث هايدغر عن »حوار انطلاقا من اللامتكلم« تجد خلاله »الكثير من الأمور, من جديد, سبيلها إلى الحل«. فاللامتكلم لا يفيد اللامقول بمعناه المعتاد وإنما هو الشيء الذي يستطيع, بوصفه قاصرا عن أن ينقال, التجذر في صلب الكلام كإمكانية, ولم لا, لقول مرجأ, إنه السر الخالص للكلام, ومن ناحيته سيكتب سيلان في إحدى قصائده:
اسكب على كلماتك معنى
اغدق عليها الظل
……………….
الهج بالحقيقة التي تتكلم في الظل.
بالنسبة لسيلان, دائما, فإن الكلام والشعر هما ما يضمن تعالقه مع العالم ويوطد عراه, أما الفيلسوف فسيترجى, وقد لمس عند الشاعر ذلك التوتر المعتنف بين الكتابة من جانب وإمكانية العيش من جانب آخر, سيترجى له جراء هذا بالضبط, بصدق وحميمية, »أن يتمكن من الإصغاء, في الميقات الملائم, إلى الكلام الذي يأتيه من خلاله ما تزمع القصيدة على قوله حقا«, ذلك أن هايدغر يدخل قضية جوهر الكلام في عداد المهام الأكثر حدة ومضاء التي ينهض بها الفكر لأن جوهر الكائن الإنساني نفسه يتحدد, من منظوره, من خلال هذه القضية وعليه فلا غرابة في أن يخصص نصف »توطئته« للكلام.
هكذا وبفضل مقلب نحوي يصطلح عليه بالمضاف الأخلاقي يفيد محموله معنى (لقد وجدتها في صالحي) لم يلق هايدغر عنتا في بسط حادث اللقاء ضمن القسم الأول من »التوطئة«. نعم, يقول, لقصيدة سيلان معبرا عن تجاوبه معها ومسم يا »ناعتا« NENNEN على شاكلة ما هو ثابت في مفتتح الرسالة) البيت الخشبي, المرتفعات, الكتاب.. »لقد أمكنك إبراز البعد الذي سيغدو لقاؤنا في نطاقه متاحا, والبيت الخشبي بطودتنوبرغ الذي كان محل هذا اللقاء«.. البيت الذي كما لو أصبح, بعد أن عم ده الشاعر بتسمية لا قبل له بها, ملكا جديدا للفيلسوف يكبر في جنباته أطفاله في انتظار أن يتم أسرهم في الجبهة الروسية ليتأجج حنينهم إليه. إنه, بالنسبة لهايدغر وزوجته, المكان المنفتح OUVERT , عن طريق الكد , على توض ع الاستتار أو الاختباء بعيدا عن ضجة الانهماك في العام والمشاع (في أثناء عزلة فصل الشتاء) التي يصفها هايدغر على مدى الصفحات البديعة والرائقة في »لماذا نفضل البقاء في الإقليم الريفي?«, ومن ثم سينتقل هذا المكان, منتسجا بكلام الشاعر, إلى موقع SITE, كما أنه لم يعد, بدءا من هذه اللحظة, مجرد بقعة ريفية في أرجاء الغابة السوداء بقدر ما أصبح »عالما« MONDE, أو, بالحري , »إقامة« SEJOUR يصير معها الفكر إلى خبرة ومراس في الكل ية ENTIERETE لكن بكيفية مبسطة على منوال ما يشير إليه هايدغر في مستهل الرسالة.
و حالما يسمي المكان المجلو بواسطة الكلام على هذا النحو يعود, أي هايدغر, إدراجه إلى الكلام ذاته فتعثر بذلك تسمية »التوطئة«, في تضاعيف هذه الأوبة, على معناها وزيادة ما دامت تغوص إلى المنطقة الأشد تكثيفا لهيبة الكلام وسطوته, نقصد المظهر الناجز للكلام, وما يجدر قوله عن الكلام عينه كيما يتأتى استنصات القصيدة باعتبارها قصيدة لا تلفظا كيفما اتفق. كذا, وبطريقة مقتضبة لكنها مذهلة, يكب هايدغر على تنحية المقولات التقليدية للسانيات جانبا حتى يمك ن الجريان الصميم للكلام من الانجلاء والبروز, الكلام المبين, بتضافر إعجازه وقابليته, عن قاعدة أو أس , بالمعنى الصارم للكلمة, قيد الانعفاء من تحمل جثمة الكائن الإنساني ولمعة ضوء تتوهج, وذلك بكيفية يكون فيها هذا الكائن, المنذهل حد الانصعاق, في الموضع »الضروري« لتصريف »كينونته«, وحيث يستطيع الاستجابة لمقتضى كونه, هو وليس شيئا آخر, الكلام موجها إليه أصلا من الوجود. فالكلام يلوح في هذا الموقف مؤشرا على أين? يتكلم في صمت متوسلا اللامتكل م ويكشف للكائن الإنساني البعد الذي يباح له, في إطاره, أن يكون ما هو خليق بكونه كشفه للعالم الذي تأتلف في بساطته سائر الأشياء: السماء والأرض, الآلهة المقدسة والبشر المجبولون على الفناء.
لنقل, في المحص لة, لقد حصل لقاء بين بول سيلان ومارتن هايدغر, ذلك اللقاء الذي ما كان ليتم لو لم تتوافر له جملة من الشروط والموجبات ويبقى حوار الرجلين الدليل الأسطع على ثبوته وصدقيته, حوار يمكننا الارتجاع به قليلا إلى الوراء, إلى عقد الخمسينيات لما شرع الشاعر في محاورة أعمال الفيلسوف, وبالمثل, عندما أخذ هذا الأخير في محاورة الفاعلية الشعرية بوجه عام, وعليه فنحن في غنى عن التشكيك في هذا الأمر وحسبنا أن نلفت الانتباه, إمعانا في التذكير, إلى تاريخ 25 يوليو 1967, بما هو لحظة تتويج ذلك الحوار. إن فحوى لحظة كتلك غير قابل للاستنفاد أو التلاشي ولا حتى الانمساخ إلى مجرد طرفة نادرة أو حكاية عرضية, لذا وجب علينا, بسبب ما ميز حوارهما من اختبارية واستبطان, أن نثابر على النظر في الحاجة العاجلة إلى إجراء حوار بين الشعر والفكر خاصة وأننا نحيا في فترة ربما تحتم علينا, والقول لهايدغر, البدء, أولا وقبل كل شيء, بتعلم كيف »نكون داخل اللامسمى«.(7)
ملاحق:
1- بصدد ياسبرز
فريدريك دي توفارنيسكي
في تراسله سيان مع حنا أراندت (1925- 1975) أو مع كارل ياسبرز (1920 – 1963) (8) يثير هايدغر ما عاناه, خلال عام 1933, من خصاص في سداد النظر إلى الأمور, مقرا بأن تموقفاته كانت »من كافة زوايا النظر« غلطا في غلط. وإذ اتهم من طرف ألفريد روزنبرغ ومسؤولين آخرين في جهاز الدعاية الثقافية التابع للحزب بإيواء مجموعة من الطلبة اليهود في دروسه فإن هذا سيفاقم من حدة التجريحات التي ستتركها في نفسه الظنون بمعاداة السامية التي ستثقل كاهله فيما بعد. يوم 7 مارس 1950 سيكتب إلى ياسبرز قائلا: »إن لم أكن جئتك ثانية منذ عام 1933 فليس ذلك بسبب إقامة امرأة يهودية في بيتك, وإنما لأني كنت, بكل بساطة, خجلا من نفسي«, أما يوم 7 أبريل فسيخاطبه كالآتي: »العزيز ياسبرز, رغما عن كل شيء, رغم الموت والدموع والألم والفظاعة والشدة والمعاناة (…) يلزمنا تلقي العلامات القصية من جعبة غد وإخضاعها للنظر ما دام في غير مستطاع أي بناء تاريخي, الحالي منه بخاصة والمحكوم بذهنية تقنية, فك لغزها«. نتساءل هل لمس ياسبرز, يا ترى, في هذه الأسطر الوجيزة نقدا غير مباشر لكتبه, لحقل فعاليته الخالصة, و, بالتالي, لانشغاله بتواصل تشاجري أو تخاصمي مع »الواقع المحسوس«? وفي ما يوازي الإجابة عن تساؤلنا هذا سيكاتب ياسبرز هايدغر بعد انصرام عامين اثنين, أي في يوليو من عام 1952 مصرحا: »فيما يعنيني ليس هناك من وسيلة لاكتمال عمل الفكر سوى الخوض في طريق ما هو حسي تماما, ما هو ماثل أمامنا, وما هو رهن اليد في وجودنا المتقاسم مع آخرين«.
إن هايدغر لا يفاتح ياسبرز في موضوع كتابه عن الإثمية الألمانية لكن ليس مرد هذا العزوف إلى احتمال كونه اعتبر القضية متزايدة وفائضة عن حاجة التفكير وإنما تفسير ذلك في طبيعة تحليل ياسبرز ذاته للقضية, هذا التحليل الذي استند إلى الفلسفة التقليدية ووقع في إغواء المكانية العمومية, زد على هذا أفقه غير الكافي لطرح حقيقي لقضية الطبيعة اللاإنسانية للأنظمة الشمولية في القرن العشرين سواء في ارتباطها بمسلسل تقننة كاملة للعالم الحديث أو في تقاطعها مع إرادة القوة المستحكمة في كل أنا ممركزة ومنتصرة, بحيث »إن ما يجب أن يكون موضع مساءلة في ظاهرة الشر ليس عنصر المصطلح أو الماهية بل معطى تأصلها في حقبة ذات بعد عالمي« مثلما يوضح.
2- رسالة هايدغر إلى بول سيلان التي عثر عليها
ترجمة: هادريان فرانس – لانور
فريبورغ يوم 30 يناير 1968
العزيز بول سيلان
كيف لي أن أعبر لك عن امتناني بخصوص هذه الأعطية العظيمة اللامنتظرة? كلام الشاعر الذي يقول »طودتنوبرغ«, يخلع اسما على الموقع والمشهد, وحيث فكر ما يصر على التراجع بغية تطويق ما هو بسيط, كلام الشاعر هذا الذي هو, في ذات الآونة, عبارة عن إيقاظ وموعظة, والمخلد, في مجرى تفكيره, لذكرى ذلك اليوم الأغر في الغابة السوداء, يوم معانقته لنبرته من خلال طرائق شتى.
على أن هذا الذي ذكرت سوف يتفتق منذ الأمسية التي قدمت فيها قراءاتك الشعرية التي لا يمكن نسيانها, بل وتوافقا مع أولى تحايانا في بهو الفندق, أو لم يبح بعضنا لبعض, وإن في صمت, بالكثير من المواجد?
أعتقد بأن أمورا لا تحصى ستجد حلها يوما ما في نطاق حوار عماده اللامتكل م.
يبهجني أن أخبرك بأني سأصنع علبة وأجل دها خصيصا من أجل الإبقاء على قريحتك محفوظة بالشكل الذي يليق بها..
أما الصورة التي التقطها ابننا البكر للبيت الخشبي فلا يراد منها أي ما إشهار لهذا البيت بقدر ما هي مجرد وسيلة جائز أن تساعد الرؤية الشعرية على استبصار عزلة فصل الشتاء. وحتى لا أسهو دعني أشكرك على مدي بنسخة من ترجمة ستيفتر, وبالمناسبة أفلا يبرهن هذا الإنجاز على كون الترجمة, في هذا المساق تحديدا, من قبيل المستحيل ومنتهى ما نفعله هو انتقاؤنا, في فترتنا هاته, لنصوص بناء على التمثلات الجارية لا على تمثلنا نحن.
لقد أرسلت إليك جملة الأوتاد منفصلة, ملحقا بها إهداء دونته في ورقة منفردة سيسهل عليك إلصاقها بالداخل, وفيما يخصني فإن نزلة برد شديدة, أتعافى منها الآن شيئا فشيئا, هي ما منعني من تبليغك, على نحو ما أقوم به اللحظة, مودتي الحارة.
عن تمنياتي,
رجائي أن تتهيأ لك المقدرة, في الموعد المناسب, على استنصات الكلام الذي يسري إليك في مسامه ما تشاء القصيدة قوله.
و إذ تحضر في بالي كصديق تقبل تحايا صفيك مارتن هايدغر.
3- مارتن هايدغر: توطئة لقصيدة (طودتنوبرغ)
ترجمة: هادريان فرانس – لانور
أي نعم,
البيت الخشبي والذرى
مشهد النافورة
(جني الفكر)
كتاب فوق المنضدة
يقتات طمأنينته من بهجة الضيوف
لقد وجدتها من أجلي أنا
و تفكيرك يتحرش باللب من المصير
البيت الخشبي: إنه نعيم الشباب بالنسبة للأبناء
المعتقلون لاحقا, وحنين مستعر ينادي بالعودة إلى مسقط الرأس;
فيما يمسنا: إنه إقامة وممشى,
مأوى لثقة متجددة
البيت الخشبي: صمت وعالم أنت من أس سهما.
متى تنقلب الكلمات
إلى كلام?
عندما تقول,
لكن من غير أن تدل على شيء
أو تنعت آخر
لما تسبغ وهي تنير
على المواقع
خالص الدهشة
حد تمل ك الإيعاز
الذي منه يهب
نفس الصمت,
و حيث كل شيء يسير على هدى من إيقاع خاص
إلى الأمام من المصير.
هوامش:
أعماله المنشورة: »حوار مع جان بوفري«, المنشورات الجامعية الفرنسية, »السعي إلى ملاقاة هايدغر, ذكريات مبعوث من الغابة السوداء«, منشورات غاليمار, »مارتن هايدغر, ذكريات ويوميات«, منشورات ب ايو / ضفاف.
أستاذ مبر ز للفلسفة, نشر مؤخرا »حفلة الفكر, تحية إلى فرانسوا فيديي«, دار التوزيع المرقم بالحروف, باريس, 2001.
نشر هذا النص باللغة الألمانية في الطبعة الاستعادية, ضمن سلسلة »كتاب الجيب«, لكتاب غ. بومان عام 1992.
ظهرت هذه الرسالة لأول مرة باللغة الألمانية على يد س. كراس ضمن مقالة نشرتها »الصحيفة الجديدة« بتاريخ 3 – 4 يناير 1998.
1- ميونيخ, 1971, الترجمة الفرنسية, مجلة »شعر«, ع 93, دار بيلان, 2000.
2- علاوة على هذا هناك رواية غ. بومان التي يعرضها في »ذكريات بول سيلان«, سوهر كامب, فرانكفورت, 1986. ورسالة سيلان إلى زوجته جيزيل, الحاملة لتاريخ 2 اغسطس, وأيضا جواب هذه الأخيرة, المؤرخ بـ5 غشت (و المرقم, على التوالي, بـ536 و539 في المجلد الأول من »مراسلات« [هما] التي صدرت مؤخرا عن دار سوي), والرسالة التي بعثها سيلان يوم 7 اغسطس 1967 إلى صديقه فرانز فوروم مخبرا إياه »بأن الأمور قد تمت على أحسن وجه وبأنه أجرى مع هايدغر حوارا مستفيضا اتسم بأقصى ما يكون من الوضوح (ب. سيلان: مراسلة مع فرانز فوروم, سوهر كامب, فرانكفورت, 1995, ص 87).
3- عن النجمة, دار فيرلاغ, فرانكفورت, 1983, ص 209.
4- ب. سيلان / ج. سيلان – ليسترانغ: مراسلات, المجلد الثاني, ص 534.
5- مارتن هايدغر: هذا وذاك [المقول الإيجابي], ج, أ, 79, 27.
6- رسالة إلى إيريش إينهورن, سلسلة 10/18, 1962, ضمن مجلة »أروبا«, »بول سيزان«, ع 861- 862, يناير – فبراير 2001, ص 58.
7- رسالة في النزعة الإنسانية, منشورات أوبيي – مونطيني, باريس, 1983, ص 42.
8- شواهد مقتطفة من مارتن هايدغر, مراسلات مع كارل ياسبرز, منشورات غاليمار, 1996, 2001.
– عن شهرية »الماغازين ليتيرير« الفرنسية, ع 405, يناير 2002.
ترجمة: بنعيسى بوحمالة
كاتب من المغرب