«كلّما أنتِ، وكلّما انحنيتِ على أحرفكِ»، هذه الجملة التي تحمل دلالات كثيرة في معناها ولغتها وأحرفها، هي عنوان كتاب شعري للشاعرة اللبنانية صباح زوين، صدر حديثاً عن دار «نلسن» في بيروت. ويأتي كتاب زوين الجديد لينضمّ الى كتبها الأخرى التي أصدرتها سابقاً، وليشكل، مع تلك الكتب الأخرى، مدماك التجربة التي بدأتها الشاعرة منذ أعوام كثيرة. وهي تجربة ليست سهلة، كانت بالنسبة للشاعرة، حركة محورية قالت فيها الكثير مما يعتمل في داخلها، وما يتحرك في مجاهيل المعنى الذي قد يظنّه الإنسان، ، باب اللغة التي يمكن من خلاله الدخول الى أجوبة نهائية على أسئلة الحياة والوجود، ولكن تبقى الظنون هي ذاتها وإن ظهرت أو برزت وفق صورٍ وأصولٍ ومرتكزات لغوية ومعرفية جديدة.
كتاب زوين الجديد يستحق القراءة الهادئة المتكررة، وقد يكون تكرار قراءة الكتاب أكثر من مرّة حاجة للغوص في تفاصيل ما ترمي إليه الشاعرة، وللتعمّق في فهم القصد المستتر الذي لا يغيب عن كل محتويات الكتاب. وإذا ما حاولنا تناول نصوص الكتاب من ناحية الشكل، نعثر على شكل جديد، ونتلمّس لغة جديدة هي أقرب الى الى الإبتكار. ففي كل نصوص الكتاب، تتحرك اللغة وفق خطٍ تصاعدي تتوالى فيه الاستعارات والتشبيهات، ويصل الأمر الى ما يشبه البناء الهرمي الذي يبدأ من قاعدة وسيعة فسيحة ويضيق تدريجياً الى أن يصل الى قمّة مرئية بالإحساس، وربما أيضاً مرئية بالعين المجردة. هذا التناسق في الشكل، جعل نصوص الكتاب تتحرك في مساحة حرية كبيرة، إذ لا قيود لغوية، وحتى لا وجود لقيود في النحو والصرف، كذلك لا وجود لزوائد في المدّ التعبيري (الذي قد ينتج عن غير قصد). تلافت الشاعرة وتخطّت حواجز اللغة المباشرة حتى وصلت الى الشكل الكامل في اللغة والكلام، وكأنها تهندس اللغة بأصول المعنى الذي أرادته لقصيدتها، والعكس بالعكس. فقد نجحت الشاعرة في إقامة العلاقة المتواترة غير المتوتّرة بين الشكل والمضمون، والنظرية القائلة» كثافة الأشكال هي المضمون»، تجلّت كثيراً في داخل اللغة، لغة الشاعرة، مع بروز صورة إضافية في هذا الشكل، يضاف الى تلك النظرية، صورة أخرى تؤكد أن المضمون هو ذروة الشكل، وهو أيضاً جمال الشكل. وأعتقد ان الشاعرة اشتغلت جلياً وبجهدٍ معرفي وبخيالٍ شاعري كبير وبقدرة تفتيشية(من تفتيش)، لإجتراح هذه اللغة، هذا الشكل، هذا الأسلوب… لتكون قصيدتها، وعاء الشكل والمضمون في آن معاً.
تردد الشاعرة وتكرر كلمات عدّة في نصوصها، ومع بداية كل نص تظهر تلك الكلمات مثل: «كنتِ، أنتِ، تسكنين، كيف انحنت..» وتكون هذه الكلمات منعطفات خطرة في البناء اللغوي، وأقول منعطفات، رغم أنها في بداية النّص، لأنها تجاهر بخطر المعنى وتتوغل، من أول الكلام، الى خطر يتربص بالمعنى. لكن الشاعرة، على ما يبدو، أرادت هذه المنعطفات الخطرة والمجازفة عن سابق قصد وتصوّر لتفتح أول الكلام بما يشبه التنبيه الذي يرفع منسوب الحذر وتالياً، هو أمر يلفت ويجذب الإحساس إليه بثقة كبيرة.
الكتاب هو نص واحد أو قصيدة واحدة مكتوبة على مدى83 صفحة، ولكن تتوزع هذه القصيدة على مراحل وأشكال يمكن القول فيها أنها مقاطع مكمّلة ولا يمكن أن تكون خارج هذا الشكل، خارج شكلها الذي أرادته الشاعرة لكتابها. وهنا يبرز مجدداً ما أسلفته حول الشكل والمضمون.
من تخاطب الشاعرة في كتابها وفي قصيدتها؟ من هي «كلّما أنتِ، وكلّما انحنيتِ على أحرفكِ»؟ قد يبدو السؤال بريئاً ويتوخى المعرفة، ولكنه سؤال يفرض نفسه عى مدى الكتاب كلّه. ويجد القارئ، قارئ الكتاب، نفسه معنيا بالسؤال وجوابه، فيزداد شروداً داخل لغة الشاعرة، علّه يعثر على ما يخفف من حدّة السؤال ويقترب من محتوى الجواب:هل تخاطب الشاعرة نفسها؟ هل ترمز وترمي بهذه المخاطبة الى ما هو وراء القصد المباشر للمعنى؟..من هي التي «كلّما أنتِ»؟ وهل حقاً الكلمة التي تقصدها الشاعرة هي»كلّما»؟ أو «دائماً»؟؟ مربك كلام الشاعرة حين يصل المتابع والمهتم الى ذروة الأسئلة التي تطرحها، من داخل أعماقها، أو من أعلى حضورها، وربما أعلى من غيابها؟
يفتح الكتاب نقاشاً واسعاً داخل المعنى الذي تستهدفه الشاعرة في دلالاتها المباشرة والمستترة، ويأخذ هذا النقاش حيزاً كبيراً في التفسير. ورغم هذا، كلّ هذا الإنشغال في النقاش والتفسير، فجأة، تولد الصورة أو الومضة التي تختزل المعنى وتحوّله الى إضاءة شعرية مغرية: «كم ركضتِ، وعبر المدن الكثيرة وكم، ثم بجسدكِ رسمتِ أنتِ تخوم الأرصفة والشوارع وزوايا البيوت، أنتِ التي وقفتِ على عتبة الباب، وكانت الشمس وكان الجبل، كانت، وذلك الذهب على الخشب، أو، ساقاكِ الناصعتان في وهج النور، في وهج الصباح دائماً كنتِ، عندما الكلمة تحوّلت بريقاً وعندما بنورها الكلمة صورة ساطعة تكون، كيف وجهكِ وكيف بريقه في قلب المكان…» (ص74)، هذا التتابع الصوري السريع والنبرات العاجلة لكأننا أمام مشهد مرئي متتابع، يظهر بسرعة ويختفي بسرعة، وسرعان ما يبرز على شكل أصوات هادئة وصارخة في آن معاً.
يتمادى نص الشاعرة في لولبيته ولا يتوقف عند اللمحة والصوت، إنها لمحات وأصوات لها شخوصها الخاصة وكلماتها الخاصة ونبراتها الخاصة.، إنها لولبية متوالية لا تكفّ عن الدوران في فلك المعنى، وكلما تسارع هذا الدوران انتشرت الصورة وصارت صوراً مفتوحة على نفسٍ سريع وإيقاع أسرع.
وإذا ما حاولنا الدخول الى تفاصيل المضمون الذي يتأسس داخل نص الشاعرة، سنجد أننا في حقل من «الألغام» والتي تنفجر تباعاً، وإن بغير سياق منظم. نعم، ثمة انفجارات مدوية في نصوص الشاعرة، انفجارات تفتح أشكالاً وصوراً في المعنى وتحوّل الكلمات المتراصة الى شظايا متناثرة في ارجاء الفكرة المقصودة، الأمر الذي يولّد دلالات كثيرة لا يمكن حصرها في مساحة أخيرة، مساحة مليئة بأقنية وأصوات وإشارات تتناوب على تلقّف الصور وإعادة رسمها وفق أصول ومفاجآت.
تكتب الشاعرة نصوصها كما لو أنها تقوم بعملية معقدة، عملية مسح وبحث وتدقيق، ويلزمها نشاط كبير لإتمام وإنجاح هذه العملية الصعبة، وثمة مفارقة تبرز حين يشتدّ لهاث الشاعرة بين كلماتها، لهاث ناتج عن جهد فعّال لا يستكين دون انبلاج الفكرة أو الهدف الشعري الذي تنطلق منه، هدف يجاهر بقوة حضوره، وهو هدف المحو من أجل ان تبقى الكتابة مدخلاً الى بناء غريب يفرض حضوره في هذه الهدأة الغريبة.
تمحو الشاعرة حين تكتب، الكلمة التالية تلغي السابقة التي سبقتها، الجملة التالية تلغي السابقة، ويستمر هذا النشاط، نشاط المحو حتى يصل الى مرحلة لمّاحة. وتكاد تكون الصورة، صورة الكتاب من الداخل مبنية على فرضية الكتابة أكثر مما هي حقيقة. أي أن نصوص الكتاب تتوالى محواً، يختفي الكلام السابق ويتراءى الكلام القادم، وهكذا تستمر لغة الشاعرة بتلقيم الكلام إشارات ودلالات المحو الى أن تصل، في نهاية النصوص الى محو كامل لكل ما تجسّد في المشهد المكتوب والمحسوس، وسرعان ما يتبدّى هذا المحو على أنه محو متعمد يستهدف الوصول الى نقاء وصفاء في الصورة، وكأنها تشتغل على قاعدة تقول: «محو ما هو قائم يفتح أبواب الكلام على مصراعيه»، ولغة الشاعرة هي أساس هذا المحو.
كتابة غير مالوفة تتجسّد في كتاب الشاعرة، كتابة تكاد تكون فريدة، وهي بالطبع غريبة وقادمة من خصوصية يصعب اكتشافها بسهولة إلا بعد التعمّق بشخصية الشاعرة. ومن يتعمّق فعلاً في توجهات الشاعرة وشاعريتها وثقافتها يكتشف بما لا يترك مجالاً للشك أن الشاعرة متأثرة بنفسها جيداً وتالياً، هي قادمة من أعماق ذاتها ومتأثرة بذاتها. بمعنى آخر، الشاعرة هي نسيج ذاتها، غريبة الحضور، غريبة الشعر واللغة والقصيدة، تبني لعالمها الشعري قصيدة من وحي حضورها وغيابها، فلا تشبه ولا تتشابه مع أحد، تنأى ضمن خصوصية تمركزت داخلها باكراً.
قالت الشاعرة في كتابها الكثير من الشعر وأخفت الكثر من شاعريتها، وهذا التستر والانكشاف هما من ضمن لعبة المحو التي تمارسها في عملية الكتابة والقصيدة، فما يتم محوه أثناء عملية الكتابة ينذر بعواقب شعرية آمنة وأمينة، عواقب ترفع منسوب الشعر في حديقة الإنتظار. تكتب الشاعرة كثيراً وتمحو أكثر، تكتب حضورها وتمحوه، تكتب غيابها وتمحوه، تمحو وتمحو لتختفي اللغة نهائياً وتحضر القصيدة بقوة.
إن دلالات المحو أبلغ في قصيدة الشاعرة، وما المحو عندها إلا غياب ساطع خارج حضورها، حضورها الذي أرادته محواً كاملاً ، ليحفظ عن كثب، ليملأ ما هو فارغ. تمحو الشاعرة الشعر بقصيدتها كما يمحو العطشان عطشه بالماء.
لمحات اللغة وومضاتها في كتاب الشاعرة واضحة جداً، وأكثر ما في وضوحها هو ذلك المشهد المستمر الذي تقدمه بنبرة خافتة أحياناً، وبنبرات عالية في أكثر الأحيان، وفي الأمر ما يعكس حيوية داخلية استطاعت من خلالها الدلالة جيداً وجلياً على مكان حضورها الزمني والعاطفي، فهي تقول في إحدى صفحات الكتاب: «… تذكرين كيف تحوّل ورق الشجر الى حنين تلك النافذة العتيقة تحولت. انه وقت مكانكِ، هو المكان البهي في صورة، وأنتِ كيف الجسد في كلمة، عندما أوقات الأمكنة العابرة مضت».
ويطول كلام الشاعرة ولا يصل الى مساحة نهائية، يبقى كلاماً محلّقاً في فضاء غريب، يرفرف بحروف كثيرة كأنها سرب من الأحاسيس تتحرك وتتوزع تحت تأثيرات كثيرة، ليس أقلها، تعب الروح، نبض خافق في اللسان والقلب، وصمت هائل يصمّ الآذان.