غالباً ما أتخيل جبال عُمان مليئةً بالضواري والوحوش (الذئاب، الضباع، بنات آوى) خاصة حتى وهي فارغة منها. مع مقدم التقنية الحديثة هاجرتْ أو انقرضت.. حين يأخذ هذا المخيال في الذبول والاضمحلال، تكون الجبالُ ذاتها والصحارى، غارتْ بغموضها وضواريها وانقرضت من على سطح الكوكب، كأي ظاهرة كبرى عرفها التاريخ في الوقائع والأساطير.
* * *
حنيني إليك حنين وحش إلى ضواريه الهاربة مع العواصف. «لكن قلبي يا ابنة القوم قلبُ» كل يوم في غابة ومدينة.
وحلمتُ بالضواري تنزل حشوداً من الجبال الشرقيّة المسترسلة فرادى وجماعات حتى «الرحبة» و«حلْق الطير»، متجهةً نحو سوق القرية، ساحقةً كل شيء في طريقها من البشر حتى المؤونة والعصافير واليمام الحالم على أغصان الشجر والغدور. الضواري المذعورة وقد تطاير الغضبُ من عيونها شرراً ملتهباً.
تقضي على وليمتها المتاحة وتتجه إلى الشعاب في الفجاج الغربيّة، تلك الدروب الوعِرة التي تحمل المسافر من (سرور) إلى (سمائل) هاذياً ومرعوباً حتى تأخذه حضرة النخيل الباسق، ويختفي في أحضان أمه الدافئة.
* * *
الموز، الموز «الطلح المنضود» هذه الشجرة المباركة، الحالمة والحزينة بإشراق. شعب من الموز وسط شعوب وأمم أشجار الغابة المديدة في الزمن والسِعة، قريباً من بحر الصين الجنوبي. في طفولتنا البعيدة كان الموز زينة الضواحي الخضراءَ والينابيع . وحين ينزل المطر يتقاسم الموز مع النخيل سيادة المكان والجمال.
الموز (القصار والطوال) هذا الذي كنا نسرق به رمضانات الصيف اللافحة، بمثابة وجبة تسدّ مسْغبة الجوع الوحشي في تلك الفيافي الحارقة.
* * *
تجلس بجانبي عائلة ألمانية. كل رجل مع امرأة من غير أطفال. لقد تجاوزوا الستينيات أو في خضّمها، ولم يفلّ الزمن في تناسق الأجساد ونضارة الوجوه. وإن بدت بعض الندوب والتجاعيد بادية تواصل سيرها من غير كلل.
في هذا الاتجاه ترى (الروس) أكثر الهاربين من صقيع بلادهم (30 تحت الصفر). أتذكر وصف ابن فضلان لهم في رحلته الشهيرة التي تمتزج فيها الخرافة بالواقع والتاريخ وإن رجحت كفة الأخيرين حيث واقع الآخر المختلف لوناً، ديانة وجغرافيا وحياة، حين تتوسله الرواية لسرد واقعي، يتحول بمعايير تلك الفترة التواصليّة، إلى ما نسميه الغرائبي الخرافي. كان العرب في ذلك الزمان ما زال يمكن نعتهم بالشعوب والأمة.
حضارة تحتل الصدارة مركزها بغداد (مدينة السلام) وإن بدت ملامح الأفول والزوال… كان ابن فضلان المتعالي على الأقوام الأخرى المتخلّفة المظلمة بالنسبة اليه وإلى الأمة والمدن التي ينتمي اليها. ولم يكن يحّدس بما ستؤول اليه أحوال قومه مع تقادم الزمان حيث صاروا أسوأ بكثير من الأقوام التي أشبعها سخريةً ونقداً. تحللوا إلى طوائف متناحرة وعشائر. والطائفة هي العشيرة أو أسوأ منها.
بعد أن وصف ابن فضلان الروس بمتانة الأجسام وجمالها، ما لبث أن نزع عنهم كل صفة حسنة لينبري إلى القول بأن نتانة أجسادهم لا تساويها إلا قذارة أرواحهم، انهم (كالحمير الضالة).
العائلة الألمانية أو (الكوبلز) بهذه العطلة السياحيّة في طبيعة مختلفة ونقيضة، تتحدث بحيوية وحبور، لا أفهم من لغتهم، لغة «كانْت ونيتشه وجوته»، إلا كلمات عامة (الشاي، القهوة، الصباح، ألمانيا، دبي، الحر، البرد….).
أصغي اليهم بين الحين والآخر، ولولا انشغالي بالقراءة لوضعت سيناريو من إبداع خيالي للحديث الدائر بينهم، كي أتفاعل أكثر أو ان طاقة الأصوات والإشارات للغة التي لا نفهمها تكون أكثر سحراً وجاذبية، كما عبر أحد المهمين في تاريخ الأدب؟ هؤلاء الألمان مع العضايّة الصغيرة حين أضجر من القراءة يجسدون طيف الأنيس في هذا الأفق الساجي الغريب. وأي أفق أو مكان لم يكن كذلك في يوم من الأيام؟
* * *
في هذه الرحلة، من الكتب التي اصطحبتُ كتاب (نيتشه ضد فاجنر) ذلك العنف الشخصي والثقافي الكاسح. أي انعطاف استدعى الفيلسوف الألماني، تجاه مثاله الموسيقي المجسد لروح الألمان ولفلسفته؟!
ما الذي كان خفياً لدى الموسيقار العبقري ليكون الاكتشاف صاعقاً إلى هذا الحد أو من غير حد كما لدى ديونيسوس المستحوذ على أفق النشوة المخترق للآفاق والحدود على الضد من أبو اللون…
لنجادل، يقول نيتشه، فاجنر، لكن في البدء هل كان فاجنر انساناً أم مرضاً ومدرسةً في الحيلة والمكر؟! إلى أن يصل إلى (شوبنهور) الذي كان بمثابة الفيلسوف المبجّل الملهم والأستاذ بالنسبة لنيتشه، ويصفه بفيلسوف الانحطاط الذي يتصالح مع فنان الانحطاط في انقلاب آخر عاصفاً ومدّمراً…. الخ بعد التبجيل والإعجاب العميقين في مقاطع تصل حدّ الإعجاز.. انه تناقض الفيلسوف بتموجات أغوار أمواجه البعيدة التي تأتي على شكل هوام انتقاميّة، كما عند الأقوام البدائية، من ماضي المحبّة حدّ التوحد مع الفيلسوف والموسيقار.
عنف ضواري المعرفة حين يرتّدون ارتداد الزلازل والفيضانات . استطاع علي مصباح نقل عنف اللغة الأصليّة ولهاثها، إلى فضاء العربيّة بخصائصها المختلفة حتماً.
ربما العائلة الألمانية لا تعرف (نيتشه) وشوبنهور وفاجنر. أو تعرفهم لماماً بحكم المقررّات المدرسيّة في بلاد الغرب. وكون نيتشه أحد منظري الحركة النازيّة في تلك الحقبة، كما روجت جهات ايديولوجيّة، خلال شذرات، ليست هي المتن المؤسس لمنعطف جديد في تاريخ «أم العلوم» كما كانت تُنعت وقتها..
لكن من ينسى:
«اسدلي ظلال ضروعكِ
إني أريد أن أحلبك
يا أبقار الأعالي»
كما في معظم كتاباته، عمق الرؤيا الفلسفيّة مُذاباً في العبارة الشعريّة. موكب مجنّح، طائر عنقاء يجوس أدغال النفس، وهو اذ يحطم الأغلال والميراث الطويل لفلسفة الغرب المهيمن، ويوغل في التحطيم والهدْم، يفعل ذلك على نحو آسرٍ ومدهش.
* * *
تحوم الفراشاتُ حول بعضها، وفي الشجر الوافر الخضرة والبهاء، بينما رذاذ يتساقط طوال الليل يضمخّ الصباح بعطره. فرح الفراشات بجمال المشهد يجعلها تتضرّع إلى خالقها أن يمدّ في عمرها. بما أن الموت السريع الذي تستشعره في ضياء هذا الجمال الذي هي جزء من نسيجه. الفناء السريع، طبيعة تكوينيّة لوجودها الهش الشفيف.
هل تفنى الفرشات، أم تبقى أرواحها في الشجر والغصون وفي زرقة هذه السماء التي تشبه الخلود؟
* * *
تحملني أيام عجاف على اليأس العقيم البائس، وليس المثمر روحاً وجمالاً. أفقد أي صلة بالمكان والذاكرة، بالأرض والسماء بعاطفة الحب والكره المستمر من أحوالي وأحوال قومي وسائر خليقة الربّ. لا شيء يحركني مثل صخرة المتنبي، لا الأغاني ولا الأغاريد، لا الحياة ولا الموت. وبدل من أن أنعم بسلام هذا الانخلاع والانبتات الجذريين اللذين بلغا أقصى تطرفهما حيث الأقاصي الغابيّة المأهولة بالضواري والافتراس. بدل من أن أنعم بالسلام المنشود، أجدني مترنحاً من غير نشوة بين الأماكن الموحشة أو مرتطما بنصال صخور مسمومة في جبال لا مرئية ولا تخطر في خيال الرحّالة والضباع.
* * *
ما يفتئ يجرجر أياما وطرقا وصفها رحالة قدماء في غمرة بحثهم عن المدهش والمجهول اللذين أصبحا يسيران في قطيع البداهة والرتابة.
ولا شيء يتجدّد عدا السأم واليأس وغياب القيم الذي تغطي سحُبه الجهْمة أنحاء العالم بأكملها.
* * *
بدت له المدينة البحرية المجاورة ماخوراً كبيراً يعيش فيه سيّاح بلداء جهلة. حتى بحرها ليس إلا مستنقع مجاري ونفايات.
يحمل جسمه الممزق بين الأمكنة، يحمل روحه المضرجة بالحيْرة والشوق، إلى برك الاستحمام، في المياه الجارفة وتحت دفقها المنساب ما زال يفكر بالرحيل.
* * *
وسط صليل القائلة الآسيوية، هناك في أعماق الدغل قطة تسترخي على صخرة ملتحفة بالنسيم والأغصان. حتى أطفال الملائكة يغبطونها على هذه الهناءة والطمأنينة.
* * *
الأنثى الخالدة تتجاوز المجال المحدود للمرأة. انه مبدأ الأنوثة الكوني السرمدي..
(جوته، ربما)
* * *
«لا يمكنني إلا أن أوضح بأن التفاؤل… لا يبدو لي لغواً لا مسوغ له فحسب، بل كذلك طريقة تفكير دنيئة، واستهزاء قاسٍ بالآلام البشرية التي يعجز عنها الوصف»
(شوبنهور)
يلزمنا وقت، ووقت طويل جدا، سنين تمتد إلى عقود وأحقاب، كي نتوصل إلى ظل حقيقة هاربة باستمرار.. اذن لماذا الجزم بما يشبه اليقين في تبني مسألة أو قضيّة ما في الحياة والوجود؟ إلا فيما يتعلق ببداهة أو ما يفترض كذلك، بحق الإنسان في العيش بكرامة، بحقه الانساني الأخلاقي القانوني، الذي يضمن له الاستمرار في هذه الحياة الفانية حتماً، ككائن حر حريّة مسؤولة في الاختيار كفرد وجماعة، وليس كقطيع ورقيق مسلوب الإرادة والرأي والاختيار، تحت سقف سلطة طغيان وفساد مطلقة، يصل إطلاقها مرتبة التابو والمقدّس، هذه البداهة حقيقة مُعطاة، لا تحتاج إلى بحث واستقصاء إلا في التفاصيل حقيقة جوهريّة بالغة السطوع، استخلصتها الجماعات البشريّة بعد تاريخ طويل من المعاناة والرعب الدموي التي جلبته سلطات الطغاة جراء الآلام التي يعجز عنها الوصف. والتي بسبب جوارفها الكارثية تفوق آلام الوجود بمعناه الانطولوجي المركوز في نبتة التكوين، لُحمته وشذاه. هذه التي أضحت بداهات في الكثير من بلدان العالم، ما زالت تستعصي في بلاد أخرى ومنها العربيّة وفي طليعتها..
وهي مسألة لا تحتمل المراوغة ولا الجدل العقيم حين تتحول السلطة القاهرة لحظة استعصاء وتعثّر آلة قمعها وطغيانها، إلى المجازر والإبادات الجماعية لتغرق البلاد أو ما تبقى منها في أقصى أتون الآلام والفظاعات . هذا حدث ويحدث، بعد أن حولتهم سلطة الطغيان التي لم تتعلم شيئا من التاريخ عدا القتل بكافة صُعُده ووجوهه، إلى تجمعّات عشوائيّة. واطمأنت إلى موت الوعي والإحساس بكرامة الانسان وحلم الحريّة الصعب… يحدث أن ينبض في جسد الميّت أو ما ظُنّ انه كذلك، نسغ الأحلام المؤودة. وتبدأ هذه الجماعة أو تلك في لملمة أشلائها الممزّقة، لتعتلي مفهوم الشعب والأمة وتحاول قول كلمة حول الحياة والمصير المُصادرين منذ قرون.
وتتحول المجزرةُ التي كانت تُمارس بصمت ومراوغة تحت جنح ليل الاستبداد والمطلق، إلى النطق الصارخ حدّ الهستيريا والعُصاب الوحشي الأقصى، مدمرة في طريقها البلاد، بشراً وعمراناً وطبيعة ومصادر حياة.. حتى أكثر الآراء تشاؤماً لم تكن ترى مثل هذه الصيرورة القاتمة لهذه البلاد العربيّة التي لا ينقصها الثراء المادي والروحي تاريخا وراهناً… يحدث هذا وسط انحطاط قيمي وانسحاب قانوني وأخلاقي وفطري على مستوى العالم بأكمله، خاصة الدول التي تمتلك القوة شبه المطلقة وتملك الكلمة الفصل في هكذا سياق من البشاعة والتدمير. وتخون ثوابتها في ادارة العلاقات الدولية والأزمات، مما يفصح عن ذلك المستقبل المظلم للبشريّة ناحية القيم والمواثيق والعقود، التي ناضلت لأجلها عقوداً أو أحقاباً كي تصل إلى تلك الحقيقة البديهية الواضحة التي لا يكتنفها غموض الحقائق الوجوديّة الكبرى.
في مثل هذه الأحوال المظلمة المخيفة التي تفوق العبارة وإمكانات اللغة في التعبير وتسحقها، لا يكون الجدال إلا عقيماً حول «الحقائق» والمسؤوليات والتهم. مثل هذا السجال الذي يحترفه الساسةُ أكثر، يُعتبر ترفاً واستهتاراً بآلام الملايين، بمحنتهم في الاقتلاع من الحياة قتلاً وتشريداً إلى التيه والمجهول القاسي.
من عينّات ذلك الجدل، في الفترة الأخيرة من عمر المحنة الذي ما زال مفتوحاً ومديداً، والذي يشكل أقصى حالات الانحطاط والدناءة، أن أولئك الذين شردتهم آلة الحرب والإبادة، وذهب بعضهم إلى بلدان الشتات، في مشهد قيامي براً وبحراً، يفوق كل القسمات والأوصاف للتراجيديات الموصوفة كعلامات كبرى في تاريخ البشر، وصْفهم، بأنهم ذهبوا من بلادهم (كأنما ما زالت هناك بلاد) لاجئين بأطفالهم وأرواحهم المكلومة في هياج المحيطات، قطاع الطرق والسلوكات العنصرية والإهانات، اختياراً منهم بالانتقال إلى بلاد الحضارة والحلم والسعادة. بهذا المعنى أن هذه الملايين انتهزت فرصة الأحداث العاصفة لتحقق حلمها السعيد في البلاد الأخرى!!
في هذه المسألة وغيرها، النوازع الدنيئة، تُغطى بأقنعة وخطابات أكثر تهافتاً ودناءة خاصة حين تصدر من قبل المحسوبين على الثقافة والمعرفة الذين لا يتورعون عن استغلال مآسي البشر ونكباتهم لصالح حساباتهم الضيقة الوضيعة..
الإدانة والتضامن بكل أنواعه مع المنكوبين والضحايا، مع غض النظر جزماً عن الانتماء إلى هذه الجماعة أو تلك، مع قطْع النظر عن الانتماء بكل أشكاله، وهو الحد الأدنى وهو أضعف الايمان في هذه الحال، بعيداً عن أي جدل ومماطلة لا يفضيان إلا إلى مزيد من التبرير والمأساة.
الحقيقة مراوغة مستعصية في نظر الفلاسفة والأدباء، لكن حقيقة القتلة أعداء الحياة، والضحايا والمنكوبين واضحة بسطوع شمس آب الحارقة ..
* * *
ضيوفي الليليون كانوا على وتَرٍ من اللطافة التي تسافر في الأثير العذْب لليل الغاب، تُسكت البلاغة والنشيد.
هنيهات تعبر السكون الضاج، بالحيوات والوجوه الحييّة الحبيبة، كأنما جاد بها مطر البارحة، لتمطرني بالقُبلات والعناق..
هنيهات عابرة كأنما استُلت من روح الأبد الباذخ الحنون . وددتُ لو استمرت واستطالت إلى اللانهاية. لكن ربما يكمن سرُ جمالها في هذا العبور الومْضي الخاطف.
* * *
لا شيء يجعلنا أكثر توحداً بالألم، والذات بالحياة والموت، من قرصٍ بأبهةِ مضيئة وهو يغور في الأفق المرتجف البعيد.
* * *
محمولة بأيادي الملاك على عرشها، الملكة تترّحل بين الآفاق اللامرئيّة والأصقاع.
* * *
في لحظة، كآبة مدلّهمة، تتبدى الأيادي، وهي تحملها على نعش في رحلتها النهائية والأخيرة.
* * *
حين ينظر المرء ويفكّر في ضحايا الحروب والمذابح، الجرائم والمجاعات التي تحتل رقعة بلاد المشرق العربي في البرهة الراهنة.
معظم مشهد هذا الخراب العميم الذي لن ينجو منه أحد مهما توّهم ذلك في لحظة زهوٍ كاذب. حين ينظر المرء إلى كل هذا الصخب القاسي والحطام، ويرى بما لا يقبل الشك، تواطؤ الأقوياء والضعفاء على إنجاز هذه الفظاعات الشنيعة، يأخذه الدوار والألم إلى مهاوٍ سحيقة لا يعود منها إلا مضرجاً بالجراحات والأرق، اذ لا بد من البحث عن عزاء ما. عزاء ولو كان مؤقتاً أمام ديمومة المأساة.
في هذه اللحظة يلوح هذا النور قادما من (جوته) الكبير، في ديوانه الشرقي بترجمة الراحل عبدالغفار مكاوي. وإن كان عزاءً أقرب إلى الرومانسية والأحلام، فما أحوج المُحتضر إلى هذا النور المترحل بين الآفاق والجغرافيات.
«لكن في غير مكان يجد الحقُ
أعوانَه المخلصين
وإن كان الشر قد ساد اليوم
واكتسب المكانة والحظوة».
ويعود الشاعر والمفكر الكوني إلى تلك العهود الاسلاميّة بوعيها المشرق العميق الذي يجلب السعادة والإخاء الانساني والحضارة.
«عندما كان المسلمون يستشهدون بالقرآن الكريم. كانوا يذكرون السورة والآية، وكان كل مسلم بما ينبغي عليه من توقير، يشعر بالإجلال والطمأنينة في أعماق الضمير..
لكن الدراويش المحدثين لا يفْضلونهم في شيء. فهم يثرثرون عن القديم فضلا عن الجديد. وكل يوم يزداد التشويش والاضطراب الشديد:
«أيها القرآن الكريم، أيها الطمأنينة الخالدة».
هذه الرؤيا العابرة للهويّات الثقافية الضيقة، تذهب أبعد وأعمق من تلك الخطابات التي نزلت بثقلها وغلظتها حول القديم والحديث والأصالة والمعاصرة. ولم تخلّف في الحال العربي إلا هذر القول وزَبَد الكلام.
هؤلاء المحدثون بلغة القدماء، الحديثون، أو بالأحرى الحداثويّن، في نكبات التاريخ وملماته، انحاز الكثير منهم. إلى أكثر الأشكال تخلفاً وظلاماً ونكوصاً، ليس عن إنجازات الحداثة في جوانبها الخلاّقة على مختلف صُعد الحياة، المجتمع والثقافة، وإنما تخلوا تحت ذرائع كثيرة، عن أبسط القيم الأخلاقيّة والانسانية. انحازوا إلى العشيرة والطائفة في الإفناء المتبادل بين الطوائف في عهود الانحطاط العربي السائد. انحازوا إلى أكثر الأشكال دمويّة ووحشيّة.
«لقد حلت عليهم لعنة التاريخ فليثملوا بها» كما عبر عقل العويط عن حرقةٍ وصدق.
فليثتملوا بهذا الانحياز إلى أحط أنواع الغرائز السوداء، استهتاراً بنكبات البشر من اخوانهم، مقتلة الانسان والقيم.
ومع ذلك، وهذا الانفصام، لو اجتمع كل علماء النفس وغيرهم من أهل الاختصاص، لا يستطيعون مقاربته بأي حال وتحليل . لأنه نوع جديد من انفصامات الجنس البشري في هذا الكوكب المختنق، مع ذلك يلهج هذا النفر، ليل نهار بالحداثة والحريّة التي يرثون لحالها: أقصى حالات الانفصال المتطرف عن الذات والتاريخ، في مجراه العنيف الراهن، التقوقع المرضي داخل شرنقة الغريزة المظلمة بنوازعها الإقصائيّة التصفويّة، هم من يشْكون من الإقصاء والتهميش وانهم سبقوا مجتمعهم وزمنهم بقرون..
المنطق والعاطفة لا مكان لهما في سيرك الغرائز المتلاطمة وفي هذا الهراء اللفظي المجاني.
* * *
أقرأ لمسرحي روسي، أن كل أنواع الفرجة المسرحية بمدارسها وأحوالها المشهديّة المختلفة، تراجيدياً وكوميدياً، على اختلافها وتفاوتها إبداعاً وجمالاً، مقبولة رائعة ومدهشة.. كل أنواع المسرح، عدا مسرح الساسة والسياسة، فهو أبشع وأحط أنواع المسرح وعروضه، على وجه الأرض. مواكب الكذب والتبرير المتذاكي، الذي حتماً يفضي إلى سحق الآخر وظلمه، ويفضي إلى المجزرة التي يخيم ظلامها الدامس على مسرح العالم بأكمله، المستْضعَف منه على الخصوص والتحديد.
* * *
تحدّث أحد أدباء أمريكا اللاتينيّة، في عهد من عهودها الحديثة، عما حصل في عهده، الذي تميّز بنظام بوليسي عسكري ساحق للإبداع وللإنسان، انتفضت عليه القارّة بأكملها… تحدث بأن الأكثر سفاهةً وفتكاً واستهانةً بانسانيّة البشر، ليس القمع البوليسي العاري في حد ذاته فحسب، وإنما أدعياءُ الأدب ومتطفلوه، من معدومي الموهبة والأخلاق.
هؤلاء هم الأكثر سُميّة ونذالةً أمام أي إبداع حقيقي أو مبدعين حقيقييّن.. وأمام أي سخاء في السلوك الإنساني الشفّاف الذي يفتقدونه بشكل جذري. والذي لا بد ينتج عن وعي الكائن الحاد، بالبحث عن العدالة بإحساسه بالفناء، وبخطر الانهيار الشامل المحيط..
* * *
مدمن على العزلة أيها المحيط. مدمن ومعتّق فيها عبر أزمنة ضوئية وعصور.. فمهما التقت الحشود على شواطئك وبحارك. بُنيت المدن والأساطيل الحربيّة شقت عباب مياهك «أيها العازب الكبير».
لا تعبأ بكل هذا ولا تعيره طرفة موجة من خصماتك الهائلة. لأنك الأمين على خزائن أسرار الأعماق.
ربما أغنية صياد في فجر نديّ، تثير انتباهك..
تُوقظ فيك ذكرى العَدم السابق والسديم..
* * *
الضجيج.. الضجيج، والضوضاء الرهيبة، جعلاني أنجز سريعاً إجراءات الرحيل إلى هذه البلاد والجزر النائية. الحي الذي سكنته في مسقط لم يكتمل بناؤه بعد ..فعلينا أن نتحمل أو أتحّمل أنا على الخصوص، عدو الصخب ومشهد الآلات والشاحنات، ثمن هذا الخطأ الذي من الصعب تجاوزه إلا بالمراوغة والصبر والسفر، حتى الفرج باذن الله والنجاة. فصخب الآلات أشبه بحرب تُشن على العقل والحواس وتطوّح بهما إلى العُصاب والجنون.
في بعض البلاد العربيّة أو بأجمعها التي خسرت رهان الحداثة الحقيقيّة حتى الآن، وفَقدتْ تلك القِدامة على نحو مباغت والتي لها الكثير من المحاسن التي سحقها هذا «التقدم» السريع.
واقع العالم الراهن، وتلك البلدان جزء لا بد من هذا العالم، واقع مآزق وتحديات خطيرة وصراعات، تقصي وتهمش هذه البلاد بينما تتعمق وتتمركز أكثر في هذا السباق بلاد أخرى. فكان لابد في خضّم هذا الصراع اللامتكافئ الذي تفتعله على الأرجح البلدان والدول القوية، أن تفقد مجتمعها القديم ببنائه وعناصره ولم تربح بديلاً آخر يمتص محاسن ذلك القديم الذي يتوارى، ويعوض ذلك الفقد والغياب: انه اليتم والضياع في متاهات التاريخ المتقلب وفي متاهات عنف الحضارة المعاصرة وجبروتها.
في البلاد الخليجية، كانت طفرة النفط كما هو معروف بتلك الصدفة الجيولوجيّة والتقنية الفارقة والفاصلة بشكل صاعق بين عصرين. وكانت التحولات السريعة، بجانب ما جلبته من رفاه وتحول باتجاه «قيم» المدينة والحضارة التي تهيمن مفاهيمها ومعاييرها على أرض البشر قاطبة «كل حسب نسبته ومقدار عمرانه» حسب العبارة الخلدونيّة. بداهة ترك هذا التحول ثغرات إن لم أقل حفراً ومهاويَ مأساوية كثيرة.
في البلاد العربية الأخرى التي جرت فيها وقائع هذا التحوّل بوتيرة أبطء. وكانت تتميز بنوع من التماس والتفاعل المبكرين مع مراكز الحضارة المهيمنة. على صعيد النُخب خاصة. وكما في كل المجتمعات، هي المؤهلة لتحمل أعباء التاريخ وقيادته في التحولات، باتجاه المدنيّة الموصوفة والحضارة في استوائها الطبيعي واستقرارها المنشود.
لكن الانقلابات العسكريّة وغير العسكريّة التي رافقتها، أحبطت طموحات تلك النخب النهضويّة، وبالتالي الشعوب، في أن تواصل «الدولة» والمؤسسات الموجودة منذ عهود الهيمنة الاستعماريّة. هناك بنيات منذ الهيمنة الامبراطوريّة العثمانية التي تغيرت مع الاستعمار الأوروبي الحديث وإن بقيت أنويتها مترسبة في العمق القيمي والسلوكي.. لم تواصل تلك البنيات التي توسلت التحديث والأفق الديمقراطي لأحلام التقدم، نموها ومسارها الطبيعيين. بل بالعكس أطاحت بذلك النمو لصالح دعاوى تبشيريّة ودكتاتورية عسكريّة كمرادورية صادرت الفضاء العام والخاص تحت شعارات شتى من نمط «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». واسرائيل والمؤامرة الخارجية… الخ وانحصرت السلطة والثروة لصالح «محدثي النعمة» واقتسام الغنائم بين المنتفعين وراكبي موجات الانتهازية والكذب.
كي لا أمضي في استرسال سرد هذه التحولات المأساوية فهي موجودة في مضانها، …. وكان الضجيج والضوضاء الخطابية والتبعيّة من نصيب العرب بينما استحوذت على اللُباب والفحوى الحقيقيين بلاد وشعوب أخرى.
* * *
كان الخطأ خطأي حين انتقلت من حي (العذيبة) وأميل إلى أن التسميّة مشتقة من العذوبة وليس العذاب. اللغة العربيّة غنية بهذه الاشتقاقات والمرادفات حدّ التناقض والصدام.
فتلك المنطقة البحريّة (العذيبة) المكتملة العمران، كانت مريحة وهادئة كما أحلم، وكانت ثمة حديقة في المنزل، ألعب فيها مع الأولاد والطيور.
وحين يكون الطقس جيداً، هناك فراشات وعصافير متنوعة، صخَبها على نقيض صخب الآلات والشاحنات. وذلك العصفور الطنان الذي يأتي كل صباح مع طائر (البابو) كمبشرين بأحلام الجنّة الموعودة والمستحيلة. ولا نعدم بين الفترة والأخرى من مشاهدة خلايا النحل على غدور إحدى الأشجار، ليأتي الخبير لاحقا لقطفه، نحلاً شافياً وصافياً يذكر بالأيام الخوالي في الوديان العُمانية والوهاد والسفوح.
عليّ أن أدفع ثمن خطأي بالصبر والسفر . هذه المرة استحال عليّ إيجاد فندق على البحر، فلجأت إلى منتجعات الغابة البسيطة والجميلة. فهذه البلاد الواقعة في عمق خط الاستواء، مُكتَسحة من قبل (الروس) وبعض الأوروبيين الهاربين من جحيم طقسهم البارد، كما نهرب نحن من جحيم صيفنا الحار.. لكن ما يحدث في الأقوام الروسيّة، انك تجدهم ببروز في كل مكان، لكأنما تتخيّل تلك الجغرافيا المتلاطمة المساحات والطقوس والجماعات (سدس الأرض بعد تفكك الاتحاد السوفييتي) شبه فارغة… الأغرب أن هذه المساحة الأكبر في العالم، يقطنها نسبة سكان 160 مليون. كيف لهذه النسبة أن تتوزع بهذه الكثافة على بلدان العالم؟ لكأنما انتقل الروس من ضغط الامبراطوريّة السوفييتية القوي والحديدي، إلى انفتاح زائف يخفي في تضاريس دعايته، كل أنوع القهر والسيطرة والسحق لبلد عريق الدولة والثقافة والمعرفة. الفروق الأساسية بالغة الوضوح بين سلوك جماعات الغرب الحضاري المدني في مستواه اليومي العادي، وبين الروس الذين لم تنشأ لديهم منذ حكم القياصرة أي دولة تتوسل الحريّة والديمقراطيّة مسلكاً ودستوراً حقيقيين. حتى أن بعض المنّظرين ذهبوا، إلى أن الديمقراطيّة ليست من نسيج التاريخ الروسي ولا تصلح له!! مثلما يقال عن العرب: وكأنما أمريكا والغرب واليابان، كانت الدولة الديمقراطيّة وقيمها، من صُلب ونسيج تاريخهم؟ ولم تكن ديكتاتوريات عاتية ومسالخ وهمجيّات من كل الأصناف والأنواع. ان الديمقراطية والحداثة والمدنية كمسلك حضارة فيها من العمق والشمول، لاحت ومن ثم تكرّست مع ميلاد مفهوم الانسان الحديث، منذ الثورة الفرنسية وصعود البرجوازيّة الأوروبية على أنقاض الكنيسة والإقطاع…. الخ.
وفق هذه الاطروحة، هل من المفيد، استعادة (تروتسكي) أحد منظري وقادة الحقبة السوفييتيّة في سجاله ومعركته مع «الرفاق» حول التطور المفارق لكل من المجتمعات الغربيّة والمجتمعات الروسية السوفييتيّة، كون «الشيوعية» لا تصلح إلا في بلدان بلغت أوج تطورها الصناعي والحضاري مثل الغرب، حيث يكون مهيأ لمثل هذا التحول او الانتقال (اليوتوبي) وليس روسيا وجمهورياتها..
ومن باب الطرافة، ماذا لو عاش القائد السوفييتي حتى يرى «الشيوعيّة» تطبق في جنوب اليمن. ومن على نمطها وهم كثر «دولاً» وحركات تحرير طبعت مرحلة بكاملها؟!
* * *
في عجالة هذا الصباح، أحب أن استأنس في سياق حديثي عن صخب الآلات القبيح ورعبه، بما أوردته منى فياض، في كتابها (فخ الجسد) ربما يضيئ شيئا في عتمة أزمنتنا المتمادية.. يتحدثُ (ريلكه) عن ذلك التحول المدني بداية القرن العشرين في باريس. الفروق الجوهريّة بين طبيعة تحولاتهم، والتي حصلت في ديارنا تفرض نفسها كبداهة. تلك التي أعطت ثمار تطورها المدني والقيمي المضاءة بنور الحضارة، وإن لم تأت بالفردوس، الذي لا مكان له على أرض البشر.
«أقول انني لا استطيع النوم وشباكي مفتوح . تجري الترومايات مطلقة أبواقها عبر غرفتي. السيارات، يُفتح باب في مكان ما. يسقط زجاج مطقطقا (…) كلب يعوي، يا للراحة كلب يعوي، مع اقتراب الصباح هناك ديك يغني وهذيان لا متناه ثم فجأة أنام».
أما (باشلار) فهو لا يستطيع أن يتحمل هجوم الآلات المستخدمة في حفر الاسفلت، إلا إذا تخيّل انها أصوات العصفور النقّار في ريفه البعيد..
إذن عليّ التحمل والتخييل كعلاج . الخيال هو الذي ينقذنا ولو مؤقتاً، من الاختناق والشقاء والأرق، وينقذنا من قبح المشهد المحيط.
* * *
في الزمن الماضي، حين كنت مقيماً في الخارج، أي خارج بلدي الأصلي، كان كاتباً عراقياً، جاء لتوّه هارباً من العراق مثل الألوف من بني شعبه. كان يحدثنا بأسى عميق عن خيانة أحد أصدقائه عبر الوشاية به إلى أجهزة الأمن مما سبب له السجن والتعذيب، ثم ساعدته الظروف على نعمة الهروب. كان جرحه الطري البالغ، يجعله يذهب في طرق شتى في تأويل الخيانة والبطش وانحطاط القيم. وشط به خيال الألم الجامح إلى إبداع معادلات كثيرة في هذا الشأن المستمر المتجدد على المستوى العربي، من تلك المعادلات على ما أتذكر رغم الالتباس الذي يصنعه مرور الزمن وتصرمه:
«المرأة اذا انحطت صارت عاهرة والرجل اذا انحط صار مخبراً»..
في هذه اللحظة وأنا أتذكر الصديق الغائب وفي خضّم احتدام الصراعات والخطابات الطائفيّة التي لم يجدْ الزمن العربي والكوني بمثلها قذارة وانحطاطاً، تخطر ببالي توجيه تلك المعادلة وفق معطيات الظرف الراهن.
«المرأة اذ سقطت أو انحطت صارت عاهرة والرجل صار طائفياً» لأن الرمز الطائفي في هذا المناخ الدموي الوضيع المكفر، هو مصدر كل الأوبئة والتشّوهات، هو المستنقع الذي يفرز كل الطواعين، والحشرات السامة. لدرجة أن تلك الأنظمة الفاسدة والمستبدة عبر عقود تخالها أحقاباً، تبدو في ضوء الانتعاش الدموي للطائفية، أقل هولاً وكارثية، لأنها لم تكن طائفية. ولم تكن هذه من صميم مشروعها الاستبدادي. حتى الشرور والانحدارات القيميّة، والاخلاقيّة، نسبيّة هي الأخرى، وعلى مستويات عدّة. ويبدو أن برهة التاريخ العربي وجواره، الايراني خاصة، بالغة الخصوبة والثراء، لتفجير الطائفية والحروب العبثية، التي لابد طال الزمن أم قَصر، سيعود الجميع منها خاسراً منكسراً ومقذوفاً خارج صيرورة الحضارة والتاريخ..
سيرك الشعارات والطقوس الكاذب، وهذا المسرح الإعلامي الصاخب، ليس إلا أقنعة، يتّقد ويغلي تحت رمادها، تاريخ التعمية والتجهيل، كما تتقد وتغلي بذور الانفجار الحتمي النقيض .
سيف الرحبي
* فصل من كتاب قادم يحمل نفس العنوان (رحلات وأسفار).