إدريس عيسى
شاعر مغربي
( إلى ذكرى محمد الطوبي، عابرا
سبل اللانهاية مشمولا بالضوء )
1 ـ
…
ويا صاحبي أين أنت،
وأين أنا ؟
بيننا الليل، لا ضوء يخرقه
غير هذا الكلام الذي يتلعثم بي
ويرجعني كهُذاءٍ..
أناديك باسمي فيرتدّ صوتك
باسمك من سُدفٍ في حدود الصدى
لكأنيَ ناديتني من غيابي
لأُعجِل خطوي إلى البابِ
من حيث جزتَ إلى اللانهاية؛
بابِ القيامة؛ ذاك الذي خلفه يتكور
كل النهار على الليل في لمحة
والفراسخُ تُقطع مثل نعاس وثير
تهدهده في الظهيرة صفصافتان
وسرب يمائم أُرسِل من تحتها الماء..
قل لي: أمرّتْ ظلالي التي سبقتني
إلى ما وراء الوراء هناك؟
أألفيتَني سائرًا في غبار مشع
كأني غدوت سراجا
تسير به نِعمةٌ.. لا يدانِ؟
أناديتَ أمك؛ فاطمةَ الروح حتى
تلاقي خطوك عند الحدود التي
ليس يبلغها الليل؟
…
ظلك باق
ويرعاه من ورثوا عنك
هذا الفراغ الذي لا يحيط به
الضوء.. ما زلتَ تأتي
من الكلمات التي لم تقلها،
ومن مدخل في نشيدٍ
تأجل في آلة لم يجدها المغنون..
تأتي من السهو.. من جهة
ليس يفضي إليها طريق ولا تعبر الطير
منها إلى مهجر الطير..
قل لي:
أللأرض باب تراه هنا
من هناك؟
هل الشمس شمس.. أللبشر الحي
ثمة جِرم من النور، أم أنه
حمأٌ لازب تتأبد فيه شؤون الترابِ؟
أفي الصُّقْع ذاك جهات مقسّمة
وتضاريسُ، أم أنها تتجمع في نقطة
تكمن اللانهايات فيها وينخسف العقل
إذ يحتمي بتدابيره الفلكيّة؟
هل يحمل الناس بوصلة
من بِلَّوْرٍ يسوّى بنار؟
وهل يهتدون كما تهتدي
في السماء الطيور؟
أيوجد ليل يليه نهار
وهل من مصابيح للحيّ.. أم ينشأ
الضوء من فكرة الضوء
أم أن عينًا تشاء فتطرِف أهدابها
فيكون؟
2 ـ
لم تكن فاطمهْ
نخلة في براحٍ
ولا قمرا في غناء الرعاة القدامى
ولاغيمةً فوق بيتٍ
ولم تتمرن لتُثبت صقرا بنظرتها
بين قرنيْ مهاة..
..
كانت امرأة من أقاصي السهول
التي حينما يزفِر البحر
يلوي ذوائب أشجارها
كانت امرأة من ظلال
ومغفرة وحنين إلى بلد لم يُعِدها
طريق إليهْ
..
لم يكن طفلها كوكبا
كان طيفا يليها ويمسك أكمامها ، فرحا
بالنهار يلألئ في شعرها
وهو يمسك مصباحه اللدُنيّ بكفيه؛
مصباحُه فلتة الضوء.. إمكان معجزةٍ..
أوقدته له نجمة سمْتُها اللانهاية
والغيب.
…
كانا معا وترين لدودين في آلة
تضبط الروحُ أوزانها ومقاماتها ثم
تستدرج النور كي تعزف النور
جاء نهارٌ ودوّم ناعورة من لهيب..
توهج في البيت أكثر من شمسه
وغدا حجرا معشيا
كسر الطفل فوقه مصباحه
فاحتواه الظلام..
ولما أفاق وحدق مرتعدا
لم يجد أمه..
3 ـ
تكاثر ظلها في ظله
مستنفرا كالأيل لاحقه صياح مطاردين..
تنبهت في روحه الغابات.. وانفسحت سماء
وانجلت سبلٌ
..
صحا القنديل في ظلماته السفلى
صحا المعنى
تنكر في ثياب الطفل، قالَ:
” الطفل آمنُ أن يمرَّ ولا يُرى”.
..
صعد المسالك والشعاف إلى الأعالي؛
ربما يبقى هنالك طيفُها
ورنينُ رسغيها إذا احتكت أساورها
ووسوس بالنعاس المعدنُ اللألاء..
تبقى خَشفةٌ من خطوها في البيت
يتبعها إلى ركن جثا به مرة
وتناولت كفاه ضوءا في ضفيرتها
…
سيذكر، حين يحكي، كل ذاك الضوء
قال:” رأيت نهرا دافقا بالنور
يغمرني كأرض، فاكتسيت به..”
ومنذئذ يقلب دائما كفيه
مرتقبا خروج الوعل من يمناهْ.
4 ـ
رقدت فاطمهْ
استحال اسمها معبرا سلكته
إلى لا ـ هناك؛ وراء الإشارة.. لم تلتفت؛
…
ورث الطفل عنها إشاحتها
والظلال التي بقيت تتردد بين النوافذ
والباب..
حرك في فمه ما تبقى من الهول
والكلمات.. وفكر أن يحرس الغيب
من رحبة الدار؛ نادى..
فلم يخرج الصوت
نادى.. فهبّت صحارى على وجهه..
قال: ” أحفَظ في الروح صورتها”
قال:” أغمض عينَيَّ كي لا تجيء الصحارى”
وصوّى المسالك بين السماء وبين
النوافذ والباب واللا ـ هناك
بضحكتها، ورنين اسمها، وصدى صوتها
وبوسوسة كهبوب على السهل
يرسله البحر حتى تَمُوج حقول الذرة
..
كان في الليل يغمض عينيه
حتى يراها
ويُسقِطُ شمسَ الظهيرة في وجهه
كي يكرر ذاك النهارَ وناعورةَ النار
والخوفَ من أن يكون هنا وحده
وتكونَ له شاشةٌ تترجرج
حمراءَ..حمراء من عدمٍ وعمىً
تتشاءى ويلمعُ في سطحها
الماوراء الخفيّْ
…
مرة.. عثرت كفه في الظلام
على مقبض عند باب
فأداره حتى يمر إلى الجسر
من حيث مرت، ولم تنتظره.. فدارت
به الأرض وانهار من فوقه
أبد من حصى
وسماءُ تراب.
5 ـ
ستكون فاطمةُ الكتابَ
وما تحيط به الكتابةُ والمدادُ
ليقرأ الطفل الذي لمسته من ريش
الملائك نفحة ويرى الأوائلَ
والنهاياتِ الخبيئةَ في السطور
يقلِّب المتن الذي هو كلهُ اسْمٌ واحد
بين الغلافين؛ الرحابةِ والغيابِ..
…
اقرأ كتابك أيها الطفل الذي
لمسته من ريش الملائكِ نفحةٌ، عيناك
لم تتعلما الإنسان والحيوانَ يكمن فيه،
والكون المعلق باسمه المستور،
والآلامَ لاويةَ الحديد الصلد، والأرض القريبة..
..
كيف تبقى سابحا في الجو
والأمداء حيث يُحوّم الخطاف
والقُمْريّ أحيانا، وتبتدع السَّمامة دربها
تحت السماء؟
…
انزل قليلا بيننا
واقرأ كتابك أيها الطفل
استعدْ أطياف فاطمةَ.. استعد
تلويح كفيها، وهسهسة اللباس إذا
مشت في البيت جنبك، والضفيرةَ؛
عشتَ تمسك بالضفيرة منذ أن فُتح الكتابُ
ولم تجدها فيه
وانطبقت على اللاشيء كفك..
شدّت اليمنى على المزلاج في الباب
الذي ليس بابا بل دوارٌ في المجاز
ولا يمر الحيُّ منه إلى الرحابة..
…
سوف تكبر كاتما حجر الصواعق
بين فكيك؛ الشكيمة هكذا.. إمّا تلبسك
الحصان، وكانت الرؤيا اللجامَ..
..
اقرأ كتابك
سوف تنسى حين ترتجل
الكلامَ وتقْلب المعنى لتبحث
فيه عن معنى، وفي الكلمات
عن نار تليق بأن تكون كتابة
أخرى لكي تصف الغياب
…
اقرأ كتابك
سوف تحيا في الحداد
وكلُّ ما كتبت يمينك لن يكون سوى
إشاحتِك الطويلةٍ عن فراغ
ليس يملؤه رثاءٌ..
…
سوف تحيا في الكتابِ
وفيه ترحلُ
فيه تبقى…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* فاطمة هو اسم أم الشاعر الفقيد محمد الطوبي.