[1]
مضى يصعد الدرج مرقاتين مرقاتين، تلك عادة اكتسبها منذ شبابه، حين كان يمتلك جسما رياضيا عبل الساعدين، صلب القدمين. لم يكن يلهث رغم تقدمه في السن، كان فقط يلاحق جسم السمسار النحيف الذي يصعد أمامه الدرج مرقاة مرقاة، ورغم ذلك كان السمسار الأسرع، ولم يكن يفتر عن الكلام، غير أن الصدى كان يشوش عليه السمع فيؤَمِّن على ما يقال دون أن يفهم شيئا من مكنونه. لعل السمسار يشيد بمزايا السكن فوق السطوح، حيث ينفتح الساكن على سماء الله الواسعة، ويتنفس الهواء النقي، ويسمع تغاريد الطيور عن قرب. ورغم نحافة جسم السمسار، إلا أن رقبته كانت ضخمة لا تتناسب مع هيكله العظمي القصير. لعل مرضا خبيثا أصابها، أو لعلها عاهة خِلقية رافقته منذ أن انقذف في هذا العالم، وستصاحبه إلى أن يُلحد في قبره.
كان رشيق الحركة، وكان هو من ورائه لا يرى منه سوى ظهره وساقيه، ثم قدميه المحشوتين في خفين مقطعين يُبديان شقوقا مُحفَّرة متسخة سوداء. لعل الرجل لم ينظفهما منذ أمد بعيد، هل تراه يصلي ويتوضأ؟
ورغم أنه بدأ يلهث إلا أنه أصر على أن يظل في ظهر السمسار، كما يفعل المتسابقون في الحلبات، مستعينا بالضغط بكف يده على خشب الدرابزين. السمسار لم يكن يتكئ على شيء. كان يصعد وكأنه يسير في منبسط. عليهما أن يبلغا الدور السابع من عمارة قديمة، تبدو عليها آثار البلى والقِدم واضحة من خلال طلاء جدرانها الباهث، وتهدم الدرابزين في أغلب أجزائه وتكسر درجات السلم، وتعطل المصعد، الذي هو من الجيل الأول الذي عرفه العالم من مصاعد أيام زمان.
توقف السمسار، فتوقف هو توّاً من ورائه، وحين التفت، غابت رقبته الغليظة، ليظهر وجهه رفيعا ينبجس منه أنف طويل تحته ذقن مدبب وفوق الشفتين شارب يبدو وكأنه ملصق عنوة، لإنجاز عرض مسرحي أو حفلة تنكرية، أو مزحة يلهو بها الصغار في ألعابهم البريئة. أصبحا الآن وجها لوجه، غير أنه كان ملزما بأن يرفع محياه ممططا عنقه بينما أصبح السمسار مضطرا إلى إحناء رأسه، ورسم ابتسامة مداراة ماكرة لتخرج الكلمات من فيه، وهو يبتسم ابتسامة صفراء، تعود عليها بحكم الممارسة الطويلة للمهنة. لعله تعب من المجاهدة في مغالبة الدرج الطويل البارد المظلم البهيم، فطلب استراحة قصيرة، محاولا أن يشعر الزبون بأنها أتت عفوا، وأنه استدرك ما كان يجب التنبيه إليه والتذكير به:
– كما أخبرتك سابقا. هنا ستجد راحتك المطلقة. رغم الطوابق السبعة فالعمارة شبه فارغة. ننتظر فقط رجوع المالك من الخارج ليباشر الإصلاحات …المصعد والدرج والطلاء والإنارة وكل شيء. هل تعبت وأنت تصعد الدرج ؟!
– لا لا. أبدا، وأنت ؟
– أبدا. الأمر هين، أستطيع أن أفعل هذا طيلة اليوم دون عناء.
كان السمسار كاذبا. محياه يشي بأنه أصبح منهكا، لا يقوى حتى على الكلام، إذ تنقذف الجمل من فيه متلاحقة في زفير يقطع أنفاسه. ورغم ذلك استدار ليستأنف الصعود، محاولا إبداء همة، مجاهدا ليحافظ على نفس الإيقاع الذي ابتدأ به الصعود. فما كان منه إلا أن يتعقبه، كظله ولسان حاله يقول «ما دمت تصعد، لا بد أن أصعد في إثرك». بعد وصولهما للطابق السابع، أصبح الدرج صغيرا مهدما غير مبلط يغوص في ظلمة دامسة. بدا على السمسار شيء من الارتباك، غير أنه سارع بإشعال ضوء أبيض من هاتفه النقال، وعمد إلى فتح الباب الخشبي المؤدي إلى السطح، فتدفق نور الشمس الذهبي، يكشف عن وجهيهما المتصببين عرقا. لفحت وجهيهما حرارة شمس الظهيرة، وتطايرت حمامات، مفردة أجنحتها، تنساب بليونة فوق سطوح العمارات. بدا السطح فسيحا فارغا صامتا يبلغه رجع ضوضاء الناس، ضعيفا كالهمس، وزعيق أبواق السيارات المتقطع، خافتا من أثر البعد، بدت له الغرفة السطحية بطلاء بابها الخشبي الباهت المهترئ ساكنة وطيئة منزوية في إحدى زوايا السطح المستطيل.
بسط السمسار يده اليمنى، مشيرا بسبابتها:
– انظر إلى تلك الصومعة الشاهقة، إنه المسجد الجديد، يستطيع المرء أن يؤدي صلاة الجمعة بيسر، دون عناء، إنه على مرمى حجر، كما يقولون.
ثم استدرك، مبتسما بسمته الصفراء، محاولا الربت على كتف الزبون الذي راوغ بجسمه، فسبحت كف السمسار في الهواء، كما يلامس المجداف صفحة الماء:
هه هه هه.. أما من أراد…
استطالت بسمة السمسار الصفراء، وفغر فاه، لتظهر أسنانه المعوجة المتهدمة المسوسة من آثار التدخين أو الإهمال أو الوراثة، ثم شهق بضحكات متقطعة مدارية، مستطلعا وجه الزبون مختبرا إن كان من الأليق أن يستمر أم يتوقف، فما كان من الزبون إلا أن أعطاه الضوء الأخضر، بابتسامة تفنن في جعلها جواز مرور، يرفع الكلفة إلى أكبر مدى. ربت السمسار على كتف الزبون، الذي لم يمانع هذه المرة، فتلقى كتفه كف السمسار ذات الأصابع التي اتسخت أظافرها، غير المقلمة:
– أقصد، أما من أراد أن يروح عن نفسه، فمن وراء الصومعة في الحي المجاور ما لذ وطاب من متع الدنيا…
تأكد الآن من أن السمسار، يعتبره وافدا جديدا على المدينة. هكذا أحسن فالسماسرة مخبرون، وإن كان هو لا يشتغل بالسياسة أو ينتمي إلى منظمة سرية، فإنه يكرههم، كما يكره حراس السيارات في الشارع العام وسائقي سيارات الأجرة، وأصحاب دكاكين المواد الغذائية، حتى ليخيل إليه في جل الأحيان أن كل المدن أصبحت تعج بالمخبرين، وليس غير المخبرين.
استدار نحو باب الغرفة السطحية الخشبي الباهت المهترئ، ففهم السمسار القصد، ثم ابتسم ابتسامة ماكرة، وحشى يده اليمنى في جيب سرواله المتسخ، ليستخرج مفتاحا من العينة القديمة طويلا يعلوه الصدأ، وحشاه في ثقب الباب ثم أداره، لكن الباب استعصى. أعاد الكرة وابتسامة المداراة الصفراء مازالت تصاحب محياه، ركل الدفة بقدمه اليمنى، فتطاير منها بعض الخشب، لكنها صممت على عدم الانفتاح، غير أنها استجابت بعد أن استعمل السمسار كتفه، في اقتحامها كما يفعل رجال الشرطة، أو اللصوص، أو من أضاع المفتاح واستعجل الاقتحام.
وجدا نفسيهما وسط منزل صغير المساحة، به غرفة ومطبخ وحمام. لم يكن كلام السمسار، وهو يحدثه منذ يومين دقيقا. كان فقط يتحدث عن غرفة في سطح عمارة. كل السماسرة هكذا، يحدثونك عن منازل لم يروها، يمجدون ما لا يمجد، ويضخمون ما لا يضخم، لكن السمسار هذه المرة وقع في مطب معاكس، سارع إلى دخول الغرفة ثم المطبخ ثم الحمام مستكشفا. فتح الحنفية، فتدفق الماء، ثم أدار مفتاح الكهرباء فغمر النور المكان. لم يرتبك ولم يشعر بأي حرج، وحين كان فمه يرسم ابتسامته الصفراء تدفقت الكلمات، التي مضى يرددها صدى المكان الفارغ:
– لم أرد أن أخبرك مسبقا، تركت الأمر مفاجأة سارة، إنها دويرة مجهزة بالماء والكهرباء، بلاطها مرمر وسقفها جبص.
وحين انتبهت عيناه إلى وجود نافذتين واحدة بالغرفة، والثانية بالمطبخ، سارع إلى فتحهما على التوالي، بسرعة بدت منها رغبته في استطلاع مجهول. وما أن أطل برأسه من نافذة المطبخ، وأجال بصره يمينا وشمالا، سماء وأرضا، حتى سحب الرأس ذا القفا الغليظة التي بدأت تتصبب عرقا، بسبب النزق الذي ركب صاحبها وهو يتنقل بين نافذتين من مكانين مفترقين، ثم أطلق العنان للسانه لاهثا مشدود النفس:
– من النافذتين يمكنك، أن تتملى في جمال المدينة ليلا ونهارا، فهما تطلان على الشارع العام، إنه الشارع الأكبر في المدينة، به المحلات التجارية والمقاصف والمطاعم والمقاهي والأبناك والأسواق..
لم يعد يسمع من كلامه شيئا، كان صوته رقيقا كريها، يرن في طبلتي أذنيه كأجراس بائع الماء، وبالتدريج بدأ الصوت يخفت والكلام يتحول إلى همهمات لا معنى لها، حتى أصبح الوضع شبيها بفيلم سينمائي صامت.
[2]
كما يحدث للمرء في ليلة المبيت الأولى في سكن جديد، لم يغمض له جفن، إلا عند طلوع الفجر، ولبرهة يسيرة. الدويرة نظيفة معطرة والأفرشة جديدة، إلا أن النوم خاصمه، ولم تأخذه سوى سنة نوم حين كانت الشمس قد أشرقت، فتدفق شعاعها الذهبي يلون هياكل العمارات وإسفلت الشوارع وأجساد المارة البؤساء الساعين إلى أعمالهم بأسمالهم الوسخة المهترئة.
ظل يتقلب في الفراش، يسمع هدير محركات العربات البخارية، مخمنا نوعها. مرة يكون الهدير لدراجة نارية خفيفة، وأخرى يكون لنوع دراجات السباق النارية، ثم يكون لشاحنة وبعدها لسيارة أجرة. تلتقط أذنه أصوات محركات مركبات قديمة تشق صمت الليل، بزمجرتها المزعجة المتقطعة، التي تشفع ضوضاءها بفرقعات، تجعل وجيب القلب مرتفعا، وارتعاد الأوصال متسارعا.
كان الأمر يحتاج شهرا كاملا لإنجاز عقد الكراء، وإعادة طلاء الدويرة وتأثيثها، لم يكن حريصا على التدقيق في محاسبة الحرفيين الذين تعامل معهم، أو محلات الأثاث التي اشترى منها ما يمكن أن يؤمن له الحد الأدنى من الراحة، في سكن يأمل أن يجد فيه ما كان يبتغي.
هكذا أهمل المساومة، فبدا كغِرٍّ لا يمتلك أية خبرة في الحياة أو كموسر كريم، لا يعبأ بتكلفة ما يقتنيه.
هذه المرة أصر على تنسيق الألوان في كل شيء واستعان بمجلات الموضة وخبرة بائعي الأثاث ومصممي الديكورات، إلى أن هيأ لنفسه عشه الصغير كما يرتضي، إنها في نفس الوقت غرفة نوم ومكتبة، تصلح حتى للجلوس حيث يتحول السرير إلى كنبة، وتنبجس من الحيطان مراتب لاستقبال الزوار، وتنبثق من الأرضية مائدة تصلح للكتابة أو تناول المرطبات أو حتى وضع بعض الأغراض التي يحرص المرء على أن تكون في كل آن قريبة منه وفي متناول يده.
أما المطبخ فقد زوده بكل التجهيزات الحديثة التي يحضر عمال الشركة المصنعة لإثباتها عبر وكلائهم، مزودين إياها بكل أنواع الأواني التي تيسر أمر الطبخ وتهيئ الأكلات السريعة. غير أنه أعطى أهمية كبرى للحمام، رغم ضيق مساحته، فجعله عصريا، من السيراميك الجيد ذي اللون السماوي، بينما موقع الرشاش يُحاط بالزجاج الشفاف الذي يعطيك انطباعا بأنك داخل كبسولة سفينة فضائية، تسافر عبر الكواكب والمجرات في ليونة سحرية حالمة.
كان يتمنى دائما أن يكون له سكن يطل على نهر عظيم، تمخر عباب مائه سفن تجارية ومراكب صيادين وفلكهم الخشبية، نهر يسبح فيه السباحون، وينزلق فوق مائه الرياضيون على مزاليجهم مجرورين بحبل يشدهم إلى مراكب ذات محركات سريعة.
نهر من أنهار العالم الشهيرة، يفتح نافذة بيته ويقضي أكثر ساعات النهار، متأملا في حركة البشر الدائبة، التي لا تفتر سوى في الليل دون أن يعلم إن كان لهؤلاء الخلق من هدف معقول لكل ما يصدر عنهم من حركة ولغط وصياح…
تمنى كذلك أن يكون له سكن عند شاطئ البحر، يعيش على هدير الأمواج، وصخب الماء المنكسر على الصخور المكسوة بالطحالب الخضراء، يتملى من نافذته عند الغروب في عناق العشاق أمام لون الشفق القرمزي الفتان، أو منزل يطل على غابة من شجر السنديان، يشم أريج الأقحوان ويسمع صوت الطيور، ونقيق الضفادع، وأزيز الزنابير، ويميز الفصول الأربعة من خلال أوراق الشجر، ولون العشب، وحرارة الطقس. لكن العين بصيرة واليد قصيرة، لطالما شاهد في الأفلام ديكورات لسكنيات، تمنى دائما أن تكون ملكا له، أو على الأقل أن يقيم بها لفترة يشفي فيها غليله، منتقما لحياة البؤس التي صبغت صباه وشبابه، بل استغرقت كل حياته.
ولد في حي قصديري، من الأحياء الهامشية، التي نشأت بعشوائية في ضواحي المدينة.
سكنهم عبارة عن كوخ خشبي، به غرفتان ومطبخ ومرحاض وباحة متربة. ليس يدري إن
كانت هذه التسميات تفي بغرض الوصف الدقيق؟ هو وصف فيه الكثير من التجاوز. هنالك
مطرح خشبي فوقه لحاف، يستعمل للنوم وعلى الأرضية حصير، وبضعة أغطية، أما
الغرفة الثانية فمحيطها مرتبات وطيئة تصلح للجلوس وللنوم، يمكن أن تسع أكبر عدد ممكن
من النائمين إذا هم توازوا في رقدتهم، وتلاصقوا بأجسادهم كالسردين المعلب، غير أن
المطبخ ظل متربا به مجمر وبضع أوانٍ من الطين وكؤوس وصحون من الألومنيوم. وكان
أبوه قد احتفر في الباحة بئرا، حرص على أن يجعل له مَغلقا يتحكم فيه هو وحده، حتى لا
ينزلق فيه طفل من أولئك الأطفال المشاغبين الذين يحضرون مع آبائهم وأمهاتهم كضيوف،
فيملأون السكن ضوضاء ويلهون بالفراش والأواني…. تكظم أمه غيظها، وحين ينهر
الضيوف أبناءهم، تتصنع تبسيط الأمر وترسم على وجهها بسمة رضى، تقول من خلالها
بصوت ضاحك:
– اتركوا الأطفال يلعبون كما يشاؤون. ما أخشاه هو اقترابهم من البئر.
الضيوف عادة، ماداموا خارج بيوتهم، يصدرون أوامر للأبناء بالتوقف عن الإزعاج بلهجة فاترة، هي تشجيع أكثر منه منع صارم، إلى أن يقع المكروه فتقوم القائمة بعد الكسر أو الخدش الغائر أو الجرح الدامي، ليختلط العويل بالصياح والضرب والرفس والتدخلات المهدئة، إلى أن يتحلق الكل حول مائدة الأكل، فلا يخفت الضجيج، إلا في لحظة المغادرة، حيث توزع القبل مشفوعة بكلام مكرور، تعود الكل على استظهاره، ليعم بعد ذلك السكون الذي يغري بالخلود إلى الاسترخاء وأحلام اليقظة.
ليلة المبيت الأولى هاته في السكن الجديد، ليلة بيضاء كما يقول الفرنسيون، كناية عن إصابتهم بالأرق، غير أنه كان كلما استغرق في سنة نوم، ثم استيقظ إلا وشعر بالرغبة في ولوج دورة المياه. كان هذا الأمر يزعجه كثيرا. أصبح مع مرور السنوات والتقدم في السن، يكره لحظة قضاء الحاجات الطبيعية في المرحاض، التي أصبحت متعددة في يومه وليله، مما يجعله مضطرا للاستحمام عدة مرات في اليوم داعكا جسده بالصابون، متطيبا مصرا على تنظيف أسنانه بمعجون من النوع الجيد.
هل ينتقم اليوم لسنوات البؤس التي عاشها في صباه وشبابه، يتذكر أن أباه كان يأخذه مرة في الأسبوع إلى الحمام، ينتظران عودة الأم لتهيئ لهما الرزمة، بعد أن تفتح رزمتها وتزيل منها ثيابها الداخلية وتخصهما بالطاسة والمحكة وقطعة الصابون، وهي لا تفتر عن تنبيههما:
– إياكما أن تنسيا الطاسة بما فيها في الحمام كما فعلتما في المرة السابقة، هما لم ينسيا الطاسة سوى مرة واحدة ومنذ مدة ليست باليسيرة، لكنها تعودت أن تنبههما وكأن الأمر حدث مؤخرا.
كان الأب في البداية يحتج على أن الأمر مضى وانقضى وأصبح في خبر كان، وأنه لن يحدث مرة أخرى إطلاقا، غير أن المرأة لم تفتر همتها في ترديد نفس التنبيه، فلم يعد الأب ينبس ببنت شفة، منتظرا في صبر أيوبي أن تحل لحظة مغادرته البيت وابنه في اتجاه الحمام يشيعهما صوت الأم وهي تستظهر لائحة وصاياها التي تحفظها عن ظهر قلب:
– الحمام اليوم ساخن أكثر من اللازم، الكفرة يفعلون ذلك عمدا ليغادر المستحمون في أقرب وقت. كدت أموت اليوم لقد أصبت بدوار غير مسبوق، انتبها حتى لا تنزلقا فالأرضية مليئة بالصابون…
تستحم الأم دائما هي الأولى في الفترة الخاصة بالنساء، ثم يستحم الزوج وابنه بعدها حين تغادر النساء وتبدأ الفترة الخاصة بالرجال. يأمره الأب بأن يتمدد بطوله على أرضية الغرفة الأولى الساخنة، ليطلي جسمه بالصابون البلدي وأن يلبث بها أطول مرة ممكنة، حتى يسهل عليه بعد ذلك إزالة الوسخ. كان الإبن يضيق بذلك كثيرا ولا يتحمله إلا على مضض، فلا يأمره الأب بالخروج إلى الغرفة الثانية الدافئة حتى تكاد روحه تزهق، فيمتد بطوله مرة أخرى ليسلخ الأب جسده بالمحكة وهو يردد كالعادة:
– من أين تأتي بكل هذه الأوساخ والأدران؟ أنت طفل قذر نتن كالثعلب، انظر إلى طبقة الأوساخ على جسمك التي أصبحت في حجم فروة كبش.
كان لا يرتاح إلا بعد أن يملأ له الأب سطلي ماء فاتر، يلهو بهما في الغرفة الثالثة الباردة المؤدية إلى مخرج الحمام.
مرة في الشهر يدس الأب في يده قطعة نقد بيضاء عليها صورة ملك البلاد، ويقول له:
– اذهب إلى الحلاق، وأزل عنك هذا الشعر الأشعث المتسخ.
يكون الحلاق قد أعمل يديه في كومة الشعر الأكرد جاذبا إياها بعنف، يخلف ألما عند الطفل الباكي الذي يكره أن يسلم رأسه لحلاق ثرثار، يعمل آلته ومقصه ومشطه بعنف سادي، باستهزاء وتشف مَرَضِيَّيْن.
ولا بد له ككل مرة أن يصطاد قملة أو اثنتين، تعلقان بالمقص، فيكشف الأمر للزبناء ساخرا، ثم يمعن في الاستهزاء:
– قلت لك مرارا، بأن سبب هزالك هو أن القمل يمتص دماءك ويتركك نحيفا على الدوام.
يحني الطفل رأسه خجلا وتحمر وجنتاه، لتنهمر الدموع من مقلتيه. ما أقسى لحظة البكاء حيث تغلف المهانة جسم الباكي وكيانه، فيشعر بالضعف ويتكوم على نفسه، حتى يتمنى لو انعدم فكان نسيا منسيا.
كان حين يخلو إلى نفسه وحيدا، يعمد إلى أخذ مشط ثم يبسط أمامه ورقة بيضاء، ليبدأ في كنس شعر رأسه الأكرد دون توقف إلى أن تبدأ حبات الرمل السافية تسقط مطرا على صفحة الورقة، وعيناه تتلصصان على سقوط قملة تتحرك بين حبات الرمل المتناثرة، فيبادر إلى وضعها على ظفر إبهامه الأيسر ليجهز عليها بظفر إبهامه الأيمن، مستشعرا لذة نصر عند سماعه طرطقة جسم القملة المنفجر.
[3]
لم يعد ينقصه شيء من تجهيزات سكنه سوى جهاز تلفاز بلازما بحجم كبير مع صندوق الأحلام، الذي سيفتح له عوالم سحرية مضيئة تنسيه السنوات الطويلة العجاف التي عاشها في البؤس والذل والهوان والخصاصة وكل أنواع الإحباطات. ولج سوقا تجاريا من هذه الأسواق الحديثة الفسيحة التي انتشرت في كل أرجاء المدينة تبسط أمام الزبناء كل أنواع الإغراء لتشجيعهم على الاستهلاك. الموسيقى صاخبة وطوابير المشترين تصطف أمام صناديق الأداء محملة بالسلع، بينما مذيع يعلن عن تخفيضات مغرية في أثمنة بعض المواد ويعد الزبناء بجوائز سَنِيّة، بعد فوزهم في مسابقات الحظ التي تقترحها عليهم إدارة المحل.
جال بين أكوام البضائع المصفوفة بعناية على الرفوف وسط ابتسامات فتيات يرتدين زيا موحدا، إلى أن وجد نفسه وسط ما لا يحصى من أجهزة التلفاز المشغلة، والتي تبدو ألوانها أجود مما يراه في المنازل أو المقاهي ولم يجد لذلك تفسيرا. فقد علمته التجربة أنه كلما رأى بضاعة في واجهة متجر بدت له جميلة لا تقدر بثمن سواء أكانت مما يلبس أو يُزين به. يستعمل ركوبا أو ديكورا، لكنه حين يقتنيها فيلبسها أو يركبها أو يوشي بها مسكنه، تبدو له عادية مبتذلة على عكس الذي رآه عليها وهي معروضة ولا يدري لذلك تفسيرا مقنعا.
رغم ذلك أغمض عينيه وتقدم نحو المكلف بالبيع، لم يسمع من كلامه إلا النزر القليل ولم يعقب إلا باقتضاب ما بعده اقتضاب، فقط لازمته ابتسامة مجاملة مستبطئا ساعة الأداء، إذ هو يدرك أن لا جدوى من الإلحاح على معرفة الدولة المصنعة وقطع الغيار، وجودة الصوت والألوان… في كوخهم بالمدينة القصديرية، لم يكونوا يمتلكون جهاز تلفزيون. حين شاع هذا الجهاز العجيب بين الناس، لم يتمكن من اقتنائه سوى القليل من الأسر الثرية أو المتوسطة التي استدانت أو وقعت على فواتير التقسيط الطويلة المرهقة، لكن جل المقاهي أصبحت تتوفر على جهاز، إذ بدونه سيقل روادها وتصاب بالكساد.
كان فقط يقف بعيدا مع أترابه متلصصين على الشاشة الصغيرة بلهفة إلى أن يطردهم النادل، أو يغلق الباب الخارجي للمقهى أو يسدل الستائر التي أثبتها عمدا لحرمان كل من رغب في الفرجة دون مقابل. هنالك علم أن لكل شيئ ثمن وأن لا شيء يُعطى مجانا.
في لحظات خصام أبويه، كانت أمه ترفع عقيرتها غاضبة تصيح بانفعال في وجه الأب:
– لست محظوظة بتاتا. أنا التي صدقتك، فتركت قريتي الهادئة إذ واعدتني بالسكن في المدينة معززة مكرمة، فلم أجدك سوى حمال في الميناء تسكن كوخا قذرا من الخشب والقصدير، حارا صيفا باردا شتاء، أنت نحس ابن نحس.
لا يتمالك الأب نفسه فيحمر وجهه ثم يصيح:
– اخرسي، يا ابنة الزانية، كنت تفلين القمل في حقل الدرة ليلا ونهارا، ولم تنتعلي يوما مداسا. عودي من حيث أتيت. منذ أن عرفتك تراجعت أحوالي وهوت بي الدنيا نحو الحضيض.
ينسحب الابن مهرولا نحو ساحة الحلاقي، وصوت المتنازعين يخف من وراء ظهره إلى أن يغطي عليه صوت الباعة والمشترين حتى يجد نفسه في حلقة العزام، هذا الرجل العجيب الذي يحول الشاي قهوة والقهوة شايا، كذلك يظهر للجميع علبة فارغة ثم يُعمِل فيها يده، فيخرج منها موزا وعنبا وإجاصا، يأكل منها ويطعم بعض من في الحلقة، ليتأكد الجميع أنهم بصدد فاكهة حقيقية صالحة للأكل. أما أعجب ما يقدمه هو تحويل الذكر إلى أنثى.
عمد مرة إلى تنبيه طفل مشاغب كان يجلس في الدائرة الأولى من الحلقة، ممعنا في الاستهزاء بالعزام، لكن الطفل تمادى في غيه رغم تحذير المتفرجين له، وحين بالغ في التشويش على الفرجة غضب العزام وجذب الطفل من طوق قميصه نحو وسط الحلقة، هنالك وهو ممسك به صاح وكأنه يخاطب الحلقة بأجمعها:
– سوف أعاقبك عقابا يليق بمقدار سوء أخلاقك.
وبعد أن يلولب رأسه مستعرضا كل وجوه المتفرجين المتشوقين يصيح:
– ما رأيكم، هل ألقنه درسا لن ينساه؟
تتعالى الضحكات، وتردد الحناجر في شبه كورال:
– أدبه، أدبه…
يستمر الطفل في سخريته، مصرا على أن لا شيء سوف يردعه عن مكره.
يتمتم العزام ويبركم، ثم يقول صائحا:
– أوب.
يضحك الطفل ساخرا.
يسأله العزام:
– هل أنت ذكر أم أنثى؟
يجب الطفل:
– ذكر.
يتركه العزام، موليا له ظهره، طائفا بمحيط الحلقة الداخلي، موزعا الغمزات المستهزئة على الرواد:
– هل أنت متأكد؟
يؤمن الطفل على كلامه بطأطأة من رأسه. غير أن العزام يفاجئه:
– ابحث لتتأكد.
يفتح الطفل أزرار سرواله، ثم يعيد تزريره بسرعة لينخرط في بكاء متصل وهو يلتصق برجل العزام:
– أرجوك أعدني كما كنت.
يصر العزام ألا يفعل، بينما يزداد الطفل التصاقا ويتحول بكاؤه إلى نحيب، يقبل يدي العزام ويستعطفه، يطول المشهد، وتسري همهمات بين المتفرجين.
يتجمد في مكانه بمحيط الحلقة، وهو يتابع دموع هذا الطفل البئيس الذي قاده حظه العاثر، ليرمي به بين يدي هذا العزام الجبار، أشفق على الطفل، وأصابه فزع كبير إذ تصور لو أنه كان في مكانه وحدث له ما يحدث الآن أمام عينيه. إنه أمر رهيب، لكم كره هذا العزام الأجلف الذي يمتلك كل هذه القدرة الرهيبة. طال بكاء الطفل وأصابت صوته بحة، ولم يعد من بالحلقة يميز ما يقوله، إنما هي حشرجة وبعد لأي وحوار طويل مع جمهور الحلقة، استطاع العزام أن يشد أذهان المتفرجين فصاح مخاطبا إياهم:
– هل تريدون إنقاذ هذا الطفل المشاغب؟ إذن خلصوه بما جاد به كرمكم من نفقة.
انهالت الدريهمات على العزام بأريحية حاتمية، بل من الناس من ساهم بأوراق نقدية، بدل القطع المعدنية.
وما أن صاح العزام بكلمته السحرية:
– أوب.
وتفحص الطفل ما وراء أزرار سرواله، حتى انطلق فارا كالسهم حيث لا يدري أحد، وسط ضحكات المتفرجين الصاخبة.
بعد سنوات طويلة حين بدأ يخبر بعض أسرار الحياة المستغلقة على الفهم، أدرك أن الأمر لم يكن سوى لعبة تنطلي على الناس ويكسب منها العزام قوت يومه، فالطفل متآمر معه يمثلان معا بإتقان مشهدا مسرحيا مقنعا، كان وقعه رهيبا عليه غير أنه حين أدرك السر ضحك من نفسه، وعلم أنه سيظل عاجزا عن استيعاب كل ما يحدث.
[4]
وهو مقبل على باب العمارة، متعبا مهدودا يمني النفس بالتمدد بطوله على السرير وتشغيل جهاز التلفاز الذي أثبته على الحائط في وضع يجعله يستمرئ بالفرجة مستلقيا، منتعشا بهبات نسيم المكيف، صدمه المشهد الذي لم يكن يتوقعه. رأى سيارة شرطة من الحجم الكبير مركونة على الطوار، يتجمع حولها جمع من الناس، تشرئب أعناقهم نحو شرطي قصير بدين أكرش، يسائل حارس العمارة ذي السحنة البدوية والذقن غير الحليق دائما. كان الشرطي مضطرا إلى رفع رأسه نحو وجه الحارس ذي القامة الطويلة، وقد تدلى على فخده الأيمن جراب المسدس، وعلى فخده الأيسر هراوة تجاوزت ركبته، فبدا كمهرج في سيرك. كان لا يفتر عن إبعاد المتحلقين المتلصصين على ما يقال، غير أنهم يبتعدون حين يدفعهم ثم يرجعون إلى وضعهم السابق، كلما عاد هو إلى استئناف حديثه مع حارس العمارة.
كان الشرطي السائق يجلس وراء المقود غير عابئ بما يحدث، كان لا يكلف نفسه حتى زجر المقتربين من سيارة الشرطة، المطلين من زجاج نوافذها مستطلعين ما بالداخل، مما يجعل بعضهم يتكئ على جسم السيارة الحديدي البارد، وهم يلوكون الكلام المكرور الذي يتفوه به المرء في مثل هذه المناسبات.
دق قلبه بعنف حين رأى حارس العمارة يتفرس في وجوه الجمع، والشرطي يتابعه باهتمام وكأنه طلب منه تبين وجه معين من بين المتحلقين. بدأ الارتباك يفعل فعله في كيانه، وتمنى أن لا تقع عينه في عيني الحارس، لذا لولب رأسه ببطء، فوقعت عينه على مقهى لم يكن انتبه إلى وجودها، أو لعله رآها دون أن ترسخ في ذهنه، فانسل من وسط الجمع الذي بدأ يتكاثر، ودلف المقهى بسرعة متباطئة أو بتباطؤ سريع.
الآن أصبح بإمكانه أن يرى ما يحدث بشكل جيد، اقتعد كرسيا عند طاولة بمحاذاة الواجهة الزجاجية المطلة على باب العمارة. أصبح الآن الحارس يشير بيده إلى الطوابق السبعة، حيث بدأت بعض النساء يفتحن النوافذ لاستطلاع ما يحدث. كان الشرطي القصير البدين يبصق على الأرضية المتربة، مرة تلو الأخرى، وكأنه يشتم رائحة نتنة أو كأنها عادة ركبته فلم يعد يملك أن يتخلص منها مهما فعل.
طلب قهوة سوداء وحين أحضرها النادل تذكر أنه لم يعد يشرب هذا المشروب منذ سنوات طوال، بعد إجرائه عملية جراحية مستعجلة كادت تودي بحياته لينقطع بعد ذلك عن التدخين وعن شرب القهوة السوداء.
بدا عليه الارتباك وحار في أمره، شعر أن يده ترتعش وهو يدير الملعقة في الفنجان، محركا قطعة السكر البيضاء. كان النادل قد وقف بطوله عند الواجهة الزجاجية للمقهى، يتابع ما يحدث.
أحس بأن النادل يريد محادثته، غير أنه أعرض عن ذلك مؤقتا إمعانا في الحيطة والحذر. كان النادل يهمهم بكلام غير مفهوم، وكأنه يحادث نفسه أو كأنه من ذلك النوع من الناس الذي يجهر لا إراديا بما يفكر فيه، فكانت تصدر عنه:
– ايه… هههه… أولاد الحرام…
كان في بعض الأحيان يضرب كفا بكف، أو يلتفت ذات اليمين وذات الشمال. وحين تأكد أن الزبون لن يسأله بادر بالحديث: . . .
– لن ينتهي هذا الأمر بخير.
– أي أمر؟!
– حين تحضر الشرطة إلى مكان ما، لن يحصل خير أبدا.
حاول أن يستجلي الأمر مستفزا النادل:
– ما الذي وقع؟
إنها الشرطة يا عزيزي، إنه البوليس.
ولماذا حضروا؟
اسمع يا سيدي. أنت ترى فقط شرطيين، واحد يحدث حارس العمارة والثاني يقبع وراء مقود سيارة الشرطة. هذه صورة مغررة، كن متأكدا أن جل المتحلقين الآن هم من الشرطة السرية والمخبرين، بعضهم يستخفي في هيئة متسول أو بائع متجول أو خادمة في البيوت…، اسألني أنا… من خلال مهنتي، رأيت ما لم أكن أتصور أني سأراه.
– لكن ما الذي حدث؟
– انظر إلى الشرطي القصير الأكرش البدين الذي يحدث حارس العمارة، هل ترى قريبا منهما رجلا يلبس بذلة رياضية زرقاء ويتكئ على مقود دراجته الهوائية!؟ هل تراه!؟
– نعم أراه.
– إنه والله العظيم مخبر… أنا أعرفه جيدا، وقد وشى بي مرة فحكموا علي بالسجن لمدة ثلاثة أشهر، والله العظيم.
– لكن ما الذي يحدث الآن؟
– اسمع، والله العظيم، لن يستطيع أحد الإفلات من مخالب الشرطة… مهما فعلت لا بد أن تقع في شباكهم.
– من أنا؟!
– أقصد أنهم إن بحثوا عن فار أو مختف، لا بد هم واجدوه.
الظاهر أن لهذا النادل طريقته الخاصة في الحديث والحوار، كلما حاولت توجيهه نحو السؤال الأهم انفلت من بين يديك كما تنفلت قطعة الصابون من بين يدي مستحم.
ليحاول معه بطريقة أخرى:
– هل بالعمارة مبحوث عنه، أو من له سوابق؟
– أبدا. أنا أعرف كل سكان العمارة، إنهم من زبنائي، ثم إنها عمارة قديمة آيلة إلى السقوط، ومعظم شققها مهجورة يتمسك مكتروها بأداء سومة الكراء بانتظام في انتظار أن يمنحهم مالك العمارة مقدارا ماليا مقابل المغادرة.
– لربما حضرت الشرطة للبحث في هذه النازلة…
ضحك النادل ملء شدقيه، ثم انصرف عن النظر إلى الخارج من خلال الزجاج، وجعل وجهه في وجه الزبون عينا بعين.
– اسمع يا سيدي، هذا ليس شأن الشرطة. ذاك ملف مدني مكانه المحاكم.
– إذن لماذا حضرت سيارة الشرطة؟
– اسمع، ما اسمك يا سيدي.
تجاهل الأمر، وتشاغل بتحريك الملعقة في كوب القهوة البارد:
– عفوا. اشرب قهوتك أولا. سوف ترى بأم عينيك، سوف يعتقلون الآن شخصا. هم لم يحضروا سوى لاعتقاله.
لفظ كلامه هذا بيقينية، تؤطرها ضحكة سخرية، ثم انصرف.
كان طعم القهوة مرا. تجرع فقط جرعتين كانتا بمثابة علقم يؤلم معدته المنهكة المقرحة. كانت يده ترتجف بالفنجان، وكان قلبه ينبض بعنف. هل يكونون الآن قد أحكموا الشَّرَك حول عنقه، ليسقط كالطريدة بين أيديهم، ليعنفوه ويمارسوا عليه كل أنواع المهانة والإذلال؟
يتناوب المحققون على استنطاقه، بعضهم طويل وبعضهم قصير، منهم الأبيض ومنهم الأسمر والأسود. هنالك العنيف وهنالك المتظاهر باللين. أنواع وأخلاط من البشر، هدفهم الواحد الأوحد أن يزجوا به في غياهب السجن المظلم البارد.
أكمل فنجان القهوة الذي طلبه لتبرير قعدته، دون أن يشعر كان مرتبكا خائفا بطريقة غير مسبوقة. رأى حارس العمارة يطأطئ رأسه أمام الشرطي البدين، ليهب مسرعا إلى الداخل من باب العمارة. إن كان كلام النادل صحيحا فلا أحد مقصود من هذه العملية سواه، حتما أرسل الشرطي الأكرش الحارس لإحضار ساكن السطح. فليس هنالك مصعد وإلا لكان هو نفسه المستأثر بشرف وضع الأصفاد في يديه.
مضى الشرطي يصفق بيديه طاردا المتطفلين المتجمهرين حول سيارة الشرطة، نزل الشرطي السائق بدوره مغادرا كرسي القيادة، مساعدا زميله في الهش على الجمع، ثم انزويا يتحدثان ضاحكين تارة، ضاربين على كفي بعضهما تارة أخرى.
تأخر الحارس كثيرا لا بد أنه لا يفتر عن طرق باب السكن السطحي، في محاولة يائسة لإخراج الساكن إرضاء للشرطي الذي يبصق على الأرض أكثر مما يتحدث.
نادى على النادل من أجل الأداء، دس في يده بالورقة النقدية وعلى غير توقعه، اقتطع النادل ثمن المشروب وأعاد إليه الباقي دون أن ينبس ببنت شفة.
لم يعد إلى الموضوع الذي كان متحمسا في البداية للتفصيل فيه، انزوى قرب الكونتوار، وفرد صفحتي جريدة حجبت وجهه.
استغرب لسلوك هذا النادل وتعمد ألا يسأله حتى لا يثير شكوكه، فالنادل كذلك لا بد أن يكون مخبرا. انسل من المقهى في هدوء وولى وجهه شطر وسط المدينة، تاركا العمارة وراء ظهره.
[5]
أصبح الآن لا يدخل العمارة ولا يخرج منها إلا متسللا، يلجها تحت جنح الظلام، محاذرا، مخاتلا، حتى لا يراه حارس العمارة. هذا الحارس الذي أصبح بعبعا جديدا يضاف إلى كثيرين يخلقون له الفزع، ويشعرونه بضعفه .ثم يغادرها في غسق الصباح، يسير على أطراف أصابعه نافرا أذنيه ملتقطا أدق صدى للحركات والهمسات والوشوشات. سكن الحارس في الطابق الأرضي بابه في أغلب الأحيان مفتوح مشرع الدفتين، وأولاده الكثر يملؤون المكان ضجيجا وهم منهمكون في ألعابهم الصاخبة، بينما تظهر أمهم لتنهرهم ولتتطلع إلى الصاعدين الدرج والنازلين منه، ثم تختفي لتعبق المكان رائحة التوابل المنبعثة من المطبخ.
توقع أن يجد، وهو يدخل سكناه ورقة الاستدعاء إلى مديرية الشرطة ذات اللون الأزرق، التي تنتهي بعبارة «عاجلا لأمر يهمه» غير أنه لم يجد شيئا.
قال في نفسه، لعل الحارس احتفظ بها ليسلمها له يدا بيد، حتى يبتزه بمقدار مالي ما، أو لعل الشرطي أمره ألا يفكر في تمرير الاستدعاء من تحت دفة الباب، وأن عليه أن يلجأ إلى التسليم المباشر.
أول لقاء له مع حارس العمارة، لم يكن مستطابا، إذ طرق عليه الباب بعنف وهو منشغل بتوجيه الصباغين الى ما يجب فعله… أرغى وأزبد، وقال بأنه كان عليه أن يتصل بحارس العمارة، قبل بدء الأشغال، وأن السمسار يخدعه دائما ويتسبب له في مشاكل مع صاحب العمارة، الذي يملك أن يطرده ليتشرد هو وزوجته وأبناؤه… لكن حدة الغضبة خفت، بل توارت نهائيا وتحولت إلى لهجة تبريك ودعاء بحسن العاقبة، بعد تسلم الحارس لمقدار مالي مهم جعله يعرض خدماته وخدمات زوجته وحتى الأبناء عند الحاجة، لكنه رغم ذلك لابد أن يحتاط، فالحارس نفسه مخبر وقد علمته الحياة ألا يثق في مخلوق أبدا.
كان في الغالب لا يصادف أحدا وهو صاعد أو وهو هابط، لكن في المرات القليلة التي تقاطع فيها مع زوجة الحارس يدق قلبه بعنف، وحين يتوقع أن تلوح في وجهه بالخبر المشؤوم تصرف عنه النظر، وتختفي كلية وراء الباب، فيتنفس الصعداء ويعود إليه سكون أوصاله رويدا رويدا.
حين يلج سكنه يلبد فيه، ممسكا عن إحداث أي حركة، قد تسمع من الخارج لتدل على حياة داخل السكن، لكن الليل البهيم كان يلقي بالعمارة كلها داخل سبات عميق هادئ ساكن. آنذاك يغادر سكنه ليمتلك السطح الفسيح لوحده، ممعنا في نجوم السماء المتلألئة الساحرة التي يزينها البدر كلما حلت ليلة الرابع عشر، وكان الجو صحوا.
تساءل مع نفسه كم يكون قد مضى على جل سكان العمارة من الوقت لم يرفعوا فيه أبصارهم إلى السماء للتأمل في جمال النجوم الساحر. هل يناجي الناس الآن القمر؟ وتفتنهم رؤية النجوم والسحب والأفق وقوس قزح والشفق، هل يحلمون بالحبيب ويحنون إلى لقائه؟
يقتعد كرسيا عند حافة السطح يرى أضواء السيارات القليلة المتحركة ذهابا وجيئة، تسير في طرقات مستطيلة محفوفة بأعمدة الكهرباء المنيرة التي ترسم على وجه المدينة أشكالا هندسية تتوازى وتتقاطع، في منظر لا يمكن رؤيته إلا من عل، أما وأنت في الأسفل فلا يمكن أن تتبين ذلك. منظر المدن من أعلى يبدو أجمل، خصوصا أثناء الليل عندما تعبق أنفك رائحة مسك الليل الذي ينعدم طيلة ساعات النهار.
في مثل هذه اللحظات الصافية حيث يلفح وجهه نسيم عليل ينعش قلبه، تحضره ذكرى الحبيبة التي عشقها حد الجنون، لم تكن سوى نصفه الثاني وبفقدانها أصبح يعيش بنصف جسده وعقله وأحاسيسه، كان في جلساته الحميمية مع أصدقائه الخلص، يصيح بصوته المبحوح:
– لست بعدها سوى نصف إنسان بفقدها فقدت كل شيء ولم يعد لوجودي أي معنى وأصبحت هباء في هباء.
كان يسمع من بعيد أصوات الصراصير. صفيرها مقلق إذا كانت قريبة، أما إذا بعدت فإن وقع صفيرها يصبح غير مُنَفِّر، يجسد أجواء الليل الساحرة الحالمة الشبقية. لم يأخذه الشبق سوى معها ولوحدها دون غيرها.
لكن أين هي الآن؟ سعيدة أم بئيسة. هل مازالت تذكره أم انمحى من ذاكرتها وعقلها وعواطفها؟
ما أجمل أن تعشق امرأة لوحدها دون غيرها من نساء العالم، وما أقبح أن تفقدها إلى الأبد.
بلا عواطف، الإنسان في نظره لا شيء. سكون الليل هذا يشعره بالطمأنينة لكنه مع ذلك يظل متوجسا، خائفا مضطربا متوقعا أن يحدث الأسوأ. مازال يذكر زياراتهم له في الغسق، هم يفضلون الظلام دائما، فالليل أخفى للويل، الجميع يسميهم زوار الفجر.
كان طالبا طُلَعة مجدا يثير اهتمام الطلبة والأساتذة، نشيطا في العمل الجمعوي والطلابي، حين يأخذ الكلمة في المهرجانات يصدح صوته عبر مكبر الصوت جوهريا فصيحا بليغا مقنعا. كان خطيبا لا يشق له غبار، ينتزع التصفيقات الحارة، بعد كل مقطع من مقاطع خطبه: اقتنع بأن التأميم هو الحل، وأن توزيع الثروات لابد أن يتم بالعدل وأن ثورة البروليتاريا قريبة، ولو استدعى الأمر اللجوء إلى حرب العصابات في الأدغال والفيافي والقفار.. النصر آت آت، فيا رقيق الأرض هبوا، لن تفقدوا سوى أغلالكم هبوا…
وفي ليلة دامسة الظلام، أثناء فترة الامتحانات كان يغط في نوم عميق، وكان الوقت آخر الليل وأول الفجر، سمعت أمه طرقات على الباب بإلحاح، انسلت من مرقدها واتجهت نحو الباب على أطراف أصابع رجليها، محاذرة.
قالت:
– من؟!
أتتها الإجابة من وراء الدفة، فيما يشبه الهمس.
– نحن أصدقاء ابنك.
تساءلت باستغراب:
– مَنْ مِنْ أصدقاء ابني؟!
– زملاء له في الدراسة.
– وما الذي تريدونه في هذا الوقت، إنه نائم .انتظروا شروق الشمس.
– لا يمكن، أيقظيه لنسلمه الأسئلة التي ستطرح علينا في الامتحان، لقد استطعنا الحصول عليها، بل سرقناها من بعض أبناء الموسرين.
ليت أمه لم توقظه في ذلك اليوم المشؤوم، وليتها على الأقل أعادت على سمعه، ما قالوا لها بالضبط. اكتفت بإخباره بأن زملاء له في الدراسة، يطلبون مقابلته على عجل.
تردد قليلا، غير أنه لم يشك أبدا في الأمر. وفي حمأة إغفاءة الغسق اللذيذة، خطا بتثاقل نحو مصيره، وهو يدعك عينيه بأنامل يده، ويتثاءب في كسل وارتخاء.
وما أن أصبح خارج الكوخ الخشبي فوق الأرضية المتربة المبتلة حتى كان القيد في يديه والعصابة تغلف عينيه، ويُحشى به داخل سيارة تطأ جسده المنهوك أقدامهم القذرة.
هذا الاختطاف المظلم سيكلفه أربع سنوات من عمره، سوف يقضيها في غياهب معتقلات لا يدري لها مكانا، حيث ينعدم الزمن والفضاء والأحاسيس ولا تشتغل سوى المخيلة. كيف تحمل كل ذلك بجسمه النحيل وعظامه الهشة؟! لم يعد يدري.
وفي يوم ما، ليس يدري كيف ، سيتم الإلقاء به في خلاء فسيح مقفر، عند الفجر دون أن يعلم في أي مكان هو على وجه التحديد من خريطة الوطن، ثم إنه بعد ذلك يغفو فوق كرسيه مستسلما للشخير في فسحة السطح ذات النسيم المنعش. لاشيء يعدل متعة النوم فوق السطوح في الليالي الصحوة الدافئة.
أحلامه لم تكن سوى كوابيس، هكذا يرى نفسه في غرفة الاستنطاق.
– اعترف يا كلب، تريد قلب نظام الحكم، لماذا توزع المناشير، وتحرض الطلبة. أنسيت أصلك يا قذر؟ ألست من أبناء الأكواخ العفنة؟ كان من المفروض أن تكون حمالا في الميناء مثل أبيك، لا متعلما يعتلي منابر الخطابة. أليست الدولة من علمتك، أنت تنكر نعمة أسيادك عليك…
تنهال عليه الصفعات وضربات السياط والبصاق. يعلق كالشاة ويلقى به في أرضية مغمورة بالمياه الآسنة، حيث روائح البول والبراز والقيء… هل هنالك عذاب فوق هذا العذاب.
يستفيق من رقدته مرتشعا، يتمتم بكلام مبهم، فيكتشف أن فضاء السطح واسع بقدر اتساع مساحة العمارة.
[6]
أصعب أمر يمكن أن يتعرض له المرء، هو أن يجد نفسه في مكان يجهل كنهه. حين ألقوا به في الخلاء، وانسحبوا بسيارتهم، كان سيظل واقفا هناك. إذ لن يخطر بباله أنهم أطلقوا سراحه. الأمر غير متوقع إطلاقا، سيتوقع عودتهم وسيعاقبونه أشد العقاب، إن هو تزحزح من مكانه. لكن أحدهم وكأنه حدس ما يعتمل في ذهنه، صاح من نافذة السيارة.
– غُرْ من وجهنا. اذهب إلى حال سبيلك.
لم يَدْر هل يتجه جهة مطلع الشمس، أم يوليها ظهره! غير أنه لمح قنطرة، وبدأ يسمع هدير محركات آلات بخارية . قصد القنطرة، فلمح في أسفلها طريقا سيارا ذا اتجاهين، مضى فقط يراقب حركة السيارات المنزلقة على الأسفلت في انسيابية ممتعة.
لم ينجده سوى صاحب دراجة نارية حمله من ورائه بعد أن نزل أسفل القنطرة بمحاذاة الأسفلت، حيث رأى على مقربة منه علامات التشوير الطرقية، يعلو عليها بحجم كبير وخط بارز اسم المدينة المقبلة، والمسافة المتبقية لبلوغها… أربعون كيلومترا. لقد كانوا إذن رحماء به، فلو شاؤوا لرموا به في أقصى مكان من الوطن بعيدا عن مدينته، التي لم يعد يفصله عنها سوى ما سيجود به كرم صاحب الدراجة النارية من تقريب للمسافة. كان من ورائه يشعر بلفحات البرد التي يسبح فيها وجهه، فيغمض عينيه ويستمرئ بلذة افتقدها طيلة أيام احتجازه. كان لا يسمع سوى صوت محرك الدراجة النارية الهادر، دون أن يميز من كلام السائق إلا القليل. نبهه أنه سيتخلى عنه في أول موقع لرجال الدرك، وأنه سيتركه بعد عشرين كيلومترا على أن يتدبر أمره فيما بعد بنفسه.
كان يستعجل الوصول ليرى والديه، لم يكن يدري حتى تلك اللحظة المدة التي غيبته عن أهله وأصدقائه. لم يكن يعد الأيام ولم يكن هنالك من يجيبه، إذ قضى كل المدة بين سجن انفرادي وسجن جماعي مع معتقلي الحق العام، الذين لم يصدقوا ادعاءاته، واتهموه بإخفاء جرائمه التي لا بد أن تكون متعلقة بالسرقة أو اختلاس أموال الدولة أو النصب، غير أنهم كانوا مصدره في التغذية واللباس، مقابل ما يكتبه لهم من رسائل وشكايات وتظلمات، وما يقرؤه لهم من واردات من الأسر أو الإدارة، غير أن لا أحد منهم وفَّى بوعده عند خروجه من السجن بإخبار عائلته في مدينته القابعة على أطراف غابة الفلين، في حيه القصديري المتكوم على نفسه في يأس وخنوع.
كانوا ينقلونه من سجن إلى سجن، على حين غرة، بدون مقدمات لهذا عدل عن توصية الخارجين بإخبار والديه، وادعى أن لا أهل له إطلاقا. لم يتبق له الآن سوى عشرين كيلومترا. هل يقطعها راجلا؟ كان يشعر بالجوع والتعب، غير أنه استأنس بالمكان. لون التربة الحمراء وأريج الأقحوان ورائحة الفحم أنعشت روحه، هذا هو محيط نشأته السحري الحالم. كان يشير بيده للسيارات والشاحنات وحتى العربات الخشبية المجرورة من طرف الأحصنة أو البغال أو الحمير. هذا رجل تقطع به الحبل هذا هو التعبير الدارج لوصف حالة ابن السبيل. لم يجد بعد عناء في وصول جسده إلى مدينته، مرتويا شبعان، وقد غادره التعب.
لم يتبين منزل أسرته بل لم يتبين الحي بكامله، تغيرت المعالم رأسا على عقب، وحل محل الأكواخ الخشبية حي ببناءات من الإسمنت المسلح، مطلية الواجهات بطلاءات زاهية الألوان، حركة البناء على قدم وساق والساكنة تروح وتجيء متدبرة أمر عيشها. لمح دكان مواد غذائية يعمره المشترون، المتدافعون بالمناكب، وقف عند بابه الفسيح يتفحص وجوههم عله يلمح جارا قديما يستفسره عن الذي حدث. عند باب الدكان يومية كهربائية كبيرة، مضاءة بمصابيح النيون، هي عبارة عن إشهار لمنتوج مشهور، تسجل التوقيت الزمني لليوم بساعة إلكترونية. لكنه حين تأمل في تاريخ اليوم والسنة اقشعر جسمه ومادت به الدنيا، إذ أنه أدرك أن غيبته القصرية دامت أربع سنوات.
كان عليه أن يقضي مدة طويلة، من زمن ممطوط مستطيل ليدرك ويستوعب كل ما حدث في غيبته. لم يكن الأمر يسيرا. كان أقرب إلى الخوارق التي ترويها السير الشعبية، وقصص ألف ليلة وليلة وحكايات الأعاجيب التي تحكيها الجدات للصبايا في ليالي فصل الشتاء الباردة الدامسة الموحشة. تم ترحيل سكان الحي القصديري، إلى الضاحية الغربية للمدينة مقابل قطع أرضية في تجزئة سكنية اقتصادية، باعت أمه صيغتها الذهبية كما باع أبوه أرضا زراعية في ملكيته بالبادية، وابتنيا لنفسيهما سكنا مجاورا لجيرانهما القدامى.
حين دله جار قديم على سكنهم الجديد، وطرق الباب الذي انفتح على وجه أمه التي لم يتبينها، ولم تتبينه إلا بعد لأي، فكان عناقا حارا، لم يسبق لهما أن تعانقا بمثل قوته إطلاقا. ظل في حضنها وظلت في حضنه، يغلفهما نشيج البكاء الذي تحول إلى عويل. وهو في وضعه ذاك، انتبه إلى لباس أمه الأبيض الذي يغطي جسدها من قمة رأسها إلى أخمص قدميها، فأدرك الذي حدث.
سيجدان بعد ذلك وقتا كافيا ليحكيا لبعضهما ما حدث لهما بكل التفاصيل التي أصبحا يحفظانها عن ظهر قلب.
ستظل الشماتة تعصر قلبها إذ سلمت فلذة كبدها وابنها الوحيد بكل سذاجة إلى عصابة من المجرمين، في الهزيع الأخير من الليل وهو نائم مطمئن في رقدته، يمني النفس بمستقبل سعيد، مع التي عشقها كما لم يعشق قلبه معشوقة، ولايتصور أحدا يملك أن يعشق مثل عشقه.
حين سيكتشف أبوه المقلب سيُجن جنونه، ويثور في وجهها ناعتا إياها بالبلادة والجهل.
لم يتركوا بعد ذلك مخفر شرطة أو مكتب جمعية إلا طرقوه، أذاعوا بحثا عن متغيب في وسائل الإعلام دون جدوى. كانت الإشاعات والأخبار الكاذبة تتقاطر عليهم صباح مساء، فمن قائل بأنه هاجر خارج الوطن، ومن قائل بأنه انتسب إلى عصابة إجرامية. كثير من السجناء أخبروا بعد إطلاق سراحهم بأنهم تركوه بالسجن الفلاني. تعددت أسماء السجون، بتعدد خبريات المساجين، كان الأبوان يشدان الرحال إلى أبواب المعتقلات التي يرد ذكرها، دون جدوى. ولما غيروا سكناهم، توقفت زيارة المُسرحين من المساجين، فانطوى الأب على نفسه في ركن غرفته إلى أن مات حزنا وكمدا.
بينما كان هو يتلظى على شواط من نار، في غياهب المعتقلات، التي لا يعرف لها مكانا إلا حين يلقون به وسط سجناء الحق العام. آنذاك يستعيد قدرته على الكلام، ويرى لون الأشياء ووجوه المحيطين به، ويعرف اليوم والشهر والسنة وأجزاء الساعة. لكنه في الزنازين المظلمة الباردة الموحشة، والقيد في يديه والعصابة تغلف مقلتيه، لا يفكر، لا ينام، لا يستيقظ، لا يتكلم، لا يحس، هو موجود غير موجود.
تأمل مليا في قبر أبيه، مركزا على الشاهد الصخري، حيث نُقش الإسم وتاريخ الميلاد والوفاة. حاول أن يتذكر أين كان في ذلك اليوم، في أي سجن في أي زنزانة، هل كان في أتم وعيه، أم في غيبوبته، هل كان في الوجود أو في العدم. الآن يفهم حالته، وما مر به جيدا. أولئك الذين اختطفوه، تخلصوا منه فوضعوه بين أيادٍ لم تعد تملك أن تطلق سراحه، أو تستمر في اعتقاله. الاستنطاقات اللامتناهية التي خضع لها، شملت كل شيء. الحياة الطلابية، وحرب العصابات وتجارة المخدرات وأسماء لامعة في الحياة السياسية الوطنية والدولية، في كل مرة كان يتيقن بأنه سوف يحاكم كثائر،ثم يتيقن بعد ذلك أنه سيحاكم كتاجر مخدرات.
ليُعَرِّج بعد ذلك على يقينه بأنه لا بد محاكم كنصاب، أو منتحل لشخصية سلطوية… هكذا كان يحار، بمقدار حيرتهم في تلبيسه تهمة تخلصهم من ملف تورطوا فيه، ولم يملك أحد منهم الحسم في أمره.
حين كان يخبر بعض المعتقلين، أن اعتقاله، سياسي، يشككون في الأمر مستدلين بأن اسمه لم يرد في أي لائحة من اللوائح التي نشرتها الجرائد.
لم يكن ينتمي إلى أي حزب سياسي أو منظمة ممنوعة، أو فصيل معارض، لذلك كانت قضيته لا تهم أي طرف. فقط كانت له أفكاره الثائرة، الغاضبة التي تدين الجميع. كان وحيدا ضد الجميع، لهذا عومل بقسوة من طرف الجميع.
[7]
أصبحت حيرته كبيرة، وازداد خوفه. لا يحبذ أبدا أن يعود للاكتواء بتلك المعاناة المقرفة للاعتقال. حين يفقد الإنسان حريته، يصبح هباء لا قيمة له، لكن حارس العمارة المشؤوم زاد من رعبه. هل يتعمد الاختفاء عنه حتى يورطه في خطيئة، عدم الاستجابة لأوامر السلطات. لقد حدث هذا فعلا للكثيرين، يكفي أن تخفي عنهم الشرطة عمدا الاستدعاء الأزرق المشهور، المختوم بعبارة «لأمر يهمه» ليصبح الأمر مستوجبا للاعتقال والمتابعة.
نزل درج سبعة طوابق بحذر شديد، ووقف في الطابق الأرضي عند باب سكن حارس العمارة. الضوضاء تملأ المكان، وأطفال مشاغبون يتقافزون وهم يصيحون ويضربون بعضهم. صوت المذياع يعلو على صياحهم بأغنية سمجة، ورائحة طعام كثير الدسم تزكم الأنوف. الباب مشرع الدفتين، يبدو من خلاله بعض الأثاث والأفرشة، وكأن الأمر يتعلق بعملية تنظيف. حتى الأرضية مبتلة. لم يستجب الأطفال لطلبه بمناداة من بالداخل، طرق الباب عدة مرات، دون أن يستجاب له.
سيظل يلعن إلى الأبد هذا الخجل الذي تربى عليه، والذي من الظاهر أنه سيصحبه إلى قبره. لو كان شخص آخر في مكانه، لاستطاع أن يتبين الأمر بجسارته، فلا يظل ضحية للتوقعات والتخيلات التي تكون ربما وهمية ولا أساس لها من الصحة.
هكذا وبجبن، يغادر هيكل العمارة الهرِم ليهيم في طرقات المدينة الشاسعة، التي تعمرها المحلات التجارية، والمصالح الإدارية، وتنزلق فوق إسفلت شوارعها السيارات والحافلات والدراجات والشاحنات، ذهابا وجيئة في سباق محموم لا يتوقف.
مرَّ قرب مجمع تجاري كبير، يزخر بكل أنواع الألبسة والأواني والتجهيزات المنزلية وكل ما يخطر على البال، الناس يتزاحمون بين داخل وخارج من الباب الفسيح، في تدافع ولغط يعلو على صوت الموسيقى الصادحة من مكبرات الصوت المبثوثة في كل الزوايا. حين كان صغيرا، لم يكن بالمدينة سوى محل تجاري واحد كبير، يؤمه الفرنسيون، ولم يكن في متناول أبناء البلد سوى الأثرياء منهم، حتى الباعة كانوا من الفرنسيين.
يذكر أن أباه، في أغلب أيام الجمعة، بعد الصلاة، وتناول ما تيسر من طعام، يلبسه ثيابه النظيفة، وترتدي أمه جلبابها المفضل، لينطلقوا من كوخهم البئيس في ضاحية مدينة الأهالي، يسيرون بتوأدة نحو المدينة الأوربية، ليتجولوا في ردهات هذا المجمع التجاري العجيب، هم ليس في مقدورهم أن يشتروا شيئا، لكنهم يجدون متعة في التملي في المعروضات الزاخرة بالألوان، من وراء الواجهات الزجاجية المزينة بالورود وشرائط الكتان الزاهية، حتى الرائحة التي تعبق المكان تختلف اختلافا كليا، عن ما تعبق به أجواء مدينتهم القصديرية من عطانة المياه العادمة، وصناديق القمامة الحديدية الكبيرة، التي يلهو الأطفال بين محتوياتها، مع القطط والفئران والكلاب الضالة.
المتعة لا تنقضي، والمرء يتجول بين هذه الواجهات الزجاجية الساحرة، فهي تتغير دوما بتغير معروضاتها خريفا وربيعا وصيفا وشتاء، فإذا ما حل رأس السنة الميلادية ازدهت بالأنوار وشجيرات الصنوبر، وصور الأب نويل. كان سعيداً بكل هذه المرئيات، وكان يقرأ السعادة في عيني أمه مصحوبة بالدهشة، من وراء لثامها.
حين العودة إلى حيهم البئيس، كان يحلو له أن يجمع حوله ثلة من أترابه يروي لهم ما رأته عينه من عجائب اللعب. مرة وعلى غير العادة اشترى له أبوه دوامة لعب الأطفال، كانت الدوامات متوفرة في كل دكاكين المدينة بشكل موسمي، خشبية ملونة رخيصة الثمن، غير أن دوامة هذا المحل التجاري الفرنسي الهائل تختلف اختلافا كليا عن تلك الدوامات السوقية، من حيث الحجم والجودة والثمن والمتانة، فهي دوامة لا تقهر.
كان كلما مرَّ من أمام واجهة لعب الأطفال، يركز نظره جهة الدوامات وحين تسحبه أمه من يده مبعدة إياه، لا يستجيب، فتضطر إلى جره بالقوة بينما يكون الأب قد انسحب بعيدا، متظاهرا بالتملي في واجهة أخرى. إلى أن كان يومٌ، تكرر فيه نفس المشهد، فخاطب البائع الفرنسي زميلا له بسخرية:
– هذا المغربي، يتجول دوما في الأروقة، دون أن يشتري أي شيء، ولو حتى دوامة لعب الأطفال، التي يسيل لعاب ابنه لامتلاكها.
توقف الأب عن التملي في الواجهة التي أمامه، وجذب من جيب سرواله ورقة نقدية من أعلى فئة، بسطها بأنفة أمام البائع الفرنسي:
– أعطني دوامة من فضلك، وليكن لونها أخضر.
– أنت تتحدث لغتنا.؟
– ولربما أحسن منكم.
تضاحك البائع وزميله ثم قال:
– خذها، إنها هدية من المحل.
– أصر على تأدية ثمنها.
حين غادر المحل صحبة والديه، والدوامة العجيبة بين يديه ملفوفة في لفافة مزركشة، تزين العلبة الكارطونية السحرية، كان قد ازداد إعجابا بأبيه، الذي كان يواجه الأم على اعتراضها بسبب شراء دوامة بثمن مرتفع، بينما الدوامات متوفرة في كل مكان بثمن بخس، وأن الثمن المؤدى كان سينفع فيما هو أهم.
غير أن الأب كان منتشيا لمواجهته البائع الفرنسي المعتد بنفسه، بلغة فرنسية راقية، تعلمها منذ صغره، حين اشتغل وهو صبي في قريته النائية بضيعة فرنسي ثري، ظل يلازم زوجته المريضة إلى أن شب عن الطوق، فاكتسب منها لغتها الرفيعة بلكنتها الباريسية المحببة، إلى أن توفيت وغادر صاحب الضيعة البلاد مانحاً إياه قطعة أرض فلاحية. وهو وإن كان لم يلج مدرسة قط، فإنه كذلك لم يكن يحسن حرفة ولا صنعة، لذلك حين هاجر ضمن المهاجرين في أعوام الجوع إلى هذه المدينة التي بني ميناؤها قبل بنائها، لم يجد من عمل سوى أن يشتغل حمالا.
زهو الطفل بأبيه، جعله يَدَّعي أن أستاذه الفرنسي يستدعي أباه، ويزعم للأستاذ أن الأب يرغب في مقابلته، وحين تم اللقاء في باب القسم بين ولي الأمر والمدرس، كان يتمنى أن تسمع المدرسة كلها كلام أبيه، بلسان فرنسي باريسي مطلق.
أصبحت للطفل حظوة عند الجميع، ولم يألُ أستاذ الفرنسية جهدا في تزويده بالكتب والمجلات التي فتحت له آفاقا شاسعة عن دنيا غير التي يعيش فيها.
حين هدَّه التعب، تهالك على كرسي مقهى، وطلب قنينة ماء معدني. كان يشعر بعطش شديد، جف له ريقه.
هل يذهب للاستفسار عند مديرية الأمن، أو على الأقل في الدائرة التابعة لسكناه. سيكون الأمر بليدا، سيضحكون منه ملء أشداقهم، وسيخضعونه لاستنطاقات لا حصر لها. ولن يعتبروا أبدا سلوكه هذا عفويا، الأحسن من ذلك أن يهزؤوه على عدم استجابته. وقع هاته أخف من وقع تلك. ثم لماذا أنت جبان إلى هذه الدرجة، ألم تقض أربع سنوات مختطفا، دون أن تجد أثرا لاعتقالك في أي محضر من المحاضر، ولا سُجل اسمك في أي مخفر أو معتقل، من مخافر ومعتقلات الوطن.
وفي يوم وقد مضى على تسريحه سنة كاملة، مل فيها حياة البطالة وقد رغب عن استئناف دراسته الجامعية، متعففا من أن يرى زملاءه يفوقونه درجات، وهو مازال يقبع مع من كان هو يفوقهم درجات. قرر أن يطلب نسخة من سجل سوابقه العدلية، ليتقدم لمباراة من أجل وظيفة إدارية يعيل بها نفسه وأمه. كانت مفاجأته كبرى لا تصدق، حين سلموه وثيقة إدارية رسمية تثبت أنه بدون سوابق، إذن الأربع سنوات تبخرت من عمره ومن ماضيه، ليس هنالك أي أثر وأي دليل على أنه كان معتقلا في يوم ما. حتى وإن حكى ذلك لأقرب المقربين إليه فلن يصدقه. لعله إذن قضى الأربع سنوات في ممارسة عمل دنيء، واختلق قصة اختطافه والزج به في المعتقلات كسجين سياسي، لينال مجدا لا يستحقه. في ظل هذه الوضعية، لا يستطيع طلب اللجوء السياسي لدولة أجنبية، ولا يستطيع حتى وضع ملف لدى هيئة حقوقية، بل لا يمكن أن يدلي بأي تصريح للصحافة، سيظل في هذا الأمر كاذبا إلى الأبد.
اجتاز مباراة التوظيف لكنه لم يوفق.
قلَّب الأمر على كل الأوجه، فاهتدى إلى تهيئ ملف للحصول على جواز السفر، مادام مواطنا بدون سوابق، تدبر عملا في مدرسة حرة لمدة سنة، وفَّر فيها ثمن بطاقة السفر، ثم غادر الوطن وسط فيض من دموع أمه الحزينة.
[8]
قرر هذا الصباح أن ينظف سكنه بنفسه، دون إحضار خادمة. لا تُؤتمن الخادمات اليوم. فهن مخبرات كذلك، وأغلبهن يغافلن صاحب البيت ليختلسن كل ما يمكن اختلاسه في غفلة صاحبه. شَمَّر عن ساعديه، مبتدئا بأواني المطبخ. سنوات الغربة علمته ما لم يكن يتصور أنه سيتعلمه أبدا.
حين سلموه جواز سفره الأخضر، لم يصدق الأمر. خال أنه في حلم. عند نهاية السنة الدراسية، تسلم من مدير المؤسسة التربوية التي اشتغل بها شهادة العمل، وشهادة العطلة التي خولت له الحصول على رخصة مغادرة التراب الوطني، ثم أخيرا شهادة الإيواء التي أرسلها له من فرنسا، ومن باريس بالضبط ابن عمه الذي هاجر إلى فرنسا بشكل قانوني عن طريق مكتب الشغل، منذ أربعين سنة، ثم استقر هنالك بشكل نهائي. هو ليس ابن عمه حقيقة، فهو ليس له عم أصلا، إنما هو من أسرة أبيه، لذلك يحملان نفس الاسم العائلي الذي يحيل إلى الجذر القبلي. كان دائما منذ صغره، يستغرب لأمره، فأبوه ليس له سوى أخت واحدة، هي عمته، وبالتالي ليس له عم أبدا، وهكذا سيحرم إلى الأبد من ترديد كلمة عمي، أو ابن عمي أو ابنة عمي. كذلك أمه، ليس لها سوى أخت واحدة، توفيت قبل ميلاده، ليحرم مرة ثانية وإلى الأبد من ترديد كلمة خالي أو خالتي، معدل الأعمار كان منخفضا في البلد لأسباب انتفت اليوم، يتذكر دوما بأن أمه كانت تردد دوما المثل الدارج المشهور «نحن شجرة حلوة» لا نعيش طويلا.
كان عليه أن يقف في الطابور طويلا، أمام باب السفارة الفرنسية، هنالك من كان يبيت على الرصيف، في انتظار ساعة فتح الشبابيك لدفع طلب التأشيرة مما جعل بعض العاطلين يبيتون كذلك في الطابور، حتى إذا أشرقت الشمس باعوا نوْبتهم لمن يدفع أكثر.
كانت أمه تتابع بحزن شديد خطواته الحثيثة للحصول على التأشيرة، نظراتها اليائسة إليه تؤلمه، وصمتها الطويل يصيبه بالفزع، لكنها رغم ذلك كانت تنفجر في وجهه أحيانا:
– أنا الآن أرملة مسنة، ليس لي غيرك. لم يرزقني الله سوى ولد واحد، ضاع مني فجأة، بل سلمته بيدي للمجهول، وحين وجدته، وأعاده الله عز وجل إلى أحضاني أراه الآن ينزلق من بين أصابعي، كما تنزلق قطعة الصابون من بين يدي طفل صغير.
كان قلبه يتفطر لهذا التشكي المشفوع بالبكاء. غير أنه يصمم أن يتجلد وأن لا يضعف، فيجيب كاذبا مطمئنا، بأنها مجرد سفرة للترويح عن النفس ستنتهي بالعودة بعد انقضاء العطلة، إذ هو لا يستطيع التخلي عن مورد عيشه الوحيد، في زمن عَـزَّ فيه الأمل في الحصول على شغل. لم تكن لتصدق كلامه، فقد أحست بفراستها أنه يُبيت رغبة في هجرة لا عودة منها، رغم أنه يحلف لها بأنه لا يتوفر إلا على تأشيرة سائح، وأنه بعد انقضاء أجلها سيكون مهددا بالإرجاع القسري إلى البلد الأم. لكنه الآن يكتري سكنا فوق السطوح، ينهمك في تنظيفه، مبتلا متعبا يجول ذهنه في استعراض سنوات عمره المضطربة، المليئة بالمآسي وسوء الحظ والطالع.
كثيرا ما قال لنفسه في نفسه «أنت مخلوق ولد تحت نجمة نحس» كذلك تعج الحياة بأمثاله من البشر، لم تفلح في أي شيء وصاحبها الحظ العاثر من الميلاد إلى الممات. الإنسانة الوحيدة التي أحبها وأحبته، فرق الزمن بينهما بطريقة عنيفة، تُشتت الشمل. ثم ألم يختطف في عز الظلام الدامس البارد الساكن؟ فلم يعرف له قرار، ولا حبر على ورق أو تقارير مرقونة بحروف مرتعشة من آلة كاتبة صَدِئة؟ ألم يغادر البلد نحو بلاد الحرية وحقوق الإنسان والحضارة والتمدن وعاصمة الثقافة العالمية، ليعود منكس الرأس مهزوما ليعيش فوق السطوح؟!
ما زالت الشرطة تطارده لحد الآن، وتستفزه بأسلوبها الشيطاني القذر. سيكون الوضع اليوم أصعب مما كان عليه بالأمس، هو عائد من عاصمة الأنوار، بعد أن خالط الأدباء والمفكرين والسياسيين والمعارضين والثوريين والإرهابيين. لا بد أن كيانه يحمل شيئا بل أشياء. ستصل التقارير عنه إن لم تكن قد وصلت فعلا، بالحق وبالباطل. لكن لا بد لهم مع ذلك من الغربلة والمعاينة والتتبع، لاشيء متروك للصدفة. لماذا يتحاشى بعد عودته الآخرين؟ لماذا لم يقدم على زيارة أصدقائه القدامى، وزملائه في الدراسة؟ انشغل فقط بزيارة قبري والديه، وتصفية قضايا إدارية تتعلق بشهادة الإراثة، وتحديد التركة، وبما أنه الوارث الوحيد، فقد تمت كل الإجراءات بانسيابية غير معهودة في مثل قضايا هذا الشأن، إلى أن باع ماهو عيني وزود حسابه البنكي بما هو سيولة نقدية، وطاف على الوكالات العقارية، وسأل سماسرة المقاهي، إلى أن وجد ضالته في المسكن السطحي، المحلق في سماء الله الواسعة. لكن ما كاد يستقر به المقام حتى رصدته أعينهم، واهتدوا بيُسر إلى عش اللقلاق الذي اختار العيش به، لكنهم هذه المرة لم يختطفوه، رغم أن مثل هذا الفعل اليوم يبدو أكثر يسرا من سابقه، إذ العمارة شبه مهجورة وساكن السطح وحيد، ضعيف البنية، هَدَّه الكبر، وأنهكته عوادي الزمن. لكن الأخطر من دهائهم ومكرهم، هو هذا التتبع الهادئ البارد الصامت الطويل المستطيل، حيث لا تعلم إن كنت مراقبا أولا، أو أن الأمور حتى أدقها تحدث بشكل طبيعي، يخضع للصدفة، أم أنها مفبركة مرسومة سلفا، نُصِبت شَرَكا للإيقاع بك!؟ لو غمزت لك فتاة فاحذر، فقد يكون الأمر مقلبا وفخا لن تفلت من حباله، إن قدم لك شخص طعاما أو شرابا فلا تمسسه، إن استفاض متحدث معك في أمر السياسة ونظام الحكم، فاحذر كل الحذر، حتى لو كان قريبا أو صديقا أو جارا، لا تثق في سائقي سيارات الأجرة، ولا أصحاب دكاكين البقالة، أو الباعة المتجولين، أو المتسولين أو المتعبدين في المساجد والبيع والكنائس. احذر الكل تأمن أو قد لاتأمن.
أنتَ إن قاطعت الكل وصُمت عن الكلام، ولزمت حدودك أكثر من اللازم، سيشكون في أمرك، وسيعتقدون أنك تُبيت أمرا، ولا بد لهم من تشديد الرقابة على أدق سلوكاتك، حتى يعلموا ما تخفيه داخل ثنايا وتلافيف مخك.
أنت الآن في وضعك هذا، مبتلا تنظف مسكنك، ألم تنتبه إن كانوا قد أثبتوا ميكروفونات أو كاميرات لرصد ما يقع في عش اللقلاق هذا، ما الذي يُفعل وما الذي يُقال، من يحضر، ومن يخطط ومن يتآمر. أولئك الذين صمموا لك ديكور السكن، وأولئك الذين زودوه بالآلات الإلكترونية والتجهيزات السمعية البصرية، كانوا لطفاء جدا، شباب متطلع للحداثة، حين ساومتهم في الثمن، خفضوه بمرونة ذات حس تجاري ذكي، بل إنهم اقترحوا عليك تزويد السكن بكاميرات، فأجلت الآمر. أليس من المحتمل أن تكون الآن مراقبا، تذكر ما قرأته في رواية 1984 لجورج أورويل، ثم أنك حين شاهدت الفيلم، تأكدت أنك لربما تمر من نفس المسرب. الأمر مقزز جدا أن يكونوا مراقبين إياك حتى في المرحاض. كيف يتأتى لهم ذلك؟! أو كيف يتهيأ لهم مشاهدة ذلك؟ أي نوع من البشر هم؟؟
الآن يضعون كاميرات في الزنازن، ومخافر الشرطة ليضحكوا من نزوات المعتقلين ولحظات ضعفهم، لعلهم في عهدنا كانوا يصنعون ثقوبا غير مرئية في الحيطان، يطلون منها علينا، ونحن في أسوإ حال. طاف بذهنك مشهد الممثل كيرك دوغلاس وهو يؤدي دور سبارتاكوس، حين استفزه السجان بالإطلالة عليه ضاحكا من سقف الزنزانة وهو في لحظة حميمية مع التي أحبها.
لكن، أليس من الممكن أن تكون واهما؟! إنما هي تخيلات تعمر ذهنك المهترئ. لا أحد يراقبك، بل لربما لم يشعروا يوما بوجودك، إنما هي تخريفات ابتليت بها حتى توهمت نفسك مناضلا شرسا، يهابه المشتغلون بالسياسة وتهتف الجماهير باسمه، في المظاهرات والاعتصامات والمسيرات، ليخلد بعد ذلك في التاريخ، ويطلق اسمه على الشوارع والمدارس والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية.
[9]
مجهود الأمس لم يذهب سدى، عكف على تنظيف السكن وتطهيره بكل أنواع المنظفات التي تشهرها الشركات المنتجة بكل وسائل الدعاية والإعلان، لذلك حق له أن يظل اليوم ممددا في الفراش بطوله، يتمطى ويتثاءب، مستلذا رقدته فوق شرشف نظيف معطر، وأغطية عرضها بالأمس لأشعة الشمس يوما كاملا لتنفض عنها ما علق بها من غبار وبرودة. وحدث أن صعدت زوجة حارس العمارة إلى السطح صحبة أبنائها الذين ملؤوا المكان صياحا، متعللة بعرض بعض الوسائد للشمس، غير أنها لربما كانت تهدف إلى التجسس عليه. رغم ذلك تبادل معها أطراف الحديث، الذي كان مثل مباراة في جر الألسنة لاستشكاف الخبايا. كان يرد على استفساراتها باقتضاب وغموض وعمومية، بينا هو لم يكن يهمه من سؤالها سوى معرفة إن كان زوجها قد سلمته الشرطة الاستدعاء الأزرق الخاص به، وإن كان سيحضر قريبا. طمأنته بأن زوجها سيحضر حتما غدا، فهو لا يمكن أن يتأخر أكثر من ذلك. بدا هذا الخبر سارا بالنسبة له، لذلك بادر إلى نفح الأبناء المتقافزين حوله وحول أمهم، بأوراق نقدية أمام تمنع الأم المصطنع، راجيا إياها أن تبعث له أحد أولادها بعد حضور أبيهم، فهو لن يغادر الغرفة غدا. غادرت الأم السطح على وجه السرعة، فانقطع الصداع، الذي انسكب عبر درج العمارة، ثم مضى يتناقص حتى عَمَّ المكان هدوء، أعاد للفضاء سكونه.
لن يغادر سكنه اليوم، تحت أي طائل أبدا إلى أن يلتقي هذا الحارس المشؤوم الذي وكأنه لبس قبعة الإخفاء، فلم يعد يُرى، حتى أنه كاد ينسى ملامحه.
لقد تحسب للأمر، فتزود بكل ما يمكن أن يحتاجه في اعتصامه الذي قد يطول… علمته التجارب أنه في مثل هذه المواقف إن غفل لحظة ولو كانت وجيزة، لشراء قنينة ماء مثلا يقال له، أنت لست محظوظا، ما أن غبت حتى حضر ولم يجدك، فذهب مستعجلا لقضاء أمر طارئ.
دفعا لكل مفاجأة غير سارة، وزيادة في الاحتياط، تمدد بطوله على السرير فوق الشرشف النظيف الناعم، وشغل جهاز التلفاز بلازما المعلق على الحائط، ومضى يتابع برامج قناة لا تذيع سوى الأفلام، تاركا باب السكن مفتوحا، دليلا على عدم غيبة ساكنه.
من جميل الصدف أن الفيلم المعروض اليوم، يحمل له نوستالجيا غريبة «الشموع السوداء» في أول عرض له بأشهر قاعة سينما في المدينة، كان فتى يقبل على الحياة مقدما رجلا ومؤخرا أخرى، حين رأى ملصقه الكبير المغربي، وقد كُتبت تحته عبارة «قريبا على هذه الشاشة» مضى يتدبر أمر جمع ثمن تذكرة الدخول. كلما أرسلته أمه لشراء شيء يدعي أن الثمن زاد ريالا أو ريالين، ومرة أخرى يزعم أن النقود انفلتت من بين أصابعه، ليوفر أربع ريالات، أو أن أطفالا مشاغبين انتزعوا منه عشرة ريالات ولاذوا بالفرار، إلى غير ذلك من الأكاذيب التي كان يتلقى بعدها صفعات وسباب وشتائم، إلى أن اكتمل له ثمن التذكرة في يوم العرض الأول.
لم تكن له في ذلك اليوم شهية للأكل، اكتفى في غذائه ببضع لقيمات تحت نظرات أمه المريبة، انسل كالسهم نحو قاعة العرض، ويده تضم قطع النقد المعدنية التي أفلح في ادخارها، مَرَّ عند بقال الحي، وحولها إلى ورقة نقدية، طواها أربع طيات، ثم وضعها وسط راحته، ليضم عليها أصابعه الخمسة، كملاكم محترم. كان يؤمل أن يصطف في الطابور، قريبا من شباك التذاكر، غير أن أمله خاب، وهو يشرف على قاعة العرض ليجد جحافل من البشر، رجالا ونساء شيبا وشبابا تتكدس هنا وهنالك، مالئة الفضاء صياحا، كان شرطي نحيل يحاول دون جدوى فرض نظام ما بيأس. كان متعبا يتصبب عرقا، وقد ارتخت جفون عينيه وبدا في حاجة إلى شربة ماء، أو سِنة نوم بعد حمام بارد.
كان بائعو التذاكر في السوق السوداء، قد رفعوا ثمن البطاقة إلى رقم قياسي غير مسبوق، بينما لا يمكن الوصول إلى شباك التذاكر، إلا بعد عراك يقوده أصحاب السواعد العبلة، والأجساد الصلبة، فإن أفلحوا غادروا الازدحام وقد تمزقت ثيابهم، أو اخْتُلست منهم بعض أشيائهم، إذ المناسبة فرصة للصوص الذين يختلقون الازدحامات العشوائية، حتى يهيئوا لأنفسهم مرتعا خصبا لتجريد المتزاحمين من كل ما تقع عليه أصابعهم.
هكذا لم يستطع أبدا مشاهدة هذا الفيلم، إذ ظل الإقبال نفسه، بل زاد إلى أن استبدل بفيلم آخر. كان أترابه ممن أسعفهم الحظ بمشاهدته، يحكون أحداثه، فيزداد شوقا لمشاهدته، وحرقة على عدم تمكنه من أخذ مقعده مع المحظوظين المستمتعين بالفرجة. كذلك وقع له حين عُرضت أفلام أخرى، نالت شهرة كبرى. غير أنه في عروض غيرها كان أكثر حظا فحصل على تذكرته من الشباك بفضل تجلده في التزاحم أو تجلد أحد أصدقائه.
تابع الفيلم باهتمام كبير وكأنه عاد إلى صباه، مكوما فوق مقعد خشبي من مقاعد السفلي الخشبية، الأرخص ثمنا في كل قاعات السينما بالمدينة.
فجأة سمع طرقات على الباب، مشفوعة بنداء بصوت طفولي:
– عمي عمي.
استقام من رقدته، وقفز نحو الباب المفتوح، ليواجهه أحد أبناء حارس العمارة، يبتسم ابتسامة ماكرة، ويتلصص بعينيه على محتويات السكن . لتخرج الكلمات من فيه بصوت هو أقرب إلى الضحك منه إلى الحديث الجاد:
– أمي تسلم عليك، وتطلب منك أن تعيرها مكنستك الكهربائية… لم يجد بدا من أن يبتسم هو بدوره، ابتسامة، لا يدري إن كان الطفل يمتلك أن يفسرها.
هكذا إذن، فهم يعرفون محتويات سكنه، منذ صعد بها الحمالون على مراحل حتى سطح العمارة القابع في عنان السماء، ليلعب معهم نفس اللعبة:
– لكن قل لي أين هو أبوك.
– أبي ذهب إلى البادية ليحضر لنا عَوْلة العام.
الطفل يحفظ إجاباته عن ظهر قلب. سيطيل معه الحوار، وكأنه يستظهره:
– وماهي العولة التي يحضرها؟
– زيت وقمح وقطاني وعسل…
– هل يشتريها؟
– لا. إنها حقه السنوي.
– لكنه تأخر كثيرا. متى يعود؟!
– سيتأخر هذه المرة أكثر. سيحاسب أبناء عمه الذين يغشونه.
– يغشونه في ماذا؟
– يسرقون الخرفان، ويدعون أن الذئاب أكلتها.
– وهل أبوك يمتلك خرفانا.
– وبقرا كذلك، ودجاجا وأرانب وديوكا…
– هل تستطيع حمل المكنسة الكهربائية لوحدك؟
– نعم.
– وهل تحسن أمك استعمالها.
– إنها، تعمل في البيوت، وتتقن كل أشغال المنزل.
سلمه المكنسة الكهربائية، غير أن الطفل لم يبرح المكان، وبدا متباطئا وفمه يفتر عن نفس الابتسامة الماكرة، التي لها في هذا الموقف معنى واحدا. بادر بتسليمه ورقة نقدية وهمس في أذنه وهو يربت بلطف على كتفه:
– لا تنس إن حضر أبوك أن تسارع إلى اخباري فأنا محتاج له في أمر هام جدا.
[10]
لك اليوم رغبة كبيرة في البكاء. أنت الذي لم تدرف دمعا في يوم ما. لم تَبْكِ حتى وأنت صغير. أمرك غريب، كنت تكز على أسنانك فتنقبض ملامح وجهك، وتحمر عيناك، لكنك لا تبكي أبدا. تصيح، تتقلب تتشنج ترتعد، لكن الدمع لا ينهمر أبدا من مقلتيك. حتى حين علقوك في المعتقلات والسراديب السرية المظلمة الباردة، لم ترشح ولو دمعة مالحة يتيمة على خدك. حين كنت تصيح بأعلى صوتك، كانوا يظنون أنك تتألم، غير أنك كنت تتحمل، لم ينتبهوا أبدا إلى أن الدمع لا ينسكب على خديك هو العرق فقط الذي كان يتصبب من مسام جلدك. لم تبك حتى حظك العاثر، الذي عرَّج بك نحو الشقاء في الغسق من صباح يوم مظلم بارد ساكن مشؤوم، وأنت بين النوم واليقظة في حي قصديري مهمَل في طرف المدينة النائي.
منذ تلك اللحظة النعراء النزقة ضاعت حياتك بأكملها، وتحطمت كل الأماني والآمال على صخرة صلدة، كتحطم أمواج البحرالهائج على كل حاجز يقف في طريقه.
حين تلتفت الآن إلى الوراء، لا تتبين سوى المآسي والأحزان والدسائس. لكنك الآن وعلى غير عادتك، تريد أن تبكي بحرقة. تريد أن تبكي بدموع استعصت عليك طيلة عمرك. فقط من أجلها ما همك أن تضيع حياتك بكاملها، ولكن الذي حز في قلبك أن تضيع منك التي عشقتها حد الهيام. حد التماهي إلى أن آمنت بأنها نصفك الثاني. ولا يمكن لمخلوق أن يعيش بنصف كيانه. وإن حدث، فسيكون عيشه وبالا عليه. لو كانت معك لشدت من أزرك، ولسهلت عليك كل أمر صعب. جميلة فاتنة كالبهاء، يفتر ثغرها الرائق عن ابتسامة ملائكية محببة لم تر مثلها عند غيرها من النساء. ما أن ترى ابتسامتها، حتى تراودك الرغبة في ضمها إلى صدرك، لتطبع قُبلا على خديها، ممعنا في عناقها محتضنا إياها على صفحة صدرك، محيطا ظهرها بيديك، محاولا أن تدوم هذه اللحظة بشكل سرمدي يجعل منكما جسدا واحدا لا ثاني له.
لكنك لا تدري الآن أين هي. ولم تجد بعد الوقت أو المزاج لبدء الحديث عنها. إنها لم تفارق مخيلتك حتى في النوم.
ما أبأس المرء حين يفقد نصفه الثاني، فيعيش ضعيفا منهكا حزينا هو ميت حي أو حي ميت.
مرة واحدة فقط سارت إلى جنبه في شارع جانبي متفرع عن ساحة بها نصب تذكاري، في وسط المدينة، وأمام إحدى أشهر القاعات السينمائية، تأبطت ذراعه، فشعر بقشعريرة سحرية تغزو جسده وأحس بالزهو. كان المساء قد بدأ يبث نسائمه الرخية على المدينة، والليل يتأهب لإرخاء سدوله المظلمة. وحين أنيرت الأضواء في الطرقات والمحلات التجارية، وإعلانات النيون الإشهارية، كانا مايزالان متماسكين باليدين. قالت له:
– لن أفارقك حتى لو قضيت معك ليلة تحت النجمة.
الآن لا يدري ما الذي عليه أن يقدمه، وما الذي عليه أن يؤخره. اختلطت عليه الأمور، ولم يعد يملك من شأنه شيئا. وهذا الحارس اللعين وتلك الشرطة السادية التي لا مبتغى لها سوى التعذيب والإذلال والإهانة.
إما أن يعتقلوه، أو يبتعدوا عن طريقه إلى الأبد. أما أن يظل هكذا في حيرة من أمره، تتلاعب به الهواجس، ينبض قلبه بعنف عند أول طرقة على الباب اوخطوة على الأسفلت، أو سعلة من حنجرة مشروخة، فهذا هو الجحيم بعينه.
لعله يفضل الآن أن يعتقل على أن يظل على هذا الحال. لو اعتقل الآن سيكون الأمر مختلفا عما سبق. لن يستطيعوا اليوم احتجازه دون أن يكون اسمه مثبتا في المحاضر، التي سيدبجونها بالحق وبالباطل. كذلك قد يصبح نجما تتحدث عنه الصحف والمجلات، وتدافع عنه المنظمات الحقوقية والإنسانية.
أينك أيها الحارس البليد الكريه. أهو لغز هذا الذي أعيشه منذ حضرت سيارة الشرطة المشؤومة، ورابطت عند باب العمارة، يتحلق حولها، المتطفلون والفضوليون! لو حدث أن طلبوا منه الصعود إلى السيارة لتطوع أكثر من واحد من المتحلقين حولها إلى تشغيل هاتفه النقال الذكي، لتصوير فيديو، ينشره على الفيس بوك أو التويتر في نفس اللحظة، ليشيع الأمر في كل جنبات كوكبنا الأرضي. هل هكذا سيكون هذا الحادث فرصة لأن تراه محبوبته، في أي مكان توجد به. لابد أن يخفق قلبها، يعرف أنها مثله لن تدرف دمعا، لكنها ستكون حزينة حد القرف. ستتعرف عليه من النظرة الأولى، رغم ما طرأ على سحنته وجسمه من تغيرات جذرية، جعلته يغادر شكله المعهود إلى شكل آخر يختلف عنه تمام الاختلاف.
حين شاهد، وهو يافع فيلم قيس وليلى، تعاطف مع هذا العاشق الذي ما أن حرم من معشوقته، حتى هام على وجهه مجنونا يلهج باسمها ليل نهار، كذلك كان في سره طيلة فترة اعتقاله، يردد اسمها مستحضرا صورة وجهها الصبوح المشرق وضحكتها التي يفتر عنها ثغرها كلما رأته. غير أنه اليوم يحس أن جنونه يفوق جنون قيس بليلى. وهو إن كان لم يَهِم على وجهه ممزق الثياب مرسَل اللحية كما صور الفيلم قيسا، فإنه يشعر بأنه فقد عقله بعد فقدها، وهام في خيالاته، حتى لكأنه فاق كل العشاق الذين قرأ سيرهم قدماء ومحدثين.
لو كانت تعلم ما جرى له، لكانت هي نفسها ستبحث عنه، وحين ستجده، سيغرس وجهه في صدرها، لينتحب كطفل صغير. هي وحدها التي تفهمه، كان معها سيعيش حياة أفضل بكثير من هذه الحياة القذرة التي ذاق فيها كل ألوان الذل والهوان. لم يسعد في حياته سوى فترات قصيرة، كأنها نغبة طائر أو غمزة عين من محتال أو بصقة من متدمر.
لم يولد سوى في حي قصديري، ألقفته أمه ثديها، وقمَّطته في خرق بالية مستعملة، وأطعمته خبزا وشايا، ولما شب عن الطوق، فتح عينيه على مدينة نصفها عرب ونصفها الآخر أعاجم، تنقسم طبوغرافيا إلى مدينتين، المدينة الأوروبية الزاهية، ومدينة الأهالي الكابية، يفصل بينهما شريط طويل من ثكنات عسكرية بأسلحتها الخفيفة والثقيلة، وهياكل بناياتها المفزعة. وكان أن صدحت الموسيقى في أذنيه لتعمر قلبه، وكان أن توثب قلبه لألحانها، فماس جسمه وماد مع الراقصين في حلبة الرقص الفسيحة، حيث تتشابك الأجساد، وتفترق وتتلاقى، تنزل وتعلو، تصفق وتصيح وسط غلالة من دخان السجائر وشذا العطور، بين ضوضاء أصوات ترطن بالكلام وأخرى تلهج بلسان عربي دارج. هكذا في مرقص أمريكي، سيتعلم الرقص ليتقن جسمه كل الرقصات ويفوز ببعض الجوائز، في المسابقات التي كانت تقام في مناسبات معلومة، على امتداد شهور السنة.
كان يوما مشرقا، حين أخذه أحد أصدقائه إلى إدارة المرقص محملا بصورة فتوغرافية نصفية له، ونسخة من عقد الازدياد وشهادة مدرسية وورقة نقدية من فئة خمسة دراهم.
ولجا مكتبا أنيقا، ليستقبلهما شاب أمريكي، يشبه أبطال الأفلام السينمائية، هو مدير المرقص. تكفل الصديق بالتقديم، وضمان حسن السيرة، وما أن غادرا المكتب إلا وبطاقة الانخراط العجيبة بين يديه. كان دائما يتعمد أن يخرجها من جيبه، حتى يراها من أمامه، ثم يخفيها متظاهرا بالبحث في جيوبه عن قطعة نقد أو منديل أنف أو ورقة… وكثيرا ما كان الذي يراها يطلب منه إعادة إخراجها ليتملى في شكلها الملفت للنظر، متسائلا عن كيفية الحصول عليها.
في فترة اعتقاله كان المحققون يستهزئون منه متسائلين إن كان راقصا أم مناضلا. فهو في كل الاستنطاقات التي خضع لها، يكون قد سرد عليهم تفاصيل حياته في أدق دقائقها، جانب واحد لا يعلمونه، ولن يعلمه أحد سواه، هو عشقه لمن أحب. ذلك شأن يعنيه دون غيره. شأن خاص يحتفظ به لسلواه الحميمية التي لا يشاركه فيها أحد.
رهيب ما حدث له، لم يعرف سعادة أو متعة إلا معها، أما حياته، بدونها فجحيم ما بعده جحيم، لا يتذكر منه سوى السب والشتم والتأنيب:
– اسمع يا كلب. أنت تحمل أفكارا مستوردة، تهدف إلى الهدم والتدمير وقلب نظام الحكم. من أين لك بالتأميم، وفائض القيمة، والحتمية التاريخية وثورة البروليتارية. من أين أتيت بالبيان الشيوعي ورأس المال؟ يا رقيق الأرض هبوا، لن تفقدوا سوى أغلالكم.
من علمك هذا الكلام يا كلب يا راقص يا مخنث.
في الحقيقة أنه لم يأت بشيء من عنده. كل ذلك مثبت وبتفصيل في المناهج الدراسية التي قررتها وزارة التربية الوطنية. المناهج سواء في مادة الفلسفة أو الاجتماعيات أو تاريخ الأدب وتاريخ الفن، تتحدث بتفصيل عن الشيوعية والرأسمالية والفاشية والنازية والصهيونية واليهودية والمسيحية والإسلام والبودية والهندوسية والإلحاد ومراحل تطور فكر الإنسان منذ بدء الخليقة، ومازال البحث جاريا لاكتشاف مجاهل لم يلق عليها البحث العلمي بعض الضوء. لكنه جهل المحققين، من رجال البوليس. إنهم أناس أوتي بهم آنذاك من الشارع دون تكوين، وسُلطوا على رقاب خيرة شباب البلد ليمارسوا عليهم ساديتهم المريضة. وكُلموا وَعَوْا جهلهم، من خلال الاستنطاقات، ازدادوا عنفا. بحيث أنهم لم يكونوا على علم بكل تلك المسميات، إذ اكتشفوها أثناء استنطاقهم للمعتقلين والمختطفين، كانوا يخبطون خبط عشواء.
ترى كيف ستكون التحقيقات والاستنطاقات اليوم، لو اعتقلوه ثانية؟!
بالأمس كان صغير السن، يُستنطق من طرف محققين في عمر أبيه. أما اليوم فسيتم التحقيق معه من طرف محققين في عمر ابنه، لو كان له ابن. إنها سخرية القدر. هل سيختلفون عن السابقين، أو يكون هؤلاء على بينة من أمرهم، يفهمون على الأقل ما يقال، وتكون المناظرة، والجدال معهم يرقى إلى مستوى مجابهات إيديولوجية عميقة، تحمل الصراع إلى مواجهة الند للند؟
[11]
لم يسترجع بعد مكنسته الكهربائية، احتفظت بها زوجة حارس العمارة، ربما لتستخدمها في أشغالها، عند الأسر التي ترغب في تنظيف زرابي بيوتها. ستدعي أنها سهت عن ذلك، وأن الأولاد امتنعوا عن إرجاعها متعللين بصعوبة صعود الدرج إلى السطح الذي يعلو على الطابق السابع. قرر هذا الصباح أن يطرق بابها للمطالبة باسترجاع المكنسة، مستغلا الفرصة للسؤال عن الزوج الغائب، وعن التأكد بأنه لا يحتفظ بورقة زرقاء من طرف الشرطة التي زارت العمارة، ورابطت أمام مدخلها بسيارة مصلحة من الحجم الكبير.
مضى ينزل الدرج محاذرا، يتلمس طريقه كالأعمى، في طبقات عمارة مظلمة وسخة، فارغة مهجورة. وهو عند باب سكن حارس العمارة، وما أن هَمَّ بطرق الباب حتى سمع صوتا يناديه، ويربت على كتفه:
– عبد الله.
رغم أن اسمه ليس عبد الله، فقد استجاب، إذ ألف منذ زمن بعيد أن يُنادى بهذا الاسم الذي هو في الحقيقة اسم جده. لكن شخصا ما أصر على أن يناديه هكذا، فتبعه الآخرون، والتصق به الاسم حتى لبسه ليجد عناء كبيرا في إقناع المحققين، الذين تمسكوا بأن اللعبة كلها تكمن في أنه اسمه الحركي، وهذا يثبت بأنه ينتمي إلى تنظيم ما.
حين التفت، وجد نفسه في مواجهة وجه ضخم ذي لحية كثة، وعينين واسعتين، يبتسم فتبدو أسنانه المصفرة المكسرة، كريهة. لم يتعرف عليه غير أنه تظاهر بمعرفته، مؤمنا على كلامه.
هو من زملائه القدامى إبان فترة الدراسة الجامعية، أخبره بأنه يشتغل محاسبا في شركة لبيع التجهيزات المكتبية، وأنه ابتنى لنفسه فيلا في أحد الأحياء الراقية، وحضر اليوم لينقل أثاثه من المنزل الذي كان يكتريه في هذه العمارة المشؤومة، أثاره استعمال الصديق لعبارة المشؤومة، فتساءل:
– لماذا هي مشؤومة؟
– إنها مهملة، تكاد تسقط على رؤوس ساكنيها، لا تتوفر على أقل التجهيزات. المصعد معطل والدرج مهشم والدرابزين… الخ، هل تسكن أنت هنا!؟
– نعم. لكن في السطح، وأنا لعلمك ساكن جديد.
– آه في السطح! لا أريد أن أفزعك، لكن غرفة السطح شهدت جريمتي قتل.
– جريمتي قتل؟ كيف ذلك؟!
– كانت تسكنها فتاة تعمل في إحدى علب الليل، وفجأة اختفت ولم تظهر لحد الآن. وقد مضت سنتان على الحادث، ولم تجد الشرطة جثتها أو أي أثر لها، مما يجعل الكل يعتقد أن وراء الأمر جريمة، وقد حضر أهلها وأخذوا الأثاث، ثم اكترتها فتاة أخرى تشتغل في حانة، لتلقى نفس المصير.
– أنت تتحدث عن جثة. لربما كان الأمر مجرد اختفاء قسري أو طوعي.
– لا لا لا. أبدا. وراء الأمر حتما جريمة.
الرجل مصر على أن في الأمر جريمة، وجريمة قتل بالذات. كذلك سيكون اعتقاد كل سكان العمارة. هكذا تغرق المدينة في الهواجس والإشاعات والأكاذيب…
تخلص بفطنته من هذا المحاور الواهم بلباقة، ثم مضى يطرق باب مسكن حارس العمارة، دون أن يُستجاب له.
لم تكن تهمه المكنسة الكهربائية، بقدر ما كان يهدف إلى التأكد من أن زيارة الشرطة للعمارة لم تكن تعنيه. الآن تضاف إلى ذهنه معلومة لم يكن على علم بها. لربما حضروا لإتمام وتعميق البحث حول اختفاء الفتاتين الذي يشاع بأنه جريمة، أو لربما كانوا يسعون إلى الإنصات إلى الساكن الجديد! لكن لن يفيدهم أمر أخذ شهادة الساكن الجديد، فهو بعيد كل البعد عما حدث. لكنها الشرطة التي تحشر أنفها في كل شيء. منذ أن كان صغيرا، وهو يكره الألغاز، لا يحب الأمور المستغلقة. يعشق الأشياء الواضحة الجلية. لم يكن يستطيع حل الأحاجي الملغزة التي كان غيره يفهم مقاصدها، ما أن تُروى له. ما هذه الألغاز التي صاحبت كراءه لهذا السكن، الذي يوحي بروايات الأدب الإنجليزي وأفلامه تحت سماء لندن الراتعة تحت أكوام الضباب.
حياتك غريبة أيها الفتى الأرعن، أنت لست فتى الآن إنما هي طريقة في التعبير. وهذا هو جمال اللغة العربية، لغة البيان والبديع والاشتقاقات، لغة الفصاحة والبلاغة، لغة القرآن، الذي بلغ شأواً كبيرا في الإعجاز. الغرابة في حياتك تبدأ بالألغاز وتنتهي إلى الألغاز . لا شيء واضح إنما الأمور ظلام في ظلام. زوجة حارس العمارة الغائبة، وزوجها المختفي، قصة الفتاتين المكتريتين للسكن السطحي، قبلك؟! سكان العمارة الأشباح، الذين قليلا ما ترى أحدهم يصعد الدرج أو ينزله. كل شيء غاب، السمسار الذي واعد بأن يعود للاطمئنان عليك، والسؤال عن احتياجاتك. لكن كن صادقا مع نفسك، ألم تشعر بالخوف وأنت تتأمل في كل هذه الألغاز؟ خصوصا بعد علمك بقصة الفتاتين المفقودتين أو المقتولتين أو الفارتين. أصبحت كل الأمور في هذا الزمن مريبة، لقد تغير العالم نحو الأسوأ، فعم الإسفاف وانتشرت الرداءة في الفن والأدب وطغى السياسي على الثقافي، وتراجعت القيم، وأصبحت الكرة الأرضية عبارة عن مجمع تجاري كبير. تستيقظ في الصباح، لتجد من يرغب في أن يبيعك سيارة أو منزلا أو موسى حلاقة أو مشروبا أو آلة غسيل، كل شيء أصبح للبيع، حتى البشر، ستتقاطر عليك عروض الزواج أو المتعة، كذلك هنالك من يعرض عليك خدمات طبية أو طلاسم سحرية. هل تريد تغيير ملامح وجهك أو تبديل صوتك، يكفي أن تتوفر على المال وأن تكون مستعدا لإنفاقه بسخاء لتنال كل ما تريد. فعلا كل ما تريد.
أنت الآن لا تريد أي شيء، تريد فقط أن يصفو لك الجو، وتنجلي ظلمة هذه الألغاز القاتلة، لتجد وقتا تفكر فيه في من تحب، لتحلم كبقية خلق الله. لم يعد لك من ملاذ سوى الحلم، هذه العطية الربانية التي لا يمكن للبوليس أن يمنعها عنك، ولا يمكن لأي كان أن يحرمك من لذتها. حتى الجندي، له استراحة المحارب. هل ستكون أنت وحدك محارب لا استراحة له؟! تعبت من الكد، ومن المجاهدة، ومن التخفي ومن الفرار ومن التنكر في أزياء وهيئات مختلفة، وكأنك مهرج سيرك يصر المتفرجون دوما على أن يروه والأصباغ على وجهه، تخفي ملامحه الحقيقية.
أين أنت الآن لتخففي عني كل هذا العناء وكل هذا القرف. لا أرغب اليوم سوى في أن أتوسد فخدك لأغط في نوم عميق، أو أن أدفن رأسي في صدرك حتى تتقطع أنفاسي. لم أعد أفهم أي شيء، لماذا أنا صاحب حظ عاثر. هنالك من يولد وفي فمه ملعقة من ذهب، وأنا من الذين ولدوا وفي فمهم ملعقة من قصب، أو من الذين ولدوا بدون ملعقة أصلا.
قدري أن أولد في حي قصديري ملقى به في ضاحية المدينة، مجردا من كل التجهيزات ووسائل العيش الكريم من أبوين فقيرين مريضين عاجزين عن القيام بمهام الأسرة المكلفة. درست في الكتاب وحفظت القرآن الكريم، همس الفقيه في يوم مشرق في أذن أبي:
– هذا غلام مبارك ذكي يحفظ كتاب الله. أدخله مدرسة، فسيكون له شأن وأي شأن بإذن الله.
أصبح أبي مهتما بي أكثر مما كان بعد وصية الفقيه، سجلني في أحسن مدارس المدينة، لم يبخل علي بشيء كان في طاقته، كانت أمي تزغرد كلما أحضرت دفتر النتائج، ليسرع به أبي إلى الفقيه ليخط فيه كلاما باسم ولي الأمر.
سألني مرة أحد المعلمين:
– هل أبوك فقيه، أو عدل أو إمام.
أجبت:
– إنه حمال بالميناء. فقيه الكتاب هو الذي ينوب عنه في ملء المربع الخاص برأي ولي الأمر.
وحين ظن أبواي أن خلاصهما قد حل بوصولي إلى مرحلة الدراسة الجامعية، اختطفت لتتدهور حالتهما وينحدرا نحو البؤس الحقيقي الذي عجل برحيلهما.
لو أن الله قيظ له فقط ألا تضيع منه الإنسانة التي أحبها بعشق قل نظيره، في حياة المحبين، سيكون الأمر رائعا، وسيعيش الحياة الهنية التي ستعوضه عما ضاع منه في سنوات العذاب واليأس والحزن المغرق في السوداوية والمرارة.
[12]
هذا هو الجنون بعينه، لا تستطيع حتى أن تسافر، أن تغير هذه الأجواء المليئة بالشكوك، المحاطة بالريبة والحيطة والحذر. قد يعتبرونها فرارا، ومن ثمة يشددون عليك العقاب. هل أنت خائف أم لا؟!
لا أنا لست خائفا. غير أن الخوف أنواع، هنالك خوف الرعديد الجبان الذي سينبطح منذ ولوجه بوابة أصغر مخفر للشرطة، لكن خوفي من نوع آخر، أنا خائف من غريم أخاله أضعف مني. ألا يخاف المرء من باعوضة، وهي التي يستطيع أن يدعسها بأنامله، لكنها تملك أن تبث في مسام جسمه سموما قاتلة!!؟ ثم إنها شخصيتي، التي لا يستهويها غير الوضوح . لقد ولدت في السهل، ونشأت فيه، ولم أتعود على المناطق الجبلية الوعرة، حيث يسهل الاختفاء ونصب الكمائن والفخاخ، لهذا لن أرتاح إلا إذا عرفت لماذا حضرت الشرطة إلى العمارة، وما الذي حدثت به حارسها الملعون. وهل الأمر يتعلق بي، وهل تركوا لي عنده الورقة الزرقاء المنتهية بعبارة «لأمر يهمه» وما الذي حدث في قضية الفتاتين اللتين شغلتا السكن الذي أكتريه الآن؟
ولماذا اختفى الحارس، وهل زوجته وأولاده صادقون فيما يقولون؟! لماذا تتوارى الزوجة عن اللقاء بي، هل فقط لتحتفظ بالمكنسة الكهربائية أكبر مدة؟ لماذا أخبرك الصديق القديم بحكاية الفتاتين، ولماذا يصر على أن في الأمر جريمة؟ هل التقاؤه بك مجرد صدفة أم هو سيناريو مُبيَّت مدروس، لماذا تحمل أنت كل هذه الهواجس؟ والتخيلات؟ والتوقعات؟ هذه مجرد هواجس وتخريفات، ترسبت في ذهنك منذ الصبا الذي قضيته في التهام القصص البوليسية المشوقة. سلسلة جونسون، أرسين لوبين، جيمس بوند 007، للكاتب ايان فليمنج… قصص أغاتا كريستي، إدغارولاس، جورج سيمنون… واللائحة طويلة، إضافة إلى oSS117 للكاتب جون بريس… أفلام هيتشكوك، وما لا يحصى من أشرطة كانت تبث الرعب في نفسك وأنت تتكوم في مقعد بقاعة سينما مظلمة ترتعد من الفَرَق. غادرتك كل التغيرات الفيزيولوجية التي كانت تعتريك إلا خفقان القلب. تخال في كثير من المواقف أنه سينخلع من مكانه، وأن العرق المالح سيعمي عينيك. لكنك حتما إنسان واهم. فلا أحد له شأن بك، الأمور تجري دون أن يكون لها علاقة بك. من تظن نفسك؟ مناضل خطير أو ثوري صلب..؟ لم تفعل أي شيء مُجد في حياتك، ألقيت خطبا رنانة، ووزعت مناشير تحريضية، وانتهى بك الأمر مختطفا في الغسق، وبعد أربع سنوات ألقي بك في البرية، دون أن تترك أي أثر في الأماكن التي مررت بها، وكأنك الحُلم أو اللاواقع اللاموجود، كأنك العدم. لكن لماذا أغمط نفسي حقها. أنا مناضل حقا. صحيح أنني لم أنتَمِ إلى فصيل أو حزب، لكنني، كنت أحمل تصورا ورؤى وقناعات ثورية يسارية، لم أركب الإيديولوجيا من خلال البيانات الحزبية، بل من خلال مصادرها وأدبياتها التنظيرية، فكان أن أطرت نفسي، دون أن يؤطرني أحد. هكذا أصبحت عدو الإدارة، وعدو الأحزاب والتنظيمات، لأجد نفسي وحيدا في مواجهة الجميع.
الآن وضعت أصبعك على مكان الجرح النازف، هذا هو مربط الفرس، وهذه هي القشة التي قصمت ظهر البعير. لن يتعاطف معك أحد، وسيسحقك الجميع حتى لو كانوا يعلمون صدقك. الصدق لن ينفعك في شيء. أنت في حاجة إلى مصداقية.
لو أنك لم تتهور، لكنت قد أتممت دراستك، وتوظفت وتزوجت التي أحببتها لتكونا أسرة، وتلد أولاداً، تتنازعان مرات، ثم تتصالحان، يضغط عليكما الزمن، ووشايات الحساد، ومكر الأهل، حتى ينفجر الحقد. قالت لك مرة:
– منذ أن رأيتك للمرة الأولى، قلت هذا شخص غير طبيعي، لا يفتر عن الحركة. أتخيلك فقط تحمل حقيبة، بها ملابس وكتب وفرشاة أسنان، تنتقل في الأمكنة من بلد إلى بلد.
كنت آنذاك قد أدركت أنها هي نصفك الثاني، وأنكما توأمان سياميان، لم يفترقا عن بعضهما بعملية جراحية حديثة ناجحة، بل فصلهما القدر عن بعضهما بعنف غير مسبوق، فتفاقم وضع الجراح، التي قد لا تندمل أبدا.
كان يعلم أنها كذلك تحمل نفس الذهنية، نفس العقيدة نفس الروح، نفس الأماني، نفس الآمال، وأنهما معا يحملان لبعضهما نفس الحب ونفس العشق ونفس الهيام.
هل خسرت كل شيء؟! لاشك في ذلك. لتعترف بهزيمتك ولتطو أحزانك بين أضلعك.
كان المحققون يهزأون بك. يقولون لك بصريح العبارة، أنت أمرك غريب، ولا أحد يتجرأ على إطلاق سراحك أو تقديمك للمحاكمة. لا أحد يريد أن يغامر بوظيفته ومستقبله المهني، ثم إنك لست صيدا ثمينا، يجلب المكافآت والترقيات. تهور الذين أقدموا على اعتقالك أو اختطافك – سمها كما شئت- وورطوا غيرهم بك وفيك، حتى أصبحت مثل حذاء الطنبوري، تلك القصة المسلية التي أضحكتك كثيرا حين قرأتها وأنت ما تزال طفلا في الأقسام الابتدائية.
لم تترك أي أثر في السجلات والمحاضر، كيف يستطيعون محو كل هذا أم أنهم لم يكونوا يسجلون أي شيء أصلا. هل كل ذلك حدث بالفعل، أم أنك كنت منفصم الشخصية، خارجك غير داخلك، وكأنك تشخص الجملة الرائعة التي عبر بها الروائي الرائع نجيب محفوظ عن بطل روايته ثرثرة فوق النيل: «عيناك تنظران إلى الداخل وليس إلى الخارج كبقية خلق الله» ألم تكن الأربع سنوات سوى داخلك الذي لم يره غيرك؟
إذا استمر حالك على هذا المنوال، لن يكون مصيرك سوى الحمق لتتيه بعد ذلك في الطرقات مشردا مريضا، إلى أن تموت ميتة الكلاب لينجلي صحفي ينشد مجدا فيدبج عنك مقالا يحرج به السلطات عن مناضل سلخ عمره كاملا من أجل قضية شريفة، مات دونها فقيرا معدما مهملا، وهكذا يموت العظماء في بلد حاجب.
اُترك العواطف جانبا، واهجر الأوهام، ثم افتح عينيك جيدا على الواقع كما هو، لا كما تتخيله وتتوهمه.
كن متأكدا أن لا أحد سوف يصدق مسعاك النبيل. ألست ضد الجميع سَيُسَوِّدون صورتك، ولن تفلح أبدا في تلميعها. انطلقت من نظريات في الكتب، لكنك ولحد الآن تحمل قِيما نبيلة، لا حياة بدون قيم. يضحك منك الكثيرون، خصوصا من الجيل الحالي، يستهزؤون من أفكارك التي ينعتونها بالمهترئة البالية. العالم اليوم بيزنس والحياة بيزنس والشاطر من ينتهز الفرصة فيغتني دون صرف مجهود كبير. آمنت بالقيم، فسَمَّوْك مثاليا حالما ورومانسيا. مازلت تؤمن بوجوب تساوي الفرص أمام المواطنين، والقضاء نهائيا على الزبونية والمحسوبية، وجعل القانون فوق الجميع. واستقلالية الدولة فوق حدودها السيادية، دون إملاءات من أطراف أجنبية مهما بلغت قوتها وعلا جبروتها. تقوية الاقتصاد الوطني، وتحريره من الديون الأجنبية. خلق دولة صناعية قوية…
لكن أليس هذا ما تطالب به الأحزاب السياسية والنقابات، وتعد البرامج الحكومية بتحقيقه، في مخططاتها.
صحيح، غير أني أختلف عنها اختلافا بَيِّنا، هم يقودون بهذا الخط حملاتهم الانتخابية، بينما أنا لا أفكر في الحصول على منصب لأنني أكره المناصب. خُلقت فقط لأكون عاشقا، لأعشق إنسانة بعينها دون غيرها من نساء العالم. لذلك رغبت في أن أعيش في مجتمع راق متقدم، وللوصول إلى ذلك لابد من تثقيف الناس وليس تعليمهم فقط. لا تفزعني الأمية، فيمكن القضاء عليها بيسر إذا علمنا الناس القراءة والكتابة. لكن الذي يفزعني هو الجهل، الذي يدمر المجتمعات والحضارات. لابد من الوعي. لو أحسنا استخدام وسائل الإعلام في توعية الشعب لنلنا المراد، آنذاك سيؤدي كل مواطن واجبه، قبل أن يطالب بحقه. أنا أمتلك وصفة سحرية للقفز بالوطن إلى مصاف الدول الراقية، تتلخص في ثلاث نقط. ثلاث نقط فحسب:
( إحياء الروح الوطنية. إذ أن الأجيال الحالية، تكاد لا تعير اهتماما للروح الوطنية التي تدفع المرء إلى الامتناع عن فعل أي شيء يسيء للوطن. تلك الوطنية التي تسري في كيان المواطن مسرى الدماء في العروق. ودعك من جماهير الكرة أو المشاركين في المسيرات أو الاعتصامات، إنها أعمق من كل سلوك شكلي مفبرك مصطنع.
( وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وليس معنى ذلك الاعتماد على الاختصاص، بل المراد، وضع الرجل الذي ينجح في أداء المهمة.
( محاربة الجهل، وليس محاربة الأمية فقط. إذ عدو الأمم وعدو الإنسانية هو الجهل. يمكن أن نجعل كل الناس يحسنون القراءة والكتابة، لكن ذلك لن يكون مجديا، بدون وعي، حتى لا يستثمروا هذه القدرة في طريق الفساد، لا طريق الصلاح. إذن لابد من وازع ديني أو وازع أخلاقي، أو وازع ثقافي، يجعل المرء ينضبط للقانون بشكل تلقائي، وهو راض، لا أن يعتبر خرقه للقانون شجاعة. حين يؤدي الضرائب، يكون متأكدا أنها ستصرف في مصلحته. كذلك سيقتنع المسؤولون الذين هم في موقع القرار أنهم موظفون عند الشعب، وليسوا أسيادا، يتحكمون في رقابه. لن نكون نحن الأوائل في إنشاء مجتمع على هذا النمط، فهنالك من سبقنا إلى ذلك، وعلينا أن نقتدي به.
توقف يا رجل عن هلوساتك، وتخيلاتك التي تترنح بك في سماء الأوهام. هل أنت داعية أم حكيم أعمى، أم منظر، أم بكل بساطة رجل حالم.
[13]
لم تنتبه لثلاثة أشياء. أولها أن رقم العمارة التي تكتري سكنا في سطحها، هو رقم [13] وهذا فأل سيء، كما هو في عرف الثقافة الغربية، التي تأثرت بها من قريب أو بعيد. وثانيهما أنك وأنت في صحبة السمسار قبل أن تلجا باب العمارة، وجدتما عاملا يعلو سلما خشبيا وهو منهمك في إثبات مصباح كهربائي، فمررت أنت من تحت السلم، بينما تحاشى السمسار ذلك، وهذا سلوك يتطير منه أهل الغرب، كما تعلم، وثالثة الأثافي، أن السمسار كان قد تجاوزك، فمضى يصعد الدرج، فأيقظ قطا أسود، ماءَ في وجهك فتعثرت به، حتى لا تقع، وهذه هي العلامة الثالثة في عرف نفس الثقافة، على أنك شخص، سيلاحقه الشؤم إن عاجلا أو آجلا. إذا كان لابد أن أدخل السجن هذه المرة، فلابد أن لا يكون دخولي مجانا. لابد أن أرتكب ما يستوجب العقاب، حتى أكون مثل أولئك الذين عايشتهم داخل المعتقلات، لا يشعرون بأنهم ظلموا لأنهم أتوا ما أوصلهم للحبس وراء القضبان.
مرة قرأ في صحيفة، عن شخص كان مهووسا بممثلة مشهورة، وكان يرغب أن يقاسمها دور البطولة، فاختلس مقدارا مهما من المصلحة التي يعمل بها محاسبا، وادعى أنه منتج سينمائي، فتلقفه الوسط الفني بالأحضان، وكتبوا له السيناريو كما أحب، وأسندوا إليه دور البطولة أمام نجمته المفضلة، لينتهي الفيلم بالقبلة المعهودة في الخاتمة، ليسلم بعد ذلك معصميه للأصفاد التي كبلته بعد أن نال مراده. أنت لم تبلغ أبدا شيئا من مرادك.
قصة حبك لخصها، نزار قباني في قصيدته «الحب المستحيل» التي أجاد في غنائها كاظم الساهر. أنت شؤم على نفسك، اطلب من الله فقط ألا تكون شؤما على محبوبتك، التي هي توأمك السيامي إذ لابد أن تكون قد ألصقت بها نصف سوء الطالع لتحتفظ أنت بالنصف، وهكذا فأنت لن تلتقي بها أبدا. لعلكما تقاطعتما مرارا في سعيكما، خلال دروب وأزقة هذا البلد العجيب، غير أن لحظة فارقة بسيطة دقيقة، جعلتك تخرج من دكان لتدخله هي، أو انحنيت لإعادة حزم حذائك فمرت من ورائك، أو استدرت راجعا على عقبيك حين برزت هي عند زاوية الزقاق.
اسمع! الأحسن لك أن تُخلي هذا السكن فورا. ابحث عن هذا السمسار اللعين، سماسرة المقاهي كلهم ملاعين. أليس هو من يصعد الدرج مرقاة مرقاة، بينما تضطر أنت إلى الصعود مرقاتين مرقاتين فقط لتحافظ على الإيقاع الذي يسير به. اطلب منه أن يبحث لك عن سكن مستقل، اذبح عند بابه خروفا، والصق على الدفة حذوة حصان، ورسما لكف بخمسة أصابع، أو لأقترح عليك ما هو أحسن. رتل في الليلة الأولى آيات من الذكر الحكيم، لتقيك كل شر، فأنت حافظ لكتاب الله، وإن كنت قد نسيت معظمه، لكن الله لن يسنى عبده الذي يعرف سريرته الطيبة.
كفى من المرارة، وكفى من البؤس، لم تعش حياتك كما أحببت وآن الأوان لتنعم بالراحة، قبل أن تغادر هذا العالم، لا تفكر في أنهم سيعتبرون تغييرك للسكن تهربا من استدعاء وُجه لك فلذت بالفرار. اصنع لنفسك شخصية جديدة. نمطية من العينة السائدة عند عموم الناس. تبالد كلما استدعى الأمر ذلك واعمل بقول الشاعر:
لما رأيت الجهل في الناس فاشيـا تجاهلـت حتى ظـن أني جاهـل
جامل وصانع:
ومن لم يصانع في أمور كثيرة يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
راوغ وانتهز الفرص كلما عَنَّتْ لك. كن يا أخي كعموم الناس. هل أنت نبي أو قديس أو حكيم؟
جاس كل طرقات المدينة، مستسلما لأحلام يقظته وخواطره، دون أن يدري على وجه التدقيق أي شوارع عَبَرَ وأي أحياء اختار، والى أي دروب انعطف، غارقا في أوحال أرضيتها المتربة الوسخة، حتي وجد نفسه بباب المقبرة، الموصد البارد الصدإ، دفعه فاستعصى أولا، ثم انفتح، بعد مجهود من الدفع، تحت صرير الدفة على مدخل الباب الإسمنتي، وأزيز المزلاج الذي لم يُفتح منذ أمد غير قريب لا يمكن أن تهتدي إلى القبرين. لم تعد هنالك قبور ظاهرة. غطت الأعشاب والحشائش البرية كل المجال، وزحفت بينها الهوام والعقارب والثعابين والزنابير التي كان طنينها يعمر فضاء المقبرة الصامت الموحش الرهيب، بينما أصوات الأحياء يحملها الصدى ممطوطة، وكأنها تراتيل الشياطين في الميتولوجيا اليونانية.
قرر أن يكتفي بقراءة الفاتحة، ويغادر المقبرة، إذ مجرد تقدمه بين الأعشاب، كفيل بإيقاظ النحس، فتلدغه حية أو تلسعه عقرب. سار هائما على وجهه، دون قصد معين، استغرق في ذاته، حتى أنه لم يعد يسمع صوت المارة، ولا زعيق أبواق السيارات، أو ضجيج الباعة المتجولين، الذين يملؤون كل رحاب المدينة.
وطأت قدمه برازا آدميا، أحس بانزلاق وزكمت أنفه رائحة نتنة نفاذة. عجب لهؤلاء الذين يتبرزون في الشوارع والأزقة وأبواب المحلات التجارية. أغلبهم من الحمقى والمشردين والبدو الذين تركوا قراهم التي غزاها القحط، ليجدوا أنفسهم في أحضان المدينة لصوصا ومتسولين ينتشرون في كل مكان ليلا ونهارا.
شعر بالقرف والامتعاض، فألقى بالحذاء جانبا، ثم سار حافيا رافعا عقيرته بالسباب والشتم، تحت نظرات المارة المستهزئة المشفقة، الضاحكة الباكية. ارتفعت وتيرة اللعنات وعلا بها صوته، وهو يتعمق في أتون هِستيريا، عنيفة، كان في حالة رهيبة، بين وعيه ولا وعيه. كانت عينه الواعية، تبحث عن محل لبيع الأحذية بينما كان يقينه يزداد، بأن سوء الطالع، بلغ حده الأقصى، ولابد هو صائر إلى ما تصير إليه كرة الثلج، إذ الآتي سيكون حتما أفضع. لم يتمالك بائع الأحذية نفسه من الضحك، وهو يراه مقبلا عليه حافي القدمين، غير أنه كتم الضحكة حين رآه عابسا مقطب الجبين مكفهر الوجه.
حين حشا قدميه في الحذاء الجلدي الأسود، ونقد البائع ثمنه، يَمَّمَ شطر سكنه، مكتفيا بسوء الحظ لهذا اليوم، مقررا أن يلزم غرفة نومه لا يبرحها، إلا في الصباح الموالي، إبطالا لكل نحس. لكنه حين انزوى نحو الشارع الذي به العمارة، رأت عينه رقم [13] عند بابها كبيرا جليا، كما لم يتبينه طيلة مقامه في سكنه المشؤوم. وحين أسقط عينيه نازلا بناظريه نحو الباب الفسيح لمح سيارة الشرطة الكبيرة، يتجمهر حولها جمع غفير من الناس، يتدافعون متزاحمين، ورجال الأمن يبعدونهم، ليعودوا إلى الاندفاع نحو الباب، مشرئبين بأعناقهم. دق قلبه بعنف هذه المرة، ومادت به الدنيا .شعر بأنه سينهار، ليخر على الأرض المتربة. تمالك نفسه، وقرر في لحظة مغادرة المكان، موليا ظهره لهذا القدر اللعين الذي يعاكسه أينما حل وارتحل.
غير أن عقله الباطن أملى عليه، أن يتقدم نحو باب العمارة مخترقا الجمع المتراكب، شاقا له مسلكا بين الأكتاف المتلاصقة، وكأنه سباح ماهر، يغالب الأمواج العاتية في بحر متلاطم مظلم.
وحين أصبح وجها لوجه مع الشرطي الواقف بالباب، أوقفه بعنف ونهره ليعود إلى عباب الموج البشري، فما ملك إلا أن يقول متلعثما:
– أنا ساكن بالعمارة.
أجاب الشرطي، بشك:
– أين تسكن.
– في السطح.
– آه أنت ساكن السطح!؟ اصعد بسرعة، إنهم في انتظارك.
– من هم؟!
– اصعد بسرعة وستعرف.
ولج العمارة، فرأى عند الباب زوجة الحارس واجمة يتحلق حولها أولادها وما أن رأته حتى أدارت عنه وجهها، وتوارت داخل بيتها مغلقة وراءها الباب.
تطير من سلوكها، وأيقن أن وراء الأمر شر مستطير، ولى وجهه نحو مخرج العمارة، فوجد الشرطي له بالمرصاد، يشير بأصبعه نحو أعلى الدرج. مضى هذه المرة يصعد الطوابق السبعة مرقاة مرقاة وقد أخذ منه اليأس كل مأخذ، وأصبحت قدماه راغبتان عن حمله، يكاد يهوي عند كل حركة.
حين استنفد الطوابق السبعة، وانسل من الدرج الصغير المهدم غير المبلط الذي يغوص دوما في ظلمة دامسة، وجد نفسه أمام جمع من رجال الشرطة، وبينهم حارس العمارة مصفدا، مطأطأ الرأس. وجدهم يعلمون حلوله، إذ حدثهم شرطي الباب عبر اللاسلكي،….. بادروه بأوامرهم الصارمة..
– افتح الباب.
.سلمهم المفتاح، وهو شارد.
ربت شرطي على كتفه وقال:
– أنت محظوظ، لربما كنت ستكون الضحية الثالثة.
إدريس الصغير