إبراهيم السّعافين
أديب وناقد أردني
لعلّ المرحلة التي سجّل فيها جابر عصفور لرسالة الماجستير في قسم اللغة العربيّة وآدابها بكليّة الآداب – جامعة القاهرة الموسومة بـ “الصورة الفنيّة لدى شعراء الإحياء في مصر” هي مرحلة البرزخ بين الاتجاه التاريخي والاجتماعي في الدراسات الأدبية ومنهج النقد الجديد الذي يهتمّ بالأدوات الفنيّة، ولا يتوقّف طويلًا عند السّياقات المختلفة.
لقد شهد القسم أطروحات متعدّدة، تتناول شعراء وأدباء وظواهر أدبيّة، تحتفي بمن تجري دراستهم في سياقات تاريخية واجتماعية ونفسية وإيديولوجيّة، ولا تُلقي اهتمامًا كبيرًا للجوانب الفنيّة، وربّما كان قسم اللغة العربيّة يقف في مواجهة قسم اللغة الإنجليزية الذي كان يرأسه رشاد رشدي الذي هو من أشدّ المتحمسين لحركة النقد الجديد، الذي يحتفي بالجانب الفني ويكاد يعزل منهجيًّا النص عن السّياق. ولعلّ هذا التّباين خلق نوعًا من الحوار الضمنيّ الخلاّق الذي جعل حركة موّارة في قسم اللغة العربيّة بين الأساتذة والطلاب تحتفي بالنصوص والظواهر بوصفها قائمة في الأساس وفق التراكيب الفنية والأسلوبيّة.
ولعلّ أطروحة جابر عصفور حول الصورة الفنية عند شعراء الإحياء تشير إلى منحى اتخذته الدكتورة سهير القلماوي، يغادر الاتجاه التقليدي الذي يدرس الشاعر سياقيًّا (الشاعر وحياته) إلى الوقوف عند أداة فنيّة رئيسة مثل الصورة أو الموسيقى ونحو ذلك. وقد سبق الباحث السّوري نعيم اليافي جابر عصفور في اختيار الصورة الفنيّة موضوعًا لأطروحة الدكتوراه الموسومة بـ” تطوّر الصّورة الفنيّة في الشعر العربي الحديث”1″
على أنّ جابر عصفور وفيٌّ لرسالة القسم تجاه التراث والمعاصرة، يفتح عينه على تراث الأمّة الذي يمتدّ في الحاضر المتحوّل وفق شروطه الخاصّة ممتدًّا في نهر الزّمن الصّاعد نحو المستقبل، إذ يقول مفتتحُ كتابه (استعادة الماضي- دراسات في شعر النّهضة): “لا يمكن أن توجد علاقة صحيّة بالحاضر في غيبة علاقة سويّة بالماضي. وبالقدر نفسه لا يمكن أن تنطوي العلاقة بالحاضر على وعود ايجابيّة إلّا إذا كانت هذه العلاقة تضع في اعتبارها إمكانات المستقبل الخلاّقة وآفاقه المفتوحة إلى ما لا نهاية. فالمستقبل الأفضل هو الممكن الذي نسعى إليه بتطوير الحاضر، وهو الإطار المرجعي الذي لا بدّ أن يحكم تعاملنا مع معطيات الحاضر وشروطه، كما يحكم تناولنا ميراث الماضي في كلّ عصوره وأقطاره، ولا معنى لحاضر ينعزل عن ماضيه، أو يغلق عينيه عن التطلّع إلى احتمالات مستقبله…”2”
وقد تجاوز جابر عصفور أطروحته (الصورة الفنيّة في شعر الإحياء) ليوسّع مجال البحث من إطار الصّورة لدى شعراء الإحياء في مصر، ليتناول شعر النّهضة في العالم العربي من جانب، وليتناول العناصر الفنيّة الأخرى التي تتّصل بخصائص شعر الإحياء التي رآها استلهمت المحاكاة والتقليد، وقامت على بنى شفاهيّة لها صلة باللغة والإيقاع والتّكرار، ووقف عند بعض الظواهر البارزة في صنيع الإحيائيين الذين أولعوا بمعارضة أهم الشّعراء وأهمّ القصائد من المعلّقات وغيرها.
وكان من الممكن أن يقف في دراسته الاستعاديّة لشعر الإحياء أو النّهضة عند تطوّر بعض العناصر الفنيّة لدى الإحيائيين في صورة مراحل تطوريّة تُرينا كيف ظهر هذا التطوّر في شكل مراحل بدأت من الولع بالقوالب والأشكال والتّصنيع كما ظهر لدى شعراء القرن الثّامن عشر وصولًا إلى محاكاة الشّعراء الكبار أو الفحول في عصور الإزهار: الجاهلي والإسلامي والعبّاسي على نحو ما نرى في شعر رائد الإحياء البارودي ومن خلفه من شعراء الإحياء في مصر مثل إسماعيل صبري وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وعلى نحوٍ ما خليل مطران، ويمتدّ إلى شعراء عربٍ بارزين مثل معروف الرّصافي وجميل صدقي الزّهاوي.
ولعلّه تابع من رأى في الشعر العربي في العصور المتأخّرة كتلة واحدة ذات خصائص متشابهة، والحق أنّ الشعر في بيئات معيّنة مثل عُمان واليمن كان يفاجئنا بخصائص معيّنة تمتاح من عصور الازدهار في البنية والصورة واللغة والإيقاع. والذي ينظر في كتاب (استعادة الماضي) يرى أنّ جابر عصفور وقف عند الشاعر الإحيائي الرّائد محمود سامي البارودي بوصفه النّموذج الذي تتجلّى في شعره كلّ الخصائص الإحيائيّة في البنية والصورة والإيقاع واللغة وملامح البعد الشفويّ.
وقد أفاد أيضًا من دراساته اللاحقة حول الصورة الفنيّة في التراث النقدي والبلاغي ليعمّق رؤيته لصنيع الإحيائيين كموقفهم من الشّعر بوصفه الجامع للحكمة على نحو ما ورد لدى الرسول عليه الصلاة والسّلام أو ما جاء على لسان الخليفة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فاقتدى الإحيائيّون بنموذج الشّاعر الحكيم: “وعندما نردّ التصوّرات التراثيّة الحديثة على قديمها، ونصل بين ما قاله حازم القارطاجني وما قاله عبدالقاهر وابن رشيق من قبله، ونصل بين ما قاله هؤلاء، كأمثلة، وما قاله عمر بن الخطّاب وألمح إليه النبيّ الكريم عندما قال: “إنّ من الشّعر لحكمة”، ونرجع بذلك كلّه إلى المعتقدات العربيّة الأولى التي وصلت بين الشّاعر والكاهن والعرّاف والنبيّ معًا، عندئذٍ تتجاوب حكمة الشّاعر القديم مع حكمة النّبيّ، ولكن يرتبط إبداع الشّاعر الحكيم -من حيث مصدره- بقوى علويّة أهمّها -الرّوح القدس- الذي أعان حسّان بن ثابت شاعر الرّسول على ما نظم، أو يرتبط هذا الإبداع بقوى إنسانيّة خالصة، تقترن بالفطنة والدّراية، أو العلم والشّعور، أو المخيلة والبصيرة.
ولذلك تكتسب حكمة الشاعر الحكيم طابعًا متعاليًا في مستوى من مستوياتها؛ فتتوجّه صوب المطلق وتسعى إلى ما وراء الطبيعة لتصل ما بين الشاعر والنبي، وتوحّد بين الشّعر والرؤيا، مثلما توحّد بين الحقّ والحقيقة من خلال وسيطٍ يوحى إليه، وعندئذٍ يبدو الشّاعر الحكيم صاحب بصيرة كشف عنها الحجاب، ليرى حقيقة متعالية، تهبط إليه من “المحلّ الأرفع” كما هبطت النّفس في عينية ابن سينا المعروفة، أو تتجلّى له كما تجلّت الحقيقة المطلقة لابن الفارض.”3″
على أنّنا يجب ألاّ ننسى أنّ “روح القدس” في هذا السّباق ليس قوّة إيحاء أو معرفة بقدر ما هو قوّة تساعد في تحقيق هدف الشاعر الذي يناضل بكلّ قوّة عن المعتقد الجديد، لكنّ الذي كان شائعًا آنذاك أنّ الشياطين هي التي توحي إلى الشّاعر وأنّ قوّة الشّاعر وعظمة الشّعر تأتي ممّن يوحي، وربما كان ذلك صورة من صور نظريّة الإلهام لدى أفلاطون، فقد قال حسان بن ثابت نفسه:
إنّي وكلّ شاعر من البشر
شيطانُه أنثى وشيطاني ذكر
ولا ينفي ذلك قيمة الحكمة أو الأقوال البليغة أو الذائعة في الشّعر، على اختلاف بين النقّاد في النظرة بين الشّاعر والحكيم على نحو ما رأينا في القول الذّائع: “أبو تمّام والمتنبي حكيمان وإنّما الشّاعر البحتري”.
ولعلّ من أهمّ ما لاحظه جابر عصفور على حركة النهضة أو حركة الإحياء “هو تجدّد الوعي بأهميّة الشّعر في حياة الفرد والجماعة وما يقترن بهذا الوعي من استعادة “الشّاعر الحكيم” بعض أدواره الأساسيّة في توجيه الإنسان، وتأمّل العالم، والكشف عن الأسرار التي تتحكّم في حركة كليهما: لقد كان هذا الوعي جانبًا من إيمان شعراء الإحياء بضرورة النّهضة. كما كان هذا الوعي يرادف إيمانهم بقدرتهم على صياغة عوالم خياليّة، تفضي إلى توجيه الفرد والجماعة، واستعادة الإنسان وضعه الأمثل، في عالم يناوشه الشرّ والتخلّف، وهذا حدث في الفكر، عندما أدرك رجال من أمثال رفاعة الطهطاوي (1801-1973) وجمال الدين الأفغاني (1839-1897) ومحمد عبده (1849-1905) ضرورة التحوّل من الأنسقة القائمة إلى أنسقة فكريّة مغايرة، ترتبط بمطامح رحبة لنهضة متميّزة، حدث في الشّعر عندما نبذ الشعراء المكانة الهامشيّة للشّاعر، وحرصوا أن يعيدوا له مكانته الأساسيّة،”4″
ويحاول جابر عصفور أن يربط لدى الشاعر الإحيائي بين الحكمة والحقيقة، الحقيقة ذات البعد الأخلاقي، وهنا نجد الشاعر لا يرى الشعر محض عالم خيالي بقدر ما هو ذو صلة بالواقع والحقيقة والأخلاق، فلا نفع للشّعر إن لم يكن محرّكًا أساسيًّا للنّفع والأخلاق على نحو ما نرى في قول الزّهاوي:
تتثقّف الأخلاق راشدة به
وبه الأخلاق لا تتثقّف
أو في قول معروف الرّصافي:
وما ينفع الشّعر الذي أنا قائلٌ
إذا لم أكنْ في القول للنّفع ساعيا
ولستُ على شعري أروم مثوبة
ولكنّ نصح القوم جلّ مراميا
وما الشّعر إلاّ أن يكون نصيحةً
تنشّط كسلانًا وتنهض ثاويا
وليس سريُّ القوم من كان شاعرًا
ولكن سريّ القوم من كان هاديا
فعلّمهم كيف التقدّم في العلا
ومن أيّ طرقٍ يبتغون المعاليا”5″
على أنّ هذا البعد الأخلاقي الذي لا يجافي البحث عن الحقّ والحقيقة وتغيّي النفع والفائدة لا يبتعد بالشّاعر الإحيائي عن امتلاك ناصية القول، ولعلّ ولع الإحيائيّين بمعارضة الشّعراء الكبار دليلٌ على محاولة التفوّق في امتلاك ناصية الشّعر على نحو ما نرى البارودي في معارضته رائيّة أبي نواس الشهيرة التي مطلعها:
أجارة بيتينا أبوك غيورُ
وميسور ما يرجى لديك عسيرُ
إذ يقول مفاخرًا ومُباهيًا:
ولو كنتُ أدركت النواسيّ لم يقلْ
أجارة بيتينا أبوك غيورُ
ويمتدّ إلى الماضي ليتفوّق على الحطيئة وجرير (وباء بفضلي جرولٌ وجريرُ).
ويعزّز جابر عصفور الرّبط بين الحكمة والأخلاق لتأخذ بعدًا دينيًّا تتحلّى فيها حكمة الأنبياء، وهي القيمة المثلى للشّعر إذ يقول:
“وإذا رددنا البعد الأخلاقي للحكمة على بعدها المعرفي، وفهمنا البعدين في سياق تتجاوب فيه حكمة الشّاعر مع حكمة الأنبياء، تجلّت القيمة المثلى للشّعر، من حيث علاقته بالإنسان والزّمان، وتحوّل “حُكْم” الشّعر الذي يصدر عن شاعر متعيّن في زمان متعيّن إلى حكم أزليّ ثابت، يحاور الزمان والإنسان والمكان. ومن هذا المنظور تتحدّد أهميّة قصيدة البارودي، تلك التي تبدو كأنّها أوّل “بيان شعريّ” لشعراء الإحياء:
للشّعر في الدّهر حكمٌ لا يغيّره
ما بالحوادث من نقضٍ وتغيير
يسمو بقومٍ ويهوي آخرون به
كالدّهر يجري بميسورٍ ومعسور
له أوابد لا تنفكّ سائرةً
في الأرض ما بين إدلاجٍ وتهجيرِ
…..
والشّعر ديوان أخلاق يلوح به
ما خطّه الفكر من بحث وتنقير
كم شاد مجدًا وكم أودى بمنقبةٍ
رفعًا وخفضًا بمرجوٍّ ومحذور
أبقى زهيرٌ به ما شاده هرمٌ
من الفخار حديثًا جدّ مأثور
وفلّ جرولُ غرب الزّبرقان به
فباء منه بصدعٍ غير مجبور
أخزى جريرٌ به حيّ النمير فما
عادوا بغير حديثٍ منه مشهور
لولا أبو الطيّب المأثور منطقه
ما سار في الدّهر يومًا ذكر كافور”6″
وهو يحاول في اقتطاف هذا النص على التدليل على قيمة الشعر في الحكم المطلق على القيم الإنسانيّة والأخلاق بمعزلٍ عن شروط الزّمان والمكان.
ولعلّ قضيّة الشّفاهيّة والكتابيّة حاضرة لدى جابر عصفور وهو يتحدّث عن الظواهر الأسلوبيّة لدى الشّعراء الإحيائيّين، إذ يقف عند ظاهرة التّكرار بوصفها خصيصةً أسلوبيّة لديهم، وقد وقف دارسو الشّفاهية والكتابيّة عند تكرار الصّيغ منذ العصر الجاهلي وحتّى العصور المتأخّرة والحديثة. يقول جابر عصفور:
“ويرتبط التّكرار -كالإعادة- بتقاليد أسلوبيّة تصل بين شعراء الإحياء، وتؤسّس ثوابت متكرّرة، ولكن الثّوابت المتكرّرة نفسها تنبئ عن رؤية تنطوي عليها وتشي بمنظور متأصّل، تنسرب عناصره في قصائد متباينة، تتّصل فيما بينها، على أساسٍ من هذه الرّؤية القارّة في أعماق القصائد.
ولعلّ أهمّ هذه الثّوابت الأسلوبيّة -في هذا السّياق- التضادّ، ذلك الذي يكشف عن عنصرين متقابلين ينطوي تقابلهما على مغزى دالّ، إنّه التضادّ الذي يتواجه فيه اللّيل والنّهار، الغروب والشّروق، الخريف والرّبيع، الموت والحياة. قد تقع المواجهة نفسها على مستوى التّزامن، حيث يتجاور النّقيضان في الآن، تجاور الخير والشرّ في الإنسان، أو تجاور الحياة والموت في الكون، ولكن يتم التركيز على مستوى التّعاقب، فيتكرّر المتعاقبان عبر الزّمن، كأنّهما مظهر آخر لتكرار حركة الكون التي تخضع لناموس الدّور.”7”
ولكنّ هذه الظّواهر الأسلوبيّة لا تقف عند حركة الإحياء؛ فالتّكرار والتضادّ نجدهما في شعر الحركات السّابقة واللاّحقة، ولكنّ الاختلاف أحيانًا يقع في طبيعة البنية الدّلاليّة، وفي السّياق الكلّي لبنية النصّ وترابط أجزائه، إلى جانب أثر التضمينات الثقافيّة في النصّ ككلّ.
وبما أنّ جابر عصفور يقف عند فحوى الدّلالة، فإنّه يقف عند تفصيلات الشّاعر الحكيم وما تنطوي عليه دلالات الحكمة من مفاهيم، وما تشير إليه من عناصر، مثل طبيعة الحياة طولها وقصرها وطبيعة الدّهر وتبدّل أحواله ليصل إلى الدّهر والقضاء والقدر، وكيف كان يرى الشّاعر الإحيائي الحياة والزّمن على ضوء رؤيته للقضاء والقدر، إذ وقف جابر عصفور عند صورة متكرّرة تصوّر العلاقة بين الإنسان والقدر عند البارودي وشوقي، وهي صورة العلاقة بين الرّاعي والقطيع، قوّة الرّاعي وسطوته وحزمه، في ردّ كلّ من يشذّ من القطيع، وردّه إلى حيث يجب أن يفعل أو يكون، وهي رؤية ليست نمطيّة لدى شعراء حركةٍ معيّنة في نهاية المطاف.
وقد وقف جابر عصفور طويلًا أمام الصنعة والمحاكاة لدى شعراء الإحياء، ووقف عند التصوير وأدواته لديهم، مثلما وقف عند المعارضات التي تؤكّد نزعة المحاكاة والالتفات إلى الماضي، بل محاولة استعادته بقوّة، وما في ذلك من نزوع جمعيّ إلى استعادة الماضي في الشّكل والمضمون، ولعلّي أذكر قصيدة للبارودي يستهلها بما يقول إنّه على طريقة الغرب:
ألا حيّ من أسماء رسم المنازل
وإن هي لم ترجع بيانًا لسائل
خلاء تعفّتها الرّوامس والتقت
عليها أهاضيب الغيوم الحوافل
فلأيًا عرفت الدّار بعد ترسّمٍ
أراني بها ما كان بالأمس شاغلي
على أنّ جابر لا يغفل عن طبيعة الشّعر وطموح الشّاعر، فبمقدار ما يتوافق مع التيّار العامّ في زمن ما، يجنح إلى التفرّد والاستقلال، وهذا ما جعله يلاحظ تأثر شعراء الإحياء بالحياة العصريّة من مثل حديث البارودي عن القطار الذي استقلّه ذات مرة في قرى مصر. وقد جرى ذلك على ألسنة كثير من شعراء الإحياء الذين كان صنيعهم مدعاة للسّخرية من جيل الرّومانتيكيّين من أمثال عبّاس محمود العقّاد.
قرن جابر عصفور بين فاعليّة الذاكرة وفاعليّة العين، ورأى في الأخيرة محاولة للتجديد في شعر البارودي، إذ يقول:
“أمّا تأثير العين فيرتبط بالمنظور الذي ينطوي على فتنة خاصّة تجذب البارودي إليه، فيتوقّف عند عناصره البصريّة، متيحًا أوسع مجال للإدراك الحسّي في التّصوير، وذلك على نحو ما فعل في نونيّته التي كتبها أثناء حرب إقريطش (1865م) والتي مطلعها:
أخذ الكرى بمعاقد الأجفان
وهفا السّرى بأعنّة الفرسان
حيث التعويل على المدركات الحسيّة والمجازيّة في الصّياغة التي تردّ فاعل الرّؤية على مفعولها، وتضعهما في صدارة العلاقات الدّلاليّة، خصوصًا من الزّاوية التي تؤكّد حضور أداة الإبصار (معاقد الأجفان والعين) إلى جانب مفعولها الذي يبسط صفاتها البصريّة على المشهد الذي تؤدّيه القصيدة.
ولا يقتصر حضور العين على الفتنة بلغة المشهد في شعر البارودي، فهناك فتنة أخرى يومئ إليها الحضور الحسّي للعين، حيث ينجذب الحسّ إلى مخترعات المشهد المعاصر، تعبيرًا عن خبرة العيان المباشر”8” وذلك ما يميّز الشاعر الإحيائي عن الأسلاف، كما هو الحال في الحديث عن القطار والكهرباء ونحو ذلك، على أنّ ما هو أهمّ هو طموح الشّعراء الإحيائيّين إلى مواكبة التجديد في معطيات الواقع على نحو ما رأينا لدى شوقي في المسرح، وقد كانت لغة مسرحيّة مجنون ليلى أقرب إلى لغة الرّومانتيكيين التي تقاطعت مع لغة الشعراء العذريين، وقد استطاع البارودي في قصيدته التي مطلعها:
شفّني وجدي وأبلاني السّهر وتغشّتني سمادير الكدر
فسواد الليل ما إن ينقضي وبياض الصّبح ما إنْ يُنتظر
أن يصوّر فيها السّجن والسّجين والسجّان، في مشهد مسرحيّ بديع، ويكشف عن مواقف نفسيّة لا تمتّ إلى المحاكاة والتقليد بصلة، بل هي، في القراءة العميقة، في ذروة التّجديد.
ولا يمكننا أن نغفل تجديد شوقي في اللغة المحكيّة أيضًا؛ فالأغاني التي ألّفها للمطربين كانت نقلة كبيرة نحو التجديد في اللغة والصّورة والمضمون.
لقد اختار جابر عصفور في إنجاز كتابه “استعادة الماضي” أن يقف عند بعض الموضوعات الرئيسة التي تكشف عن هذه الاستعادة فتحدّث في القسم الأوّل عن الإحياء الشّعري في الكلام على الشاعر الحكيم وشعر البارودي، وتحدّث في القسم الثّاني عن الوجه السّالب للاستعادة واقفًا عند المخيّلة التقليديّة حيث رصد تقاليد الصّنعة التّراثيّة والإطار التّراثي للشّاعر الإحيائي، والمعارضة والصّنعة وذاكرة الشّاعر التقليدي، والوزن وذاكرة الشّاعر التّقليدي، وتوليد الصّور التّراثيّة في شعر البارودي، ووقف في حديثه عن الشعر والإيقاع عند وظيفة الشاعر الإحيائي، والصّور الحجاجيّة في الشّعر، وجمود القصيدة وإشاريّتها، وتناول الوصف والمحاكاة حيث وقف عند التصوير والمحاكاة وتشبيه الاستطراف وتكرار التشبيه، وأخيرًا وقف عند خصائص المخيّلة التقليديّة، فتحدّث عن مزالق التعميم في الشّعر وقصيدة المبالغة والافتعال، وصور التفكّك والتّناقض.
ومهما يكن من أمر فإنّ هذه الدراسة المعمّقة وما تضمنته من ملاحظاتٍ ذكيّة يجب ألاّ تُنسينا أن حركة الإحياء مرّت بأطوارٍ مختلفة، فللشّاعر الواحد تطوّراته وتحوّلاته، وللزّمن سطوته في التحوّل والتطوّر بين أجيال شعراء الإحياء، فثمّة من سبق البارودي وثمّة من لحقه، ولا نعدم أن نجد صورًا مختلفة تتراوح بين الصّنعة والتقليد والتّجديد.