في مطالع الشباب، وتحديداً، مرحلة الاندفاع الثوري، القومي _ اليساري، وأثناء العوم في الخيالات التحرريّة واليوتوبيا الثوريّة، حين كنّا نقرأ كتب الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، وتحليلاته واقواله، ضدّ «اعداء الشعب» وضدّ «الليبراليّة»، وحول «حرب التحرير الشعبيّة طويلة الأمد في الصين»…، كنّا نشعر بكره عميق لأولئك «الاعداء»، ونعتبرهم أعداءنا، لكونهم اعداء الشعب الصيني، واعداء الاشتراكيّة والعدالة الشيوعيّة. وكذا الحال، حين كنّا نقرأ «اسس اللينينيّة» لجوزيف ستالين (1878 – 1953)، أثناء حديثه عن أعداء البروليتاريا. وكنا ننظر الى «البرجوازيّة الصغيرة والكبيرة»، على انهم شياطين ومجرمون ومصّاصو دماء الشعوب واعداؤهم، لا مناص من تصفيتهم، عبر فرض دكتاتوريّة البروليتاريا. كنّا نعتبر العدالة وخلاص البشريّة، في الواحديّة؛ فكر واحد، رأي واحد، طبقة واحدة…، معتبرين تنوّع الآراء واختلافها وتباينها، مكمن الشرور والضلال والخراب والفتنة ومصدر اثارة البلبلة. هكذا، كنّا مأخوذين، بل مأسورين بأفكار ماو وستالين وتبريراتهما لمحاربة الأعداء، ونعتبرهما ملائكة العدالة والاشتراكيّة ضدّ شياطين العالم واعداء الشعوب من الرأسماليين والبرجوازيين والامبرياليين واعوانهم. هكذا، كانت قراءتنا احاديّة، وسطحيّة، عاطفيّة، يكتنفها الاذعان لنسق معيّن من التفكير. وبالتزامن مع ذلك، كان تفكيرنا، الطفولي، ينطوي على قدر كبير من البراءة والطهرانيّة، لكوننا لم نكن قد تلوّثنا بعد بآفات السياسة والسلطة وملوّثاتها، وكان ينطوي تفكيرنا على نسبة من الشيطانيّة والعدوانيّة، (التي زوّدتنا بها الآيديولوجيّات الحزبيّة، اليساريّة – القوميّة) ضدّ الآخر _ العدو!. وقتئذ، كنّا أغراراً، للتوّ نخطو خطواتنا الأولى نحو الثوريّة وضمن السياقات السياسيّة والتنظيميّة التحرريّة، دفاعاً عن قضيّة شعب وحقوقه العادلة وتقديس العنف الثوري، باعتباره السبيل الوحيد الأوحد لتخليص العالم من شرور الاستعمار والامبرياليّة والرجعيّة!. والآن، حين ننظر للوراء، ونعيد النظر في ما قرأناه، نعي مدى خطورة ان يقع الكثير من الشباب الثائر الآن، فيما أوقعنا أنفسنا فيه، من تهويمات ويوتوبيّات ثوريّة، وخيالات تحرريّة مجنّحة، بررنا فيها، كل فظاعات وبشاعات الثورات، بطريقة ميكيافلليّة وقحة، على ان الثورة، مفتوحة على كل التجاوزات والجرائم والارهاب الفظاعات…، باعتبارها، في المحصّلة، نتجت عن الصراع لأجل تحقيق اهداف وقيم نبيلة وسامية!.
في أيّامنا هذه، وقياساً بتجاربنا المتواضعة السابقة، وعطفاً على تجارب الشعوب والمجتمعات الأخرى، يمكن ان نرى تقاطعات كبيرة، بين ما عايشناه ونعايشه، وبينما عاشته شعوب ومجتمعات أخرى، حين سادت فيها ذهنيّات وأنظمة شموليّة، قامت باستخدام الشعب ابشع استخدام، للوصول الى السلطة والحكم والهيمنة، بحجّة بناء دولة اللاسلطة، ودولة اللادولة، (الدولة الكومينياليّة الشعبيّة الديمقراطيّة). وفي الوقت عينه، كان هنالك استعداد عميق للاذعان والرضوخ للهيمنة واستمراء الخنوع والاذلال والمهانة، في فترات معيّنة من تاريخ الشعوب. ومنعاً لانزلاق مجتمعاتنا نحو دولة الدوغما العقيديّة، القوميّة او الدينيّة أو الآيديولوجيّة، بصرف النظر عن اشكال هذه الدولة؛ الدولة – الأمّة، الدولة القوميّة، الدولة الطائفيّة، الدولة– الحزب، القائد، يمكن العودة لتجربة الزعيم الصيني ماو تسي تونغ (1893– 1976)، وخططه ومشاريعه المجنونة والضرائب التي دفعها الشعب والمجتمع الصيني جرّاء الانقياد المجنون لتلك المشاريع والخطط والأفكار البلهاء، لئلا ينخدع شبابنا ببريق الخطابات والمشاريع اليوتوبيّة الفضفاضة، التي يطرحها البعض هنا وهناك، وألاَّ يتخذوا من أيّ زعيم، كائنا من مكان، إلهاً لهم، يعبدونه، ويجعلون انفسهم قرباناً له، ويستمرئون الموت في سبيل حياته. فعبادة الانسان لحجر، اهون واحسن من عبادة الانسان للإنسان. ذلك ان الحجر، لن يأمر عبده بارتكاب جريمة، بداعي التقرّب منه، إلاّ ان الانسان، القائد – الإله، يمكن ان يأمر عبده بارتكاب الجريمة، تقرّباً منه واخلاصاً له، ويمكن ان يجرجر مجتمعاً وشعباً ووطناً نحو حروب وكوارث وويلات، وجعلها حقل تجارب لأفكاره وطموحاته ومشاريعه وسياساته الرعناء.
تحت شعار «القفزة العظمى الى الأمام»، وبعد 9 سنوات من تسلّمه السلطة، حاول زعيم الحزب الشيوعي الصيني ماو تسي تونغ إخراج الصين من تخلّفها، مطلقاً برنامجاً صناعيّاً بغية الانتقال بها الى «جنّة الاشتراكيّة» و«ارض الميعاد» الشيوعيّة، في 15 سنة. هذا الطموح والمشروع الحالم، أضحى كابوساً، جرّ على الصينيين، فوضى اقتصاديّة ومجاعة، راح ضحيّتها من 40 الى 45 مليون شخص، في بضع سنوات، ما يقارب ضحايا الحرب العالميّة الثانية (1939 – 1945). ورغم ذاك، كان وما زال ماو رمزاً (إلهاً) لا ينبغي المساس به، او انتقاد «حكمته وعبقريّة فكره» داخل الصين، باعتباره قائد الثورة ومؤسس الحزب، ومحرر الصين من الاحتلال الياباني، والمرشد والأب الروحي للحزب الشيوعي الصيني، وسرّ بقاء البلاد موحّدة، ويمنح الشرعيّة للسلطة الحاكمة!. وبعد مرور نصف قرن على كارثة المجاعة التي ألّمت بالصين، نتيجة القرار المجنون لماو، ما زال الحزب الشيوعي صامتاً حيال جريمة الابادة الجماعيّة هذه، ولم يخرج من بين القيادات التي تعاقبت على قيادة الحزب، بعد موت ماو، من يشبه نيكيتا خروتشوف (1894 – 1971) الذي انتقد بشدّة سياسات وممارسات ستالين، بعد تسلّمه قيادة الاتحاد السوفييتي السابق، وذلك عبر خطابه الشهير في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي سنة 1956!.
حلم الصينيون بالكثير من النظام الجديد، ووثقوا بالوعود الشيوعيّة الورديّة ببناء مجتمع أكثر عدلاً ومساواة وحريّة وتكافؤا في الفرص. وخلال اعمال العنف التي نشبت بين الفلاحين وملاّك الاراضي، على خلفيّة الاصلاح الزراعي ومصادرة الاراضي من أصحابها وتوزيعها على الفلاحين من قبل الحزب الشيوعي الصيني، قتل نحو مليون شخص من الملاّك. وغدا ماو، محرر الصين والفلاحين والاستعمار والاقطاع، وإله الزراعة والحصاد، وتمّ تبجيله كامبراطور للسلالة الحمراء الجديدة التي تحكم الصين. ولكن، سرعان ما قرر ماو، ضرورة مصادرة اراضي الفلاحين وضمّهم على شاكلة المزراع الجماعيّة السوفييتيّة، في مسعى لقطع الطريق امام تطوّر الملكيّة الخاصّة، والسير نحو الشيوعيّة والمجتمع اللاطبقي!. وكتب ماو يقول: «ستكون المجتمعات الشعبيّة (كومونات) الجسر الذي ستخطو عليه الصين نحو جنّة الاشتراكيّة». خلال سنة، أنشئت الآلاف من المجمّعات الشعبيّة، ضمّ كل مجمّع أكثر من ألفي عائلة. وجرى التخطيط لإنشاء مجمّعات ضخمة تضمّ من 10 الى 20 الف عائلة، يترأسها كوادر حزبيّة مخلصة للزعيم. وكان يوم العمل في هذه المجمّعات يبدأ عند الفجر، وينتهي بحلول الظلام، يسمع خلالها الفلاحون الموسيقى التي تمجّد ماو، وتمجّد «قفزته العظمى الى الامام». واعتبرت هذه المجمّعات، الوحدة الاساسيّة لتشكيل مجتمع المستقبل، ورافق هذه المجمّعات، نمط حياة جديد ومختلف، صمّم كل شيء فيها لزجّ الفرد في نمط حياة جماعيّة، موجّهة نحو الانتاج وعبادة القائد والحزب. وعليه، جرى تدمير كافّة الممتلكات الشخصيّة، وأصبحت المنازل والحيوانات والاداوت…، ملكيّة عامّة، جماعيّة، مشتركة. وتمّ تحرير المرأة من واجباتها الاموميّة، لتتمكّن من العمل في الحقول. وجرى الفصل بين الرجال والنساء، وحشدهم في مهاجع، مع منع ممارسة العلاقة الجنسيّة بين الازواج، وحين أراد بعض الأزواج اقامة العلاقة، كان ذلك سرّاً. والذين يتمّ ضبطهم، يتعرّضون للاذلال والمهانة. لم تستطع بعض النسوة والرجال، تحمّل هذه الحالة، ما أدّى بهم الى الانتحار. اختفت العائلة، وعاش الاطفال في مجمّعات مشتركة، وفق القوانين الجديدة للحياة المشتركة، يلقّنون الاغاني التي تمجّد ماو وأفكاره وثورته، في مسعى أدلجتهم منذ نعومة أظافرهم، ليكونوا «جنوداً» وكوادر مخلصة، تبدي كامل الطاعة والولاء والتقديس للزعيم ماو. وازيل مبدأ الأجر مقابل العمل، واستعيض عنه بالطعام. وكان الفرد يحصل على كميّة طعام، توازي حجم انتاجه.
وصار كوادر الحزب، ضبّاطاً في التجمّعات الشعبيّة «الكومونات»، التي تحوّلت الى ثكنات عسكريّة، عبر اخضاع المنتمين لها الى التدريب العسكري، بحجّة الحماية الشعبيّة ضدّ القوى الاستعماريّة والرجعيّة واعداء الثورة والشعب. ولم يتم استثناء الاطفال من التجنيد والتدريب العسكري، ما يعني اخضاع المجتمع للعسكرة، بعد عمليّة افقاره وتجهيله وتعميته، عبر دورات التثقيف الآيديولوجي. والفرد في الكومونات الشعبيّة، وكان فاقد القدرة تماماً عن التعبير عن الرأي، بعد تصفية كل بذرة ابداع لديه. فسلطة الحزب، القائد، الطليعي، الثوري، هي التي تنوب عن المجتمع والشعب في التفكير واتخاذ القرار، وما على المجتمع إلاّ التنفيذ والإقرار والاذعان. وجرى تنشئة الأجيال على هذا المنوال، عبر مناهج التربيّة والتعليم الحزبي. بالنتيجة، لم يكن الفرد سوى سنّ عجلة في آلة كبيرة تعمل في خدمة الزعيم وحاشيته.
وجرّاء قلّة الانتاج في الأرياف، سعى ماو الى ضرب المجمّعات الشعبيّة ببعضها. فالمجتمع الذي يتفوّق في الانتاج، تتم مكافأته في احتفال حزبي، بينما يتم اقتطاع الأكل من المجمّعات التي لا تنتج كثيراً، ما خلق حالة من الخلاف والتصادم الخفي بين المجمّعات/ الكومونات الشعبيّة. وصارت الكوادر الحزبيّة التي تترأس التجمّعات، ترسل تقارير مزيّفة وغير صحيحة عن واقع الحال الى قيادة الحزب الشيوعي، وتتستّر على الفظائع التي يشهدها الريف الصيني، كي تنقذ نفسها من غضب ماو تسي تونغ. فاستشرى الكذب والخداع والنفاق والتملّق والتزلّف في كل مفاصل الحزب، وفق التسلسل الهرمي من القاعدة الى القيادة، عبر ذكر ارقام مزيّفة لا تنسجم وواقع الانتاج الزراعي والصناعي، بحيث تكون منسجمة مع خطط وبرامج الحزب التي وضعها ماو. ولكن سرعان ما تمّ التخلّي عن النموذج الستاليني في المزارع الجماعيّة في الصين، نتيجة رفض خروتشوف لذلك في روسيا. وهنا، حدثت أزمة بين ماو والحزب، فلجأ الى خطّة لكشف الخصوم، ثمّ تصفيتهم، الواحد تلو الآخر، عبر اللجوء الى الشعب ودعوته للتعبير عن رأيه بحريّة وانتقاد القيادة (وما زالت لعبة اللجوء الى الشعب واستخدامه مطيّة وترساً ورمحاً في وجه أعداء الشعب، من قبل بعض الأحزاب الشموليّة في الشرق الاوسط). واطلق ماو على دعوته تلك اسم «حملة المائة وردة»، وصدّق الشعب هذه الأكذوبة – الالعوبة، وانزلق المثقفون والصحفيون والمفكّرون، فرحين بهذا الانفتاح او الانفراج الديمقراطي، وبدأوا بانتقاد النظام الشيوعي. وهنا، نجح ماو في كشف الغطاء عن الخصوم، ووصف كل من انتقد النظام بـ«العدو». ثم بدأت حملات القمع ضدّ كل من يريد التعبير عن رأيه. وبموجبه، جرى تصنيف ما بين 500 الف ومليون شخص، كيمينيين، ورحّلوا الى معسكرات اعتقال، للعمل الاجباري، حيث لقي الكثيرون منهم حتفهم من الجوع والتعذيب. وارسل 3 آلاف من هؤلاء المعارضين الى معسكر خاص، سمّي بمعسكر اعادة التعليم والتأهيل. وباسكات الاعداء، نجح ماو في استعادة السيطرة على الحزب. ثم اعلن عدوّاً جديداً للثورة والفلاحين، وهي عصافير الدوري، واتهمها بأكل المحاصيل، وطالب الصينيين جميعاً بمحاربة هذا «العدو». ثم أعلن «الحشرات» عدواً جديداً، وطالب الشعب بمحاربتها!.
وبسبب استشراء المجاعة في الريف، اضطر الناس لأكل لحاء الشجر واورقها وجذورها. واكل الطين، وفي بعض الاحيان، اكل لحلم الموتى. وكانت سلطة الكوادر الحزبيّة الثوريّة على المجمّعات، هي سلطة تقرير الحياة او الموت للأفراد. قانوناً، يحقّ لكل شخص، 250 غراما من الطعام كل يوم، إلاّ أن الكوادر كانوا يتلاعبون في هذه الكميّة القليلة أيضاً، في حين كانوا يحشون بطونهم بالأكل. ومن كانت علاقته سيّئة مع أحد الكوادر أو يعصي أوامره، كان يموت جوعاً. وأدخل ماو البلاد والشعب، في نفق مجنون، بحجّة تحقيق «القفزة العظمى نحو الأمام»، بحيث أعاد الشعب، الى مرحلة بدائيّة يأكل فيها اوراق الشجر وجذورها، بل أكل لحم الموتى. هكذا، تمت «حيونة الانسان»، وفق تعبير ممدوح عدوان، ودوماً، بحجّة السير نحو مجتمع العدالة والحريّة والنقاء، مجتمع اللادولة، اللاعنف، اللاسلطة. فراح ضحيّة ذلك ما راح من الأبرياء.
وفكرة ان زعيم الثورة الصينيّة، ماو تسي تونغ، لم يكن يعرف بما كان يجري في الريف من مجاعة، هي خرافة وكذبة كبرى. فالزعيم الثوري، وفي كل الاحزاب والأنظمة الشموليّة، مطلع على غالبيّة تفاصيل الجرائم التي كانت ترتكب باسم الثورة والوطن والشعب وقضيّة التحرر والاشتراكيّة ومناهضة اعداء الثورة والاشتراكيّة، بل كانت بأوامر مباشرة منه!. وكشفت وثيقة صادرة عن اجتماع المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني في آذار سنة 1959، أن ماو لم يكن مطلعاً على المجاعة في الريف وملايين ضحاياها وحسب، بل ان استراتيجيّته قامت على التضحيّة بالريف لأجل تغذية المدن الصناعية ومراكز القرار السياسي فيها. وبحسب الوثيقة السرّية المسرّبة من الارشيف، يقول ماو: «عندما لا يكون هنالك طعامٌ كافٍ، يموت الناس من الجوع. لذا، من الافضل ان يموت نصف الناس، ليأكل النصف الآخر، حتّى الشبع». وفي اجتماع آخر لقيادة الحزب، وحده المارشال المعروف بينغ ده هاي، تجرّأ على التعبير عن رأيه في رسالة الى ماو، كون هاي ينحدر من عائلة ريفيّة فلاحيّة، وخاطب ماو بالقول: «ارجوك، فكّر بالشعب». ما اعتبره ماو اهانة له، فأجبر ماو، ده هاي على الاستقالة من منصب وزير الدفاع.
ولم يكن الناس يموتون من قلّة الطعام. ذلك ان مخازن الدولة كانت مليئة بالحبوب. والانكى، انه قبل الثورة، وخلال حكم السلالات، واثناء حصول المجاعة، كان الاباطرة يفتحون المخازن، ويوزّعون الطعام على المحتاجين. أما قيادة الحزب الشيوعي، التي تدّعي خدمة الشعب، رفضت مساعدة الناس الذين يموتون من الجوع.
خروتشوف وماو
تعرّضت مناطق المجاعة للحصار، ومنع تسرّب الاخبار منها. حاول الكثيرون الهرب. ومن نجح، وجد ان الفقر والعوز متفشٍ في كل مكان. وخلال الاحتفال بالذكرى العاشرة للثورة الصينيّة، اخذ خروتشوف ماو على حدى، وتوسّل اليه ألاّ يكرر ما ارتكبه سالتين في المزارع الجماعيّة (الكومينات). وقال خروتشوف لاحقاً عن ماو، انه؛ «اعتقد بأنه مبعوث من الله، مكلّفاً بمهمّة إلهيّة، لبناء الاشتراكيّة، قبل الاتحاد السوفييتي». وتجاهل ماو، كل تحذيرات خروتشوف، بل امر بزيادة الانتاج، عبر التشديد اكثر على السياسات السابقة. حاول الرجل الثاني في الحزب الشيوعي الصيني، ليو تشاو تشي، والرئيس المنتخب للصين سنة 1959، كبح جماح ماو. وبعد مضي سنة، امر ليو بفتح تحقيق خاص بالمجاعة في الريف. وتم تكليف ثلاثة كوادر قياديّة بالكشف عن حقيقة وجود مجاعة من عدمها. وتوصّلوا لنتيجة مفادها ان عشرات الملايين ماتوا من الجوع. ورفعوا تقريرهم الى ماو، إلا أن تشو ان لاي (رفيق السلاح مع ماو)، أمرهم باتلافه فوراً. وبعد عدّة أيّام، ارسل في طلبهم للتأكد من احراق التقرير. وفي ربيع 1961، زار الرئيس الصيني ليو تشاو تشي مقاطعته «هانين»، وبقي هنالك لمدّة شهر، للتحرّي عن حقيقة المجاعة، فاكتشف ان أفرادا من عائلته وبعض اصدقائه، ماتوا من دون علمه، لأن الكوادر كانوا يرسلون له معلومات كاذبة، حجبت عنه الحقيقة. فتشكّلت لدى ليو قناعة ضرورة وقف «قفزة» ماو العظمى الى الأمام. وانتظر حتى سنة 1962، حين اجتمع 7 آلاف كادر من حول البلاد، لمناقشة قفزة ماو المجنونة، ووضع حدّ لها. وقال ليو تشاو تشي: «ان الحزب كان مسؤولاً بشكل كبير عن المجاعة». وعارضه ماو، مبرراً «ان الأوجه الخاطئة من سياسة الحزب، تشكل نحو 10 بالمئة من اسباب المجاعة، وليس كلها». وتحسّن الوضع قليلاً، في نهاية سنة 1962، بعد انشاء مزارع ذات ملكيّة خاصّة، ونوع من الاسواق الحرّة، واغلقت المزارع الجماعيّة (الكومينات) في الريف، وانتهى العمل بالقفزة العظمى الى الأمام.
تضليل
كان العالم في غفلة عمّا شهدته الصين خلال هذه الفترة. ذلك ان النظام، فعل المستحيل لاخفاء الحقيقة عن الشعب والعالم، رغم وجود صحفيين غربيين يعملون في وكالة الأنباء الصينيّة، وقتئذ، يترجمون الاخبار ومقالات قيادات الحزب الشيوعي الى الانجليزيّة. وخلال الستينيّات، كان هؤلاء الصحفيين يمضون اجازاتهم في مقاطعة «آنوي».
حيث أمّنت لهم كل وسائل الراحة. بالاضافة الى ملء متاجر المنطقة بالطعام، وتجهيز فتيات جميلات، وبملابس انيقة، لتجديف القوارب في النهر الذي يمر بالمنطقة. كل ذلك، في مسعى خلق انطباع جد ايجابي عن «البحبوحة والنعيم» الذي يعيشه الشعب الصيني. تمّ ترتيب كل شيء، لإيهام الصحفيين، ان الصين، جنّة الاخلاق والفضيلة والوفرة والرفاه!. فكتب الصحفيون الاجانب مقالات، بقسمون فيها؛ «ألاّ مجاعة في الصين». وبنفس الطريقة، جرى استقبال القادة السياسيين الاجانب. على سبيل الذكر لا الحصر، وصف فرانسوا ميتران، ماو، بأنه «محبّ للخير. وليس حتماً بدكتاتور». وأن ماو اكّد له؛ «ان الشعب الصيني ليس على شفير المجاعة». وقال: «أكرر، ليفهم الجميع؛ إن ما من مجاعة في الصين». هذا ما قاله ميتران، غداة عودته من الصين ولقائه بماو.
مجدداً حملات التصفية
كان القادة الصينيون، يعرفون ان سياساتهم تقتل الملايين من الشعب الصيني. وان السلطة هي التي تتحمّل مسؤوليّة هذه المجاعة، امام التاريخ.
دعي ليو تشاو تشي لمقابلة ماو. وقال ليو له: «انا وانت، مسؤولان عن المجاعة. وكل ما جرى خلال هذه الفترة، ستذكره كتب التاريخ». وقتها، قرر ماو مصير ليو تشاو تشي، معتبراً أيّاه، من ألدّ اعدائه. وللتغطية على آثار المجاعة، وخلافاته مع ليو، وتمهيداً لتصفيته وتصفية الكثيرين من خصومه، اطلق حملة جديدة، سمّاها «الثورة الثقافيّة»، ضد بيروقراطيي الحزب. وتمّ تحميل المسؤوليّة لليو تشاو تشي، وتم اعتقاله من قبل الحرس الاحمر. ومات ليو في سجنه سنة 1969، دون أية رعاية صحيّة. مذاك، لم يتجرّأ أحد على التحدّث عن المجاعة الكبرى، وعن مسؤوليّة الزعيم _ القائد _ الإله، ماو تسي تونغ فيها!.
وأيضاً، حين أعلن ماو ما اسماه بـ»الثورة الثقافيّة البروليتاريّة»، تحجج بالشعب والدفاع عنه بالقول: «ان البرجوازيّة، قد تسرّبت الى الحزب الشيوعي، وانه سيعى لاجتثاثها». ودعا الشباب الصيني، للانقلاب على «حزبه» لتطهيره من أعداء الشعب والاشتراكيّة. فراح ضحيّها مئات الألوف، وتعرّض الملايين للتعذيب. ففي 8/08/1966 اتخذت قيادة الحزب الشيوعي الصيني رزمة قرارات، ابرزها؛ «محاربة الأفكار القديمة والثقافية العجوز والتقاليد البالية». وجعل ماو مجدداً، الشعب، كما في حملة «المائة وردة»، مطيّة وسلاحاً لضرب خصومه في قيادة الحزب، المتذمّرين من خططه وانفرده بالسلطة، رغبتهم في تحويله لمجرّد رمز، من دون صلاحيّات. فرفض ماو ذلك، وزجّ الشعب في هذا الصراع، ونجح. وأجريت محاكمات شعبيّة ثوريّة، راح ضحيّتها مئات الآلاف. وجرى نهب المكتبات والمتاحف، ومهاجمة كل من عاش أو درس في الغرب، باعتباره برجوازيّاً وعدوّاً للشعب!.
هلوسة جماعية
وصل تقديس وعبادة ماو للحدود القصوى، متجاوزة في ذلك عبادة ستالين، اثناء فترة حكمه للاتحاد السوفييتي. وكان يوصف ماو بـ«الشمس الحمراء في قلوبنا» (وفي أيامنا هذه، ما زال القادة يوصفون بالشمس التي لا يمكن للاعداء اطفاؤها). وتمّ التركيز والتشديد على ضرورة تدريس وتدريب الشعب على كتب وافكار ماو، وان عدم ذلك، يشير الى عدم الولاء والانضباط والالتزام الحزبي، والمروق والخروج عن النهج. ووصف المراقبون لواقع الحال الذي شهدته الصين وقتئذ بـ»الهلوسة الجماعيّة». وبعد قفزته العظمى للأمام / للوراء، دفع ماو، وعبر حبّه للسلطة وأفكاره المجنونة، واستغلاله لبساطة الشعب، عبر الشعارات والخطابات، دفع البلاد نحو الحرب الاهليّة، عبر «ثورته الثقافيّة». وبموت ماو سنة 1976، شهدت الصين، «ثورة ثقافيّة» مضادّة، لما سمّي بمناهضة «عصابة الأربع»، ضمنهم، أرملة ماو. واعتقلوا بتهمة انهم اعوان البرجوازيّة، وانهم كانوا ضدّ أفكار الزعيم ماو، ومسؤولون عن جرائم الثورة الثقافيّة!.
وفي سياق عمليات الادانة وتبرير اصدار الاحكام، كانت آلة الدعاية والاعلام تلعب لعبتها القذرة في تجييش الشعب وشحنه وتأليبه على خصوم من يتحكّم بالإعلام!. فحين كان «عصابة الأربعة» يتحكّمون بها، كانت تنشر مقالات واتهامات ضدّ خصومهم في «صحيفة الشعب»، على انهم اعداء الشعب والثورة، وبرجوازيون وعملاء للامبرياليّة…!. وحين تمّ اعتقال «عصابة الاربع»، جرى توجيه نفس الاتهامات لهم، عبر «صحيفة الشعب»!. يعني، كانت الدباجات الاعلاميّة نفسها، مع تغيير الاسماء.
اذعان الجماهير
والسؤال هنا، إذا كانت الجماهير، شديدة التأثّر والانقياد للآيديولوجيّات الدينيّة، فماذا عن هذا الإذعان الأعمى للآيديولوجيّات العلمانيّة – اليساريّة، بحيث يجعلها ترضخ وتقبل هذا الكم من الإفقار والتجهيل والابادة الجماعيّة التي جرت في الصين وروسيا ومناطق أخرى في العالم؟. ما هي العوامل التي تتداخل في بلورة حالة ما يمكن تسميته بسيكولوجيّة الإذعان لدى الجماهير والمجتمعات؟. وهنا، يرى عالم الاجتماع الفرنسي غوستاف لوبون (1841 – 1931) في كتابه «سيكولوجيّة الجماهير»، (دار الساقي – بيروت 1991، طبعة ثانية2011، ترجمة وتقديم هشام صالح)، يرى لوبون ان الجماهير «لا تعقل، فهي ترفض الأفكار أو تقبلها، ككتلة واحدة، من دون اخضاعها للنقاش. وما يقوله لها الزعماء يغزو عقلها سريعاً. فتتّجه إلى أن تحوّله حركةً وعملاً. وما يوحى به إليها، ترفعه إلى مصاف المثال، ثم تندفع به، في صورة إراديّة، إلى التضحيّة بالنفس». ويضيف لوبون: «ان الجماهير، لا تعرف غير العنف الحادّ شعوراً. فتعاطفها لا يلبث أن يصير عبادة. ولا تكاد تنفر من أمر ما، حتّى تسارع إلى كرهه. وفي الحالة الجماهيريّة، تنخفض الطاقة على التفكير. ويذوب المغاير في المتجانس. بينما تطغى الخصائص التي تصدر عن اللاوعي».
وبرأى لوبون، انه «حتّى لو كانت الجماهير علمانيّة، تبقى لديها ردود فعل دينيّة، تفضي بها إلى عبادة الزعيم، وإلى الخوف من بأسه، وإلى الإذعان الأعمى لمشيئته. فيصبح كلامه دوغما لا تناقش. وتنشأ الرغبة إلى تعميم هذه الدوغما. أما الذين لا يشاطرون الجماهير إعجابها بكلام الزعيم فيصبحون هم الأعداء».
ولكن، سيكولوجيّة الاذعان في المجتمعات المختلفّة، تعززها ذهنيّة الهيمنة والطغيان لدى الاحزاب الشموليّة، الثوريّة أو الجهاديّة ايضاً. ذلك ان الأخيرة، دأبها إثارة مراكز الاحساس بالعبوديّة والضعف والتبعيّة وكل غرائز القطيع لدى الانسان، كرهاً أو طوعاً، وبشكل ممنهج، حتّى يصل بالإنسان الى ترجيح غريزة البقاء لديه والسير نحو الإذعان لسلوك وممارسات ذهنيّة الهيمنة التي تفرضها الأحزاب الشموليّة على المجتمع. والحال هذه، لا غرابة في ان كل قادة الاحزاب الشموليّة، العلمانيّة والدينيّة، هي الاكثر تنظيراً وحديثاً عن العدالة والحريّة والديمقراطيّة وفردوس الاشتراكيّة أو فردوس دولة الخلافة والتسامح واطاعة أولي الأمر. ومعطيات التاريخ القريب وتجارب الشعوب، تؤكد بطلان كل مزاعم وادّعاءات الاحزاب الشموليّة وتنظيرات قادتها. ذلك انه يستحيل الحديث عن الحريّة والديمقراطيّة والوعي الديمقراطي والمجتمعات الديمقراطيّة، وسط استشراء ذهنيّة الهيمنة وتضليل الأفراد، والسير بهم نحو النزوع القطيعي البدائي العبودي، وإحلال القائد _ الزعيم السياسي، مكان مالك العبيد/ الإله.
ـــــــــــــــــــــــــ
كاتب وشاعر كردي سوري مقيم في بلجيكا
هوشنك أوسي
شاعر كردي من سورية