أعده وقدمه: جعفر العقيلي
إذا كان من وصفٍ يليق بالحياة التي عاشها غالب هلسا (18 ديسمبر 1932-18 ديسمبر 1989)، فهو “التراجيديا” التي لا يتطلّب الأمرُ كبيرَ جهدٍ لنلحظَها بينما تنبسط وقائعُ هذه الحياة وتفاصيلها أمامنا.
أليس من “التراجيديا” أن يغادر المرءُ وطنه وهو ما زال في مقتبل الشباب، مُلاحَقاً بسبب أفكاره وآرائه، فتتقاذفه أمواج العواصم والمدن تضييقاً وحصاراً وترحيلاً وطرداً، ليعود إلى مكانه الأوّل؛ ولكنْ مغمِضاً عينيه في كفن؟! هي ذي حكاية غالب الذي نُقل إلى وطنه مسجّى بعد 33 عاماً من رحلةٍ لاهثةٍ لم يتوقف فيها عن النضال والاشتباك والقبض على المبدأ وتكريس مقولة “المثقف العضوي”.
لكن هذه التراجيديا كان لا بدّ منها على ما يبدو، ليصوغ المبدعُ نصّه من مادة الحياة الخام بإزميل التجربة، وليؤثّث باليوميّ والهامشيّ مدوّنتَه السردية، بل وأكثر؛ لقد مكّنه هذا الترحال –الذي مارسه كرهاً وطوعاً- من تقديم رؤيته أو اقتراح التصوُّر الذي يخصّه، من منظاره الذاتي، تجاه الكتابة وتجاه عالم؛ فألغى مطمئنّاً المسافةَ في أحيان كثيرة بين الروائي وبطله، ولم يَرَ انفصالاً بين الكاتب والمناضل، فالكتابة نضالٌ في أحد وجوهها، وهو ما اشتغل غالب عليه بصبرٍ وأناة ليرسي الدعائم لمشروعه الخلّاق الذي أراد له البقاء، وهو ما كان!
ولأنّ سيرةَ غالب تتعالق مع نصّه وتحضر في ثناياه صراحةً وتلميحاً على حدّ سواء، قد يكون من المفيد أن نطلّ على المحطات الفارقة فيها، لأنها تمنحنا المفاتيح الضرورية لوعي تجربته واستبطانها واستكناه مجاهيلها. فلكلّ محطة ظلالُها وأصداؤها وأثرها الممتد فيما أنجزه غالب من روايات وقصص وفيما كتبه مشتبكاً مع الراهن الثقافي والسياسيّ.
فقد غادر الطفل قريته ماعين؛ القريبة جغرافياً لكن القَصيّة عن “الحاضرة”، إلى العاصمة، ليمضي سنوات اليفاعة في مدرسة داخلية قطعت صلته بالأهل والعائلة. وما إن أنهى الثانوية حتى كان على موعد مع بيروت، أواخر أربعينيات القرن الفائت، ملتحقاً بالجامعة الأمريكية فيها لدراسة الصحافة، غير أن الظروف لم تتحِ له إتمام دراسته، إذ اعتُقل بعد مشاركته في نشاطات نفّذها الحزب الشيوعي اللبناني، فأخرجه شقيقه من السجن وأعاده إلى عمّان (1951).
وفي الأردن لُوحق الشاب لمواقفه السياسية المعارضة، وكان مناصراً للحزب الشيوعي الأردني، فسافر –مطارَداً- إلى بغداد حيث انخرط في صفوف الحزب الشيوعي العراقي (1951-1953)، إلاّ أنه اضطُر إلى مغادرة العراق في أعقاب هبة تشرين الثاني 1952، فتوجّه إلى مصر وأقام فيها شاهداً على حقبة مفصلية في تاريخ العلاقة بين اليسار والسلطة، في خمسينيات القرن العشرين وستينياته، وعمل هناك في وكالة أنباء الصين الجديدة، ثم في وكالة أنباء ألمانيا الديمقراطية، إلى أن رُحِّل من مصر أواخر سنة 1976، بعد شهر قضاه في السجن لمشاركته في ندوة ثقافية احتجّت على المسار التطبيعي الذي بدأت ملامحه تتضح في حينه، فالتجأ إلى العراق مجدداً.
وحين ضاقت الدروب في وجه غالب لاشتباكه بالسياسيّ ورفضه المهادنة، نادته بيروت (1979) بما كانت تمور به من تفاعلات على أرضية الحرب الأهلية والوجود الفلسطيني وفعل المقاومة للمحتلّ جنوباً، فانضم إلى صفوف الثورة الفلسطينية، مدافعاً مع الرفاق عن الثورة/ الحلم خلال الحصار “الإسرائيلي” سنة 1982، ثم وجد نفسه في ترحال جديد إلى اليمن (عدن)، فإثيوبيا، فألمانيا (برلين)، ومنها إلى دمشق محطةً أخيرة في مسيرة الترحال، إذ توفي في أحد مستشفياتها يوم 18/12/1989. ثم كانت رحلته الأخيرة مسجّى؛ ميمّماً شطرَ قريته “ماعين” التي شهدت تفتُّح وعيه بذاته وعلى الحياة.
وإذا ما شئنا رصد بعض التفاصيل في هذا الخيط الزمني الطويل للاغتراب، نجد أن “غالب” ظل حريصاً على أن يكون جزءاً من الحراك الثقافي والسياسي ومشتبكاً مع الشارع والناس في كلّ محطة يحلّ بها، حتى لو تعلّق الأمر بإقامة قصيرة/ انتقالية، غير مكترثٍ بالعواقب، وما أكثر ما كانت وخيمة!
وبما أن إقامة غالب في القاهرة هي الأطول مقارنةً بما عداها من عواصم، فقد كان من الطبيعي أن يكون لها التأثير الأكبر في صوغ شخصيته الثقافية وتأطير مسيرته الإبداعية، وهو ما انعكس بجلاء في نتاجه الذي يمكن من خلاله معاينة انشغالاته الثقافية والأدبية والفكرية والفلسفية والسياسية بوضوح.
هذه “البعثرة” التي يبدو أنّ غالب استساغها وتقبّلها بعد أن وطّنَ نفسه واعتاد عليها، جعلتنا إزاء شخصياتٍ عدّة له، بعدد الأماكن التي عرفها، وفي هذا النسيج المركّب تظهر ملامح غائرة لغالب “الأردني”، الذي ألحّ على استعادة مشاهد الطفولة في رواياته وقصصه محتفياً بالمكان الأول والتجربة الأولى دون أن يخفي حنينه الجارف لهما. وعلى ما يقول مقربون منه، كان يمنّي النفس أن يعمّر مثل أبيه وجدّه، وأن تتنفّس عيناه مجدداً هواءَ الوطن الذي غادره قسراً، لكن القدر قال كلمته الفصل، وكانت على خلاف ما أملَ البطل وما خطّط!
إذن، لم يتحقق لغالب أن يكتب السطر الأخير في مدونته الحياتية على مقربةٍ من مرابع الأهل الذين استحالوا أبطالاً في نصوصه، وظهرت طقوسهم الحياتية منهلاً أثيراً ومنجماً يستعين بالمخبوء فيه في جلّ ما كتب، كأنما يحاول أن يؤكد أنّ شخصيته الفريدة تشكّلت من مزيجٍ كان للطبيعة والبيئة المحيطة أثرها البالغ فيه، وأن ما عاشه في تلك السنين البعيدة واقعٌ وليس “متخيَّلاً”، حتى لو اصطبغ بالخيالات والتصورات في منتَجه الأدبي.
هذه الرحلة المضنية التي كان للطريقِ فيها أن تقود خطواتِ المبدع صاحب الهوية المركبة أو الملتبسة “جغرافياً” -إن صحّ التعبير- أثمرت في النهاية عن أعمال أدبية نوعيّة أكدت فرادة التجربة وخصوصيتها وخلودها. وهذا ما يفسّر المقروئية العالية التي تحظى بها كتب غالب رغم المسافة الكبيرة التي تفصلنا عن وقت كتابتها أو نشرها.
فروايات غالب وقصصه وترجماته وكتبه الفكرية والنقدية والتنظيرية تُتداوَل كأنها صدرت مؤخراً، وما تزال موضعَ تناول من النقاد والمفكرين ليس على مساحة الجغرافيا التي ارتادها فحسب، بل على نطاق أوسع بكثير، تأكيداً على أنّ ما فيها من طروحات ورؤى عابرٌ للزمن وقادرٌ على الاشتباك رغم تغيُّر الظروف وتبدُّل الأحوال.
ففي الأردن، البلد الذي شهد طفولة غالب وصباه ومطالع شبابه، أعيدت طباعة أعماله الأدبية غير مرة بعد رحيله، بعد أن كان يجري في زمن “الأحكام العرفية” تهريبُها وتناقُلها سرّاً بعد استنساخها، وأحياناً بخطّ اليد، ليتسنى لمريدي غالب وعشّاقه الذين سمعوا عنه الكثير، قراءتها، وهي التي استلهمت حياة هذا المبدع في بيئةٍ “نصف بدويّة نصف فَلاحيّة” دفعته إلى كتابة نص ما يزال الرهانُ عليه جارياً بوصفه نصاً حداثوياً بامتياز.
وفي مصر التي احتضنت ربعَ قرن من حياته، تَبرز سمة الوفاء لدى مجايليه ومن تعالقوا معه أو اشتبكوا به وبكتاباته، حتى إن هناك من يُدرجه ضمن الأدباء المصريين، لا سيما أنه كان يتحدث اللهجة المصرية بطلاقة.
وفي لبنان وسوريا، تتواتر النصوص والمقالات والدراسات التي تستعيده إنساناً ومبدعاً، وتضيء الزوايا المعتمة في تجربته الإنسانية والإبداعية والنضالية. وفي أرجاء الوطن العربي قُدمت عن تجربته بحوث ودراسات مستفيضة، وأطروحات أكاديمية في الماجستير والدكتوراه.
ولأنّ الشخصية التي صدر عنها غالب تبدو لمن يعاينها مركّبة وتنطوي على أكثر من مستوى، فمن البديهي أن تتّسع مظلة منجزه الإبداعي(1) لتشمل الأعمال الروائية والقصصية، والكتب النقدية والفكرية والسياسية، والكتب المترجمة، فضلاً عن المسرحيات (جميعها مفقودة، وإحداها بعنوان “التلفون”، ومن بينها مسرحية قُدمت في عرض تدريبي على خشبة المسرح القومي في القاهرة).
وبذلك، يتضح أن “غالب” لم يكن مجرد “أُدباتيّ” يكتب الرواية أو القصّة القصيرة فقط، بل كان في زمنه، أحدَ أبرز المثقَّفين العرب العضويين، المنشغلين بالسياسة والثقافة والفكر والسجال السياسي، الساعين إلى فهم طبيعة الشخصية العربية، والمنفتحين على العالم تثاقفاً وتبادلاً فكرياً.
جديرٌ بالذكر أن غالب هلسا مُنح جائزةَ الدولة التقديرية في الآداب في عام 2007 (أي بعد 18 عاماً على وفاته)، وعُدّت هذه الخطوة استرداداً “أخيراً ونهائياً” للمبدع الراحل، وتأكيداً رسمياً على “أردنيّته” التي غُيِّبت أو أُغفلت إبان مرحلة الأحكام العرفية التي استمرت بين عامي 1956 و1989 (للمفارقة؛ عاد غالب إلى وطنه –وإن ميّتاً- في العام الذي شهد الانفراج السياسي منهياً تلك الحقبة المظلمة!).
ومن الأمور ذات الدلالة في هذا السياق، أنّ هذا الفوز بأرفع جوائز الدولة، جاء بعد تعديل نظامها ليصبح بالإمكان منحها لمستحقّيها من الراحلين بعد أن كانت حصراً على الأحياء، وكان غالب يتصدر قائمة أولئك الراحلين! وتلفت الانتباهَ النبذةُ التي وضعتها وزارة الثقافة للتعريف بهلسا عند فوزه، إذ وردت فيها عبارة: “تُوفّي في المنفى”، وفي هذه العبارة القصيرة ما فيها من إقرارٍ بقسوة السلطة حين تطارد صاحبَ رأي، لم يكن له من سلاحٍ سوى قلمه!
وقد أنشأت رابطة الكتّاب الأردنيين جائزة باسم “جائزة غالب هلسا للإبداع الثقافي”، مُنحت لعدد من الأدباء والنقاد العرب في دوراتها المختلفة، كما عُقدت مؤتمرات نقدية عدة تتناول تجربته أو تحمل اسمه تقديراً للمكانة التي احتلّها في مدوّنة السرد العربي.
في هذا الملف الذي تخصصه لتجربة غالب هلسا، إطلالاتٌ من شرفات عدّة على تجربة ثرية وممتدة، في محاولةٍ لاستبيان ملامح الخصوصية ومواطن الفرادة فيها. وقد رُوعي فيها التنوع، بما يغطي مساحة واسعة من الصورة الكلية التي رسمها غالب لنفسه، في ممارسته وكتابته وتنظيره وتطبيقه.