هاشم يوسف
شاعر سوداني
لماذا تنقضّ علينا هذه الحمائم الجائعة كل يوم تنقد دماءنا وتبصق على ألواننا كُرهها، وتنشب أنيابها ومخالبها في قمح لحومنا.
ماذا جنيتُ على الرب
أي نبيٍّ شنقتُ
ليُهجَم عليَّ بهذا الامتحان؟
منذ اليوم الأول من الشوق الدهري، وقلوبنا تسير متجاورةً وطرية. تتقافز من قلبي لقلبٍ مجاورٍ له زبدةٌ عسليّةٌ، تغلّفهما، وليس ثمة فرفرة غضبٍ تخرج من أحدهما مهما اختنق.
وكان إن لم يكن ألمٌ في الأرض، وكُنّا قد صُنِعنا من طينها المُر
وبينما كانت طينتنا الأزلية نائمةً تحت شجرةٍ مقدّسة
كانت الشمس تزور في اليوم مرةً واحدةً لتطهو الشجرة
ثم تذهب، تراقبنا ولا تلمس جلودنا أبدًا.
نهرٌ من الرعشات مرّ فجأةً بالأرض التي تحتنا
كان أول ما شعرنا به: نعاسًا كثيفًا
وطعنةً في الأجناب
ثم تقيّأنا عسلًا مُرًّا
ثم نهضنا
لم نكن نرى
كنا نحس بروائح ذكيةٍ داخل صدورنا
ثم انفتحتْ أعيننا:
فإذا بغشاوةٍ
ثم الضربة الأولى العنيفة للشمس
ثم جرينا بسرعةٍ إلى الزير المُسكِر
جرعنا منه قليلًا مُطَمْئنًا
ثم بدأنا نسير بصعوبة
إلى أن وصل حشدنا إلى شبحٍ، واقفًا على تلةٍ من نار
نظر إلينا منقِّبًا فينا جيدًا
ثم قال سيروا ورائي
لا تختلطوا بدبابيس النمل التي تعمر هذه الأرض
لئلا تَنفَقوا
مشينا ربما لدهرٍ أو دهرين
بدأتْ نقاطٌ من الماء تهمي من السماء على أجسادنا وأسمائنا
أخذت الشرارات تنطفئ على جلودنا
رويدًا رويدًا حتى صرنا باردين: ثلوجًا
وقادرين على السير بالموعظة:
أن كيف سنقود غابات أعصابنا الغضة
بين هذي الصخور الجبال الحديد
وبعد قرنين من ذلك الميلاد
ها نحن نقود بهائمنا إلى عروشها الليلية
ها نحن نخوض طين الذهب
نشق جداول الشوق
نفلح أرض الحنان
بينما رؤوسٌ كبيرةٌ تذهب منّا
وأخرى صغيرةٌ تأتي بيننا
على بساطنا العشبي هذا؛
مراتٍ نفرح
وفي أخرى قد نحزن ونبكي
ولكن في حدود عقلنا السهل المطمئن حينها..
إلى ذاك اليوم:
أول أيام القتل
يوم هجم علينا الحمام الجميل
قُطِّعتْ رؤوسٌ وافتُرِستْ جثثٌ
دون عناية؛
حمائم كنا نسقيها خمرنا حتى تثمل
وتنال من حبوبنا كل يومٍ حتى تمل
في تلك الليلة العمياء
انقضّت الصاعقة
على جبل الدم الحجري اليابس
وحين دكَّته تمامًا
سال بين أرجلنا
كنا نائمين
حلوقنا جافّةٌ، لكن قلوبنا كانت تنبض برقة
وكانت الروح جارةً لي في الفراش
كنتُ أعانقها
وكان التفافي عليها رخوًا، شاملًا
وشديد السطوع
-كنتُ مطبوخًا على كل ثلجٍ ونار-
ثم سال هذا المشروب الأحمر تحتي
كان مظلمًا وكانت الظُّلمة أيضًا مُظلمة
لم يكن ممكنًا أن أرى من كثافة الحنان في رئتي
فنهلتُ جرعةً منه
انفجرتْ شمسٌ صفراء أمام عينيّ
كان ذلك أول يومٍ أراها
فارتجفتُ
وزمجرتْ قطّبتْ جبينها
وأخافتني أكثر بعيونها الشرسة الحمراء
ودُون أن أقصد وأنا أرتجف
طعنتُ جارة الروح
صرختْ
وانفكّت من عناقي الكثيف
هربت لمضارب أبيها
ومنذها بدأتْ الحرب
عن جَمال الراعية
في ليلة الجَمال والرمال
وهذا القمر الناعم المستدير الجالس بيننا،
ما زلتُ أذكر كيف كان الهواء يلمسنا ويَفِر،
كنا نسرد الأحلام قبل حدوثها
كنا نلمع تحت مقام الحنان هذا
لم أكن أعلم أن خنجرًا ينتظرني خلف تلك الهشابة
لم أعلم أن المدفعية ستقصف ناقتنا الوحيدة
لم أعلم أن سيلًا من الذخائر سينهمر علينا
ولم نكن نعلم أننا لن نموت أبدًا
وأنّا سنبقى ظلالًا شاحبةً لهذي الرمال
نبقى أحياء معذبين فيها
نسكن في خوفنا الذي لا يهدأ
الذي لا يموت
في هذه الستين قِتلة
سترتاح الأدمغة التعِبة من أعبائها
وتتوقف الدماء عن الجريان تمامًا فتهدأ العروق
وتخلد الأغاني للنوم في الأعصاب
وتعود العيون لعماها الطبيعي القديم
فقط تكون هناك عضةٌ في الروح
تزعج نومتها الأخيرة
إنها عضة الظُّلْم المُرّة التي لا يمكن قتلها بأي سلاح
يحق لي امتلاك حقلٍ كاملٍ من زجاجٍ رخيم
أرعى فيه أسرابًا عديدةً
من أنوارٍ باردةٍ بهيجة
تنمو ببسالة في مخملها
واقودها بثقةٍ إلى الخارج الحار
ومعها ديدان رقيقةٌ مبتسمة
تأكل الحرارة، الشمس والضغينة
وتُبقي المحبّات التي تطفئ كل مجزرةٍ وقتْل
لم أكن أعلم أن الأرض تقتل أيضًا
وأنها قبرٌ كبير
وأن هذه السماء جاسوسٌ وكفَن
وأن هذه الأمطار الغزيرة الشفافة/
البيضاء مرات
رشاوى سياسيّة
وثمنٌ لنا في المزاد
هذه الورقة البيضاء الرقيقة الباردة
منتصبةٌ بثباتٍ أمام هذا النشّاب،
طنٍّ من الوقود،
وكتلةٍ هائلةٍ من النار
وكل هذه النوايا الحديدية الشريرة المصوّبة إليها؛
ستحترق كلها وتوضع جنازة رمادها في الفتيل
لكن هذه اللغة القديمة المكتوبة فيها ستبقى
هذه الأحبار السرية الشريفة
سيحملها الهواء
ستمتصها التربة
وتحملها الوديان لمستحقيها
وستنبت عشيرتها النباتية في هذه الأرض لا محالة
نحن الوديان الهائجة
الأراضي البور المتوحِّدة
الغابات غير المطروقة
السحنات الشوكية المتداخلة
النياق التي أتعبها السفر من خريفٍ لقحل
مللنا هذه الرحلات والطعنات
كاد صبرنا يفجّر أحشاءنا
وحتى لو أوقفنا الموت نفسه
ستظل جمرة عشقنا الرمليّة هذي قويّة
ثابتة وتتنقّل من أرضٍ لأرضٍ
لا يوقفها الألم
قُطّيتي التي أُحرِقتْ
لم ألمسها أو أدفع النار عنها
محصولي الذي أُبيدَ لم أرجُ نجاته
كل ثمينٍ مفقودٍ لم أكترث له
كنتُ أطوّق شرارة روحي وأحرسها
كي لا تفر من هذه المعرفة
وكي لا تُذهِب جلَدَها قنابل الطائرات؛
واحتفظتُ بجثتي في مكانٍ آمِنٍ هو النسيان
أعلم أنها ستنمو يومًا
لكن أين؟
أرجو أن تزاحم جذوعها القوية السُّحب
وأن تحتل بذورها المعدنية تربة السموات.