منصف الوهايبي*
كان «الشجرة الشرقية» أوّل كتاب شعريّ قرأته لفاضل العزاوي، عثرت عليه صدفة في منتصف السبعينات على ما أذكر، أو بعدها بقليل، في مكتبة بتونس. ومنذ ذلك اليوم، وقد حفظت بعضا من هذا الكتاب؛ أردّده على أصدقائنا في مجالسنا الخاصّة ولا أزال، انعقدت صلتي بالعزاوي شاعرا كاتبا استثنائيّا في المدرسة العراقيّة كما أحبّ أن أسمّيها، وكما أحبّ أن أنعته أيضا. فالكتابة عنده تجربة شموليّة، والحداثة «حدثية»، ومن ثمّة يندّ نصّه عن التصنيف الذي دأبنا عليه في قراءة الأدب العربي المعاصر؛ ويتعذّر أن تقرنه بأيّ من روّاده المعروفين في العراق وخارجه. ظللت أتابع تجربته بشغف كبير، فقرأت «كاتدرائيّة العصافير» و«سلاما أيّتها الموجة سلاما أيّها البحر» و«مخلوقات فاضل العزّاوي الجميلة» و«آخر الملائكة»، والأعمال الشعريّة الصادرة عن دار الجمل؛ وغيرها ممّا أنا لست بصدد تفصيل القول فيه، إذ ربّما فاتني بعضها. ذلك أنّ ما يعنيني في السياق الذي أنا به ـ وهو ما أفعله مع الذين أقرؤهم بمحبّة ومتعة ــ أن أمسك بالخيط الذي ينتظم نصّه أكان شعرا أم رواية؛ وقد لا يكون غير خيط العنكبوت نسّاجة النجوم، أو هيئة تواريها. لأقل ضوء النصّ الداخلي، أو هذا الذي يمكن أن نسمّيه الوعي الجمالي بالحاضر. وهذا النصّ يتجاذبه شكلا أو بنية وصورة ودلالة، طرفان منذ البدايات وربّما إلى اليوم، هما: «الأبولونيّة» بكلّ سماتها من تناسب وتوازن وتناغم، و«الديونيزوسيّة» بكلّ سماتها من مصادفة وعشوائيّة وغرابة، أو بناء لغويّ خاصّ يقوّض ما نسميّه «المعنى المنطقي» الذي يديره القارئ العادي على قاعدة الفهم، أو لغة مأنوسة تكاد تكون «صوفيّة» كما في «الشجرة الشرقيّة»، حتّى وهي تأخذ بالمعيش واليومي؛ ولكنها تستولد مع ذلك صورا «سرياليّة» أو هي تذكّر بالسرياليّة؛ وفيها يتخيّل الشاعر الماضي دون أن يستعيده، وكأنّه الكائن الذي يكون حيث لا يكون؛ أو هو على رأي أبي تمّام «ذكرتك حتى كدت أنساك…»
هل هي «شعريّة الأثر»؟ أعني أثر اللغة التي يطويها النسيان، أو ما يتبقّى بعد أن تعفّي الذاكرة كلّ شيء؟ ربّما، فالأشياء والأسماء في نصّ العزّاوي أو «مدوّنته»؛ تنهض بـ«طوبوغرافيّة متخيّلة» تصل بين أزمنة وأمكنة متحوّلة، وتكتنِهُ الفضاء من حيث هو المكوّن الجمالي الأظهر بل الأقوى في «شعريّة الأثر»، وتؤسّس الكتابة من حيث هي تغريب لأوضاع طبيعيّة أو لأشياء مألوفة، بل تجعل الشيء الذي ليس له مضادّ، يكتسب بنية مخصوصة في حقل الظواهر، ويتمدّد خارج عالمه الخاصّ؛ فيتحدّث إلينا، ونصغي له؛ ونتواصل معه.
وقد لا يكون النسيان سوى «ذاكرة مخذولة». وإذا جاز لي أن أعدّ الذاكرة في نصّ العزّاوي
فعل كتابة وتقييد وتسجيل، أي كتابة غير مرئيّة، فإنّ النسيان هو مصلحها أو مصحّحها كما هو الشأن في الجذر اللاتيني لفعل «نسي».
وحتّى في العربيّة فالنسيان مصدر الفعل (نسي) ولهذه المادة أصلان يدلّ أحدهما على إغفال الشيء، والثاني على تركه. فالأوّل من نسيَ الشيء إذا لم يذكره، أو هو عزوب الشيء عن النفس بعد حضوره لها؛ بما يسوّغ القول بأنّ «النسيان» شكل من أشكال حضور الغائب، أو هو ضرب من استخفاء الأثر.
لعلّي أكون بهذا قد أمسكت بضوء هذه المدوّنة، الداخلي؛ وفيه يمكن أن أقول إنّها تقوّض الحدود والفواصل بين الأجناس الأدبيّة؛ حتّى لكأنّنا إزاء بنية تماهٍ بالمطابقة. وهناك اليوم مراجعات متتالية لمقولة «الجنس» أو «النوع الأدبي» و»الشعر»، ولم نعد نطمئنّ كثيرا لما استقرّ من تصنيفات اقتضتها دوافع هي في أحيان كثيرة إيديولوجيّة، وأحيانا تبسيطيّة. وقد لا تكون هناك حدود جليّة أو قطعيّة.
صحيح أنّ التّهجين ضرورة حداثيّة في الكتابة، وصحيح أنّ التراشح بين الخطابات والأجناس يوفّر دفقا تجديديّا للكتابة الإبداعيّة نفسها؛ إلاّ أنّ ذلك لا يعني، بالمقابل، انتفاء تخوم الأجناس عند العزاوي، وإنّما يعني «رسمها» على نحو رخْوٍ مرِنٍ هو في الواقع، أمارة قوّة نصوصه. والكتابة الأدبيّة عنده ورشة كبرى مُشرعة على موارد شتَّى، وتجسيد لأجناس مختلفة وتشبيك بين نصوص متباينة الأزمنة والأنساب تتعالق فيما بينها على نحْو ملتبس؛ فهي متماهية من حيث هي، في الوقت نفسه، متجاورة؛ من حيث هي، في الوقت ذاته أيضا، متحَاورة. ومن حيث هي في الوقت ذاته تتفاصلُ ليتجاوز بعضها بعضا. إذن أقول إنّ الكتابة عند العزاوي شأنها عند الشعراء الكتّاب الاستثنائيّين، مرجل يغلي لا غطاء له ولا يتلاشى بُخاره.
مدوّنة العزّاوي «سير ذاتيّ مرجعيّ»، يختلق بواسطته الكاتب لنفسه شخصيّة ووجودا ويظـلّ محافظا في الوقت نفسه على هويّته الحقيقيـّة (اسمه الواقعيّ كما في «كائنات فاضل العزاوي الجميلة» أو حتّى في «آخر الملائكة»؛ مقيما مع القارئ ميثاقا قرائيّا مزدوجا: أنا فاضل المؤلّف الشاعر الكاتب أروي لكم حكاية، أنا بطلها؛ غير أنّ أحداثها لم تقع لي البتّة. وأظهر ما يميّز هذا النوع من»التخيّل» العجيب، أنّ المتلفّظ شخصيّة تخييليّة لا تطابق بينها وبين المؤلّف، ولكنّ المؤلّف لا ينفكّ يقرّب بينها وبينه؛ ويعقد أواصر قرابة وتشابه معها. وربّما كان هناك تطابق في «الهويّة» مع المؤلّف، غير أنّ ما تعيشه الذات من أحداث وما تتّخذه من مواقف، بعيدان عن سيرة المؤلّف وما عاشه في الواقع المرجعيّ.
وهو يتقصّد أن يكون نصّه مشطورا بين ذاكرة متاهة أو هي فوضى، ورغبة في النظام تخفي رغبة في حصول معنى أو دلالة ابن كركوك أم ابن المهجر وكلّ مكان ينبت «النصّ» طيّب؟ وأيّ خيط ينتظم هذه المتاهة المعقودة على الانفعال أو الوجدان على قدر انعقادها على الإدراك، حيث المتلفّظ يتجلّى تدريجيّا بشكل حلزونيّ أو لولبيّ، وينجرف في تيّار الكلام ودوّاماته، ويتخبّط في خيوطه؟
نصّ مداره على الجمع بين شكلين متناقضين أو متدافعين بداهة: سرد مبنيّ مثل السيرة الذاتيّة على ذاتيّة الكاتب والسارد (أي الشخصيّة) والإيهام بالواقع، أو بعلاقة ما بين الفنّ والحياة؛ كما هو الشأن في العمل الروائي، حيث المؤلّف يقصّ حياته، وما يدور في خلده من أفكار، ومن عارض أوهام وطارئ بذواتٍ، أو ما تنطوي عليه من غريب الأطوار وعجيب الأسرار؛ ولكن بأساليب الرواية، وباستعمال أسماء محرّفة أحيانا، أو استخدام ضمير الغيبة أو أسلوب الالتفات من عدول من التكلّم إلى الغيبة أو الخطاب أو العكس. وفيها يلتبس «أنا» السارد بـ»أنا» الشخصيّة بـ»أنا الكاتب، وهو ينسى ما يريد أن ينسى، ويتذكّر ما يريد أن يتذكّر. ولا مسوّغ لذلك سوى أنّ العالم التبس وأشكل على صاحب المعرفة المنظّمة بفعل احتجابه ضمن الاستعارة والمجاز وشتّى ضروب البيان. ومهما يكن فليس ثمّة خطاب بما في ذلك الخطاب العلمي الدقيق، لا يناط بعهدته تخييل فكرة أو صورة، أو لا يستأثر به توضيب استعارة أو مجاز، أو لا يستهويه التقاط كناية أو تشبيه، إلى الحدّ الذي يتعطّل فيه استجلاء الحقيقة أو الهويّة في «صفائها» أو «نقائها» المفترضين؛ لأنّ الحقيقة نشأت بطبيعتها على أنّها حشد من الاستعارات والكنايات وضروب تشبيه الأشياء بالإنسان.
ومثل هذا النمط من الكتابة الهجينة بالمعنى الإيجابي للكلمة وأقصد «القويّ» قد يكون أقرب إلى الأداء الكنائي أو «القناع» إذا شئنا، لا يمكن إلاّ أن يتّسم بحضور المتكلّم والمخاطب والمعنى في آن، ولكن في سياق أمسّ بالكتابيّ النثريّ؛ حيث الكتابة نفسها ضرب من تغريب المألوف أو ما يعتقد أنّه الطبيعيّ في حال المنطوق. فلا ارتجال ولا بداهة ولا إرسال على سجيّة في هذا النصّ القويّ ـ وهذا نعت أفضل في تقديري من «جميل» ـ وإنّما « كتابة» محكومة بضوابط العقل والحدْس معا، وإعادة تسمية الأشياء، «تعميدها» تعميدا لغويّا ثانيا؛ تقطع دابر الكلمة، أو تخلـّص الأشياء من أسْر الاسم، لتشرعه على الخيال والواقع معا حيث وجه ذا قفا ذاك، وقفا ذاك وجهه. وليس بالمستغرب عنده، أن تتراسل الأشياء والموضوعات على نحو غير مألوف، وأن يحفّها الألغاز والغرابة في كلّ مسالكها، ولكن دون أن يسوق ذلك إلى القول بأنّ تراسلها ثمرة مصادفة أو اعتباطيّة. إنّما هناك تنافر منطقيّ قاعدته إضاءة تماثلات قائمة في نظام النصّ نفسه، مثلما هي قائمة في نظام «الجنس» الذي ينضوي إليه؛ إذا كان لابدّ من التصنيف. والصورة ترتبط بتمثيليّة اللّغة ومدى قدرتها على تمثّل جملة من الأفكار والمفاهيم أو المعاني والدلالات. وتاريخ الصّورة ومفاهيمها، إنّما يعلّمنا، قبل كلّ شيء أنّ خبرة الشاعر عن العالم هي مثل خبر أيّ منّا، غير مباشرة، فما بين الشيء والذات المتعالقين، تنهض اللغة بصفتها موجّها للدّلالة.
ولا أحبّ أن أقول إنّه الجنون، مع أنّه قد يكون شكلا آخر من أشكال الوجود، وإنّما الصخب صخب الحياة وهي تغلي في تجربة هذا العراقيّ الفذّ.
تجربة شعريّة أو روائيّة، لا تنفصل عن تجربة الحياة، وما نعدّه شعرا، إنّما هو تحويل شكل لغويّ إلى شكل من أشكال الحياة، وتحويل شكل من أشكال الحياة إلى شكل لغوي، كما يقول هنري ميشونيك عن حقّ. ماذا تعني كلمة شعر؟ أقدّر أنّ ذلك يجري بمنأى عن كلّ التعريفات الثقافيّة والشكليّة التي تقوم على الخلط بين الشعر وأبيات الشعر: إنّ مردّ البيت إلى الوزن، فهو تقنين شكليّ. وليس ثمّة أكثر سوءا من الخلط بين الأبيات والشعر. لقد كان فيكتور هيجو يعرف هذا، وهو القائل: «لا أحبّ بيت الشعر، إنّما أحبّ الشعر»، وقبله قال ذلك أرسطو أيضا. ما أسمّيه قصيدا هو شيء ما يغيّر الحياة ويغيّر اللغة في آن، انطلاقا ممّا أعيشه. وأقدّر أنّ هذه مزيّة هذا النصّ الاستثنائي.
كلّ نصّ في مدوّنة العزّاوي هو قصيد، وكلّ قصيد هو شكل حياة يغيّر اللغة، وشكل لغويّ يغيّر شكلا من أشكال الحياة. والنصوص السرديّة العظيمة، هي عظيمة لأنّها تحمل قصيدا في مطاويها. والآثار الفلسفيّة العظيمة يجري فيها القصيد هي أيضا. وقس على ذلك نصوص نصنّفها دينيّة وهي شعريّة، وكان الباقلاّني عالم الإعجاز يقول عن القرآن إنّه شعر لا بمعنى القصيدة وإنّما بمعنى الصنعة اللطيفة في نظم الكلام.
في مدونة العزاوي يلتبس التاريخ بالواقع والسيرة والرحلة أو السفر. والسرد أو القـَصَص مهما يكنْ نصيبه من الواقع، أو من الإيهام به، لا يعدو كونه تخيّلا أو افتراضا؛ لكن كلّ ما فيه واقع أو حقيقة، ما عدا القصّ. بل هو طريقة في ابتعاث المستقبل وتصويره في صورة الذي يحدث في الحال، أو كأنه يحدث الآن في زمن التكلم كما في «آخر الملائكة».
وثمّة سؤال لا يمكن تلافيه في أيّ نصّ من نصوص العزّاوي، وهو: أعلينا دائما إجراء هذا التمييز بين المؤلّف والسارد، خاصّة كلّما كان السارد هو الكاتب نفسه مثلما هو شخصيّة في القصّة التي يرويها مثلما هو القارئ أيضا؟ وما إلى ذلك من أسئلة؛ فكيف نحدّ العلاقات ونرسم الحدود بين «الداخل» في العالم المحكي و»الخارج»؟ أو كيف نضبط الزمنيّة، ونحن نقيس الفارق الكبير تقريبا بين زمن الفعل السردي وزمن القصّ؟
ثمّة في كلّ نصّ عنده ما يغري القارئ بإدماج الصوت السارد بمؤلّف النص، خاصّة كلّما توسّطت أنا السارد بين القارئ والقصّة.
فحضور ضمير المتكلّم في نظام النص، سواء أداره المؤلف بصيغة «أنا» أو على مقتضى أسلوب «الالتفات» من انصراف المتكلّم عن الإخبار إلى المخاطبة، وعن المخاطبة إلى الإخبار؛ إنّما هو من مقوّمات قراءة الألفة، إذ يمكن أن يدلّ حدسا أو ظنّا على تجربة عند القارئ هي تجربة «التقبّل الذّاتي» أو إدراك الذات وتعرّفها.
وهي ليست متجانسة عند جميع القرّاء، ولكنّهم يتقاسمونها بنسبة أو بأخرى، و»أنا» هي بمثابة واصل أو رابط بين القارئ والنصّ. والقرّاء جميعهم يتوفّرون على هذه الملـَكة في إسناد الكلام إلى النّفس، والرّجوع إلى الذّاكرة من حيث هي قوّة نفسيّة تحفظ الأشياء وتستحضرها. وواسطتهم في ذلك ضمير التكلّم في النصّ، إذ يحيلهم إلى تجربة جسديّة ونفسيّة لهم علم بها وخبرة، أو هم يدركونها بالاختبار لا بالنّظر. وما نلاحظه في استعمال الضّمير «أنا « أنّ المرجع هو سريرة المتكلّم الخاصة أو دخيلته، وما قد يكون صدى أوهام أو بذواتٍ عارضة أو طارئة.
ولعلّ في هذا ما يسوق إلى القول إنّ إدراك القول، أو الملفوظ يفترض اختزال «الفرديّة» لكي يتيح فهم الأمور المتعلّقة باستعمال «أنا» في هذا النّمط من تجربة الكتابة ـ القراءة القائمة على ما أحبّ أن أسمّيه «إيلاف النص» والأنس به. ومثل هذا الضمير يضعنا إزاء متلفّظ أو قارئ يمكن القول إنّه مفرد بصيغة الجمع ذلك أنّ «الأنا» التي تستوقفنا في النصّ ليست إلاّ الواصل الذي يمكن أن يكون «نحن»، أي هذه المجموعة غير المحدّدة التي تتّسع للمتكلّم أيّا كان؛ بما يسوق إلى القول إنّ القارئ متضمّن في «أنا» مثلما هو متضمّن في «نحن» أيضا. إنّ «أنا» أشبه باسم لغير علم، يعقد صلة حميمة أشبه بوشيجة القربى، بين المتكلّم وكلامه؛ صلة أساسها علاقة تماثل. وهذا الضمير «أنا» الدالّ على المتلفظ في علاقة وجوديّة بالتـلفظ. وهو على الرغم من ذيـوعه وشيوعه «شديد الغرابة» وليس بالميسور محاصرته، لتعقّده وعدم ثباته.
وهذا ممّا يتيح له أن يحصر السلطة في شخصه من جهة، وأن يجعل الذهن يتركّز في الشخصيّات الرئيسة، من جهة أخرى أي تلك التي يبسط عليها هذا السارد سلطته اللغويّة، أو هي تدور في فلكه.
ومثل هذه القدرة لا تمتح أمشاجها وعناصرها من ملكة غير انسانيّة وإنّما من ذاكرة قويّة تتيح لأيّ سارد أو متلفّظ أن يندسّ في سريرة الشخصيّة، ليجلوها في مجلى الظاهر أو الواقع. فلعلّه «دور» يختلقه العزّاوي أو هو يتبنّاه، على بضرورة التمييز بين الكاتب من حيث هو «أنا اجتماعيّة» والكاتب من حيث هو «أنا إبداعيّة».
بَيْدَ أنّ هذا لا يسوق إلى القول بـ»أدبيّة» خالصة في السيرة الروائيّة؛ فخلف كلّ نظام أدبي يختفي نظام ثقافي، والأدبيّة نفسها كثيرا ما تتحدّد من خلال «اللا أدبيّة». والنصّ إنّما يمتح من تلك المصادر الثلاثة: المؤلّف صاحب السيرة أو الترجمة والمؤلّف ـ الكاتب، والسارد.
وهذه كلّها تؤول إلى «خطّة» أو «سياسة» أو ما يسمّيه المعاصرون «استراتيجيا الكتابة» أي «سياسة الكتابة»، وإلى مقصد هو مقصد المؤلّف، أي ما يُصطلح عليه بـ»المؤلف المتوهّم» أو «المتضمّن» أو «صورة المؤلّف النصيّة». ولكن ما يميّزه في هذا النوع من الكتابة الاستثنائيّة، أنّ مقصده يلتبس بأفكار المؤلّف «البيوغرافي» وحالاته، بل هو أدب شي بصاحبه، حتى وهو يتستّر خلف بعض شخصيّاته؛ ودليلنا على ذلك هذه اللغة «العاشقة» التي لا يتحرّر صاحب النصّ من سطوتها، بل نحن نحار في غير موضع من هذه النصوص: فمن هو المتلفظ فيها؟ بل أنحن إزاء متلفظ واحد أم متلفظين؟
الحق أنّ الصوت في نصّ العزّاوي، ليس بالذي نسمعه دائما، بل ربّما نحن نستمع إليه مخالسة؛ وكأنّنا نسترق السمع، فهو متكتّم صامت وكأنّه يطوي سرّا، أو كأنّ شأنه شأن الحرف الذي لا يلفظ، أو هو صوت أخرس. ومهما يكن من أمره فهو لا يتلاشى تماما، بل هو صوت يرتدّ على هيئة صدى؛ أشبه ما يكون بحرف اللين أو المدّ الذي يـُمدّ به الصوت. والصدى لا يُرجع سوى هذه الأصوات.
والكاتب في تقديري «لقيط» أو لا يكون أو هو «أبتر» مجتمعه على نحو ما كان رمبو أو فإنسان وهما الرفيقان اللذان لم يلتقيا، ومع ذلك جمعهما مصير واحد. كانا حفيديْ بروميثيوس المأساويّين: ماتا أبتريْن، فإنسان «الأصلم» الذي يقول إنّ مزاجه « كالماء المِلْحِ ممزوجًا بالصابون الأخضر» وقطع أذنه، ورمبو «الأبتر» الذي ضرب مثله السائر «أنا الآخر»، وقُطعتْ ساقه: « كانا أبتريْ مجتمعهما كما قرأت (أيختلف مجتمعنا عن مجتمعهما؟)، رحلا في السنّ نفسها؛ باكرا جدّا وقد استنفدا قوّة الألوان وبأس الكلمات. ومع ذلك فأنا أفضّل كلمة «لقيط»، فالشاعر هو قصيدته نفسها، والرسام هو اللوحة عينها. أعني الذي لا نسب له، لا أب له ولا أمّ من ثقافته. أعني «الحرّ الذي لا ولاء عليه لأحد» بعبارة قدماء العرب. كذلك هو فاضل العزّاوي، هو ليس رمبو ولا فإنسان ولا غينسبرغ، ولعلّه أقرب إلى كافافي أوكافكا. ولكنّه يظلّ العزّاوي الذي لا يقرن بأحد، ولا يشبه إلاّ نفسه.
وأقدّر أنّ في هذا جانبا من قوّة نصّه حيث الكونيّة أفق وجوده، لا الهويّة الوطنيّة أو العالميّة التي هي استيطان مقنّع في أرض الآخر.