جبار ياسين *
مِثلَ فَراشةٍ فيِ المساءِ الأخيرِ على الأرضِ
تَهِفُّ أجنحتَها في رقصةٍ للوداعِ
قبلَ أنْ يهبطَ اللّيلُ
ويأتي العَدَم.
أقولُ لكُم أُمنياتي على عجلٍ
وأحكي لكُم تواريخَ حياتي
ليس تِباعاً
بلا مللٍ
بل بما يكفي كي نُحِبَّ بعضَنا
اليومَ أو بعدَ غدٍ
لكن قبلَ فواتِ الأوانِ:
أَحْبَبْتُ ما يكفي مِنْ نساءِ الأرضِ
لعشرينَ حياةٍ قادمةٍ
على كواكبَ أُخرى
أو خلفَ مرايا الحياةِ.
صادقتُ مُلوكًا مُنصفينَ
وكرهتُ أباطرةً خائفينَ
قاتلتُهم بجسدي وحروفِ الأبجديةِ
والصّبرِ حينَ تخونُ التّضاريسُ.
اِنتصروا وانتصرتُ
ذُقتُ طعمَ الهزيمةِ والتّأملِ حينَ الإنتصارِ
زرعتُ وروداً وصَداقاتٍ
في كُلِّ مكانٍ خَطوتُ عليهِ
نَبَتَتْ مِثلَ أشجارٍ باسقةٍ
لكنّي أيضا زرعتُ أشجاراً
موردةً في الرّبيعِ
ذابلةً أوراقُها في الخريفِ
تسقطُ كي تُطعمُ الأرضَ
أو تَصيرُ ملاذاً للهوامِ
ولستُ فخوراً أكثرَ مما ينبغي
فـكُلُّ الشّجرِ ينمو
ويكبرُ ويهرمُ
دونَ أنْ نمدَّ أيدينا لهُ
والشّجرُ لا يطلبُ إذناً ليكبرَ
الشّجر؟ آه
مِثلَ آلهةٍ لا تُريدُ غيرَ شمسٍ وماء
والبقيةُ معجزة
في المساءِ الأخيرِ أُعلِنُ حُبّي لإمرأةٍ
فالحياةُ ليستْ غير إعلانِ حُبٍّ
وقصيدةٍ
والحياةُ ليست سوى غفوةٍ
في يقظةِ كونٍ لا حدودَ لهُ
وليستْ حياتي أكثرَ مِنْ حياةِ
زَمَنٍ يمرُّ وأمكنةٍ تتهادى
وحُبٍّ لا حدودَ لهُ
لكُلِّ مَنْ أحببت
نساءً وقِططاً وعَصافيرَ مِنْ كُلِّ لونٍ
وأشجاراً باسقةً
وبراعمَ شهرِ آذار
وغيوماً ترسمُ أشكالاً في السّماءِ
أو دهشةً أمامَ ضحكةِ طفلٍ
أو مطوّقةٍ تهدلُ أعلى صنوبرةٍ
تُنادي حَبيباً على نخلةٍ
أو على غُضنِ سِدرةٍ ظَلّلَتْ آدمَ يوماً
تلمعُ أوراقُها كُلّ مَطلعِ شَمسٍ
وتنظرُ للخليجِ
* * *
أقولُ لها ما تُريدُ
حياتي
وأحرثُ مِنْ أرضِها ما أُحِبُّ
كي أرى نحلةً تَتَطايرُ مِنْ زهرةٍ
نحوَ أُخرى،
فكُلُّ ما يأملهُ المرءُ
ليسَ غير أنْ يكونَ حَجَراً
في مهبِّ الرّيحِ
أو مهبِّ شعورِ النّساءِ
وشم عطرِ نهدٍ في صرخةِ اللّذةِ القصوى
أقولُ بلا أسفٍ
عِشتُ حياتي كما ينبغي
كُنتُ اِمبراطوراً مِنَ الصّينِ
وفي روما قيصراً
في باريسَ مَلِكاً بقُبّعةٍ موشاةٍ بتبرِ إفريقيا
يشربُ خمرتَهُ
يُصلحُ أقفالاً وساعاتٍ
ويختارُ امرأةً للّيلِ
سيدةٌ أو عَزَبَةٌ
يختارُ لها اسماً مِنْ أجلِ ليلةٍ واحدةٍ
ويمنحُها مقاماً بقيةِ عُمرِها
في جزرِ الهادي كُنتُ قُرصاناً
يفضُّ بكارةَ خُلاسيةٍ
أجملُ مِن ضوءِ القمرِ في ليلةِ صحوٍ
على رملِ ساحلٍ مِنْ تبرٍ وماءِ وردٍ
وفي بغدادَ كُنتُ خليفةً
عاقرُ الخمرِ يصحبُهُ شاعراً ماجناً
وغانيةً تغنّي لهُ: حانةُ الأقدارِ
تقولُ لهُ: سألتُ عن الحُبِّ أهلَ الهوى
فيا نخلة على شاطئ دجلة
أُذكريني حينَ أصيرُ تُراباً
وغِريناً كي تَنبُتُ أعشابَ الخلودِ
كي لا تكونَ رحلةَ جلجامش،
مرةً ثانيةً، حسرةً وهباءً
كي تصرخَ عشتار لألفِ مرّةٍ
شهقة اللّذةِ
وتهدلُ، مثلَ حمامةٍ، نذرَها للحياةِ
وما بعدها
أنا اِبنها النّغل، هذهِ العشتار
أقدسُ سحري وسحرُ التي تُحبُّني
أُقبّلُ شفاهَ الآلهةِ
وأُولجُ بينَ شفرتينِ أقدسَ ما في الحياةِ
وأصرخُ مِثلَ ثورٍ سماوي ذبيح
أقولُ لنفسي: كُنْ فأكُن
وليسَ غير الحُبِّ مِنْ كينونةٍ
يا نساءَ الأرضِ اجتمعنَ حولي
عارياتٍ بأثداءٍ مِثلَ رمّانِ بلادي
أنا الطّفلُ الذي ما زالَ يحبو
ويحلمُ أنْ يصيرَ ماءً للفراتِ
أو محضَ جِذعِ نخلةٍ
تتبرّكُ حولَ سَعفاتِهِ نساءُ الأرضِ كُلّهُنَ
عارياتٍ بأثداءٍ بلونِ الحليبِ
وأفخاذٍ كمرمرِ روما
وشعرٍ يتموجُ في رقصِهنَ في ليالي باخوس
أقولُ لعذقِ النّخيلِ
كُنْ عِشقاً
محُمّلاً بالتّمرِ الجنّي
كي أقطفَ مِنكَ بقيةَ عُمري
تمراً وعِشقاً وبراءةَ مريم
وحينَ أسقطُ مِنكَ
على إيقاعِ جاذبيةِ العِشقِ
كأنّي سَقَطّتُ في لَجةِ ماءِ الحياةِ
حيثُ الملايينَ تنتظرُ الخروجَ إلى الدّنيا
لكنّي الوحيدُ مِنْ بورك وأطلقُ صرخةً للوجودِ
أُحِبُّ نساءَ الأرضِ
أُحِبُّ نهودَهنَّ
أُحِبُّ ما بينَ أفخاذِهنَّ
أُحِبُّ خصورَهنَّ
أُحِبُّ ظهورَهُنَّ
وأصابعَ أيديهنَّ جميعاً
أُحِبُّ شهقةَ العشقِ
لحظة تموتُ أُنثى بينَ يدي
لدقائقَ أو نِصفَ ساعةٍ أو بقية ليلٍ
وأنظرُ في قسماتِ وجوهِ النّساءِ
لحظة اللّذةِ القصوى
كأنَّ الحياةَ تبدأُ وتبدأُ مِنْ جديدٍ
ثمّ تبدأُ للمرّةِ الألف في ثانيةٍ واحدةٍ
وليست حياتي سوى شهقةِ لذّةٍ
أنسى بها مساكنَ أهلي
وأنسى أنّي ابنَ أُمّي
وأنسى أنّني ميّتٌ ذاتَ يومٍ سيأتي
تقولُ الفراشةُ لي
هذا يومٌ أخيرٌ
تمتّع بما طابَ لكَ
فالبقية حُلْمٌ ليسَ فيهِ يقظة
أنتَ ليسَ إلا قطرة في حُلمي الطّويلِ
مِثلَ الكونِ وقصة الخلقِ
أنتَ مِنْ محضِ خيالي
وأنتَ لستَ أكثر مِنْ ترابٍ وماءٍ
والتّرابُ معَ الماءِ يصيرُ صِلصالاً
فيهِ بذر الحياة، ثمّ تمضي مُحلِّقةً
في السّديمِ
أُفكّرُ في آخر لحظةٍ
إنّي لصلصال يُعيدُ رسمَ صورتِهِ
مرّةً شجرةً
ومرّةً حجراً
يقولُ لنفسِهِ: ما أطيبَ
العيشَ لأنّي حجرٌ .