النهر هي القصيدة التي لا تغادرللشاعر فرج بيرقدار هي أصوات تستدرجك إليها وتبعدك ، وأنا أقرأها تذكرت مقولة لعازف الفيولين مينوهين:» الإنسان الاعتيادي يلقي على الأرض ظلا…الإنسان المبدع يلقي على الأرض ضوءا»…
صوتُ الأنهار والشلالات عادة مثيرة للمتعة، هنا في نهر بيرقدار نجد الصوت محرّضا على السؤال…السؤال الذي يشكل الجذر المعرفي في الفلسفة… يحضر بقوة …تحضر معه أنا الشاعر بصورها المتعددة، حديث لا ينقطع صوت داخل صوت، الأغلال، الأيادي الملوحة، الحركة، تبادل الأدوار مع النهر،
أنسنة النهر بحيث يفسح أمامنا سيل من الأسئلة المشغولة ببعد مسرحي يغلب عليها التراجيديا، فالشعر هنا حوار مع الذات سفر في الامكنة مونولوج داخلي، مغادرة الزنزانة نحو الأفق، الارتطام بالجدران ثانية، إلى جانب حضور ثنائية الحياة والموت.
«بلغ السؤالُ سؤالَهُ الأقصى
و أدركني
فما معنى الجوابْ؟!
الزمن مسحوب:
هنا أستحضر نهر هيرقليطس في إشارة للجدل و تجدد الزمن» لا تستطيع أن تستحم بمياه النهر الواحد مرتين»، عند بيرقدار الذي كتب القصيدة في سجنه، حيث الزمن مسحوب والمكان غائب، يستنجد بالخيال بالشعر بالقصيدة بالحوار، والذي ينتهي بالتوحد بينهما بحيث يصبح أحدهما الآخر
«قالني النهرُ
أم قلتُهُ
ليتني كنت أدري» هنا نتلمس الإيقاع الموسيقي داخل اللغة، من خلال التعامل مع الكيان الصوتي ..وهو ما يجعلنا نستعيد علاقة الشعر بالموسيقى في شخص أورفيوس
كان أورفيوس وليدا نصف سماوي من أبولو، له وجدان ومشاعر الكائن الإنساني
أورفيوس اقتحم عالم الموتى ليجد حبيبته التي قتلت بلدغة أفعى
عند بيرقدار يمضي من زنزانته التي تشبه عالم الرخويات إلى الحياة، يشعل الخيال ….يستحضر الزمن
زمن مضى، وزمن قادم
وهو ابن ثقافة الأنهار ..العاصي وبردى ونهره الفكري الخاص،ما يجعلنا نمسك بصورة من صور وحدة الأنا بالآخر، كسر لحالة العجزللتحليق في القصيدة إنها حركة شعرية بالمعنى الأورفي استعادة الزمن
ولأن الشعر صوت الإنسان، فإنه صوت الحرية، لهذا وصف الشاعر بالمسافر الأبدي، سواء كان هذا السفر ماديا أو معنويا، السفر هنا داخل النص، النص الذي يعكس بشكل أو بآخر الخلل في علاقة الشاعر مع العالم، الشعر كمحطة من محطات الوقوف على أرض المستحيل.
فالقصيدة عند بيرقدار تنطلق في حوارها مع العالم، النهر الأب الأم وكأنها رحلة، من هنا قد يكون سارتر محقا حين كتب في القديس جينيه:» العبقرية ليست موهبة، إنها الطريق التي يبتدعها المرء في حالات اليأس»..
أو ما قاله لورنس فيرلنغتي عندما عرّف الشعر:» الشعر كناري حقيقي في منجم الفحم ونحن نعرف متى تغرّد الطيور الحبيسة»من هذا المعنى يرسم فرج بيرقدار، برؤاه الاستشرافية زمانا وأمكنة، مستحضرا إلى مسرحه أصواتا، ما يدفعنا للتساؤل:
هل هي مونولوج عاشق في لحظات الانتحار، هل هو حلم الشاعر و قد أفاق ذات صباح أمام حلم غارق بالموت والدم فتنهنه بالبكاء ، هل هي رحلة الكشف عن تجربة ومرحلة عاشها بكل تفاصيلها واستقصى آفاقها؟
الشعر في النهر فيه صفة درامية معينة، فالشاعر مشغول دائما بصراع ، وكأنه يغني في لحظات الخراب، فالصور نشيطة منتشرة في جسد الشعر تملؤها ميثولوجيا أغنى و أصلب مشغولة بحس درامي لواقع رمادي .
افتتحه الشاعر بعبارة «قالني النهر، أم قلتُهُ.. ليتني كنت أدري»
يستعيد صورة الأم وصوتها، صورة الأب وصوته في حواريات وجدانية عالية مشغولة بالسؤال …يؤنسن النهر ويتبادل معه الأدوار، يفضح مسميات الأشياء
«لماذا لا يجيب النهر يا أبتي؟
القصيدة سيرة غير عادية لرجل غير عادي …سيرة أبطالها النهر…وهل غيره العاصي..ولأن السجن مكان ينتمي للعالم السفلي المغلق بين جدران أشبه بجدران القبر، فإن بيرقدار هذا المسافر الأبدي أستطاع أن يأتي بنهره كزمان مفتوح
وهو الذي قال عن المعتقل بأنه :» مكان مضاد، شهيق من الجمر وزفير من الرماد، وهو من جهة أخرى، زمن حجري عاطل ودنِس وغير أخلاقي، زمن تؤرخه في الأيام الأولى على الجدران، وفي الشهور اللاحقة على الذاكرة»
هكذا يركب قطاره ويمضي نحو النهر،نهر الطفولة، وهو يلوّح بيديه للحرية، هذه الفلسفة التي حملها النهر كي توازي الحياة وإلا مركب الموت أحسن.
المرأة تحضر على شكل أم وحبيبات منتظرات وكأن الشعر يفتح شرفاته على الفردوس المفقود، نكاد نتلمس الأم كواقع، أما الحبيبات فيحضرن بشكل هلامي بعيدا عن أي مسنمّى.
«واهِ يا نخلة البال
يا مُرّ قهوتنا
يا صباح الصبايا اللواتي انتظرن
على ساحل اليأس
عودتنا
مَن سيقطف هذا الهديل
عن الشرفات
ويرسله معها
إذ تسافر كلّ مساء
وتتركنا خلف قضبانها
نحسد الميتين على موتهم هكذا..
هكذا في العراء»…
وهنا أستعير مقولة لفرج يقول فيها إذا كان السجن ذكورة افتراسية قصوى، فالحرية أنوثة رحمانية قصوى».
النهر إشارة لتغير الزمان وملامح المكان:»من فتح الطريقَ إلى السماء
بكلِّ هذا اليأس؟»
أما الصوت فيشكل صفة حقيقية داخل القصيدة ، فنكاد نسمع صوت النهنهنة، النشيج وهو شدة البكاء الذي يترافق مع صوت الصمت
«نهنهتُ هذا الدمع ما يكفي
دماً
نهنهتُهُ..
وملأتُ صمت النهر أسماءً
بغير مسمَّياتْ.
حفرَ الصغارُ على جذوع الحور
أسماءً بغير مسمَّياتْ
فلمن سأوصي بي!
إذا اتسعت خطايْ؟
وتلهلهتْ سُبلي!
وكنت أنا الجهاتْ؟».
اجتهاد بتركيب الكلمات بالصوت الذي تحمله «تلهلهت»» وهوهت» «تنهنهت»حرف الهاء الذي يشير إلى الهمس والتعب يستخدمه بطريقة ساحرة
«وأني وهوهتْ روحي
إلى أن لم تعدْ أرضٌ تطيق
ولا سماء»ْ.
النهر رحلة نحو الطفولة، لهذا يستحضر فرج صورته طفلا في المدرسة، يضبطه المعلم نائماً في الصف يخجلُ ثم يشهقُ ثم يبكي
«هل يقول لهُ:
سهرتُ
لكي أرى إن كان حقاً
لا ينام الله».
فعل الكتابة ونبوءة الأم، فهل يكتب على رماح مسننة، متذكراأمه تلك الرائية العظيمة: ….
«ركَزْتُ روحي
فوق رمحٍ
علَّقتْ أمي عليه لواء وَحدتها\ ستكتب أجملَ الخطوات يا ولدي
وتخطو أبعدَ الكلماتْ
ثم يتخيل حاله لو فقد أمه وهو داخل سجنه:
«لا تميلي باتجاه الصمت يا أماه
يكفيني جناحٌ واحدٌ كي لا أطيرْ».
وما بين النهر والشاعر والأب..تنفرد الأسئلة والبوح…يحكي الشاعر مع النهر وكأنه الشاهد والشهيد..يكرر الأسئلة بإلحاح طفل»
«من فتحَ الطريقَ إلى السماء
بكل هذا اليأس؟!
من جعلَ القتيلَ عقابَ قاتلهِ؟
لماذا لا يجيب النهر يا أبتي!
لماذا لا يجيبْ؟
النهرُ غيرُ النهرِ يا ولدي..
يقول أبي
وينهرُ دمعةً في الحلق تفضحُه»..
إنها رؤيا الشاعر، رؤيا حمص العاصي، ليل الحكاية،..هذا الليل الطويل الذي يشهق ثم يشهق ….كدلالة على ثقل الحالة
«تنشطر المآذن عن مساجدها
وتشطرني..
نساءٌ ينتهبن الروح!!
يالعيونهنَّ!
أما يراها الله؟
وكإشارة للانكسار يلجأ إلى التصوير» وقامتي قوسٌ وقنطرة
وجرحٌ فاغرٌ غدُهُ
وفضَّاح هواه».
القصيدة مبنية على الصوت، النهر هنا زمن النهر مدن النهر ظل وصدى النهر هو العمق الوجداني للشاعر…يعاتبه الشاعر» كأنك يا نهر لست تراني»
النهر دليل..صوت زمن قادم..زمن ماض شاهد وفي السياق تأتي رؤيا الشاعر التي تحمل نبوءة لما يجري اليوم من مسرح دم
الاتكاء على الذاكرة الشعبية للمرأة ونساء الغجر من أجل قراءة الغيب قراءة فنجان قهوة الأم و وودع الغجر « مافي يديّ ودعٌ لأضرب ما وراء الغيب»
التساؤل المفتوح على تأكيد الأنا»ماذا أخبئ في ثيابي بعد يا أماه
شقتني القصيدةُ
فاشتعلتُ لها»
أما الذكريات فكأنها وقود للأيام « إذن خبر ما تبقى منك للذكرى فإن المرء ينسى».
تصوير الرحيل نحو الغد واستعادة صورة الظعائن»ياسائق الأظعان
لو سألوا
قلْ: إنها السبل غدنا على مرمى ضحاياهُ»
بناء حقيقي بناء هندسي بناء شعري للنص للتراجيديا للحوارِ
ستون صفحة، ضمها كتاب الشاعر فرج بيرقدار، «النهر»، والتي تخللها لوحات الفنان سعد عباس
أشير إلى أن تجربة فرج بيرقدار تعود إلى سبيعينات القرن الماضي، حيث أخذت التجارب الشعرية حيزا من التعبير، وصورة للتاريخ المغيب، وقد برزت أصوات مختلفة منها فرج بيرقدار وحسان عزت ، وقبلهما نزيه أبو عفش، ثم سليم بركات، ومنذر مصري، عبد القادر الحصني محمد عفيف الحسيني واصوات أخرى ظهرت في الساحة الشعرية السورية، معبرة عن البعد الزماني المكاني بموقف رؤيوي للذات في موقفها من الحرية والوجود، واصطدامها مع الواقع.
أيُّهذا الزيزفونْ..»
كن سياجاً
لغد يأتي على ستِّ رياحٍ
تَردحُ الأرضَ عويلاً
ثم تطويها عواءً جارحاً
ستِّ رياحٍ..
قصفها يهزف حتى الغيب»
يا ليت يا أماه تأخذني يداكِ
إلى الطفولة مرَّةً أخرى
إذن لعرفتُ
كيف أعيد ترتيب المواعيد الأهمِّ
على مفكِّرة انتحاري»
ورأيتُ أني ذاهبٌ أبداً
ولي ظلٌّ كمجرى النهر
يتبعني..
من النبع البعيد
إلى المصبِّ
فلا يؤوب
ولا تدقُّ الأمهاتُ سوى الغياب
ألم تزل أمي
تواصل بالصلاة حصارَ خالقها!
وتلهج بانتظاري؟
ليس لي..
وتقودني رؤياي نحو غدٍ
حرائقه تشقُّ جيوبَها
ما بين معرفتي وجهلي
فاتن حمودي