بين الربط والفتح قضية وصراع ضحاياه في الدرجة الأولى نسوة وبنسبة ضعيفة وهامشية رجال! وبين الربط والفتح موت! لذا أود أن أنقلكم سادتي إلى عالم آخر عالم يشبه الموت إن لم يكن الموت نفسه. إنه عالم الربط والتصفيد. في حدود قراءاتي المتواضعة يبدو لي أن فضيلة أول من تعرض لهذه القضية في عالم الإبداع قضية التصفيد، «ما أبشع أن تكون الواحدة منا عروسا».(1)
لذا حري بي أن أتساءل عن تاء الخجل هل هي مربوطة أم مفتوحة؟
في أصل تكونها ونشأتها وفي الفترة تأبى أن تكون إلا مفتوحة إذ كل التاءات الدالة على التأنيث والواردة في القران جاءت مفتوحة إلا تاء (الصلوة/الصلات).
أما تاء الخجل فيبدو لي أنها في حيرة من أمرها لأنها عرضة للوأد من حين لآخر، ولذا فهي تعيش حالة اضطراب واللااستقرار بين الربط والفتح، بين من شئن ان تكون مربوطة ومن شاءوا أن تكون مفتوحة. فيؤول بها الأمر إلى الموت غدرا أو اغتصابا أو انتحارا، وفي البدء كان الوأد.[
إن تاء الخجل إن كانت مفتوحة كما يوحي العنوان باعتباره مفتاح الولوج إلى عالم النص، فإن المتن يوحي بأنها مربوطة، ولا تفتح إلا بحل سحري، وسبب ربطها؛ الخوف من العار، والاغتصاب، والعهر، وفي ذات الوقت هذا الربط يحمل ثنائية: خفية /ظاهرة ومتناقضة، وثنائية الموت والحياة، فالربط والتصفيد يحمي البنت من الحل والفتح من الشاب غير المناسب وغير الزوج الشرعي، وحتى الزوج لا يقوم بالفتح إلا بعد أن يبطل مفعول السحر فأول الفتح يأتي من قبل من قامت بالسد والغلق ثم يأتي دوره.
والتناقض يتمثل في تشجيع البنت – اللا مقصود- على المعاشرة البرانية مع من تحب لأنها تعلم/إن علمت[[ أن الولوج يستحيل مادامت مصفدة وكل الحسابات مبنية على الولوج فتنحرف البنت وتصبح لعوبة، وهذا الأمر لا يحسب له من قبل الأهل وبالأحرى الأم، إضافة إلى بعض العواقب الثانوية التي تجعل البنت ربما تعيش في قلق أكثر مما تعيش في راحة.
في الربط والتصفيد تكمن الحياة والموت، فهي حية كجسد وانفعال لكن جزءا من هذا الجسد ميت مصفد لأنها لا تملك حريته متحكم فيه في غالب الأمر من شخصية منسية أو مجهولة وإن كانت معروفة فهي عرضة للقضاء والقدر، أما إن كانت البنت لا تعلم فإن أوضاعها عرضة للتأزم يوم زفافها ويوم دخلتها، وإن كانت تعلم بحالها فقد تتشجع على تحدي الرجال ويصبح الأمر لها لعبة وتصير علامة دالة بين الذكور، وما كان شبحا مخيفا بالنسبة للأهل يصير واقعا.
هذا هو الخوف الذي أرق الروائية وجعلها ترفض مثل هذه التقاليد التي تقيد كل شيء لا يسلم منها لا المرأة ولا الرجل ولا يعني ذلك دعوة منها لإثارة الفتنة أو نشر الرذيلة إنما الصورة الملعونة التي تتهيأ لها النساء بقلوب واجفة مرتجفة مترقبة، ثوب العروس وفحولة الذكورة، وإعلان النحر الموفق، وإلا كانت الكارثة بين الأسرتين أسرة العريس وأسرة العروسة لذا تقول الكاتبة «ما أبشع أن تكون الواحدة منا عروسا». هذا هو الموت الأولي، والموت الحقيقي لكلا الطرفين وهلا ترك الناس على فطرتهم بلا سحر ولا شعوذة. إنه التعدي الأول والانتهاك الحقيقي لجسد الأنثى والتعدي الثاني على كرامة الرجل الذي وبلا شك سيصير محل الشبهة بين أقرانه لأن فحولته انحنت أمام الأنوثة، وأن الأنوثة تحولت إلى جدار أنهك قواها العقلية والجسدية (الضمير يعود على الأنوثة). أي ثقافة هذه التي تئد الأجساد وهم أحياء، هذا هو الموت الأول الذي يمارس بين التاء المربوطة والتاء المفتوحة لا لسبب سوى تاء الخجل أن تكون أنثى، موت وقتل يمارسه الأهل ضد أبنائهم، وهو نوع من الإرهاب الخفي قبل أن يقوم الإرهاب الحقيقي بممارساته.
إن فضيلة كمبدعة تحمل رسالة حضارية مشفرة تبثها من خلال نصوصها تستنفر فيها القوم، وترد صورا شتى لجسد الأنوثة وما يفعل به وقد تقوم هي بممارسة فعل الموت على بعض أبطالها وتستثني من تحب وذالك من أجل لفت انتباه أفراد المجتمع إلى ما يحيط بهذا الجسد المنهوك الذي ترعبه ليلة الفرح.
إن الربط والتصفيد هو نوع من الاغتصاب الخفي الذي يعد موتا مؤقتا أو خفيا، موت بشع لأنه يأتي من ثنائية الاغتصاب والتصفيد الذي لم يهتم به المجتمع ليشرع له قوانين رادعة تحمي الجسد المنهوك، وبشع لأنه يحمل ثنائية ضدية حائط الأنوثة وانحناء الذكورة، والتهمة ثنائية تشكيك في عفة الأنوثة وفي فحولة الذكورة التي لم تستطع إنجاز الفتح. تقول الراوية: تقترب سهام ابنة عم البطلة منها وتوشوش لها:
هل رأيت العروس، كانت مصفحة (ص26)
لم ترد عليها. تقول: كرهت نفسي وكرهت منظر النساء.(2)
إن الحديث عن المصفحات(3) وتخليده في صفحات الرواية، يعد قلقا حضاريا يثير الوجع! وسبقا سرديا وسمة حميدة تحسب لفضيلة الفاروق. لذا قمت باستبيان في شهر أبريل سنة2007 على عينة ضمت ستين طالبة كانت الإجابة من ثمان وخمسين وكانت النتائج كالآتي:
76.3 بالمائة لا يؤمن بالتصفيد
92.72 بالمائة لا يعانين من التصفيد
60 بالمائة لا ير ينه واقيا
94.54 يفضلن التربية الصالحة على التصفيد
29.09 منهن مصفدات ( النسبة مرتفعة في نظري كمثقف)
نسبة الخوف من عقدته بلغت 40 بالمائة
الملاحظة الإيجابية التي توقفنا عندها هي أن83.63 بالمائة يرفضن التصفيد مما يؤيد رأي الكاتبة «ما أبشع أن تكون الواحدة منا عروسا، وأن نسبة الخوف على البنت تكون لدى الأم باعتبارها هي التي تقوم بالتصفيد فاللائي صفدتهن أمهاتهن بلغن 37.5 بالمائة ثم العمة 15.50 بالمائة.
وأخير فإن نسبة 60 بالمائة من البنات لا يعلمن بأنهن مصفدات وهذا قد يثير قلقا لديهن وربما نستنتج أيضا أن الحوار بين الأم والبنت يكون محط السؤال مادامت هذه النسبة تجهل إن كانت مصفدة أو غير مصفدة، وهي نسبة تثير القلق بمعنى أن الموت يحيط بالجو الأسري وأن التواصل الذي يحيي النفوس ينعدم، لا أقول هذا الذي تقصده الكاتبة إنما هذا مدار الرعب بين التاء المربوطة والتاء المفتوحة.
تقوم الرواية بممارسة فعل القتل عن طريق الأب على أصغر أنثى مشروع بناء الأسرة «ريمة» الصغيرة التي اغتصبت من قبل رجل أحدب وقصير في الأربعين من عمره يقوم والدها برميها من أعلى جسر في البلاد العربية جسر»سيدي مْسيد» بقسنطينة.
هذه قسوة الأهل ضد المغتصبات ولو في سن مبكر، سن الصغريات. «يمينة» الكبرى رفضها أهلها ولم يعترفوا بها رغم علمهم بأنها خطفت وأمام أعينهم، ولما زارها أخوها الجندي وجدها قد ماتت. فالروائية مارست فعل القتل والموت على «يمينة» لحظات قصيرة قبل دخول أخيها الذي -ربما- سيعترف بها ويرفع من معنوياتها لأنه من الجيل الجديد لكن الكاتبة لم تمكنه من ذلك، لأنها تمارس فعل المجتمع وتعكس واقعه ومعتقداته وثقافته عبر صفحات الرواية.
ورغم ذالك ففضيلة الفاروق تبحث عن «هواء لا تملؤه رائحة الاغتصاب»(4) كما تقول، ولا روائح الموت، إذن لابد من «الرحيل» والرحيل في حد ذاته موت لأنه يعادل البقاء، والبقاء موت.
إن البقاء في الجزائر في التسعينيات من القرن الماضي يساوي الانتحار أو الموت ومن ثم فالبقاء بالنسبة للأنثى المبدعة كفضيلة أو أي صحفية أو كاتبة جريئة معناه الانتحار أو الموت ومن ثم تكون المعادلة كالآتي:
التصفيد = الموت
البقاء = الانتحار
البقاء = الاغتصاب
البقاء = الموت غدرا
الرحيل = ثنائية ضدية البقاء والموت.
إن الرحيل هو نوع من الموت لأن الحياة في بلاد الغير هي كالموت مهما توفرت سبل العيش الحضارية، فرائحة التراب والأهل والتوابل الروحية التي تنبثق من هنا وهناك ومن مختلف تضاريس هذا الوطن هي التي تنعش النفس وتدفع عنها الحزن ولو كانت الحياة شاقة.
الرحيل هو نوع من الموت الثاني، وهو نوع من الاحتجاج على ما هو سائد في الوطن في التسعينيات من القرن الماضي (1991 إلى 2007 لأن الموت بفعل الإرهاب لم ينته بعد).
في هذه المعادلة يغدو الرحيل وما فيه من الضجر والقلق النفسي والحسرة التي تصحب هذا الرحيل ألأفضل من البقاء المحاط بالثلاثي الملعون:
1 – الموت غدرا برصاصة طائشة، أو برصاصة تنطلق من مسدس جبان لأنه لا يقوى على المواجهة الند للند فكرا وبدنا.
2- الاغتصاب تحت سلطة «المحشوشة»(5) والسيف المسلط على الرقاب وما شابه ذلك.
3- الانتحار سببه في الرواية: السبي والاغتصاب عنوة، والفعل القبيح أمام الجمع متى رفضت الحرة الامتثال لرغبات الخاطفين.
وفضيلة تعالج في روايتها قضية الأنثى الجسد المنهوك لا من زاوية تسلط الذكور على الإناث، وإنما من زاوية امرأة تنتمي بجذورها العميقة في التاريخ إلى مجتمع كانت السيادة فيه للمرأة أيام «ديهيا».
فضيلة ككل الأوراسيات اللائي نشأن في الريف يعشن بعقلية «ديهيا» التي أختصرها في هذا المثل البليغ القائل» يما بابا ساكو يشور» أي ما معناه «ملء الخزينة أبي وأمي».
إن تمردها أو رفضها جاء نتيجة وراثية لا كنتيجة مكتسبة من التعليم المزدوج أو من المدينة، جاء من بيئتها الأوراسية الجبلية التي منحت للمرأة لا أقول هامشا واسعا من الحرية وإنما حرية تامة.
أنا لا أتحدث عن التحرر وإنما عن الحرية كان الرجل في الأوراس يقدس المرأة كما قدسها الإسلام ويحترمها وسن لذلك قوانين هي بمثابة العرف في القانون المدني الحالي، يمكن المرأة من ممارسة شؤونها بكل حرية دون أن يعترضها الرجل ولو بنظرة. أأكد لكم جازما أن هذه الحرية هي التي جعلت ظاهرة الطلاق وهو أبغض الحلال عند الله يكون سهلا في المناطق الأوراسية، وقد تطلق المرأة الرجل طبقا للمثل السابق الذي أوردته في معرض حديثي عن التمرد والحرية، لذا فهي تنظر إلى القمع الاجتماعي الواقع على المرأة من هذه الزاوية زاوية حفيدة «ديهيا»أولا وزاوية المرأة المتعلمة ثانيا.
ففي حواراتها التي قرأتها لا تتهجم على الدين أو تزدريه كما ينظر إليها بعض المثقفين والذين يدعون أنهم قرأوها، ففي مختلف خطاباتنها الإلكترونية التي ترسلها لي، كنت أجد فيها ولها دائما وجهة نظر صائبة تجاه الدين، وأن مسألة الدين ونظرته للمرأة زيفت من قبل أدعيائه. (لا ننس بأنها من أسرة متدينة أبا عن جد أسرة متعلمة كانت تمارس الطب وأغلب أفراد أسرتها دكاترة في العلوم الدقيقة).
هذا التدين الجديد هو الذي جاء بثقافة جديدة ثقافة سلطة الذكور على الإناث، لكن سلطة الأمومة الموروثة في العروق بقيت سائدة في المرأة الأوراسية وبقي ذلك الرفض ملازما لها في دمائها، ففضيلة لا ترفض قيم الإسلام وإنما ترفض القيم التي بالغوا فيها إلى أن وصلت درجة التحريف، المرأة لا تتكلم، لا تتعلم، لكي لا تعرف الكتابة وحتى لا تكون ساحرة، لا ترفع رأسها، تصفق عند سؤال سائل عن رب البيت حين يكون غائبا، ربما لأن الأذن تعشق قبل العين أحيانا.
إذن رفض فضيلة فيه من الأصالة ما يبني لا ما يهدم لأن فيه من الحشمة ما يدل على ذلك.
فضيلة في روايتها مارست كل شيء، مارست الحب، والقتل والرحيل، أي جنون هذا الذي تفعله هذه الروائية الصاعدة. كيف لعاشقة(6) كالراوية تعشق نصر الدين وتعمل جاهدة على إبعاده عن القتل وفي ذات الوقت تقتل أبطالها وتبكيهم وتجننهم وتتلذذ بجنونهم تلذذ الكتابة الإبداعية أو ترحلهم هذا ما تقوله في صفحة 87 «قتلت كل أبطالي تقريبا لم يبق غير نصر الدين أبعدته أكثر من مرة عن الموت اخترعت له ألف سبب للقائي ولكن بطلتي التي ارتديت قناعها لم تعد تفكر بالحب صارت تفكر بالرحيل.»وهذا القول جعلني أخلص إلى مصير الشخصيات في تاء الخجل والذي حددته بين التاء المربوطة والتاء المفتوحة وهو: «رزيقة» انتحرت، «يمينة» المغتصبة ماتت و«يمينة» الصغرى أخرصت بفعل أمر من والدتها» tais toi yamina «(بمعنى اصمتي) وسكتت إلى الأبد وهذا ما يجسد فعل القمع الممارس ضد الأنثى. أما «راوية» فجنت وهذا نوع من إسقاط الذات الفنية على شخوصها إذ لابد «لراوية» أن تجن ليكتمل فعل القص والإبداع وإلا فإن فضيلة الفاروق ستخسر فعل السرد إلى الأبد وينتهي فعل القص ولا نتمكن من قراءة «اكتشاف الهوة».
الهوامش
1- فضيلة الفاروق: تاء الخجل (رواية) دار الريس بيروت ص26
– المجتمعات العربية كانت تئد الأنثى خوفا من العار
في الغالب لا تعلم أنها مصفدة اللهم إذا صفدت وهي كبيرة في سن السادسة فما فوق
2 – تاء الخجل ص26
3 – المصفحات: نعني بهن البنات المصفدات. والتصفيد هو عملية سحرية تقوم بها الأم أو العمة أو أي امرأة تجاه البنت في سن مبكرة كأن تمررها على خيط سبع مرات وتقول للبنت أنا حيط يعني جدار وهو خيط والبنت تردد معها. أو توشم لها في فخذها أو تقوم بإحضار سبع حبات حمص وتعقد عليها عملية التصفيد وفي كل ذلك تردد البنت أنا حيط وهو خيط. وتصبح أنوثة البنت مستحيلة الخرق من أي كائن ما كان إلا إذا أزيل عنها التصفيد ولا يمكن إزالته إلا من قبل المرأة التي قامت بالتصفيد إثر ذلك يصبح المستحيل ممكن. ويتمكن الذكر من الولوج في الأنثى وتتم عملية الفتح وهذه العملية موجودة ومتداولة في مختلف المناطق ومجربة.
4 – نفسه ص37
5 – المحشوشة : بندقية صيد تقص قصبته لتصبح خفيفة وعملية
-ديهيا : هي اسم ملكة الأمازيغ التي أطلق عليها العرب أثناء الفتح الإسلامي اسم الكاهنة
– ساكوا: هو بمثابة كيس مزدوج كبير ينسج من الصوف والشعر توضع فيه الحبوب كالقمح له قدرة استيعاب تصل إلى القنطارين.
يشور: (بتشديد الشين وضمه )مملوء.
6 – العشق قمة الحب- يأتي بعد هذه المراتب: الغرام- الإفتان- الوله – الدهش- الفناء عن رؤية النفس.
فضيلة الفاروق بين التاء المربوطة
والتاء المفتوحة موت في تاء الخجل
عبد الرحمان تبرماسين
ناقد وأكاديمي من الجزائر