لوزان في: 11 يناير 1980
عزيزي فيلليني العظيم،
أي هدية أروع من رسالتك المؤرخة في 29 دجنبر الأخير، التي جابت جهات عدّة، قبل أن تصل لتستقرّ عندي، في نهاية المطاف؟! بالفعل، كنّا حوالي الثالث والعشرين من دجنبر الماضي، أنا وثيريزا، راغبين في رؤية منظر الثلوج، فاتجهنا رأسا (حتى قبل أن نكون مهيأين تماما لذلك)، صوب محطة فالمونت الشتويّة، حيث ما زالنا نقيم إلى غاية الواحد والعشرين من هذا الشهر. أما الثلوج، فأصبنا من منظرها ما يكفي وأكثر!
لقد كنتُ فعلاً في حاجة ماسة إلى ترتيب مجموعة من الأمور في ذهني، لأني قرّرت بعد أن انتهيت من الجزء الواحد والعشرين من إملاءاتي (ثمة سبع منها ستصدر عمّا قريب، بينما لن يصدر الجزء الواحد والعشرون إلا بعد مضي حوالي سنتين عن هذا التاريخ)، أن أغيّر فجأة من طبيعة الجنس الأدبي الذي أكتب فيه1. لذلك، نشأت عندي ـ بلا شك ـ الرغبة في رؤية الثلج، والحاجة الماسة إلى المشي في الطرقات الجبلية بين الطبيعة. ولذا بالذات، لم أحظ بمتعة الاستمتاع بصوتك عبر الهاتف يوم عيد ميلاد السيد المسيح، لأني لم أكن هناك البيت، ولا كان فيه أحد آخر، ما دام أن السكرتيرة كانت ـ مثل غيرها من السكرتيرات ـ في عطلة.
أشاطرك نفس مشاعر الارتياح، التي نجمت لديك عن إثر انتهائك من وضع نقطة النهاية للورش الملحمي، الذي جمعك بكلّ ذلك العدد الهائل من النساء، وإني لأدرك بأنّ الدّبلجة والمونتاج هما عمليتان أقلّ ـ ربّما ـ معاناة من التصوير، إلا أنّهما مع ذلك أقل إثارة للبهجة والارتياح. إنهما عمليتان صعبتان تتطلبان المزيد من الدقة والعناية، وهو الأمر الذي يشبه عندي عملية مراجعة الكتب قبل صدورها. فأنا لا أشعر بالتحرّر التّام من عملية التأليف، إلا بعد القيام بتلك العملية المضنية، وحسب.
لذلك إذن، أوصيك بالصبر والتحمّل. إذ أنك بعد حوالي شهرين من الآن تقريبا، ستكمل فيلمك الذي سيشق مساره إلى الجمهور، وسيستمر بمفرده في السير ضمن رحلته الوجودية الطويلة. ولكم أشتاق الى رؤيته، مثلما ظللت أشتاق في كل مرة الى مشاهدة أعمالك الفنية الجديدة كلها، مثلما أعرف بأن الأمور ستجري معه، بنفس الشكل الذي جرت عليه مع بقية الأفلام السابقة. ويبدو لي أن الأخير منها سيكون دائما أدعى كثيرا للدهشة والإعجاب.
أتمنى أن تعتني بالتسجيل الصوتي الأصلي للفيلم عناية خاصة، وأن تحتفظ به، لأنه وثيقة بالغة الأهمية بالنسبة لتاريخ السينما، حتى وإن لن يتسنى لأي كان أن يستمع إليه، ما عدا أهل الاختصاص بالذات. ولكم أتمنى أن نصل في يوم من الأيام الى أن نستمع إليه ضمن المكتبات السينمائية المتخصّصة.
أنت على مشارف الانتهاء من تحفة فنية كبيرة، بينما أنا أتهيأ للشروع في ما أرغب أن يكون عليه أهم مؤلفاتي. لذلك، حان دوري لكي أنخرط في دورة الانخطاف المحموم، والتساؤل القلق الذي يتصل بمدى قدرتي على النجاح فيما أصبو إليه، وإلا تعرضت للكبوة.
أفكر كثيرا فيك، وفي جولييتا. ويعيش كل منّا نفس القلق والحيرة، ونفس الحاجة التي تدفع بأحدنا الى الانغماس في عمل جديد. ولن أكون في حاجة شديدة لأقسم لك بأغلظ الإيمان، مؤكدا من خلال ذلك بأنك صرت تعيش ابتداء من الآن، على الأقل في دخيلة نفسك، مشاعر القلق التي يفرضها التفكير سلفا في مشاريع فنية جديدة.
على أية حال، سيوجد ثمة من الناس من يكون شهما وسديد الرأي، ليقتنع بأنّ حياة المبدع، إن لم تكن خاملة، فهي مثيرة ومبهجة.
لقد قرأت الحوار الذي أجراه معك جيرفازو Gervaso2، وفيه كنت سأكتشف، لو لم أفعل ذلك من قبل، بأنك تملك حسّ الفكاهة الذي أفتقده أنا، للأسف. إني فعلا أتصرف في أمور الحياة بجدية كبيرة، حتى ما لم يكن يستحق منها أن يؤخذ على ذلك النحو، لأنّ روح النكتة وخفة الظل تنقصاني.
شكرا لك مرة أخرى على رسالتك، وعلى الجهد الذي بذلته كي تتصل بي عبر الهاتف. سأنغمس في غمرة التأملات التي أجترّها منذ فترة، علّها تنتهي بي إلى تأليف كتاب كبير، ظللت أحلم به، وأتمناه. إنها المرة الأولى التي ينتابني فيها هذا الطموح، ويبدو لي أنّ هذا ـ ربّما ـ أمر متأخّر نسبيا، حين يصل المرء الى سنّ السابعة والسبعين.
لك مني المودّة الأخويّة كلها، يا عزيزي فيلليني، ولا تنس أن تقتسم مع جولييتا مشاعر محبتي ومحبة ثيريزا كذلك.
عجوزك الوفي
جورج سيمونون
روما في: 3 غشت 1980
صديقي الأعز،
لا يتعيّن عليك أن تجيب على هذه البطاقة البريدية. فأنا لا أريد أن أتسبّب لك في الازعاج، ولو لدقيقة واحدة. كلّ ما أرغب فيه وحسب، هو أن أبلّغك تهانئي الحارة (مقرونة بتهنئة ملايين القراء)، بمناسبة صدور كتابك الجديد.
هذا كل ما في الأمر.
لسوف نتحدث عن هذا في ما بعد، وبالضبط في أقرب مناسبة تجمع بيننا. وقبل ذلك، اسمح لي بأن أقبّلك قبلة أخوية حارة، وأنا أتمنى لك عطاء متألقا، وحظا سعيدا مع الكتابة والتأليف، يا صديقي الغالي سيمونون.
المخلص لك دائما
فريديريكو فيلليني
لوزان في: 13 غشت 1980
أخي وعزيزي الأغلى فيلليني،
اعتبر هذه الرسالة القصيرة وكأنها كتاب من سجين، لأني بحق سجين مشروع أدبي كنت قد بدأته أثناء مستهل السنة الجارية، وأتمنى أن أنهيه مع نهايتها. فأنا أحيا عمليا من غير اتصال ولا تواصل مع العالم الخارجي. ولم أشاهد حتى فيلمك ـ مثلما عشقت ذلك بجنون ـ مدينة النساء، إلا أني ما أن أضع نقطة النهاية لمشروعي، حتى أطلب من القائمين على القاعة السينمائية بلوزان، أن يقدّموه لي بمفردي، بكيفية لا تخلو بالطبع من الأنانية. إني لا أستطيع أن أواجه في الوقت الحاضر فعلا، ذلك الارتباك الكبير الذي تخلقه فيّ مشاهدة عمل من أعمالك الفنية.
أنت متعوّد على إنتاج لوحات فنية جذابة أقرب إلى الجداريات، بينما أنا فهذه هي المرة الأولى التي أحاول فيها التمرّس على ذلك، وما أحاول يوميا أن أنشأه، سيضم على مستوى الطول، مساحة خمس عشرة وراية من رواياتي.
ومع كل هذا، أبقى حاضرا معك ومع جولييتا، بقلبي وروحي.
جورج سيمونون
لوزان في: 24 نونبر 1980
عزيزي الغالي وصديقي العملاق فيلليني،
استطعت أخيرا، وقد مضت ثلاثة أيام على ذلك الآن، أن أشاهد مدينة النساء، بمجرد ما أن تمّ عرضه في قاعات لوزان السينمائية. وبعد العرض، خرجنا ـ ثيريزا وأنا ـ ذاهلين من القاعة عما حولنا، وكأنما أصبنا بدوار، وأخذنا نمشي قليلا على الأقدام من غير مبالاة بأي شيء، وكأننا سكرنا!
لن أحاول الكشف عما تحرّك في أعماقي من مشاعر، ولا حتى تحليل مضامين فيلمك، وإنما سأترك ذلك للنقاد الذين يجهدون أنفسهم، منذ أن وُجد ثمة نوابغ، كي يشرحوا أعمال هؤلاء، ويحللوها. أمَا توصل بعض الجامعيين إلى الحقيقة التي كشفت على أن رونوار Renoir لم يكن بمقدوره أن ينجز لوحاته المدهشة، إلا بفضل قصور عضوي سبّبه له مرض، ظلّ يُغشّي على بصره؟
إنك لم تصل أبدا إلى أبعد مما وصله أقرانك، ولم تعبّر كذلك عمّا عبّرت عنه بطريقة أقوى منهم، كما أنك لم تتقدّم عليهم أبدا إلى الأمام، مسافات ضوئية فارقة؛ ومع ذلك ظللت تتميّز عنهم. فلو طُلِب منّي ذات يوم، أن أعطي تعريفا يصف الإنسان العبقري، لقلتُ إنه كائن يشبه الآخرين، إلا أنه يتميّز عنهم بحساسية أقرب إلى كونها مخيفة، الى جانب ما يملكه من طاقة للتعبير الواضح عنها!
وإني لأتساءل كيف استطعت يا ترى، وطوال شهور متوالية، أن تتحمل وزر عمل فني من هذا الثقل على كتفيك ـ على سعتهما وصلابتهما! ـ رغم الصعوبات والمعيقات الكثيرة والمتنوعة التي واجهتك؟ إنّ في ذلك حقا لسرّا ملغزا بالنسبة إلي، هو ذلك السرّ الذي ينطوي عليه كافة المبدعين الكبار، الذين لم يقل عنهم الشرّاح سوى كلام خاطئ، سواء تعلق الأمر بجيّوتو Giotto، بروغيلس Breughels، رامبراندت Rembrandt، فان غوغ Van Gogh أو الكثير من غيرهم، ممن استطاع أن ينتهي نوعا ما بعمله، مثلما انتهيت أنتَ، الى «خرق سقف توقعنا».
لقد ظللت معجبا بك دائما، لكني أشعر هذه المرة بأن لفظة «الإعجاب» لا تعبر بقوة عما أشعر به حيالك. إلا أن غيرها مما من شأنه أن يسعفني بالكشف عما يجيش بداخلي حيالك، غير موجود للأسف!
وصفتك في بداية الرسالة بـ»الصديق العملاق». والآن، أشعر برغبة كبيرة في أن أضيف الى ذلك صفة «فيلليني المدهش»، الذي يضمن النزول على جمجمة الرأس بضربة كبيرة، ويعطينا جميعا درسا في الفنّ والحياة.
لك مني أحرّ مشاعر المودة والتقدير، أو بالأحرى ترجمان أشواق صاقة، تتقاسمه مع جولييتا.
المخلص الدائم
جورج سيمونون
على سبيل الإشارة:
توصلت أخيرا إلى وضع نقطة النهاية للعمل الأدبي، الذي بقيت مرتبطا به ما يقرب من عام، الآن. فهل سيتسنى لك ربما، الحلول بيننا بسريسرا في يوم من الأيام، لنلتقي؟
روما في: 3 دجنبر 1980
عزيزي سيمونون،
حظيت بمتعة حقيقيّة، وأنا أبذل بعض الجهد لفكّ شفرات خطّك، واستيعاب كتابك الأخير، وبما أن رسالتك قد بدت لي طويلة جدا، وبما أنّ كلّ كلمة فيها هي تعبير منك لي عن المودّة والمواساة، وترجمة صادقة لمشاعر التقدير لشخصي وعملي، فإنّي شعرت وأنا أحوّل تلك الكلمات من مظهرها العصي على الاستيعاب، بنفس المتعة التي قد يشعر بها المرء، وهو يبحث عن كنز مطمور تحت طبقات الأرض.
اعذرني أيها العزيز عن استعمال هذه الصّورة، التي قد تبدو لك مبتذلة ربّما، لكنّ مشاعر الامتنان والسّعادة الغامرة التي أعبّر عنها من خلال ذلك، تبقى صادقة وحقيقيّة. فأنت بالنسبة لي، يا صديقي الكبير، بحكم كونك قامة عملاقة حقّة، أو بالأحرى موهبة لا يجفّ لها معين، رافعةٌ كبرى يستريح لها من كان مثلي، يشعر في قراره دوما بأنه مقصّر ومذنب شيئا ما، وينجز كل شيء بكيفية سريّة تقريبا، وهو منفلت وهارب، بينما مشاعر الندم وتبكيت الضمير تلاحقه، وتجعله يلتمس الجميع بأن لا يأخذوا في حسبانهم ما تحقق هذه المرة، وإنما أن يرجؤوا الحكم عليه الى موعد لاحق، لأنه سوف ينجز حينئذ، ما هو أفضل.
فمن يدري لماذا أتهرب حقا، مما أنجزه على الدوام؟ هذا ليس معناه أني أتجاهله، ولكني لا أرغب في أن تربطني به رابطة. ثمّ إني قد توقفت منذ مدة طويلة عن محاولة فهم البواعث والأسباب، التي تكمن وراء ذلك السلوك. إن الأفضل دائما بالنسبة لي، هو الشروع في إعداد شيء جديد، عوض الاهتمام بمحاولة فهم بعض المواقف والتصرفات الغريبة، وطبيعة الشخصيّة الكامنة وراءها.
أنا أحدثك عن كل هذه الأشياء بشكل يبدو نسبيا صبيانيا، لأنه يُهيّأ لي بأنك تشبهني في أمور معينة، وإذا لم ينل منك هذا التعليل المرتبك قليلا الذي سقته، بعض الموافقة والإقرار، فهو على الأرجح مشترك بيننا.
ولكم رغبت في أن أكتب إليك أنا أيضا بطريقة يدوية، لكني فقدت الكتابة باليد منذ سنوات. فأي محكّ للإرادة أبنْتَ عليه، حين استعدت الكتابة بالرّيشة والدّواة، بعد انصرام سنوات طويلة، قضيتها مع الآلة الكاتبة! أنا لا أتمكن إلا من إنجاز رسوم داعرة بالريشة وقلم الرصاص، تقدّم وضعية نساء شبقات، أو تمثل لبعض المناظر الطبيعيّة المصغّرة. لكن، حين يتعلق الأمر بالكتابة، فلا أعتمد سوى على الرّاقنة، حتى ولو اقتضى الأمر منّي كتابة سطر واحد وحسب، لأن يدي تتوقف تماما عن الاستجابة في هذه الحالة، ولا ترغب أبدا في مطاوعتي. لذلك إذن، أعتذر لك لكوني اضطررت إلى الكتابة بالآلة الراقنة. ومع هذا، هناك شيء جديد حدث هذه المرّة، وهو أني أكتب إليك باللغة الفرنسية مباشرة، والفضل كلّ الفضل في هذا يعود الى سكرتيرتي الرائعة3، التي تجلس الآن أمامي، وتطلب منّي أن أنقل إليك تحياتها، هي التي قرأت جميع مؤلفاتك، والغريب أنّها لا تُصدّق بأنّا صديقان، وتكاد بهذا تستثير حفيظتي. فهل فرنسيتها سليمة؟ وهل يمكنني أن أثق في قدراتها اللغويّة؟
عزيزي سيمونون، لكم أسعدتني كثيرا رسالتك. وليس هذا لما تضمّنته من عبارات المحبة والمودة الحارّة وحسب، وإنما أيضا للخبر الذي نقلته لي في الحاشية، ويتعلق بانتهائك من تأليف الكتاب الكبير، الذي ظللت تتمنّاه. إنّ ما أسعدني بخاصة في هذا، هو أني أكون ربّما من الأوائل، الذين أسعفهم الحظ بمعرفة ذلك.
لقد أخبرني دانييل كييل Keel بأنّه زارك رفقة زوجته منذ شهر، ووجدك في حالة صحيّة ونفسيّة مشرقة. هذا هو العجيب في نشاطنا الإنتاجي! ما أن ننغمس في غمرة الإبداع، بتلقائية الأشياء الطبيعية وحتميتها، حتى تعود مظاهر الصّحة الدّائمة إلى الظهور: تتغيّر سحنة الوجه، وتتغير معها النظرات كذلك، وتنبت شعيرات الرّأس من جديد (للأسف، هذا الأمر لا يحدث في حالتي أنا!)، ويعيش المرء أخيرا شبابه، أو يعيش قوام سنّه الذي لا يتغير، وكأنّه العمر الوحيد الممكن الذي لا يتغير أبدا.
لقد استغرقت نفسي في الثرثرة معك بكيفية يطبعها الجنون، كما يحصل لي دائما حين أنخرط في الكتابة إليك. لكن، ما يشفع لي هو أنك توحي لي دائما بالكثير من الحميمية والألفة، وبالكثير من الصداقة والمودة إلى حدّ أني أنغمس تلقائيا في التحدث إليك، بعفوية لا مجال فيها للاحتراس أو التحرّز أبدا.
لست أدري بالمرة، إن كنت سآتي إلى زيورخ خلال أعياد الميلاد، ولكني أحبّ أن يقع هذا مني، فأجيئ بالسيارة برفقة الصديق دانييل كييل إلى لوزان، لأسلّم عليك، وأحيي ثيريزا أيضا. إني لأحبّ حقيقة أن يقع هذا.
أنا خلال هذه الأيام بالسينيشيتا Cinecittà، في محاولة مني لخوض تجربة البحث عن مشروع جديد، أريده أن ينجز بسرعة، هذه المرة. لقد صرت أفتقد إلى الصبر. إنّ إنجاز فيلم واحد يتطلب الكثير من الوقت، ويبدو لي أني أخسر وقتا ثمينا. إلا أن كل شيء صار صعبا ومظلما للغاية هنا، في إيطاليا، الى حدّ أنه يبدو لي أحيانا بأنّ إنجاز الأفلام، ضمن هذا الوضع الكارثي، هو من أمور الطيش المُذلّة والمخزيّة والمُذنبة. أما من جهة أخرى، فإني لا أعرف القيام بغير هذا. على الأقل، في هذه الأثناء.
طيب، أشكرك مرة أخرى يا صديقي العزيز، على الرسالة الغالية جدا التي بعثت لي بها، وألتمس منك أن تتقبل مني أصدق التهاني بمناسبة إنجازك للكتاب الجديد، الذي شدّ ما أرغب في قراءته.
مع خالص المحبة ومشاعر الصداقة الحقة أودّعك، آملا في أن أراك عما قريب.
المخلص الدائم
فريديريكو فيلليني
روما في: 25 نونبر 1981
صديقي الأعز،
يا لهذه الصدفة السعيدة التي تحبل ببشائر المسرّة والاغتباط! فقد توصلت اليوم بالضبط بمذكراتك الحميمة، وهو اليوم الذي يصادف عشية سفري الى الولايات المتحدة الأمريكية. سأحمل هذا الكتاب الضّخم معي، وسأشرع في قراءته أثناء الرحلة، وسأحسّ برفقته بأن مشاعر الوحدة قد تقلّصت بدرجات. وإني لواثق مسبقا بأني سأضعه في غرفة الفندق الذي سأقيم فيه، فوق المنضدة القريبة من السرير، وكأنه طلسم قادر على منحي الشّجاعة وعنفوان الشّباب من جديد، بمجرد أن ألمسه وحسب!
سأكتب إليك من نيويورك يا عزيزي، وسأزعجك بالحكايات والأقاصيص التي سأرويها لك من هناك، ساردا كل ما يقع لي، أو لا يقع. وأودّ أن أطلعك كذلك عن السبب الذي جعلني أقرّر الرحيل عن إيطاليا، وأنا متشكّك ومحبطُ الهمّة. بالفعل، ليست لدي أدنى فكرة عما سأفعله هناك، كلّ ما أنا أعلمه هو شيء واحد فقط: سيكون من المستحيل علي أن أشتغل خارج بلادي ولغتي وعاداتي الخاصة وتواطؤاتي الحميمة مع نفسي.
إنه حقا سفر في غيهب الظلمة الدامسة. لذا بدا لي كتابك تحديدا، الذي وصلني في لحظة يكتنفها الإحباط واليأس وعدم اليقين، بأنه بمثابة الدّعوة الأكثر حثا على الاطمئنان واستعادة الثقة، والنّظر إلى هذه المغامرة نظرة مشمولة بنسبة لا يستهان بها من المزاج الطيّب.
أشكرك جزيل الشكر على هذه الهدية الثمينة، يا صديقي الأعز، واسمح لي بأن أطبع على جبينك قبلة محملة بنصيب وافر من مشاعر التقدير والامتنان، الأشدّ صدقا وإخلاصا. ولا تنس أن تذكرني خلال استحضارك للذكريات الطيبة، وأنت بجانب ثيريزا والأبناء.
المخلص الدائم
فريديريكو فيلليني
لوزان في: 24 يوليو 1984
عزيزي فيلليني العظيم،
بعدما استمتعنا، ثيريز وأنا، بمشاهدة فيلمك الأخير المتألق4، شعرت مثلما يحدث لي في أغلب المرّات، برغبة عارمة في الكتابة إليك. وبعدها مباشرة، ردّدت في قرار نفسي، مثلما يحدث لي أيضا في كثير من المرّات، بأنّ من المحتمل أن تكون منكبّا الآن على التأليف، وأنّ من غير اللائق بالطبع أن أزعجك، في اللحظة التي قد يكون عمل فني قد شرع في التبرعم بداخلك. ولم أكن من جهة أخرى، قد أخطأت التقدير، مثلما لم يسبق لي آنفا أن أخطأت!
فقد وصلتني منك في الواحد والعشرين من الشهر الجاري، رسالة بعثت لي بها يوم الثالث عشر من نفس الشهر بالبريد السريع (إن مكاتب البريد ليست سريعة بالكل عندنا!)؛ وفيها علمت بأنك الآن حقا، «حابل» بعمل فني جديد5.
لا جدوى من أن أذكّرك بأني أقاسمك الرأي تماما بشأن السينما، هذه الأيام. ذلك أن الشركات الأمريكية الكبرى ترى (وأحد أبنائي يشغل منصب نائب الرئيس المدير العام لشركة فوكس FOX6، لذا، أنا مطلع جيدا على الخبايا التي تتصل بالشركات السينمائية)، بأنّ الأجدى للرّبح بالنسبة إليها هذه الأيام، ليس هو إنجاز أفلام جديدة،وإنما بيع حقوق الأفلام التي تكون حتى قديمة جدا، للقنوات التلفزيونيّة في شتى الدول، أو بيعها على شكل شرائط فيديو، وغير ذلك. كما أني مطّلع على بعض الأمور المتصلة بهذا الموضوع اتصالا وثيقا، بحكم ملكيتي ـ أنا بالذات ـ لحقوق الملكية الفكرية لستين فيلما، تمّ إنجازها هنا وهناك في عدّة دول، وأنا إلى الآن ما أزال أتوصل برسائل وبرقيات من سماسرة تلك «الحقوق»، والمتّجرين بها.
أما ما يتصل بك، فأنا على كل حال متفائل، لأن ما من شيء يمكنه أن يحول بينك وبين الإبداع، حتى وإن تطلب منك ذلك الدخول في معترك صراع دائم.
أشكرك على عباراتك الرّقيقة بشأن منشورات أديلفي Adelphi، التي أعرف الكثير عن صيتها الذائع. إن الفرصة لسانحة جدا على الأرجح، لأقرّر التخلي أخيرا عن علاقاتي بمنشورات موندادوري Mondadori.
لقد تعرّفت على العجوز أرنولدو Arnoldo7 منذ 1929. وتعرّفت بعدها على زوجته وأبنائه منذ أن كانوا صغار السن. ولعبنا معا لعبة البوتشي Bocce ببيته ذي الحديقة الجميلة، الذي كان يملكه في منطقة اللاك ماجور Lac Majeur (= البحيرة الكبرى). وقد جاء لزيارتي بسويسرا وهولاندا وأمريكا. وكنت مرتبطا به أشدّ الارتباط، هو وجميع أفراد عائلته، وعلى الأخص ألبيرتو الذي ما زال الى الآن يثمّن الكتابة الأدبية، ويضعها ضمن أولوية الدار.
باختصار، كنت شاهدا على انتقال الدار من ابن إلى آخر، ثم إلى الأصهار. كما كنت شاهدا أيضا على انحسار نشاطها في النشر، وتخصصها في طباعة المجلات فقط. واليوم، صارت الدار تملك ثلاث قنوات تلفزيونية في إيطاليا، أو ربما أربع، كما تملك في مدينة فيرونا Vérone إحدى أكبر المطابع في العالم بأسره، وهي الى ذلك دار رائعة.
أما عن علاقتها بالنشر الأدبي، فلم يعد هناك اهتمام كبير لديها، بل لم يعد ثمة بالأحرى أي انشغال كلي به، إلى حدّ أني صرت أرغب في تغيير تعاملي مع الدار.
وحتى لا آخذ سوى حالة كتابي الذي يحمل عنوان: مذكرات حميمة، وهو المؤلف الذي أوليه أهمية كبرى في حياتي الأدبية اليوم، وقد ترجم إلى أغلب اللغات العالمية، بما في ذلك بالولايات المتحدة والبرازيل وهولاندا وألمانيا، وحتى الاتحاد السوفييتي، فإنه للأسف لم يحظ بأي شيء من الاهتمام من هذه الدار، بإيطاليا. وهذا ما جعلني أقرر قطع علاقتي بفورمينتون Formenton8، الذي زارني عدة مرات بلوزان، دون أن تساهم زياراته المتعددة في تحقيق أي شيء على أرض الواقع، مما أصبو إليه.
لقد انتهيت من دراسة الملف الذي قدّمته لي دار موندادوري. والحال، أنه تأكّد لي بالملموس أني استرجعت حقوق أكثر من تسع وأربعينرواية من الروايات التي يلعب فيها المحقق ميغري دور البطولة، وهي التي نشرت من قبل موندادوري منذ وقت بعيد، بالإضافة الى أربعين رواية ومجموعة قصصية أخرى لم تنشر قط، في إيطاليا. أما مذكراتي الحميمة فهي حرّة بشكل الكامل، في أن تنشر بالنسبة لهذا البلد.
إن جويس أيتكين Joyce Aitken9 هو الذي سيكون في مقدوره، إذا كانت دار أديلفي بالطبع ترغب في ذلك، أن يعطيها جميع التفاصيل الضروريّة، ويستقبل عند الضرورة الشخص الذي قد تعيّنه الدار، للتفاوض بشأن نشر تلك الأعمال. أما أنا فأعتقد من جهتي، بأني صرت مجرد متقاعد عجوز، لن ينتهي به الأمر في أي تفاوض سوى إلى الارتباك والحيرة، خاصة وسط كافة تلك الملفات ذات التفاصيل المعقدة.
أشكرك مرّة أخرى على رسالتك، يا عزيزي فيلليني. وأعتذر لك عما خضت فيه من جزئيات مستفيضة، خاصة ما يرتبط منها بعلاقتي مع موندادوري.
أحدس بأنك ستنغمس قريبا في إبداع فني جديد، بنفس الجذل والحبور المعروفين عليك، كلما حبلت مخيلتك بمشروع سينمائي جديد.
بلّغ سلامي الحار، أنا وثيريز، إلى جولييتا، من فضلك. فنحن لا نزال نعيش معا على ذكرى زيارتكما الرائعة لنا بفندق بو ريفاج Beau rivage، كما نأمل أن تتحقق منكما زيارة أخرى لنا، في القريب العاجل.
أبثكما معا مشاعر المحبة الصادقة كلها، يا صديقي العزيز فيلليني.
جورج سيمونون
روما في: 7 مايو 1985
عزيزي سيمونون،
أودّ أن أعتذر لك، لأني اتصلت بك هاتفيا كي أطلب منك، بنوع من الصفاقة وعدم الاحتراز، أن تقبل بمحاورة صحيفة الكورييري Corriere لك.
صدقني يا عزيزي، فأنا لو لم أدفع إلى ذلك دفعا، ولو لم تتم ملاحقتي لأيام، والتضرع إليّ إلى حدّ القلق الكبير، كي أتوسّط للصحيفة عندك، لما وقعت في ما وقعت فيه.
أنت كالعادة كريم ونبيل، ويمكن للمرء أن يعتمد عليه، من حين لآخر. وإني لمدين لك بهذا. فإذا كانت لديك حاجة ما أستطيع فعلها، كي أردّ إليك بعض الفضل وبعض الجميل، فلا ينبغي أن تتردّد في طلبها مني.
أنا في هذه اللحظات منهمك في تصوير متوالية سينمائية مع ثلاثمائة وخمسين امرأة، كل واحدة منهن أجمل من الأخرى!
أقبلك بحرارة وأنا ممتن كثيرا لك، مثلما أغتنمها فرصة كي أبعث إلى ثيريزا بأغلى الأماني التي ترسلها جولييتا أيضا.
مع وافر المودة والتقدير
فيلليني
على سبيل الإشارة:
جولييتا قرأت نسخة من «رسالة الى أمي»10، فاستبدّت بها مشاعر التأثر إلى حدّ البكاء!
لوزان في: 20 مايو 1985
عزيزي فيلليني،
بسعادة غامرة استقبلت يوم أمس السيد جيوليو ناشيمبيني، الذي هو شخص جذاب، وفي غاية اللطف. كانت هذه هي المقابلة الحوارية الأولى11، التي أجريتها منذ عامين ونصف، وكذلك الأخيرة، لأني قرّرت أن لا أستقبل وسائل الإعلام أبدا، ولا الأساتذة. أما هذه، وليحقد عليّ من يشاء أن يحقد من أولئك الذين رفضت استقبالهم، فكان علي أن أجريها، لأحصل في مقابلها على رسالتك الجميلة، وأخبار فيلمك الجديد مع الثلاثمائة وخمسين امرأة حسناء. فيا لهنّ من حريم خليق بسلطان من سلاطين ألف ليلة وليلة!
ثيريزا وأنا نقبلك بحرارة، أنت وجولييتا أيضا، ونضمكما معا في الخيال إلى صدرينا، إضمامة حنان دافئة.
العجوز سيمونون
لوزان في: 15 يوليو 1985
عزيزي فيلليني،
طُلِب منّي أن أضيف صوتي إلى بقية الأصوات المتنوّعة الأخرى، والرّسمية حتى، التي ما لبثت أخيرا ـ من مركز لينكولن بنيويورك وإلى غاية مدينة البندقية ـ أن اعترفت بعبقريتك، وهذا لفظ لا أحبّه، لأنه مبهم ويخدم عددا غفيرا من الأشخاص. أما بالنسبة لشخصي المتواضع، فجوابي سيكون من غير تلكؤ ولا تردّد، كلما سُئلت عمن يكون المبدع الخلاّق (هذا هو اللفظ الصحيح!)، كالآتي:
لكم في فيلليني إسوة حسنة!
ذلك لأنك النموذج الأصلي الذي ينبغي أن يُحتذى. فأنت لم تقلّد أحدا بالمرّة، ولم تسلك نهج أي تقليعة فنيّة، ولم تقتبس للسينما مؤلّفَ أي كاتب، ولا أي شاعر، أو حتى سيناريست مكرّس. كما أنك قليلا ما اتبعت النصائح «الضاغطة» التي يفرضها المنتجون، ولا أنت راعيت حتى أذواق الجمهور، التي ما تنفك تتغير.
إنّ كافة أفلامك مختلفة، لأنّها لا تستجيب سوى لانشغالاتك الذهنية ولمخاوفك، إن لم نقل إنها تنضبط للوساوس، التي تفرضها عليك لحظات العيش، ذلك أنك كجميع المبدعين الخلاقين، وفي جميع الفنون قاطبة، تعبّر دون دراية منك ربّما، عن الوساوس التي تلاحقك، وتكون أحيانا مؤلمة. إنّ المبدع الخلاق لا يكون إنسانا مطمئنا ولا مرتاح البال، أبدا. وأنت حين تنهمك في عملك، لا تعرف بالذات أبدا ـ وأنا متيقن من هذا ـ إلى أين سيوصلك طقس التعزيم، الذي تنخرط فيه. وهذا في نظري هو سبب شموخك وعلو كعبك، وكونك تمثل مثلما أشرت سابقا، النموذج الأصلي المحتذى للمبدع الخلاق، الذي تكون عملية الإبداع بالنسبة إليه، غير مشبعة بالكل وملحّة على الدوام.
أتراك ستشاطرني الرأي؟ وهل أنا أخطأت؟
مهما يكن، عليك أن تثق بمشاعر الوفاء والتقدير المتواصل التي أكنها لك، منذ زمن بعيد. أما الآن، فدعني أندسّ بين الجموع الغفيرة المتحلّقة حولك، والمنهمكة في التصفيق لنبوغك وعبقريتك، كي أنتهز الفرصة لأطبع على خدك قبلة أخويّة حارة وصادقة.
جورج سيمونون
لوزان في: 25 فبراير 1986
برقية
هيللو، عزيزي فريديريكو.
لقد تأثرت كثيرا بعد قراءة مقالك الأخير، وإني لأشاطرك الرأي كالعادة، في كل ما قلته. لا تنس أنك تبدع ليس من أجل جيل واحد وحسب، وإنما لأجيال كثيرة لاحقة ستكتشف هي الأخرى، كلّ ما وضعته بشكل عام في أعمالك الفنية، بما في ذلك ما لم يتوصل النقاد لحد الآن، إلى الكشف عنه.
لكم أشتاق الى رؤية فيلمك الأخير، والى التعرف فيه على العزيزة جولييتا.
مودتي الغالية لكما معا
جورج سيمونون
روما في: 31 دجنبر 1986
عزيزي سيمونون،
توصّلت بعد تأخّر هائل، ببرقية التهاني والتبريكات التي بعثت لي بها (أعتقد بأنّ المراسلات البريديّة بواسطة الحصان، كانت سنة 1800 أسرع بكثير مما هو عليه وضع بريدنا، اليوم!)؛ وهو الأمر الذي سرّني كثيرا، وأشعرني في نفس الوقت بالذنب، لأنّي لم أكتب إليك منذ فترة طويلة جدا، وإنما بقيت أحتفظ بمجرد الاتصال معك عن طريق الخيال والوجدان، وأنا أعيد قراءة بعض مؤلفاتك، وهو ما ظل يحدث لي في أغلب الأحيان.
لقد قرأت مؤلفك المعنون: الرجل الذي يشاهد القطارات، وهي تمضي12 الصادر عن منشورات أديلفي، وهو مؤلف لم أكن على معرفة سابقة به، ووجدت بأنه رائع جدا. برافو، إذن، يا سيمونون العظيم، فأنت لا تكفّ أبدا عن إدهاشي، ولا تتوقف عن خلق الإثارة القوية والعجيبة جدا بدواخلي، مما يجعلني أنتصر على كل شكّ، ويدعوني إلى مواصلة الاشتغال، وعدم الاكتراث بالحيرة والارتباك، ويحُضّني على أن أقبل بالأمر كما هو، بفرح وخضوع تامين.
إني انتهيت من إنجاز فيلم قصير13، وأرغب في أن أحدّثك عنه، لكني سأرجئ ذلك إلى رسالة قادمة.
أقبّلك قبلات حارّة يا صديقي العزيز، وأبعث إليك بأجمل أماني جولييتا كذلك، لك ولثيريز.
صديقك الوفي
فريديريكو فيلليني
روما في: 28 دجنبر 1987
عزيزي جورج،
وصلتني في موعدها المحدّد، البرقية التي عبّرت لي فيها عن مشاعر نبلك، بمناسبة احتفالات العيد وصدور عملي الجديد، وقد منحتني هذه البرقية، إلى جانب تلك الطاقة العرفانية الصّافية التي غمرتني بها، نفسَ الشعور بالمفاجأة السّارة التي كانت أولى رسائلك قد منحتني إياه، حين عبّرت لي وقتها، بمبادرة نبيلة منك غير مسبوقة، عن مشاعر التقدير والإعجاب المشفوعة بالمودّة واللطف، لشخصي وعملي.
عزيزي وصديقي العظيم سيمونون، تحّركني رغبة شديدة في زيارتك مع حلول فصل الربيع، كي أسلم عليك، وأبقى برفقتك بعض الوقت، أقضيه معك ومع ثيريز، مثلما حصل في المرة السابقة التي زرناكم فيها رفقة عائلة كييل، ضمن الشقة الجميلة التي نزلتما فيها بالفندق الواقع على ضفة البحيرة.
أنتظر منك أن تخبرني إن كان هذا ممكنا.
أنا أعيش الآن مرحلة الفراغ، بحيث لا أنشغل بأي شيء، وأتردّد من غير قدرة على الحسم في بعض المشاريع، وهذه الفترات وأشباهها هي من اللحظات الصعبة والعصيبة التي يلزمني تحمّل وطأتها، من غير سرور. فأنا مثلما تعلم ذلك جيدا، لا أستطيع أن أعطي معنى لوجودي، ولا أن أبرّر عيشي اليومي، إلا حين التواجد وسط الجَلبَة والفوضى الصّادرتين عن فريق العمل، الذي أنجز وإياه أحد أفلامي. وإني لآمل أن أتمكّن من الخروج عمّا قريب جدا من دائرة الخمول والكسل والإحباط، التي تطوّقني الآن بكبستها الخانقة، لأشرع خلال الشهور الأولى من السنة المقبلة في التورط مجددا في أحابيل فوضى وجلبَة خلاقتين.
أقبّلك بحرارة، أريدها أن تترجم مدى التقدير الكبير الذي أكنّه لك، متمنيا أن أتمكن من رؤيتك عما قريب. وإنّ جولييتا لتغتنم فرصة تقبيلك والسلام عليك، لتنضم إلي في بعث أمانينا الغالية جدا إليك، بمناسبة حلول السنة الجديدة، آمليْن معا أن تنعم فيها بالطمأنينة والصحة والهناء، أنت وثيريز كذلك، التي ألتمس منك أن تحييها، وتبثها سلامنا المفعم بمشاعر المودة والأخوة العميقة.
مع خالص المودة والتقدير.
المخلص الوفي دائما
فريديريكو فيلليني
لوزان في: 19 يناير 1988
عزيزي فريديريكو،
أعيش دوما طقس الدهشة والذهول، كلما وصلتني منك بعض الأخبار، سواء بطريقة مباشرة، أو من خلال الصحف والجرائد. وإني لأعتقد بأنك تشكّل بحق استثناء، ليس بموهبتك الإبداعية الكبرى وحسب، وإنما أنت استثناء وسط جوقة المبدعين الخلاقين الكبار أنفسهم، لأنّك أحد هؤلاء النادرين جدّا، إنْ لم أقل أوحدهم جميعا، الذي يستطيع أن يبدع وسط دوامة الفوضى الدائمة، ومع ذلك لا ينفكّ يبدع بدقة متناهية وطمأنينة تامة، يستطيع بهما أن يخلق الدهشة لدى الذين لا يقوون، مثلي تماما، على العمل ولا العطاء إلا وسط دائرة الصمت والسكون المطبقين، وقد أذهب حتى إلى القول بأنهم لا يقوون على ذلك، إلا ضمن قوقعة عزلتهم وانزوائهم المطلقة. بينما أنت، لا تكف في كل مرة وحين عن إدهاشنا، وخلق الذهول والمفاجأة بداخلنا، وهذا ما يتبث بالملموس غنى موهبتك، وزخم قدرتك على العطاء، وأنّ ما من شيء ثمة يمكنه أن يعكّر عليك الأجواء، ولا أن يخيخل انتظام إنتاجاتك. وإن فيلمك الأخير لبرهان جديد على ما أقوله. وإني لسعيد جدا ببثك هذه الحقيقة، من خلال هذه المكاشفة الصريحة والحيّة. أنت في الواقع، تجعلني أتصوّرك على شكل شهب نارية لا يخبو لها وميض أبدا، وإنما تظلّ مجتمعة في الفضاء على هيئة نجيمات من كافة الألوان، تنبض كل نجيمة منها نبضا وضاء لا يخبو أبدا، وهي تحاول أن تكون في ذلك أكثر إشعاعا من الأخريات.
أقبلك، وألتمس منك أن تنوب عني في تقبيل جولييتا، ومقاسمتها مشاعر مودتي الصادقة.
عجوزك الوفي
جورج سيمونون
على سبيل الإشارة:
شاهدت مساء أمس، على قناة التلفزيون السويسري الرّوماندي، فيلم: جنيجر وفريد Ginger et Fred. لقد كانت مناسبة عرض هذا الفيلم بالنسبة لي، احتفالا حقيقيا. فقد أدهشتني جولييتا بكل المقاييس. إنها اختزلت في شخصها، كافة النسوة اللواتي يسمين باسم جولييتا!
الهوامش
1 ـ يتعلق الأمر هنا بكتابة المذكرات الخاصة، التي ضمها سيمونون في كتابه: مذكرات حميمة، التي بدأ في كتابتها في شهر نونبر 1980، لينتهي منها في شهر فبراير 1981، وتصدر في أكتوبر من نفس السنة.
2 ـ صحافي كان يشتغل في صحيفة الكورييره ديلا سيرا Corriere della Sera، بتاريخ 31 دجنبر 1079.
3 ـ اسمها ليليانا بيتي Liliana Betti.
4 ـ يتعلق الأمر بفيلم: «وتبحر السفينة»، الذي تمّ عرضه بباريس يوم 4 يناير 1984.
5 ـ للأسف، هذه الرسالة المومأ إليها لم يتم العثور عليها.
6 ـ يتعلق الأمر بجان Jean، الذي يطلق عليه اسم جونيه سيمونون Johnney، المزداد يوم 29 سبتمبر 1949 بتوكسون Tucson، ولاية أريزونا، بالولايات المتحدة الأمريكية.
7 ـ أرنولدو موندادوري هو الناشر غير الفرنسي الأول، الذي وثق بجورج سيمونون، وشرع ينشر له بعض الأعمال الروائية، وليس كل الروايات.
8 ـ ماريو فورمينتون هو الرئيس المدير العام لدار النشر موندادوري، من سنة 1982 الى 1987.
9 ـ جويس أيتكين المتوفى سنة 1995 هو المكلف بتدبير أعمال جورج سيمونون، بعدما تولى منصب الكتابة الخاصة لديه منذ سنة 1955.
10 ـ رواية ظهرت ضمن منشورات Presse de la cité نهاية سنة 1974، وهي من النصوص التي أملاها سيمونون «في أيام معدودة، وتضمنت تكثيفا نادرا في البناء والأحداث». وهي بحسب الناقد بيير أسولين Pierre Assouline، يوميات تهتم بمشكل سوء التفاهم القائم بين شخصيتين، لم تنجحا قط في نسج علاقة التفاهم والمحبة بينهما، لكونهما لم يعرفا أبدا كيف ينبغي أن يقوم بينهما التواصل الحقيقي. ويضيف هذا الناقد بانّ سيمونون قدّم في هذا النص طبيعة العقدة، التي تقوم عليها معاناته الشخصية، لكونه استطاع أن ينال الاعتراف والتقدير من الجميع، بحكم وضعه الاعتباري ككاتب شهير، لكنه لم يفلح أن ينتزع ذلك أبدا من أمه.
11 ـ مقابلة نشرت في صحيفة الكورييري ديلا سيرا بتاريخ 19 مايو 1985.
12 ـ رواية كان سيمونون قد كتبها سنة 1937، ثمّ صدرت عن دار النشر غاليمار سنة 1938.
13 ـ هو الفيلم الذي يحمل عنوان: أنتيرفيستا Intervista، الذي عرض في باريس بتاريخ: 23 دجنبر 1987.
التقديم والترجمة: أحمد الويزي*
(الجزء الثالث والأخير)