ربّما لا يدرك الكثير من الشباب والفتيان اليوم، ممّن جاء الى الدّنيا في عصر السيبرنطيقا المتوّجة، الذي تختصر مظاهره الرّبوتاتُ والحواسيبُ بجميع أصنافها، الى جانب الهواتف الثابتة والخلويّة، الذكيّة منها وغير الذكيّة، زيادة على الفاكسات، وشبكات الإنترنيت، ورسائل الإيمايل، والـSMS، والقنوات الفضائيات، وغيرها من الوسائط والبرمجيّات؛ بأنّ النّاس كانوا الى عهد قريب جدّاً، أي قبيل وحتى بُعيْد ولوج مجرّة ماركوني La Galaxie Marconi1)، يتواصلون فيما بينهم عن طريق الرّسالة الورقيّة، التي ظلّ يُعنى بتوصيلها ساعي البريد، أو بالأحرى موزّع الأشواق، مثلما أحسن الراحل نزار قباني وصف مركزيّة وظيفته.
فقد كانت الرّسالة البريديّة المكتوبة على الورق، مخطوطة أو مرقونة بآلة كاتبة، وسيطاً بالغ الأهميّة في الرّبط بين النّاس، وتقليص المسافات الفيزيائيّة والنفسيّة بين الأهل والأحبّة والأصدقاء، المقيمين منهم في القطر الواحد أو المغتربين؛ إضافة الى أهميتها القصوى في تجسير الاتصال بين الأفراد والمؤسّسات بمختلف أطيافها وألوانها، حكوميّة كانت أو غير حكوميّة.
وبالنظر الى هذه الدّور التواصلي الهام، اكتسحت الرّسالة الورقية مساحة واسعة الانتشار بين مختلف الأفراد والفئات والهيئات في كافة الأمصار، سواء لدى السّاسة، أو رجال الاقتصاد، أو ضباط الجيش، أو المهتمين بمجال الفكر والمعرفة. ولم يتوقّف انتشارها عند هذا الحدّ وحده، بل انتقلت الى دائرة الكتابة الفلسفية والأدبية كذلك، فظهرت أطروحات فكرية على شكل رسائل، مثلما صدر نوع من الرواية سمّي تراسليّا، الى جانب القصص والقصائد التي حاكت شكل الرّسالة، وبقية الفنون الأخرى التي استفادت بكيفية أو بأخرى من هذا الفنّ، كالمسرح والسينما.
ومن ثمّ، شاع التراسل الفلسفي والأدبي في أوروبا وأمريكا والوطن العربي كذلك، فتهافتت المطابع على نشر ما اشتهر منه بين الناس. وهكذا صدرت أضمومات شتى تجمع أهمّ الخطابات التي تبادلها بعض الأدباء والفلاسفة والفنّانين فيما بينهم، أو مع شخصيات أخرى محدودة الشهرة(2). وهكذا توفّرت بفضل هذه الإصدارات مادّة خام ثريّة، سرعان ما تلقفها بعض النقاد والمؤرّخين، فتعاملوا معها تعامل الوثيقة التي تسلّط الأضواء على بعض الخبايا والطّوايا الظّليلة في حياة الكثير من المشاهير، وتساهم في رتق الفجوات التي تركها هؤلاء بيضاء. ولا غرو في هذا أبدا، ما دام أنّ الرسالة ظلّت تملك قدرة هائلة على تصوير الوجدان، وتبيين تضاريس الرّوح، وتقريب القارئ من شجون النّفس وأسرارها، وما يعتمل في المُهج، ويتسبّب في اضطرامها وتذبذبها، بحكم مرونة الكتابة التراسليّة التي عادة ما تمنح كاتبها مساحة غفلا للاعتراف، والتعبير عن الحميمي، والبوح بالشكوى واللوعة، مثلما تعطيه حيزا غير رسمي ليبدي من خلاله أحيانا، بعض الآراء الطّريفة والشّاذة التي لا يستطيع إبداءها في العلن بشكل رسمي، بحكم عامل الرقابة التي تفرضها المواضعات العامّة والأعراف المجتمعيّة.
وفي هذا الأفق الذي يسعى الى استعادة لحظات الكتابة الحميمة، التي كاد عهد السيبرنطيقا المُطبق أن يغطّي عليها بصفة تامّة؛ اخترنا اليوم أن نترجم للقارئ العربي، نموذجا شيّقا ومهمّا من تجربة تراسليّة عابرة للأقطار والأجيال. فهو شيّق ومهمّ، لأنّه يجمع بين تجربتين مختلفتين في الحياة والمعرفة التخييليّة، وقامتين فنّيتين غير متناظرتين، لكلّ منهما مجال اشتغاله الإبداعي، وقناعته، وتصوّره الخاص به للفنّ والحياة. لكنّ هذا لم يمنع كلتا القامتين من أن تتقاسما الكثير من لحظات الصفاء النّفسي والذهني، وأن تعبّرا عن الإعجاب والتقدير لبعضهما البعض، وأن تشتركا في بعض الآراء والقناعات والمرجعيّات المعرفيّة، وأن تحكيا معا عن نفس الحالات النفسيّة الرّهيبة، التي ما تنفكّ تهجم بشراسة على المبدع، وتلتهم دواخله.
فمن جهة، هناك قامة الرّوائي البلجيكي جورج سيمونون Georges Simenon (1903/1989)، الذي اشتهر بروح انضباطه العالية للعمل الإبداعي، وإخلاصه الشديد لأعراف الجنس الروائي خاصة، الذي أنتج ضمنه ما يربو بكثير عن مائة رواية، أغلبها من الرواية البوليسيّة التي يقوم بدور البطولة فيها مفوّض الشرطة ميغري Maigret. ومن جهة أخرى، هناك قامة السّينمائي الإيطالي فديريكو فيلليني Federico Fellini (1920/1993)، الذي اشتهر بكتابته السينمائية الطّريفة والمبتكرة، التي خرجت عن الكثير من تقاليد الجنس السينمائي المتعارف عليها في حينه، خاصّة موجة الواقعيّة الجديدة التي كان هو نفسه ينتمي إليها في البداية. ففيلليني المسكون بروح ماردة ومتمرّدة، سرعان ما انقلب عن الواقعية في نسختها الجديدة، سواء على مستوى كتابة السيناريو أو مستوى الإخراج، ليؤسّس له مساراً فنّياً مدهشا وغير قابل للتصنيف وقتها في السينما، حقّق بفضله شهرة طبّقت الآفاق، وحاز من خلاله على مجموعة من الجوائز في أوروبا وأمريكا.
لن أستعرض على القارئ، في سياق هذا التقديم، محتوى الرّسائل ودلالاتها وأبعادها أبداً، وإنّما أريد أن ضيف فقط، بعد كلّ ما ذكرته، بأنّ التراسل بين فيلليني وسيمونون قد امتدّ على عشرين سنة. كانت البداية عام 1969، وهي السنة التي حصل فيلليني أثناءها على جائزة السّعفة الذهبيّة في مهرجان كان السينمائي الفرنسي، فكانت مناسبة اغتنمها سيمونون ليبعث الى المخرج الذي أدهشه رسالة أولى (ضاعت للأسف!)، بحكم أنه كان وقتئذ رئيسا للجنة تحكيم المهرجان. أمّا لحظة توقّف صبيب الرسائل بين الصديقين، فكانت سنة 1989، العام الذي توقف فيه قلب سيمونون عن النبض، فخلّف ذلك ألما ممضاً، وفراغا رهيبا في قلب شقيقه الرّوحي فيلليني.
أمّا الجهة التي اعتنت بجمع هذه الرسائل، وترتيبها ترتيبا زمنيا متعاقبا، والتعليق على بعض ما يحتاج منها الى توضيح، فهي هيئة تحرير المجلة السينمائية الفرنسيّة الشهيرة: دفاتر سينمائيّة Cahiers de cinéma. فقد صدرت هذه الخطابات إذن، على شكل كُتيّب يضمّ 96 صفحة، تتصدّره مقدّمة بقلم الناقدة كلود غوتور Claude Gauteur، ودراسة للباحثة جاكلين ريسي Jacqueline Risset؛ ويختم بحوار طويل نشرته مجلة الإكسبريس سنة 1977، يجمع بين جورج سيمونون محاوِراً، وفريديريكو فيلليني محاوَرا، على هامش خروج فيلمه كازانوفا الى دور السينما.
قراءة ممتعة!
روما في: 04 يوليوز 1969
عزيزي سيمونون،
ألتمس صفحك إن كنت أكتب إليك بهذه الطريقة، لأنّ خطّي يكاد يكون حقيقة غير مقروء. كما ألتمس صفحك لتأخّري في الردّ عليك، لكوني لم أعد الى روما إلا يوم أمس، فقط.
فأي متعة تلك التي حققتها لي قراءة رسالتك!(3)
ولكم أودّ لو تتاح لي إمكانية الاستجابة لدعوتك، لأقضي برفقتك بعض الوقت!
لكنّ ذلك ليس بالمتيسّر للأسف الشديد، لأنّ الأمور أخذت تسير بكيفية يتعذر عليّ التحكّم فيها، الى حدّ أنّي لن أتمكن من ممارسة ما أرغب فيه، إلا مع متمّ شهر سبتمبر القادم. لكنّي أتمنى أن ألتقي بك في البندقية، حيث سأقضي يومين، في نهاية الشهر الجاري. وأعدك بأنّي سأبحث عنك.
أحيّيك تحية مفعمة بالودّ العميق وبمشاعر الامتنان الخالصة، تقديرا منّي للصداقة المتينة العرى التي ما تفتأ تبرهن عليها حيالي، وهو ما يحقق لي بصراحة، كلما أطريت عليّ، متعة ما بعدها متعة.
أتمنى لك عطلة سعيدة يا عزيزي سيمنون، والى اللقاء عمّا قريب.
المخلص فريديريكو فيلليني
لوزان في: 17 سبتمبر 1969
عزيزي فيلليني،
بالأمس، حدثت لي واحدة من أبهج المغامرات، التي من شأنها أن تدفئ الصّدر. فقد كنت منهمكا في قراءة الحوار الذي أجرته معك مجلة الإكسبريس L’Expresse بباريس، مثلما عوّدت نفسي هذه الأيام على قراءة كل ما أعثر عليه من مقالات تتعلّق بفيلمك: ساتيريكون Satyricon؛ فإذا بالذهول يصيبني منذ الجملة الرّابعة من الحوار، وبالإعجاب يتملّكني بفعل ردودك، فقلت في قراري بأنّ ما صدر عنك هو تحديدا، نفسُ ما كنت سأجيب به، لو أني سُئِلت ذات الأسئلة! لقد وقفتُ على أفكاري في أقوالك، سواء ما تعلّق منها بالإبداع الفنّي، أو ما اتصل بمختلف المواقف التي تفرضها الحياة علينا. ثمّ قلبت صفحة المجلة، فعثرت على ما قلته في حقّي؛ فتبث لي بالملموس بأني لم أخطئ أبدا في شأن ما تحدثت عنه سلفا، ووسمته بـ”الذرّات المتماسكة” التي توحّد فيما بيننا. وإني لأنتظر بفارغ الصّبر مشاهدة فيلمك الجديد، حالما يخرج الى صالات العرض عندنا. وهذا ما يمنحني رغبة في رؤيتك من جديد، أنت بالذات.
إنّ في جعبتي مشروعَ روايتين، ينبغي أن أنتهي من كتابتهما قبل متمّ هذه السنة. وما أن أتحرّر من ذلك، حتى أبعث إليك لترخّص لي بزيارة خاطفة الى روما، أتحدث إليك أثناءها طويلا. إنّ تجربة فيلم ساتيريكون لتبدو لي سلفا، باعثة على الإثارة والحماس!
لك منّي كلّ التقدير والصّداقة المتينة، يا عزيزي فيلليني؛ والى اللقاء المرتقب عمّا قريب، مثلما آمل.
الوفيّ جورج سيمونون
روما في: 22 سبتمبر 1969
صديقي الأعزّ سيمونون،
أتصدّق أنّي أعكف بين الفينة والفينة، على إعادة قراءة رسالتك الأخيرة؟! لم يعد ثمّة مجال للشكّ في أنّي أعاني حيالك من “مركّب نفسيّ” قوي، خاصّة أنّ مشاعري صارت من الآن تتحرّك، وكأنها مشاعر طفل حقيقي، كلّما فكّرت فقط في أنك ستأتي ربّما الى روما، وبأنّا سنتمكّن من رؤية بعضنا، والتحدّث قليلا فيما بيننا!
هذه هي الحقيقة. فحين نستحضر موهبتك التي لا حدّ لها، وقوّة انضباطك للعمل الإبداعي التي تفوق كلّ قوّة بشريّة، نشعر في دخيلة أنفسنا بدهشة كبيرة، مثلما ينتابنا خجل كاسف، لا ينقذنا منه إلا تذكّر نبلك وشيمك الإنسانيّة الفاضلة. حينها، نستعيد معك علاقة الندّية، فندرك بأنّا نحبّك، وهنا بالذات مكمن الأهمية؛ وبهذا، يصبح لك بيننا حضور عائلي وثيق، تغدو على إثره صديقنا الأكبر سنّا، الذي يودّ الكلّ اغتنام فرصة مصاحبته، ورفيق الحياة والعمل الإبداعي، وكذا القدوة التي لا تخيّب كلّ من يحتذي حذوها أبدا، والمثال الحيّ الذي يجعلنا نشعر بالقوة الإنسانيّة الشديدة.
ألتمس صفحك أيها العزيز، في كوني تركت لنفسي العنان نسبيا، لتجنح بمشاعرها الى أبعد مدى، خاصّة أني أدرك جيّدا مقدار الإزعاج الذي يتسبّب لك فيه أحيانا، الاستماع الى مثل هذه الأمور…
ولطالما فكّرت في الكتابة إليك، من غير أي باعث يذكر، ولا لسبب محدّد، اللهمّ لأبعث إليك بسلامي وحسب، ولأتمنّى لك قدرة دائمة على العطاء الإبداعي؛ لكني، كنت أخشى دائما أن أزعجك. لكني ربّما سأقوم بهذا ابتداء من اليوم، فأكتب إليك بين الحين والحين الآخر.
أنتظر أن تحلّ بيننا يا صديقي العزيز، في الوقت الذي تراه يناسبك.
أنا سأنكبّ ـ وهذا أمر محتمل ـ على تصوير فيلم قصير خلال شهر ديسمبر المقبل(4)؛ لكن هذا لن يكون بالنسبة إلي عائقا، بل أفضّل بالأحرى أن تأتي في تلك الفترة بالذات، إن تمكّنت من ذلك. فما خضت تجربة عمل فنّي ما، إلا وأحسست بتحسّن داخلي، وبأني أحيا بكيفية أكبر؛ وهذا بالطبع سيمكنني، حين تكون بالقرب منّي، من استغلال رفقتك الى أبعد حدّ.
اسمح لي بأنْ أطبع على جبينك قبلة مودّة وامتنان يا عزيزي سيمونون، لما تغمرني به دائما من فرح متجدّد.
والى أن نلتقي عمّا قريب، دمت لصديقك.
المخلص فيديركو فيلليني
لوزان في: 1 ديسمبر 1969
صديقي العزيز فيلليني،
لم تلبث للتوّ أن طوّحت ببرنامج الأحد التلفزيوني!(5) وإنّي لا أتصوّر بالكلّ ما الذي يُمكنُ عملُه، بعد متابعة المشهد الباهر ليوم أمس، الذي كان مشهدا وافر الحيوية، وأصيلا وعميقا في الآن نفسه؟ لقد كنتما، ماسيناMasina (6) وأنت، ممتازين بكلّ المقاييس، وتكشّف حضورك عن وحدة متراصّة التراصَ الإنسانيّ المؤنس!
لكم أودّ لو أني أستطيع الدردشة معك طويلا بشأن هذا، وأنا في حضرتك! لكنّ شهر نوفمبر الذي برمجته للعمل، كي أحرّر شهر ديسمبر، استغرقته نزلة زكام خرقاء للأسف الشديد، حكمت عليّ الى الآن بملازمة الفراش.
سأكتب إليك في مستهل السنة القادمة، لأسألك عن الوقت الذي يمكن لك فيه أن تكون متحرّرا من كلّ التزام.
برافو مرّة أخرى!
أنت وحدك من يستطيع أن يمنحنا مثل ذلك المشهد، الذي يعدّ في حدّ ذاته فيلما كاملا. ويا له من فيلم!
أقبّلكما معاً، أنت وزوجتك ماسينا.
جورج سيمونون
روما في: 4 نوفمبر 1969
عزيزي سيمونون،
أي متعة ما بعدها متعة هذه التي خلّفتها في نفسي رسالتك! أولا، لأنها صدرت عنك، وهذا وحده أمر رائع؛ ثمّ لأنها صادفت مفارقتي لباريس، وشعور مثبّط للهمّة يسيطر علي، مفاده أنّه لم يكن ينبغي علي إطلاقا، أن أقبل بالمشاركة في ذلك البرنامج التلفزيوني، لكوني أعلم سلفاً بأني سأساهم بذلك القبول، في جعل ذاتي مسخرة يهزأ منها الكلّ، لجهلي الذريع باللغة الفرنسية! وقد بدا لي بأن المسألة كلها لم يكن يغلب عليها فوق ذلك، سوى جو مشبع بالابتهاج، الذي يمكن أن يوصف بأنه كان في نفس الوقت ودّيا وسطحيا وأخرق بنسبة قليلة، من قبيل ما يستبدّ بالاجتماعات ذات النمط الأبرشي؛ لقد كان هؤلاء المهرّجون مكتسحين بكيفية يشوبها إفراط، كما بدا لي بأنّ الكلّ غرق في طقس أشبه ما يكون باحتفاء عابث ومحزن… بينما أنت على العكس يا صديقي الأعز، كاتبتني لتؤكّد لي بأنّ كل شيء قد تمّ على ما يرام، وهو ما يجعلني أصدّقك من غير أي تردّد، لأني أكِنّ لك في نفسي الكثير من التقدير والاعتبار.
فهل زالت عنك نزلة الزّكام، التي حدّثتني عنها؟
في إيطاليا، صدرت اليوم جريدة كُتِب على إحدى صفحاتها هذا العنوان الجدير بأدب الخيال العلمي: اثنا عشر مليون ايطالي يلزمون الفراش بسبب نزلة البرد!
أتمنى أن تكون قد تعافيتَ، وانضبطتَ لأجواء العمل كدأبك، وهو ما قد يبعث فينا جميعا المسرّة والفرح. فقد قرأت في الأيام القليلة الماضية رواية من رواياتك التي لم أكن على علم سابق بها، وهي الموسومة بعنوان: الانتقال. ولكم تنتابني، كلما انتهيت من قراءة مؤلّف من مؤلفاتك، رغبة عارمة في أن أرفع يدي بالتصفيق لك دون توقف، وأخذ القلم للكتابة إليك، للتعبير عن إعجابي بمقدّراتك الإبداعية، وأن أصيح ملء حنجرتي كذلك، مردّدا: برافو، مرّة وأخرى وأخريات! ولكم هي صحتك أدعى للإعجاب يا عزيزي سيمونون، صحة لا تخذلك أبدا، وتسمح لك بأن تكون دائما على صواب ووضوح شديدين، وبأن تمضي قُدُما نحو الأهمّ على الدّوام، وأن تكون أشدّ صدقاً، فتؤلّف لنا الى ما لا نهاية أمّهات النصوص الأدبية، الواحد تلو الآخر!
أقبّلك، وأنتظر مجيئك ببالغ الشوق.
صديقك المخلص فريديريكو فيلليني
لوزان في: 10 أبريل 1975
برقية
إليك منّي أحرّ التهنئات، لحصولك على جائزة الأوسكار(7)، التي كنت دائما وأبدا أهلاً لها.
جورج سيمونون
شيانتشيانو في أغسطس 1976
صديقي الأعزّ سيمونون،
لا تُعِر كبير الاهتمام لمداد الشّريط، الذي لطّخ من قبل يديّ وذقني، قبل أن يمتدّ الى الورقة. فقد كتبتُ وأعدتُ كتابة هذه الرّسالة لثلاث مرّات متتالية، لكنّي حين أصل من كلّ واحدة منها الى السّطر الثالث، أنتهي الى تمزيقها. ولعلّ جزءا من هذا الارتباك يعود فعلا الى طبيعة الشريط اللاّصق بآلة الرّقن، التي ما أن أشرع في العمل بها، حتى يلطّخ شريطها الأوراق؛ لكنّ المؤكّد أنّ الجزء الأهمّ من ذلك الاضطراب لا يُعزى إلا الى طبيعة المشاعر الجيّاشة التي اعترتني أيضا، وأنا منكبّ على الكتابة إليك، مما جعلني أغرق في الارتباك والخجل.
أنا في شيانتشيانو(8) Chianciano، وهي بلدة تشبه الى حدّ ما منطقة فيشي Vichy الفرنسيّة؛ هي ربّما عتيقة المباني شيئا ما، لكنّ هذه القدامة في جميع الأحوال، أقلّ بكثير من بِلى آلة الرّقن التي وضعها مدير الفندق تحت تصرّفي، بشكل فيه الكثير من الحُميا والحماس!
أجتاز مرحلة مشوبة بضيق يبعث على الملل، ويثير حتى السّخرية والضّحك، وهو ما لا أقوى القضاء عليه، ولا حتى على طرده. وقد بدأت هذه الحالة في السيطرة على مغالق نفسي قبل موعد وصولي الى فالمونت(9) Valmont . فقد كان في نيتي أن أمكث هناك عشرة أيام، أستريح خلالها مثلما آمل، وأقوم ببعض التحليلات الطبّية، وأحاول كذلك الحسم بصفة نهائية في أمر الفيلم الجديد المزمع تصويره، ثمّ المرور عليك في الأخير، إن أمكن لي ذلك، لأسلّم عليك، وأقدّم لك شكري وامتناني.
فقد سبق لي أن سمعت من قبل، الكثير من الأحاديث التي تمدح فالمونت، وتشجّع على زيارتها؛ لكنّي ما أن وصلت إليها مؤخّرا، في صبيحة يوم رمادي ماطر، بعد أن توقّعتُ منها الكثير، حتى وجدت الرّيح تعوي بين أشجار التنّوب، والوادي غارقا في عتمة شبه شاملة؛ ثمّ ذكّرتني عمارة الفندق بمستشفى الدكتور مابيز(10) Mabuse . أضف الى هذا أني ما أن دخلت الى الغرفة التي حجزتها بالفندق، وحاولت إشعال النور، حتى انخطف التيار الذي يصل كل تجهيزات الغرفة الكهربائية. حينها، قرّرت الانصراف، فعبرتُ من لوزان الى مونتروه، ومن مونت لوبران الى ريغوت (أو شيء من هذا القبيل)، دون التوقف في أي مكان، لأجد نفسي بالطائرة تعود بي في اليوم الموالي، الى روما. ربّما أنا لم أكن أحرص في الأصل على قضاء تلك الأيام في العطلة، ولا كنت متحمّسا لإجراء الفحوصات الطبّية، ولا لإلحاق أي تغيير كيفما كان نوعه، على إيقاع حياتي وعملي. لكن الشيء الوحيد الذي ندمت على عدم التمكّن من تحقيقه حقّاً، هو اللقاء بك يا عزيزي سيمونون، لأحاول أن أعبّر لك أثناءه عن مدى التأثر الكبير، الذي شعرت به حيال ما كتبته في حقّ عملي وشخصي، ضمن المقدّمة التي طلبها منك كييل(11) Keel، ليوطئ بها للكتاب الذي يضمّ الصور الفوتوغرافية المتّصلة بأفلامي. ذلك أنّي شعرت، لمّا أمدّني كييل بنسخة منه لأطّلع على تلك المقدمة النبيلة منك، وكان يرسم على محياه ابتسامة أشبه ما تكون بابتسامة الصيني الصغير؛ بأنّ أذنيّ احمرّتا من فرط التأثّر. ولمّا انخرطت في قراءة ما دبّجه يراعك الكريم، انتابني الإحساس بأنّ الزّمن لم يمض قطّ، فشُبّه لي أنّ سيمونون الشّامخ لا يصبّ تلك الكلمات الرائقة إلا في أذن ذلك الفتى، الذي لم يتعدّ أبدا سنّ السابعة عشرة، والذي حصل له منذ أربعين سنة خلت، أن قرأ في ليلة واحدة رواية الكلب الأصفر، وحوذي الضاحية، ومشنوق سانت فوليان، فانتهى به المطاف ليلتها الى “الإصابة” بلوثة تقدير غير محدود لصاحب تلك الروايات، وهي “العدوى” التي لم يكن عليه أن يحاول قطّ، معالجة نفسه منها.
صديقي العزيز سيمونون، أشعر وكأني سخيف نسبيا، حين أكتب إليك كلّ هذا؛ لكنّه الحقيقة. إنّي معجب بك، ومحبّ لك على الدّوام، وقد شعرت بهذا الإحساس مرّة أخرى، وبكيفية مكثفة أيضا، حين تمكّنت من الاستماع لصوتك على آلة التسجيل. كانت وجنة كييل قد احمرّت من أثر الفرح، وهو يقدّم لي بمطار جنيف، الشّريط الصّوتي الذي سجّلتَه، وأضاف الى ذلك أيضا: إنك أنت من يبعث به إلي؛ وإنّ هذه لالتفاتة رقيقة منك، تضاف الى سلسلة الالتفاتات اللطيفة الأخرى، التي ما فتئت تطوّقني بها.
صحيح أني لا أكفّ نسبيا عن التمطيط ولا عن الإسهاب، لكني أودّ مع ذلك أن أحكي لك شيئا آخر، أكشف لك من خلاله عن حجم الغُنُم الوفير الذي حقّقه لي الالتقاء بخيالك وإبداعك. ويتعلّق الأمر هنا بحلم قصير، تراءى لي منذ عامين في المنام، وكان ذلك قبل شروعي في تصوير فيلم: كازانوفا. وقتها، كنت أجتاز فترة يشملها اكتئاب داهم. تملّكني الجمود والجفاء واليأس والنفور من ذلك الفيلم، واستبدّ بي الشعور بأني وقعت في ورطة قذرة؛ فقضيت نتيجة لذلك، ليال بكاملها أقلّب في ذهني وأبحث، لعلي أجد وسيلة تخلّصني من تلك الورطة، دون كبير خسارة مما من شأنه أن يطال الالتزامات التي تعهّدت بها. وكم من أسئلة حارقة تردّدت في دخيلتي، من قبيل: ما علاقتي أنا بالذات، بكازانوفا؟ وهل أنا مطّلع بما يكفي على وقائع الحياة المتّصلة بالقرن 19؛ أنا الذي لم أكن أتحمّل أبدا، النقوش المصطنعة ولا بيروكات الشّعَر البيضاء؟ ثمّ كيف لي أن أدير فيلما بلغة ليست بالكلّ لغتي؟
ولشدّ ما تردّدت على مكاتب محامين كثر، ألتمس استشارتهم، ولطالما ملأت في محاولة منّي لمداهنة المنتج والتملّق إليه، مئات الأوراق التي انتهيت بتمزيقها، كما أني كثيرا ما تعوّدت على الانفجار كقنبلة ظلّت موقوتة، في وجه أولئك الذين كانوا يحاولون التهدئة من روعي. لقد ساورني الشعور بأني سجين، ومقيّد بأغلال ثقيلة، ومحكوم عليه بإنجاز فيلم بعيد كلّ البعد عن طبعه وخياله وقناعته، وهو فيلم تدور أحداثه حول شخصية لا تنتمي الى تمثلي الذّهني ولا الفكري، ولا أشعر حيالها بأي تعاطف!
باختصار، رأيتني ذات ليلة في الحلم، أثناء تلك الفترة المطبوعة بحالتي النفسيّة المحبطة، أصحو في النوم على صوت نقر متواصل على آلة الكتابة. حينها، انتبهتُ الى أني كنت أنام في حديقة كبيرة تبلّلها رطوبة نديّة، ويتناثر على أرضيتها نبات بحجم كبير وخضرة كثيفة. وكان هناك وسط أرضية الحديقة المعشوشبة، بناية تنتصب على هيئة قلعة أو برج، يصدر عنها صوت النقر المتواصل على تلك الآلة. ثمّ رأيتني أدنو من البناية، غير أني حين حاذيتها، اضمحلّ الصوت، فلم أعد أسمع أي شيء. ولما وقفت على أصابع قدمي، لمحت من خلال نافذة دائرية، حجرة تشبه الزنزانة ابيضّت جدرانها بطلاء جيري، كما رأيت كذلك رجلا أشبه ما يكون بقِسّ، انخرط في شيء لم أستطع تبيّنه، بحكم أنّه كان يدير لي ظهره. جالسا على كرسي كان، وبمقربة قدميه جلس على الأرض مباشرة عشرة أطفال صغار، من الذكور والإناث. لطيفين للغاية كانوا، وهم يضحكون، ويمزحون، بينما يلمسون صندل القسّ، وحزام جبّته الصّوفية. وما هي إلا برهة، حتى استدار الرّجل نحوي، فتكشّف لي بأنه سيمونون! وعلى الفور، أدركت بأنّ الشعر اللّصيق بذقنه، وهي ذقن بيضاء، ما كان سوى شعر مصطنع، وأنّ الذقن نفسها مستعارة. فبقيت، وأنا مندهش لما رأيت وخائب الأمل بعض الشيء، متحيّرا وغير قادر على تفسير الأمر، الى أن تناهى الى سمعي صوت قريب، قال لي:
إنها ذقن زائفة. مؤكّد أنّها زائفة. ثمّ إنّه لم يتقدّم بعد في الشيخوخة، الى هذا الحد. إنّه ما يزال على العكس شابّا. أكثر شبابا مما سبق!
وماذا يفعل؟ سألت.
إنّه يصبغ رواية جديدة. أرأيت؟ إنه صبغ منها الى حدّ الآن، النصف. إنها رواية رائعة عن نِبْتون.
ثمّ ما هي إلا برهة حتى تلاشى الصوت، لأجد نفسي هذه المرّة قد استفقت حقيقة من النوم.
طيّب، أنا لا أرغب في الاندفاع وراء تفسيرات ملائمة ومقنعة لهذا الحلم، لكنّ الشيء المؤكّد عندي والثابت، هو أنّي (وقد نسيت أن أذكّرك بأنّ من بين الأسباب التي ساهمت في كآبتي خلال تلك الفترة أيضا، هو إدراكي بكيفية مثيرة للإزعاج بأني بلغت الخامسة والخمسين، وصرت بذلك أنزلق بشكل حتمي نحو هاوية الستّين!)؛ شعرت بأن حدّة التوتر بداخلي قد خفّت في اليوم الموالي، فبدا لي الفيلم أقلّ إثارة للكراهية، ثمّ شرعت بعد ذلك في العمل، وأنجزت الفيلم.
وللسائل أن يسأل: وصعوبة الانجليزية؟ حينها أردّ: إذا كان سيمونون قد استطاع أن يذهب في ذلك الحلم، الى حدّ “صباغة” رواياته، فكيف لي أن لا أستطيع أنا تصوير فيلم ناطق بلغة أخرى غير لغتي؟ وقد يضيف المعترض ربما قائلا: طيّب، وماذا عن مسألة الشخصية الرئيسية للفيلم، التي من الممكن أن تكون غريبة عن تمثلك؟ ماذا عن تلك المسافة التي شعرت بها حيال كازانوفا؟ حينها أيضا سأردّ: أجل، هذا صحيح، كازانوفا كان شخصية غريبة عنّي، شخصية ظللت أشعر من قبل ببُعْدها عن شخصي، لكنها كانت في نفس الوقت تعيش في أعماقي، تماما مثل نبتون، إله الحبشة البحرية، عند سيمونون.
والحصيلة يا صديقي الأعزّ، هي أنّ سيمونون سيد الحياة والإبداع، كائن شامخ ينتمي الى ميثولوجيا الأحلام، ويتدخّل كمبعوث للرؤى الخارقة التي تصنع المعجزات.
ألتمس صفحك مرة أخرى يا عزيزي، عن كلّ هذه الثرثرة المفكّكة الأوصال، وأغتنم هذه الفرصة الأخيرة لأشكرك من صميم القلب، ولأتمنى لك حظّا سعيدا.
المخلص فديريكو فيلليني
لوزان في: 18 أغسطس 1976
صديقي الغالي فيلليني،
كم كان تأثري شديدا، إثر توصّلي برسالتك! وكم كان يحدوني الأمل للحظة ما، في أن ألتقي بك بسويسرا! لكنّي أتفهّم جيّدا ردّة فعلك وتبرّمك.
كلّ ما كاشفتني بشأنه أثّر فيّ بشكل عميق، لأنّي رغم سنّ الثالثة والسبعين ونصف السنة التي بلغتها، ما زلت أشعر وكأني فتى صغير السنّ. من المحتمل أنك الشخص الوحيد في العالم، الذي أشعر حياله بأواصر وثيقة تجمعني به في مجال الإبداع. وقد حاولت أن أقرّ بهذا في إحدى المقدّمات، لكن ذلك جاء بكيفية رعناء. لذا، أريدك أن تشعر بمدى قربي منك، لا كفنان فقط ـ إن أمكن لي الاعتماد على هذه اللفظة، التي لا أحبّها ـ وإنّما كإنسان، وكمبدع أيضا.
لقد ظللنا نحن الاثنين، وأتمنّى أن نظلّ الى النهاية، طفليْن كبيريْن لا ينضبطان سوى لنوازعهما الدّاخليّة، التي غالبا ما تكون غير قابلة للتفسير، بدل الامتثال لضوابط خارجية لم تعد لها عندي، مثلما عندك، أية دلالة؛ بل لم تعد لها بالأحرى إلا نسبة أقل، عندك أنت بالذات مقارنة بي، إذا ما أخذنا في الاعتبار ما فضُل عندي بسبب الطفولة من نوع الخجل، بالنظر الى أني لم أكن سوى ولد لطيف للغاية وطيّع جدّا! بينما أنت، فمقدام. وإني لأحاول منذ سنوات، أي منذ أن توقّفت عن كتابة الرّوايات، أن أصبح مقداما مثلك، لكني ربّما صرت الآن أبالغ في النّطح، مثل الكباش الهائجة، دون العثور على البيئة الحقيقية للقيام بذلك.
إنّ الحلم الذي قصصته عليّ أشبه ما يكون ببعض أحلامي، لكني شعرت معه تقريبا بالحرج، لكوني حظيت في منامك بكلّ تلك الأهمية الكبرى، وساهمت بنصيب قليل من جهتي، في إخراجك لفيلم كازانوفا.
كثيرا ما عشت في حياتي أنا أيضا، لحظات مشوبة بالاضطراب والاحباط، وكثيرا ما دفعت بي الى محاولة التوقف عن الكتابة بصفة نهائية. ولعلّ مردّ هذا فيما أعتقد، هو ما نلاقيه أنا وأنت، من لحظات الضغط النفسي القاهر، التي نشعر أثناءها بنوع من الاجدوى والفراغ.
لحسن الحظ أنك تقفز عليها في كل مرة أنت على الأخص، وأنك كلما شعرت بالإحباط، إلا قفزت عليه، ووثبت أكثر فوق الوضع المنهار. وأعتقد ـ من غير أي رغبة مني في لعب دور الناقد ولا المحلل ـ بأنّ هذا أمر طبيعي للغاية، بل وبمقدوري أن أذهب الى حدّ القول بأنّ ذلك حدث عدّة مرّات، لشخص في قامة مايكل أنجلو أو ليونار دو فانشي.
أنا معجب بك منذ أفلامك الأولى جميعها. لكن ما يحظى على الأخص بإعجابي وتقديري هو قدرتك الذاتية، التي تمكّنك في كل مرة من التخلّص من الضغوط والتابوهات والضوابط المكرهة كافة. فأنت في عالم السينما الراهن فريد النوع، وإنك لتدرك أنت بالذات هذا الأمر، وتقرّ به في قرارك. فأنت تشقى، ويحدث لك أن تشعر بالوحدة، فتفقد على إثر ذلك الثقة بالنفس، لأنك لا تجد من المقرّبين إليك بالتحديد أندادا. لذلك، عليك أن تواصل مدّنا يا عزيزي فيلليني بأمّهات الأفلام المعاكسة للذائقة السائدة عند العموم، وهي الأفلام التي لا تعتمد فيها سوى على حُدوسك العميقة، بينما يواصل الآخرون مدّنا بأفلام مصنوعة وفق ضوابط ووصفات جاهزة.
أتمنّى أن نلتقي في يوم ما، لقاء الانشراح والصّراحة المعهودة بيننا، لأني أعتبرك شخصيا أخا شقيقا.
ولهذا بالذات، أطبع على خدّك قبلة أخوية صادقة، أنت وجيولييتا.
مخلصك الدائم ـ وجدانيا وإبداعيا ـ جورج سيمونون.
روما في: 30 أكتوبر 1976
عزيزي سيمونون،
جاءنا الصديق المشترك كييل، حاملا إلينا منك هدية جميلة، وهي ذلك الكتاب النفيس الذي خصّصْتنا فيه، جولييتا وأنا، بإهداء لطيف. فقد قرأت من قبل الجزء الأول ـ وحتى الثاني على ما أعتقد ـ من سلسلة تلك الأجزاء “المُمْلاة”، مثلما تصرّ على تسميتها، لمّا كنتُ ببيت كييل بزيوريخ؛ ويتعلّق الأمر بالكتابين اللذين يحملان عنوان: آثار الخطى، ورجل صغير. وكم كانت رغبتي شديدة في أن أكتب إليك وقتها، لأعبّر لك عن مقدار الفرح والسّلوان، الذي حققه لي ذانك المؤلفان أثناء قراءتهما! (واسمح لي بأن أفتح قوسا هنا، لأسألك: لماذا لم ينشر موندادوري أي شيء منها في إيطاليا؟).
وها هي ذي تلك المتعة السّحرية الآن، تتكرّر مع رجل مثل آخر بكيفية شديدة الكثافة، تعادل ما كنت قد شعرتُ به من قبل، أو ربّما تفوقه. فقد دأبت مثل ملايين القراء الآخرين في العالم، على أن أقرأ كتاباتك دائما بنوع من النّهم والعطش، غير أنّي أحسست هذه المرّة بأنّ ثمّة شيئا ما في طريقة قراءتي قد حدث، وأنا أتابع الأحداث والوقائع التي تتضمنها صفحات هذا المؤلف: لقد شعرت بفضول متوفز، وبحُميّا واعية وثاقبة، وبمشاركة تتضمّن تسلية وشقاء في نفس الآن، فظللت أترصّد ما كُتِب صفحة بصفحة، وأنا مغمور بالتوتر ونفاد الصّبر، وفي قراري يضطرب خليط من الآمال والمخاوف، التي أحسست أنّها تهمّني بشكل خاص وعميق.
ويا ما رفعتُ عينيّ عن الكتاب لمرّات، وأنا مستنكر ومندهش ومتأثر في الصميم! ويا ما همست لمرّات قائلا، وشعور بالرضا الحميم يغمرني: “أنا أيضا أرى الى الأمور بهذه الكيفية! أنا أيضا أتصرّف بهذا الشكل في عملي، ومع النساء والآخرين!”.
هذا مدهش! فقد ملأني الحماس والتأثر، وشعرت بفرح عارم. وكأنّ صديقا، بل أخا أكبر، أحسننا جميعا وأشدّنا ذكاء، وأكثرنا كرما وتواضعا وشجاعة، تقدّم في العمر لسنوات ليجرّب من أجلنا الحياة المنتظرة، بنفس الشهيّة التي نحسّ بها مفتوحة للحياة، وبذات القلق والانزعاج، وبنفس الفضول وحبّ التطلّع، وبنفس التوثب والخجل واللامبالاة؛ وكأنما هو ما تقدّم علينا في السنّ، إلا ليخضع نفسه لتجربة أكبر وأشمل، عانى فيها الكثير، واستمتع خلالها بالكثير، فأصابه المرض حينا، وذاق ما ذاقه في تجاربها من حلاوة ومرارة حينا آخر، ليتأكّد بأنّ العيش أمرٌ ممكن، وبأنّا نستطيع أيضا أن نحيا الحياة، وأنّ شأنها يسير بالأحرى بكيفية جيدة؛ وكأنّه يقف فوق جبل اليقين النسبيّ، الذي بلغ ذروته، ويدعونا وهو هادئ الدواخل وباسم الوجه، بإشارة منه تشجعنا على التقدّم الى الأمام، ومحاولة المواصلة وتجريب اللحاق به، ما دام قد مهّد لنا الطريق.
قد يصاب كل ناقد أدبي يقرأ هذه الأسطر بالرّعب، لأني عادة ما لا أحسن التعبير عمّا يجيش بالدواخل؛ وأعترف أني حين أعبّر، فإنما برعونة. لكن، كلّ ما حاولته هنا، بكيفية رعناء، كان بهدف أن أبيّن لك مدى فرحي الشديد بالنتيجة الرائعة التي توصّلت إليها، يا صديقي الأعزّ، يا سيمونون الهائل الذي لا يمكن أن يُعوّض أبدا!
لقد أنْهيت الآن رسالتي، ولن أضايقك بعدُ أبدا. وقبل أن أضع نقطة النهاية، اسمح لي بأن أرسم على جبينك قبلة تعبّر عن تقديري وإعجابي وامتناني وتعاطفي الكبير، وأن نتقدّم إليك ـ جولييتا وأنا ـ بأصدق وأحرّ الأماني، آملين أن تعيش سنوات هادئة ورائقة، مع رفيقتك تيريز اللطيفة.
المخلص فديريكو فيلليني
لوزان في: 9 نوفمبر 1976
عزيزي وأخي فيلليني،
ربّما كان من المرجّح أن أكتب “ولدي” لا “أخي”، بالنظر الى فارق السنّ الذي يفصل بيننا(12)؛ لكنك تدرك ولاشك أنّ استعمالي لهذه الكلمة، ما كان القصد منه سوى الإحالة على معنى آخر، غير ما هو معتاد لها. ثمّة شخصان فقط ممن أطلق عليهما هذه الصّفة، لعلّ أحدهما يكبرني سنّا، ويتعلّق الأمر بجان رونوار(13) Jean Renoir، الذي تعرّفت عليه قبل سنة 1930، حين كنّا نخوض المعركة جنبا الى جنب، لصالح ما سُمّي حينها بالسينما الطلائعيّة، وهو الأمر الذي كنّا نُساق على إثره عدّة مرّات، الى مركز الشرطة. وإذا كنت قد سمحت لنفسي بأن أماثل بينك وبينه، فلأنّي أولا لم أشعر معك قطّ بأنّ علاقتنا يمكنها أن تتأثر بالبُعد الجغرافي الفاصل بيننا، رغم أنّ كلاّ منّا يعيش بعيدا عن الآخر، وهو ذات الأمر الذي يحدث لي مع رونوار، بحكم أنه يسكن في منطقة كاليفورنيا، منذ سنوات.
ثمّة اتصال روحي ما بيني وبينك، ربّما أغالي في تمثله، لكنّي أؤمن به بصدق، مع ذلك. فنحن نسير معا، من منطلق شكليْن فنّييْن مختلفيْن، نحو تحقيق نفس الهدف: الوصول الى معرفة أشدّ حميميّة بالإنسان، حتى لا أقول بالإنسانية. وإننا لنعمل على تحقيق ذلك بنفس الطريقة، التي يمكن للمرء أن يسِمَها بالطريقة المضادّة للاشتغال الفكري.
أعتقد أني قلت لك من قبل، إنك شبيهي غريزيّ المنحى في الفن. فكلّ ما سجّلته بشكل لا إرادي منذ مرحلة طفولتك، وكلّ ما تنكبّ الى اليوم على تسجيله بشكل لاواع، ما تنفكّ تعيد صياغته بقوّة إبداعية تجعل أعمالك الفنيّة أعمالا كونيّة بامتياز. والأمر نفسه ـ وإن بصفة أقلّ نسبيّا ـ يجري معي. مثلما ظلّ يحصل لجان رونوار طيلة حياته الفنية كلها، بالطريقة ذاتها(14).
نحن أقرب ما نكون الى إسفنجات تمتصّ، دون علم بذلك، نبض الحياة من حولها، فتعيده بكيفية فنيّة فيما بعد، وقد طاله التحوّل والتبدّل، دون أن يعلم أيّ منّا طبيعة الخيمياء التي حدثت بدواخلنا، فحوّلت ما حوّلته فنّا. ولعلّ هذا يُعزى عندنا الى السّحر.
إنّك بالذات أعظمنا، نحن الثلاثة. إلا أني أعلم بالتجربة، كم تتضمّن هذه الكيفية المنذورة للإبداع، من مخاوف وإحباطات، وكم يشملها أخيرا من مشاعر الرّضا والارتياح.
أشعر بقربك الكبير منّي رغم هذه المسافة الفاصلة بيننا، فأسلّي النفس مع ذلك بالتفكير في إمكانية اجتماعنا سوية، في فرصة قادمة. حينها، سأتمكّن ولا شك من التعبير لك بكيفية أفضل عن إعجابي وصدق مشاعري، مثلما أستطيع أن أعبّر لجولييتا أيضا عن الامتنان الخاص، هي التي ما تفتأ تساعدك، وتعينك على تحمّل وطأة الإبداع الفنّي المتواصل باستمرار.
أقبّلك بشكل أخوي، يا عزيزي فيلليني، وألتمس منك أن تقبّل جولييتا لأجلي.
المخلص جورج سيمونون
لوزان في: 24 نوفمبر 1976
عزيزي فيلليني العظيم،
توصلت مؤخّرا بألبوماتك الرّائعة من قِبَل صديقنا المشترك كييل(15). ولمّا تصفّحتها، وجدتُ فيها تعدّد عبقريتك ووحدتها المتماسكة، في الآن ذاته. إنّك دائم التجدّد باستمرار، لكنك تبقى مع ذلك مثلما أنت تماما. وكأنّ قوّة داخليّة ما (وهذا أمر محتمل)، تدفعك الى ذلك دفعا. ليس في أعمالك أيّ تصنّع أو تحذلق، ولا أيّ تأصيل ينزع الى مجرّد التأصيل وحسب، وإنّما توجّهك الفنّي هو الأصالة الإبداعيّة بالذات، أي أنّها بعبارة أخرى لا تنتمي إلا إليك، من غير أن تكون قد وقعتَ أنت تحت تأثير أيّ حركة فنية أو تقليعة تعبيريّة؛ وهذا ما يجعل أعمالك نفيسة جدّا وفريدة للغاية.
سبق لي من قبلُ أن كوّنت بشأن رسوماتك الإعداديّة، التي حصلتُ على ألبومها للتوّ فبلبلني، نفسَ الانطباع؛ لأنّ بمقدور تلك الألبومات مجتمعة أن تجد لها موقعاً لائقا بها، لتعرض سواء في أحد الأروقة الفنيّة، أو في خزانة للأفلام والوثائق السينمائيّة، أو حتى في معرض مخصّص لعلم النفس البشري.
أتعلم أني أحببت السيرك أنا نفسي، وشغفت به أيما شغف؟ كان ثمّة حوالي سنة 1916، بمدينة لييج التي كانت مسقط رأسي، سيرك مهمّ لا يتخذ شكل فسطاط متنقّل، وإنّما شكل بناية كبيرة صلبة المعمار، تقدم فيها مع مطلع كلّ فصل خريف، عروضٌ فنيّة يوميّة طيلة الأسبوع، بل كان يقدّم أحيانا عرضان اثنان في اليوم.
لقد كنت مفتونا بالسيرك. وشاءت الأقدار أن أصير كاتباً صحفيا في صحيفة لاجازيت دولييج La Gazette de Liège. وبما أنّ إدارة التحرير لم تشأ أن تعهد إلي بالزاوية الأدبيّة الخاصّة بالأوبرا، سواء منها الأوبرا المضحكة أو الكوميديا، فقد ورثت زاوية الكتابة عن السيرك. وخُصّصَتْ لي فيه شرفة أتفرّج منها كلّ يوم على العروض. كان برنامج العروض يتغيّر كلّ أسبوع، إلا أنّ هذا لم يكن يمنعني في بعض الأحيان، من متابعة العروض لمرّتين أو ثلاث مرّات في الأسبوع نفسه.
بطبيعة الحال، كنت أقتحم الكواليس، وأتجوّل بين حجراتها ومرافقها. وبذلك، صرتُ صديقا لأغلب الفنانين والفنّانات، الذين كنتُ أراهم إمّا يهيّئون أنفسهم لتقديم العروض، أو يجلسون أمام المرآة لوضع رتوشات الماكياج الضروريّة على وجوههم. وبذلك، تعرّفت على ما يمكن تسميته بالعائلات الكبرى التي تنذر حياتها للسيرك، وهي أسر محدودة العدد، تتقاسم بين أفرادها مختلف التخصّصات الفنيّة للسيرك. وإني لأذكر في معرض هذا السياق، أنّ امرأة متخصّصة في ألعاب التأرجح الهوائي، قالت للجميع بصوت هادئ ذات مساء، بعدما انتهت من تأدية دورها البهلواني على الحبل المعلّق تحت سقف عمارة السيرك: “والآن، عليّ الالتحاق سريعا بالمستشفى، لأني على وشك الولادة!”؛ لأنّ كلّ شيء كان يبدو لها طبيعيّا بشكل تامّ. زد على هذا أنها استأنفت دورها مباشرة، بعد التوقّف الذي دام أياما معدودة فقط.
وكنتُ الى جانب ذلك صديقا أيضا لعائلة فراتيلليني Fratellini الإيطالية الأصول، التي أنجبت أشهر المهرّجين الذين امتدّوا على مدى ثلاثة أجيال، يتوارثون فيما بينهم تلك المهنة. وكانت آخرهم في تلك الآونة امرأة، سبق لها قبل أن تتزوّج من الكوميدي الفرنسي بيير إيتيكس Pierre Etaix، أن كانت إحدى عشيقاتي؛ بل لم تكن تجمعنا غواية الجسد وحدها، وإنّما كنّا حتى حبيبيْن حقيقيين في لحظات معينة.
ها أنت ذا ترى بأنّ لدينا على الأقلّ، وبصرف النظر عن المعرفة المخصّصة للإنسان، موهبة واحدة نشترك الاهتمام بها بيننا.
أمّا بالنسبة الى رسوماتك الإعداديّة، فأتمنّى أنْ يُفكّر القائمون على رواق من أروقة العرض الفنيّة في العالم في تقديمها للعرض، ضمن إطار يليق بقيمتها الفنيّة والمعرفيّة ذات الصّلة بعلم النّفس.
بعد ترجمتها بعناية فائقة، تمكّنت من إعادة قراءة رسالتيك الأخيرتين من البداية الى النهاية. ولكم غمرني الفرح إثر ذلك، مثلما اعتراني في نفس الوقت بعض الارتباك، لأنّك أنت الفنّان الحقّ، الذي أشعر في دخيلتي، أمام مجموع أعماله الفنيّة المتعدّدة، بأنّي صغير بصفة كاملة.
أنا الآن خارج دائرة الإبداع، ولهذا ربّما أتفهّم مخاوف المبدع بكيفية أفضل.
قبّل جولييتا قبلات حارّة من جهتي، هي التي لا تني تذكّرني نسبيّا بالسيرك، ما دامت تتقن هي كذلك فنّ التدريج بشكل حقيقي. ولا تنس أن تنقل لها عبارات التقدير والإعجاب، من جهتي.
أرسم على خدّك يا عزيزي العظيم فيلليني، قبلات الأخوة الحقة، وأودّعك.
جورج سيمونون
لوزان في: 17 نوفمبر 1976
عزيزي فيلليني،
أنا في أوج سعادتي وفي قمّة انتشائي. أولا، بسبب الكلمة اللطيفة التي جاءتني منك، وأنت بزيوريخ؛ فانبريت أردّ عليها باعتماد عنوانك بروما، لأني لا أعرف كم من الوقت ستمكث هناك بسويسرا. ثمّ لأنّي توصّلت منك اليوم بألبوم المهرّجين الرّائع، وهو ما جعلني أحوز من هذا الصنف ألبوميْن اثنيْن(16)، الشيء الذي يسمح لي حقاً في الاسترسال الجميل في الحلم.
لاشك أنك ستشعر بالارتياح، الى جانب الشعور طبعا بالقليل من الفراغ، بعدما فرغت من عملك الجبّار، الذي أنجزت فيه التحفة الفنّية الهائلة: كازانوفا. وإنّي لأستعجل رؤيتك، وتقبيل خدّيْك. أنا أعيش لحدّ الآن، مغلقاً عليّ بإحكام في شقتي الصغيرة، للمعالجة من نزلة زكام ألمّت بي مؤخّرا. لا شيء ثمّة يستدعي القلق، باستثناء المضادّات الحيويّة التي تتعبني بشكل رهيب.
إنني كثيرا ما أفكّر فيك، هذه الأيام. لذلك، حين تعود مرّة أخرى الى زيارة سويسرا، لا تنس أن لك بيتا هناك هو بيتي الصغير المتواضع، حيث سيعدّ حلولك بين ظهرانيه، حلول أخ شقيق.
لك كلّ تقديري وإعجابي، يا عزيزي فيلليني. ولا أجرؤ إلا بالكاد على أن أبثّك أمنيتي بأن تكون سنتك الجديدة سنة نجاح، مثل التي قضيتها هذا العام، لأني أضع في الحسبان مجموع الثقل التي حملته على منكبيك خلال هذه السنة. ولحسن الحظ، أنهما عريضان وقويان!
لكما معا، مرة أخرى، أحلى الأماني والمتمنيات. ولا تنس أن تعرّج عليّ مثلما يحلو لك، حتى ولو من غير سابق إشعار.
جورج سيمونون
روما في: 27 نوفمبر 1976
عزيزي الغالي سيمونون،
إنّ من دواعي الفرح الحقيقيّ أنْ يتعرّف المرء، وسط كمّ الرسائل الهائل، على مظروف رسالتك ذي التناسب القويم، وقد كُتِب عليه اسمي وعنواني بحروف أنيقة، طبعتها آلة كاتبة.
حقّا، إنّ التراسل معك صنيعٌ مدهش وطريف، يعيد لي نُسغ الشّباب وقوّته، لكوني أعثر فيه على نصيب وافر من الحماس، وأعيش أثناءه لحظات من الانتظار المُطَمْئن، ورغبة عارمة في الدّردشة والبوح، ممّا اعتقدتُ أنّي لن أعثر عليه أبدا، أو أعيشه. فأنت ما تفتأ تغدق عليّ برسائلك، بكرم وافر ولطف رقيق منك، حتى انتعشت علاقتنا وغدت بحقّ طبيعيّة، الى حدّ بدا لي معه أنّ من الغريب جدّاً أن لا ألتقي بك بالصدفة على قارعة الطريق، أو على رصيف مقهى أو مطعم، مثلما يلتقي الناس بالأصدقاء الذين يعرفونهم منذ الأزل، والزملاء الذين يسيرون معهم في الحياة على نفس النهج الذي ساروا عليه، أو مثلما ألتقي أنا بأولئك الذين اشتغلت معهم في هيئة تحرير واحدة من نفس الجريدة، فكتبنا معاً ملخصات الأفلام والسيناريوهات السينمائية، وقضينا ساعات متأخرة من الليل في السّهر، ثمّ رافقنا بعضنا البعض الى البيت، ونحن لا نكفّ عن الدردشة الطويلة، الى مطلع الفجر…
في الأسبوعين المنصرمين، سافرت الى زيوريخ، فانتابتني رغبة قوية في رؤيتك، لكنّي اكتفيتُ بمجرد كلمة قصيرة بعثت بها إليك من المبنى الصغير، حيث يتواجد مركز الطباعة والنشر الواقع في ملكية صديقنا كييل، والذي أطلعني بوجه تشرّب بحمرة الرّضا والانبساط، على نماذج أولية من الأغلفة المخصّصة لمؤلّفاتك الستّ، التي سينشرها قبل متمّ هذا العام. وقد شدّ انتباهي ما رأيته من تفاصيل الرّسوم التي أنجزها بيكاسو، على تلك الأغلفة.
ناقشت مع كييل نسبيّا هذه الفكرة، واقترحت عليه بشكل خجول (لأنّي على يقين تامّ بأنّ العديد من ناشريك الكُثر، أنجز شيئا من هذا القبيل)، أن يستبدل تلك الرسوم بصور فوتوغرافية لوجوه رجال ونساء، يتمّ التقاطها من زاوية نظر قريبة جدّا، أو بصور لشخصيات تتنقّل هنا وهناك، أو لأشخاص نكرات تؤخذ لهم صور عن طريق الصدفة، فيظهرون فيها وكأنهم بوغتوا بنا ندخل عليهم الحانات، أو نتقاطع معهم في شارع من الشوارع، أو نلتقي بهم في محطات القطار المختلفة، على امتداد المدن الأوربيّة.
من المؤكّد أنّ هذه الصّور ينبغي أن يتمّ إنجازها بكيفية خاصّة جدّا، ثمّ تطويرها وتقطيعها وطبعها، من خلال محاولة استعادة الأجواء القديمة، والدّمغة الفوتوغرافيّة التي ارتبطت بثلاثينيّات وأربعينيّات القرن.
أصغى كييل الى ما قلته باهتمام شديد، وبعدها حرّك رأسه، ثمّ شرح لي بكيفية واضحة، بصوته المنغّم النبرة والهادئ، مؤكّداً على أن الجمع بين بيكاسو وسيمونون من زاوية نظر طِباعيّة، وإذن: تجاريّة، له دلالة إيحائية كبيرة جدّا بالنسبة للألمان، الذين هم في حاجة دائمة الى القليل من الترهيب والتخجيل، والى ما يجعلهم متأهّبين من قِبَل شيء ما، يحظى بكيفية قطعيّة بقيمة كرّسها التاريخ.
ومهما يكن، فإنّ تلك المجموعة المنتخبة من المؤلفات قد بدت لي على كلّ حال، رائعة!
بعد زيوريخ، ذهبت الى لندن لأكرّس وقتي كلّه لعملية الميكساج الصّوتي النهائيّ الخاصّ بالنسخة الانجليزيّة من فيلم كازانوفا. فأيّ عمل عابث هو “طباعة” هذا الفيلم! إذ أنجزت تصويره باللغة الانجليزية (وهذا في حدّ ذاته عمل أهبل!)، ثمّ كان عليّ أن أترجمه فيما بعد، بإعداد دبلجة إيطالية، ليتعيّن عليّ مجدّدا القيام بنقله الى الانجليزية، بناء على ما تمّ بالإيطالية! وها هو في هذه الأثناء يخضع للدّبلجة الفرنسيّة بفرنسا، بعد أن ترجم من الانجليزية والإيطاليّة!
أنا ما أفتأ أنظر بعين التقدير والإعجاب الى بساطة التعبير المُعجز، التي حقّقتها في كتاباتك الأدبيّة، يا عزيزي سيمونون، باعتماد لغة قابلة للترجمة الى أي لغة أخرى في العالم، كيفما كانت طبيعتها أو خصوصيتها، دون أن تفقد تلك اللغة بالكلّ، سحر الأسلوب الذي يقوم على تقنية السّهل الممتنع.
أمّا أنا فألقى كلّ مرّة مع اللّغة المحكيّة في أفلامي، التعقيدات الشّديدة والعويصة جدّا، لأنّ ثمّة دائما بعض الكلام العامّي في أفلامي، وتعبيرات مأخوذة من اللغات الدّارجة، وشخصيات تتكلّم بطريقة تميّزها بشكل خاص، فتتصرّف تصرّفا شخصياً كبيراً في كلمات بعينها، وفي بناء بعض التعابير الدّارجة التي لا تكون بالمرّة قابلة للترجمة الى لغة أخرى، لأنّ الثقافات والأساطير والديانات والفولكلور والعادات مختلفة بنسبة كبيرة جدّا، من شعب الى آخر.
كان هذا الفيلم قاسيا وعنيدا ومعادياً، وقد بدأته على مضض! ويبدو لي بأنّه، في الحدّ الذي يُسمح لي فيه بإصدار حكم ما على منجزي الفنّي، يمثّلني بشكل نسبيّ تمثيلا خالصا، أو أنه يمثل على الأقل هذه الفترة بالذات من حياتي، التي تخلّلتها فترات من الشكّ، والرّيبة، والتردّد، وخيبة الأمل. كما يبدو لي بأنّ جميع ما خلّفته ورائي، لم يعد يسعفني بالكلّ، وأنّي لهذا السّبب اللاواعي كنت أمانع ربّما ذلك الفيلم: لم أكن أرغب في إنجازه، لأنّي استشعرت بأنّ شيئا ما كان ينبغي عليه أن يتغيّر، بعد خروجه للعموم.
بلادي، روما، عاداتي وطريقتي نفسها في العمل، كلّ هذا يحتاج منّي الى تغيير. وأحلم بالذهاب الى بلد آخر، الى أمريكا بالضبط، والى إعادة ترتيب حياتي ترتيبا يبدأ من نقطة الصّفر، وكأني ولدت من جديد. أعرف بأنّك ما فتئت تقوم بهذا في أغلب أوقات حياتك، وانتهيْتَ مع ذلك الى البقاء بأعجوبة مخلصاً لنفسك مثلما أنت، حتى ولو أنّك كنت كثيرا ما غيّرت الوسط المحيط بك، وكثيرا ما نقلت موهبتك التي هي كنزك الحيويّ الحقيقي، من مكان آمن الى آخر أكثر أمنا.
أعتقد، وأنا أفكّر في هذه المسألة بهدوء، بأنّ عليّ القيام حقّاً بمثل ما قمتَ أنت به، لكنّي أعلم في نفس الوقت بأنّي لن أفعل ذلك، ولن أسافر، وسأجد آلاف الأسباب والحجج التي سأعلّل بها إرجائي للفكرة، وسأعثر على كافة أنماط التبرير التي يُمكن التعلّل بها، بدء من البواعث القوميّة وانتهاء بالأسباب الفنيّة، التي ترى أنّ الفنّ “لا ينبغي له أن يتعرّض الى عمليات الاجتثاث التي تمنعه من تربته وأصوله”، والى التعلّل بحجّة اللغة، ومن الممكن لي أن أدّعي حتى بعض الأسباب، التي ترتبط بحالتي المدنية، من قبيل: أنّي هرمت كثيرا، وتعبت بما فيه الكفاية!
لاشك في أني أزعجك بهذه التخاريف المشبعة بالثرثرة؛ لذلك، امنحني وعدا بأن لا تضيّع وقتك في الإجابة عن هذه الشكاوى المتباكية. إذ أن شيئا ما سيحدث عندي، ولاشك.
لكنّي أحسّ بأني أنا من ينبغي عليه هذه المرّة، أن يساعد نفسه في ترتيب مسار الأمور، وضبط التوجّه الجديد الذي ستسير عليه.
والحال أني أشعر وكأنّي لم أقرّر في أي شيء من حياتي أبدا، رغم أني أمارس دوماً مهنة ظلّت تلزمني باتخاذ آلاف القرارات في اليوم الواحد. لكن هذه ليست سوى قرارات خاصّة جدّا، سهلة التعرّف عليها، بل هي ليست حتى قرارات، وإنما أشبه ما تكون بأمور مقرّرة سلفا، ما كان علي سوى اتباعها. في حين أنّ القرارات الأخرى، تلك التي لا تتعلق بكيفية التعبير الإبداعي عندي، وإنّما تتصل بالأحداث والوقائع التي ينبغي أن تطال حياتي الشخصية، على المستوى الاجتماعي والعاطفي، فيبدو وكأني لم أتخذ بشأنها أي قرار واع بالمرّة.
سأوقف سيل هذه الشكاوى السخيفة، ولنتحدث في شيء آخر.
اطّلعت لدى صديقنا كييل في زيوريخ، على حوار كان قد أجراه معك بعض الأطبّاء. وأنا أتابع قراءة ردودك الخاصّة والملهمة جدّا، اكتشفت في لحظة من اللحظات بأنّك تُكنّ الكثير من التقدير والإعجاب بيونج(17) Jung . وإني لأعتبره أنا نفسي واحدا من بين المفكّرين العظماء، الذين ألهموا الإنسانية. لذلك، تحدوني رغبة عارمة في أن أروي لك وقائع زيارتي لبرجه الشهير، الذي يقع في بلدة بلينجين Bellingen.
كان ذلك البرج، الذي سبق لي أن قرأت عنه بعض الأمور في الفصل الذي خصّصه له يونج بالذات، في كتابه: ذكريات وأحلام وتأمّلات؛ يشبه الى حدّ ما كوخا صغيرا بُني على شاطئ بحيرة. هو بالطبع عملاق، لكنّه أقرب ما يكون الى بناء شيّدته يد فتى غرّ، بمعنى أنّه أقرب ما يكون الى تشكيل طينيّ سُوّي بكيفية يدويّة عفوية. لقد شعرت حياله بمشاعر احترام كبيرة، لأنّه بدا أقرب ما يكون الى دار حضانة فقيرة. ومع ذلك، ظهر لي أيضا بأنه يحمل ملامح مسرح صغير، وهو ما حذا بي الى تخيّل يونج منكبّا على العمل في برجه ذاك، في ما يشبه خشوع ممثل مسنّ وتواضعه، وكأنما هو كان يتمرّن هنالك، في طقس بسيط وغامض، على أداء دور رعاة مسنين من القوقاز. والى جانب ذلك، كان كلّ ما في البرج قد لاءمني بشكل كبير، لأنّه لا يحاول فقط إعادة إنتاج أشياء من الماضي العتيق، ومن العصر والوسيط، وإنما هو يملك حقا صفة من صفات المسرح.
استقبَلَنا، أصدقائي وأنا، أحد حفدة يونج، وكان أصغرهم. كان ذلك الفتى قد شاهد أفلامي، فأظهر لي على إثر ذلك لطفا وائتمانا، فأدخلني حجرة صغيرة لا تُفتح عادة في وجه عموم الزّوار، لأنّ اقتحامها مثلما أخبرني ذلك الفتى، يخلق لهم صراحة بعض الحرج، في الأسرة .
ارتقيْنا سلما صغيرا ضيقا، قُدّت درجاته من حجر، ثمّ فتحنا دفّة باب صغير. في البداية، استقبلنا ظلام دامس كان يسود الفضاء، لكني سرعان ما استطعت أن أميّز بعد ذلك، تفاصيل حجرة ضيّقة وخانقة لها نافذتان شُكّلتا على طراز قوطي بزجاج مرمري ثخين، كان يونج بنفسه قد صبغ جدرانها، ورسم عليها تزاويق دائريّة، ودراسة لمختلف الأساطير، وبعض الأشياء والتماثيل الصغيرة جدا، وخرذة تفوق كلّ تصوّر. وفي زاوية من الحجرة، عُلّق ثوب ساحر ومشرّع وشيخ معلّم. وقد أخبرني الحفيد أنّ جدّه كان يقضي في هذه الحجرة السّاعات والسّاعات الطوال.
بالتأكيد، أقلّ ما يمكن أن يقال هو أن تلك الحجرة مثال شاذ وغريب ومخالف للمعهود، وهو ما دفع بأصدقائي الى استشعار درجة قصوى من الارتباك، فلم يتجرؤوا أبدا على البوح بأي شيء؛ إلا أنّ المرء يتفهّم جيّدا بأنهم كانوا منفصلين عن حقيقة الأجواء، التي يكتنزها ذلك الغريب. أمّا أنا فمنحني على العكس منهم، شعورا بالفرح الخالص، وجعلني أحسّ بنموذج آخر ليونغ، أكثر إنسانيّة، وأعظم شأنا، وأقرب بكثير إلي، وأدعى في نفس الآن للغموض. وكأنّي اكتشفت عنده “رذيلة” ما، كان يتكتّم عليها، ويخفيها، فأحببته لذلك السبب بالذات، أكثر فأكثر.
إنّ ما جعله يكبر في عينيّ هو ذلك التواضع اللامحدود، الذي انقطع فيه الى التمرّن على طقوس قديمة وبالية، لم تكن تحتاج عنده الى عملية التباهي والتظاهر المتعاظمين، وإنّما عمدت الى اختيار الفقر الذي يميّز ساحر البانتو Bantou البدائي القديم. فأن يقبل عالم مثل يونج، فيلسوف ومفكّر، بالشروط التي يفترضها طقس من الطقوس السحرية، التي يمكن أن تبدو لنا بأنها على الأقل سخيفة بشكل ما، فإنّ هذا يعني أنه يعرف كيف يرى بشكل ثاقب غور الأمور، وكأنّه ما خلّف كلّ تلك الأشياء وراءه حقيقة، إلا لتؤخذ في الغالب الأعم على محمل الجدّ اللائق بها.
عزيزي سيمونون، أدركت الآن أن هذه الثرثرة لن تنتهي أبدا. لذلك، ألتمس صفحك وغفرانك.
ومن صميم القلب أتمنى لك أنت وتيريز، سنة هادئة ورائقة تتكوكب حول نهاراتها ولياليها الأفراح والمسرّات الحميمة والصغيرة، التي تعرف أنت بالذات، في هذا الفصل من حياتك، كيف تقدّر حجمها بشكل كبير.
واسمح لي بأن أقبلك يا صديقي الأعزّ، قبلة فيها تقدير ومودّة.
المخلص فرديريكو فيلليني
لوزان في: 3 يناير 1977
عزيزي فيلليني،
لو لم تكن فيلليني العظيم الذي أعرفه حقّ المعرفة، لكتبت هذه الرّسالة على شكل عمودين متناظريْن، الأول بعنوان “الايجابيات”، والثاني “السلبيات”. لكن، لا أحد قد يتجرّا، فيسمح لنفسه بإسداء النّصح لامرئ مثلك، لأنك كيفما كان الحال لن تتبعها بالكل، كما قلت أنت بالذات.
إنّك بحق لقوّة من قوى الطّبيعة، وهذا أمر لا تدركه أنت نفسك. وسواء شئت أم أبيت، فإنّك لن تتبع سوى النوازع الصّادرة عن قوى وعيك الكامنة، أي عن عقلك الباطني.
لقد عشتُ ـ في نطاق جدّ متواضع ومحدود ـ نفسَ حالات الشكّ وانعدام اليقين، إضافة الى حالة الفراغ التي تعاني منها أنت، اليوم. وهذا غير مثير للاستغراب بالنسبة إليك، لأنّي متأكّد من أنّك حققت، حتى وإن حصل هذا بالرغم عنك، أحدَ أهمّ الأعمال الفنّية على الإطلاق.
وفي تلك الأثناء، قرّرت الذهاب الى الولايات المتحدة الأمريكيّة، إلا أنّ الحرب كانت قائمة، وكان يقع تحت مسؤوليتي طفلٌ عمره أقلّ من عام، يحتاج منّي الى الرعاية والحدب. عندها، انتظرت الى أن حلّت سنة 1945، فرحلت. إني قضيتُ حياتي على الأرجح، مترحّلا باستمرار من مكان الى آخر، لغياب أي مرساة تشدّني الى أرض بعينها، على العكس منك يا عزيزي فيلليني، لكوني لا أنحدر من أي موطن محدّد، في حين أنك ستبقى قبل كلّ شيء من أصول رومانية.
وفي الولايات المتحدة، لم أشعر بأي اغتراب بالكلّ، بل غمرني على العكس من ذلك، شعور بالتجدّد. إلا أنّ هذا لم يمنعني من أن أقرر بشكل فجائي ذات مساء، بعد أن مرّت عشر سنوات على إقامتي هناك، بيعَ جميع ممتلكاتي والرحيل مع أول سفينة، تعود الى أوروبا. فهل من حاجة بعد هذا، الى أن ألجأ معك الى عموديْ “الايجابيات” و”السلبيات”؟ إنّ عقلك الباطنيّ هو الذي سيدفعك الى القيام ربّما، بما عليك القيام به، حتى ولو وقع ذلك منك بنفور وتقطيب جبين!
لا داعي للقول بأنّي أستعجل مشاهدة فيلمك. ذلك أنّ لدي انطباعا يشعرني بأنك، ولأكثر من أي وقت مضى، قدّمتَ في هذا الفيلم بالذات، أقصى ما تملكه من مواهب فنّية، الى حدّ أنك خرجتَ منه منهكاً بشكل تام، ومتردّدا بشأن إمكانيّة ما ستبدعه فيما بعد.
لدي ثقة كبيرة بمواهبك. فأنتَ خُلِقت مبدعاً موهوبا، ولن تمكث متردّدا ولا حائراً بين شطّيْن لوقت طويل، سواء أكنت في روما، أم في نيويورك، أم في لوس أنجلوس.
إنّ الفقرة التي أشرت فيها الى زيارتك لبرج يونج في الرسالة الأخيرة، خلّفت لديّ حنينا كبيرا. فأنا لا أكفّ منذ أربعين عاماً، عن قراءة يونج والإعجاب به. وحين وصلت الى سويسرا للإقامة بها، تردّدت في الكتابة إليه، لألتمس منه موعداً، ألتقي معه فيه، فلم أجرؤ. وبعد ذلك بوقت قليل، التقى به صحفي سويسري كبير، هو الآن في عداد الموتى، ففوجئ بالعديد من مؤلفاتي صُفّت على رفوف خزانته، فأخبره بأني كنت وما أزال أحلم بالالتقاء به، فردّ عليه يونج قائلا:
وأنا كذلك. فيأتي عندي وقتما شاء، ليقضي النهار ببيتي.
وحين تهيّأت لزيارته إثر ذلك بأيام، والفرحة الشديدة تغمرني، مات الرجل على حين غرّة.
لم ألتق به بالمرّة، إذن، لكني قرأت جميع مؤلفاته. وأعتقد أنّي أدركتُ الباعث الذي دفع بيونج الى الاطلاع على ما أكتبه. إنّه يُحلّ الغريزة والعقل الباطني المحلّ الأول، الذي يرفعهما فوق الذكاء، خاصّة العقل الباطني المُبدِع بالذات، الذي من شأنه أن يكون الحدّ الذي يتيح لنا أن نُعرِّف به عبقريتك.
فسواء سافرت الى أمريكا بهدف الإقامة الدائمة، أو لمجرد العمل المؤقت وحسب، فأنا أشكّ في أنّ ذلك سيفيدك في أمر من الأمور، لأنّك تملك على العكس مما هي عليه حالي تماما، جذوراً ضاربة في أعماق تربتك الأصيلة. إنّك من أهل روما الأصيلين، بينما أنا لا أنحدر من أي مكان.
أنا لستُ بالكلّ عرّافاً يقرأ الطّالع، وإنّما مجرّد مسنّ ربما يخرّف. ولذلك، فإنّ ما فهمته من حالتك، على ما أعتقد، هو أنّك تعيش الآن لحظة انعطاف في مسارك الفنّي، وأنّه صار يتعيّن عليك أثناءها الحسم في اتخاذ القرار المناسب، مثلما حصل لي في مثل سنّك. وقد أذهب الى حدّ القول الشديد الدقة بأنّك لن تتخذ قرار الهجرة. وإنما ستذعن لغريزتك وحسب، أكثر مما ستأبه بأي اعتبار ذهني آخر، وهذا هو السبب الذي يجعل نصيحتي لك غير مجدة بالمرّة.
لا أحد ينصح فيلليني. فهو سيتّبع طريقه رغم مشيئة الجميع، ورغم مشيئته هو بالذات، أيضا!
إني واثق بك، مثلما قلت آنفا. ولهذا، فإنّ النصيحة الوحيدة التي قد أسمح لنفسي بتقديمها لك، هي أن تتّبع بالضبط نظريات يونج، وأن تترك عقلك الباطني ينطق، من غير تدخّل ولا رقابة.
إنّك منحتنا الكثير مما تملكه، لحدّ الآن. وبذا، فأنت أبعد ما تكون عن نهاية الطريق، بل أعتقد بأنك ستبدع المزيد من الأعمال الرصينة الأخرى، التي تحمل دمغة القوة الإبداعية الأكبر على الإطلاق.
أنا نفسي أرغب في التحدث طويلا معك، يا عزيزي فيلليني، دون ناظم يضبط حبل الأحاديث، عدا الثقة والتقدير والمحبّة القائمة بيننا.
المخلص في إعجابه الدّائم بك، جورج سيمونون.
على سبيل الإضافة:
بخصوص حديثك عن أغلفة الكتب: هل تعلم أني كنت سنة 1932، وأنا أتهيأ لإصدار سلسلة الروايات البوليسيّة التي يلعب بطولتها المفوّض ميغري Maigret، الأولَ في العالم الذي أصدر أغلفة فوتوغرافية، لا تتضمن تفاصيل الأجواء المرتبطة بالرواية وحسب، وإنّما أهمّ شخصياتها؟ وقد صار هذا تقليدا في الطباعة الآن، بينما كان يعدّ قبل خمس وأربعين سنة، وكأنه عمل ثوري.
ليس على سبيل التنويه:
يمكنك أن تبرمج من غير الوقوع في الخطأ لفيلم جديد، لكنك لا يمكن أن تبرمج أبدا، لحياة المدعو فريديريكو فيلليني!
الهوامش:
(*) العنوان من وضع المترجم.
1) باعتماد التصنيف الذي اقترحه مارشال ماكلوهان M. MacLuhan، ثمّة ثلاثة مراحل أساسية في تطوّر السيرورة التواصلية المرتبطة أساسا، بالأثر المباشر الذي تحققه الوسائط على مستوى الأفراد والمجتمعات. ويختصر ماكلوهان هذه المراحل في ما يلي: مرحلة بدائية تعتمد على وسيط شفهي (السمع/الأذن)، ومرحلة الكتابة ثمّ الطّباعة، التي يختزلها مفهوم مجرّة غوتينبرغ. وهي المرحلة التي تدشّن لحظة الانتقال الى النصّ المكتوب (الرّسم/العين). ثم أخيرا مرحلة المخترعات السّمعية البصريّة، حيث يتمّ الإدماج فيها بين الأذن والعين، ويختصرها مفهوم مجرّة ماركوني. للتوسّع في الموضوع، يرجى مراجعة الأطروحة كاملة في كتاب ماكلوهان المركزي: مجرّة غوتينبرغ La Galaxie Gutenberg : la genèse de l’homme typographique، مونتريال، 1967.
2) يمكن أن نذكر على سبيل التمثيل لا الحصر، أبرز تلك الأضمومات :
3) هذه الرسالة المشار إليها ههنا، لم يتم العثور عليها. ومن المحتمل أنها كانت الفرصة التي اغتنمها سيمونون ليعيد ربط الاتصال بفيلليني، على هامش تتويجه بالسّعفة الذهبيّة، في دورة 1969 من مهرجان كان السينمائي.
4) يتعلّق الأمر بفيلم: مفكّرة سينمائي، مدّته 60 دقيقة، كان التلفزيون الأمريكي هو الذي أنتجه.
5) كان فيلليني قد شارك يوم 30 نونبر 1969 في برنامج “ضيف الأحد”، الذي تعدّه القناة التلفزيونيّة الفرنسيّة الثانيّة.
6) جيولييتا ماسينا (1921/1994) هي زوجة فديريكو فيلليني، الذي اقترن بها منذ سنة 1943.
7) يتعلّق الأمر بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، التي توجت بها لجنة المهرجان الأمريكي شريط أماركورد (= أتذكّر) Amarcord.
8) شيانتشيانو Chianciano منتجع سياحي جبلي، يقع في منطقة توسكانيا، وهو معروف بمياهه المعدنية الساخنة، التي تعتمد في العلاج.
9) فالمونت Valmont مركز استشفاء واستجمام في منتجع سويسري.
10) الدكتور مابيز Mabuse شخصية أدبيّة من خيال الأديب الفرانكوـ ألماني نوربرت جاك (1880/1954)، وهي لعالم نفس ومنوّم بالتنويم المغناطيسي ومجرم، يتخفّى وراء مجموعة من الأقنعة. وكانت لهذه الشخصية شهرة ذائعة الصيت في أوربا.
11) دانييل كييل مؤسّس لدار ديوجينيس فيرلاغ Diogenes Verlag، التي نشرت بالألمانية أعمال كل من سيمونون وفيلليني.
12) هو فارق سبع عشرة سنة فقط!
13) جان رونوار Jean Renoir (1894/1979)، سينمائي فرنسي من أوائل من حوّل روايات سيمونون البوليسيّة الى السينما، منذ سنة 1931.
14) لم يكن جان رونوار يخفي أبدا، أنه ورث ثقته بالغريزة من جهة والده. فقد كان كلاهما يرتاب من الذكاء، ويحيد عن كلّ نزعة موغلة في إعلاء شأن الذهن. وكان شعارهما المشترك هو: فليسقط الدّماغ، ولتحيا الحواس!
15) يتعلّق الأمر بمجموعة من الكتب التي صدر منها الجزء الأول بالفرنسية سنة 1977، عن دار الشنر ألبان ميشيل، تحت عنوان: أفلام: أربعمائة أفضل صورة فوتوغرافية من خمسة عشر فيلما ونصف الفيلم لفريديريكو فيلليني.
16) فريديريكو فيلليني، I مهرّجون، منشورات كابيللي، بولون، 1970.
17) يحيل فيلليني هنا على كتاب سيمونون الموسوم بعنوان: شواء Le gril، وهو كتيّب صغير من 64 صفحة، صدر سنة 1968 باللغة الفرنسية، ويضمّ حوارا كان قد قام به مجموعة من الأطباء مع الروائي سيمونون، بمناسبة السنة الخامسة والعشرين من صدور مجلة طبّ ونظافة.
التقديم والترجمة والهوامش: أحمد الويزي*