صدر عن دار فضاءات للنشر والتوزيع رواية (القط الذي علمني الطيران) للكاتب والروائي المعروف هاشم غرايبة، وتقع الرواية في 204 صفحات من القطع المتوسط.
تستمدّ الرواية مادتها من التجربة الشخصية للكاتب في سجن فرعي صغير (سجن اربد- دار السرايا اليوم)، مع مساجين قساة لكنهم صادقون.. هنا الناس مكشوفو السريرة، أرواحهم مشرعة الأبواب، مخلّعة النوافذ.. لكنهم أبناء الحياة!
هذا سرد روائي مختلف عما ألفنا من أدب السجون، فهي تبتعد عن التذمر والشكوى، وترصد دفق الحياة القوي ينبض في أعتم زوايا السجن، ومراجعة شجية للذاكرة وهي تتمدد عبر الزمان والمكان، وإضاءة لقنديل الحزن الشفاف في روح السجين.. فيكون الامتحان الصعب ليس لانتمائه السياسي، بل لروحه المتمردة.
هذه الرواية تعتمد في مادتها الأساسية على التجربة الشخصية، فيها ملامح السيرة الذاتية.. لكنها في النهاية عمل إبداعي يعتمد التخييل في بنائه.
يدخل (الفتى الغر) السجن بسبب انتمائه الحزبي الهش، فيكون الامتحان الصعب ليس لانتمائه السياسي، بل لروحه المتمردة، ولرائحة الياسمينة – الأم-، ولأحلامه وأشواقه المحلّقة، التي يجد صداها في كتابين لا علاقة لهما بالسياسة والايدولوجيا: (الأمير الصغير، والنورس جوناثان).. وعلى أرض الواقع يجد الفتى «عماد» سنده في صداقة لص اسمه «القط»، شخصية القط لا تطغى على غيرها من الشخصيات في السجن، حيث الملائكة والشياطين وجهان لعملة واحدة، ميزة القط انه رجل حر، حالم، وشفاف، لكنه متدثر بالسخرية يتقي بها شرور الواقع.. شخصية مركبة يبدو وكأنه اختار قدره كلص، ورضي بأن يكون دون من حوله، ولأنه يبخل بإظهار مكنونه النبيل، وثقافته الخاصة، فلا يفيض عشقه العميق للحياة، وتوقه الأصيل للحرية إلا حين يضطره الموقف لذلك!!..
من هذه الصداقة بين (اللص صاحب الخبرة بالحياة) و(السجين السياسي الغض) تضاء شخصيات السجن من حولهما، وتتشعب الرواية لنتعرف على عالم مختلف عما ألفنا، وشديد الالتصاق بما نعرف في الوقت ذاته!
ما كتب على غلاف الرواية هو مقتطف من أقوال جوليان اسانغ صاحب موقع ويكليكس الشهير ليشكل جسرا بين زمن الكتابة وزمن الرواية، فموضوع الرواية «ويكليكس» من زمن آخر، والمقتطف المشار إليه يعبر عن فحوى الرواية، حيث الدراما لا تنعقد بين السجين والسجان فحسب بل تعبر عن إنسانية الإنسان «المحاصر- السجين» وهو يواجه تحديات الوجود في هذا الكون.. فعندما يحمل الناس وهم في قمة عنفوانهم قناعات وقيما، فعليهم أن يتصرفوا وفقا لها. وينفذوها كيما تصير هذه الدنيا أعظم كمالا، وهذا الإنسان أفضل تقويما، وهذه الحياة أكثر عدلا وأقل شقاء.
(القط الذي علمني الطيران) بحث عميق في محدوديّة المكان وهي تفتح على سؤال الزمن.. حيث الزمن مثل الماء يأخذ شكل المكان، وحيث الزمن مثل الأشياء.. لا يرى في العتمة، فالزمن قنديلٌ زيته الحركة، وفتيله الإنجاز.. (حتى الجنّة لا تطاق بلا إنجاز!)
ورغم أن السجن زمن دائري.. (ننام. نصحو. نأكل. نمشي عبر نفس المشاهد، و نقابل الوجوه ذاتها بتنويعات هامشية.. لكننا نتشبث بحلم الخروج من رحلتنا الدائرية كل يوم..)
إن كسر الزمن وسط هذه الرزنامة الحافلة بالمفاجآت يبدو شيئاً جوهرياً..
إنها تدلنا كيف نعيش أيام العمر عبر المرور السريع والعبثي للزمن.. هناك خياران: طريق تمر بمشهد ثابت، تبدلاته لا تدهش، ولا تبهج، بل تجعلك سجيناً يتأفف من برد الشتاء، ورذاذ الربيع، وحر الصيف، وغبار الخريف.. فيما العمر يمضي، وتسّاقط أيامه مثل أوراق الرزنامة.. وخيار أن تتعلم الطيران الحر عبر سحر الكون المتجدد أبدا، فتشعر كل يوم أنك ذاهب لما تشتاقه، وأنك وهبت يوماً جديداً لتعيشه بعمق.. عُمرٌ تتنفس عبره صباحات الأيام بنهم، وتعيش لحظاته مثل هطول بتلات الياسمين في كفّ طفلة.
هذه الرواية رسالة من جيل الهزائم الكبرى والمعارف الشاقة، إلى جيل سيولة الاتصال وسهولة التواصل، جيل الانتصار وقبول تحديات العصر.. فكل جيل يخوض تحدياته وفق إمكانياته ضمن شرطي الزمان والمكان.. نحن هزمنا لكن أبناءنا انتصروا!
جاء على غلاف الرواية:
«الكون كله خصم يستحق المبارزة.
بما أننا نعيش مرة واحدة،
فلتكن مغامرة إقدام تستنفذ كل قوانا.
.. لنكن مع أقران لنا يشبهوننا في عقولهم وقلوبهم نفتخر بما نعمل..
فعندما يحمل الناس وهم في قمة عنفوانهم قناعات وقيماً، فعليهم أن يتصرفوا وفقاً لها. وينفذوها..»