صبري حافظ
ناقد وأكاديمي مصري
بعد أن كنتُ في مرحلتي الشباب والكهولة أهتم كثيرًا بالكتابة عن الراحلين، أجدني الآن وقد دخلت خريف العمر، وأوغلت في سنواته الصعبة، عازفًا عن ذلك النوع من الكتابات في السنوات الأخيرة. ذلك لأن الكتابة عن الراحلين واستخلاص الدروس والعِبَر من مسيراتهم وإنجازاتهم من الأمور المهمة في كل ثقافة. إذ تهتم به كثيرًا الثقافات الحيَّة التي تعتني بذاكرتها التاريخية. وتُعدُّها حاديها نحو المستقبل. كما أنني كنت أصدر في هذا الاهتمام من منطلق أن أحد أدوار النقد في أي ثقافة تسعى للتطور هو رسم خريطة حية ومتحولة لمكانات الفاعلين فيها، وتأمل مسيراتهم من ناحية؛ وأن عليها من ناحية أخرى سبر أغوار الماضي، والتسلح بدروسه للفاعلية في الحاضر– إلى الحد الذي جمعت فيه تلك المقالات الوداعية كما سميتُها في كتاب من جزئين.1 لكني لاحظت، بعدما اختطف الموت الكثيرين من رفاق رحلة العمر والفاعلية في الحياة الثقافية المصرية، والعربية من ورائها، بأن كل رحيل يُقلِّص من عالمي ومن مساحة حياتي، وينال من قيمتها. فبعدما كنتُ أهرع للعودة للقاهرة بعد انتهاء كل فصل دراسي – في سنوات عملي الطويلة في الجامعات الغربية – وما إن أصلها حتى أتصل بكل من بها من أصدقاء أعزاء، وتبدأ أمسيات تجمع الأصدقاء في وسط القاهرة، التي كانت عامرة بالثقافة والنشاط الأدبي. وما زلتُ أذكر بوضوح شديد كيف كانت حلقتنا في أماكن مثل «الأتيليه» تضم أكثر من عشر شخصيات من أعلام الثقافة والأدب كل مساء، بما في ذلك قامات سامقة مثل لطيفة الزيات ومحمود أمين العالم، بالإضافة إلى الكثيرين من أبناء جيلي..
لكنني لاحظت في السنوات الأخيرة، أو بالأحرى في العقد الأخير، أن أسماء الموتى في «نوتة» التليفونات التي أحتفظ بها منذ أن حصلت على خط التليفون في نهاية الستينيات –بعد انتظار دام لأكثر من أربع سنوات، وكنت كلما عدت إلى مصر أعود إليها للاتصال بهم– أصبحت أكثر من أسماء الأحياء. ناهيك عن أن الكثيرين لم يعودوا يستخدمون التليفون الأرضي، كما كان الحال طوال حياتي الممتدة، في مصر وغيرها. لذلك فترت همتي في الكتابة عن الراحلين، وحتى في استعجال عودتي لمصر كلما حان وقتها، وخاصة بعد أن رافق تناقص عدد أصدقائي الحميمين بها، تقلُّص ساحة النشاط الثقافي الحرّ فيها، حتى أوشك أن ينعدم. لكن هذه الصعوبة في الكتابة عن الراحلين –لأن كل رحيل، وخاصة من أبناء جيلي يذكرني باقتراب الدور مني– تزداد كثيرًا في حالة سيزا قاسم، التي توثقت عُرَى صداقتي بها في السنوات الأخيرة من عمرها. صحيح أن معرفتي الشخصية بها تعود إلى مطالع ثمانينيات القرن الماضي، وليس إلى ستينياته -كما كان الحال مع جُلِّ من صادقتهم من أبناء الأجيال السابقة على جيلنا من يحيى حقي ونجيب محفوظ وحتى يوسف إدريس وشكري عياد وصلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي ورجاء النقاش وعبدالمحسن طه بدر وغيرهم-. لكن عُرَى تلك المعرفة المتأخرة، ازدادت توثقا في السنوات الأخيرة، وخاصة في العامين الأخيرين، وبعد فقدانها لزوجها، رفيق عمرها وحادي رحلتها الشخصية والمهنية في الحياة. في هذه السنوات الأخيرة اقتربت أكثر من سيزا الإنسانة، بعد أن كانت علاقتي الوثيقة بها منذ الثمانينيات تتركز على سيزا الناقدة والباحثة الأدبية، وحتى المُحرِّرة الثقافية الفذَّة.
فقد تعرفت على سيزا قاسم شخصيًا لأول مرة حينما عملت لمدة عام دراسي واحد في الجامعة الأمريكية بالقاهرة (العام الدراسي 1980-1981). وكنت قد قبلت على مضض العمل فيها، بعدما أمضيت ما يقرب من عامين عقب عودتي بالدكتوراه من بريطانيا بحثًا عن عمل في أي من مؤسسات التعليم العالي المصرية دون نجاح. وكان لجيلي، وهو الجيل الذي تربَّى على قيم الاستقلال والتحرر الوطني ومناهضة الاستعمار القديم منه والجديد، موقف متحفظ من تلك الجامعة باعتبارها أداة من أدوات الاستعمار الأمريكي في مصر. وأذكر أنني وقبيل مغادرتي مصر عام 1973 إلى بريطانيا التي بقيت فيها حتى مطلع 1979 وأكملت دراستي بها، وكانت الجامعة وقتها تحت الحراسة المصرية، عاصرت جوانبَ من سعي تلك الجامعة لتوطيد علاقتها مع الحركة الثقافية المصرية، في نوع من السعي الحثيث لتحسين سمعتها بين المثقفين الوطنيين. فقد حرص أستاذي الكبير يحيى حقي على أن يصحبني معه (كشاهد كما قال لي فيما بعد) في مشاويره إليها، حينما عرضت عليه الجامعة الأمريكية أوائل السبعينيات نشر أعماله الكاملة كباكورة لنشاطها الجديد في مجال النشر وقتها. وكان يحيى حقي حريصًا في ذلك الوقت على أن تصدر كتاباته الكثيرة التي تفرَّقتْ في الصُّحُف والمجلات في كتب تتيحها للقراء بسهولة. وقد انتهى الأمر بيحيى حقي برفض عرضها الذي كان مُغْرِيًا من الناحية المادية بلا شك. (كان ما عرض عليه مُقدَّمًا عند توقيع العقد يعادل وقتها ثمن شقة من أربع حجرات تطل على النيل بالقاهرة) وأشهدني على هذا الرفض، وهو الأمر الذي كتبته عقب وفاته.2 وصحبني بعدها إلى الهيئة المصرية العامة للكتاب التي عرض عليها المشروع نفسه، وقبل نشر أعماله الكاملة في الهيئة، برغم تدني المردود المادي بما لا يُقارَن بما عرضته عليه الجامعة الأمريكية. وكان في الحالين يشهد الجيل الجديد –أي جيلي الذي كان أحدث الأجيال وقتها في الحركة الثقافية المصرية – على موقف المثقف الوطني، ودلالات اختياراته.
ثم اتصل بي مارسدن جونز (1920-1992) مدير مركز الدراسات العربية في الجامعة الأمريكية ومُؤسِّسُه أواخر عام 1972، والذي كنت قد تعرفت عليه مع يحيى حقي أثناء زيارات التفاوض معه على نشر أعماله. والواقع أن مارسدن جونز، برغم اهتماماته العلمية بصدر الإسلام، وتحقيقه للمغازي للواقدي، واهتمامه بتوطيد دراسة العمارة الإسلامية في المركز، كان حريصًا على أن يمد اهتمامات المركز إلى الأدب الحديث والمعاصر. وكان هو الذي شجَّع زميله وقتها، محمد النويهي (1917-1980) على الاهتمام بالأدب الحديث والمعاصر، برغم بدايات النويهي المهمة في دراسة الشعر الجاهلي والشعر العربي القديم من بعده. وكان مارسدن جونز قد أسَّس وحدة للبيبليوجرافيا لجمع المواد والمعلومات الأساسية عن أدبنا الحديث وأعلامه. وهي الوحدة التي ظهرت باكورة أعمالها عن (طه حسين) في سلسلة أصدرها المركز عام 1982 بعنوان: أعلام الأدب المعاصر: سلسلة بيوجرافية نقدية بيبليوجرافية. وطلب مني مراجعة بيبليوجرافيا أعدها المركز عن نجيب محفوظ، بعدما أبلغه مساعده وقتها، حمدي السكوت، بأنها قد اكتملت. ولما راجعت تلك البيبليوجرافيا على ما كان متوفرًا في مكتبتي المتواضعة وقتها، وجدتها عملًا مُهَلْهَلًا من الناحية البيبليوجرافية، يفتقر للتمحيص والتدقيق، وليست فيه صفحة واحدة ليس بها أخطاء. ناهيك عمَّا بها من فجوات، وعما غاب عنها من أعمال كثيرة ومهمة يجعل من المستحيل دعوتها بأنها بيبليوجرافيا، ناهيك عن وصفها بالشمول أو الكمال. وقد أعدت له المخطوط، وليس فيه صفحة واحدة ليس بها تعديلات أو تصحيحات أو إضافات كثيرة. وقد علمت بعدها أنه أجَّل النشر، وأجرى مراجعات جذرية على المشروع، ولم تظهر بدايات أعماله إلا بعد مرور عشر سنوات على تلك الواقعة.
لكن هذه الأمور من سوالف الأقضية كما يقولون. ذكرتها لأجيء إلى تعرفي الأول على سيزا قاسم، بعدما قبلت على مضض العمل أو بالأحرى الإعارة من وظيفتي الحكومية إلى الجامعة الأمريكية. وكنت قد قرأت لها كتابها (بناء الرواية) الذي صدر قبل عامين من هذا التاريخ. وهو الكتاب الذي شكَّل نقلة نوعية في دراسة النص الروائي العربي. وقرأت الكثير من مقالاتها التي تتَّسم بالعُمق والنزاهة النقدية. وما أن بدأت العمل في تلك الجامعة حتى تكشَّف لي جانب آخر من جوانبها كان خافيًا عليَّ. لأنني حينما تقدمت للوظيفة التي أعلنت الجامعة عنها توهمت أنني سألتحق بهذا القسم أو المركز الذي كان يرأسه مارسدن جونز، والمسؤول عن تدريس اللغة والأدب العربي فيها. وهو المقابل لأي قسم للغة العربية وآدابها في أي جامعة أخرى. لكني اكتشفت أنني التحقت بقسم آخر كان يرأسه وقتها جون هنويك John Hunwick (1936-2015) يختص بتدريس اللغة العربية للأجانب، والأمريكيين منهم بصفة خاصة. بينما يتولى مركز الدراسات العربية تدريس اللغة وآدابها للطلاب المصريين الذين يلتحقون بها للحصول على ليسانس منها. وأن سيزا قاسم، التي يعد كتابها أهم إضافة نقدية ومنهجية لدراسة الأدب الحديث، تُدرِّس هي الأخرى في نفس القسم الذي التحقت به، والذي تُحرِّم عليه الجامعة التدريس للمصريين. بينما يستأثر من هم أدنى منها قيمة وقامة بتدريس الأدب العربي للمصريين. كما اكتشفت أن هذه لم تكن الحدود الغريبة الوحيدة التي تُقيمها الجامعة بين من توظِّفهم في التخصص الواحد، وإنما ثمة فروق أخرى أشد فجاجة تنطوي عليها تراتبات عقود التوظيف نفسها، وما بها من مزايا. حيث تمنح الجامعة الأمريكيين والأجانب عقود توظيف بمرتبات وحقوق وامتيازات تعادل أضعاف تلك التي تمنحها للمصريين، وأن هناك عقودًا من نوع ثالث لفئة بينية تقع بين الفئتين، وهي فئة المصريين المتزوجين من أجنبيات. وهو الأمر الذي لم أجد له مثيلًا إلا في جامعات جنوب أفريقيا، أثناء نظام الفصل العنصري بها.
وكانت تلك السَّلبيات من أسباب نفوري من التدريس بتلك الجامعة، وتركها بعد عام واحد من العمل بها، بالرغم من أن المرتب الذي قدمته لي وقتها، وقد وظفت فيها في أدنى فئات السلك التدريسي، وهي فئة المصريين غير المتزوجين من أجانب، كان أعلى كثيرًا من مثيله لمن يعملون في الجامعات المصرية، بل وكان يُضَاف له قسم بالدولار يتيح للجامعي السفر في العطلات لمواصلة البحث في الجامعات الغربية، حينما كان الحصول على العملات الصعبة أمرًا غير يسير. في ظل هذا السياق الذي نفرت منه، عملت سيزا قاسم في الجامعة الأمريكية لسنوات طويلة. واستطاعت برغم حرمان العديد من الطلاب المصريين من الاستفادة من استبصاراتها النقدية، وتجديداتها المنهجية اللافتة، أن تساهم في أبرز ما قدمته تلك الجامعة في مجال النشر العلمي، وهو تأسيس مجلة (ألف: مجلة البلاغة المقارنة) عام 1981، وهو العام الذي عاصرتها فيه. بينما غاب القسم الأساسي للغة العربية وآدابها عن هذا التأسيس كلية، ولم يكن له أي إسهام يذكر في إشعاع تلك المجلة الثقافي. وهو القسم الذي كانت أحد أبرز نقاد الأدب الحديث تعمل في قسم مجاور له، ولكنه لم يستفد منها كما فعل قسم الأدب الإنجليزي والمقارن في نفس الجامعة. ولا أريد أن أكرِّر هنا ما قالته زميلتها فريال غزول عن دورها في هذا المشروع، وفي تأسيس مجلة (ألف). ولكني أود أن أشير إلى أنها استطاعت أن تخترق الحدود والقيود التي ضقت بها لمّا وجدت نفسي في قسم تدريس اللغة العربية للأجانب في تلك الجامعة. وأن تفتح نوافذ أوسع خرج به تأثيرها وإنجازها النقدي إلى الواقع الثقافي العربي، وإلى المجال الأكاديمي العريض في أمريكا نفسها. بينما انحصر إنجاز قسم اللغة والأدب العربي الأساسي في وحدة البيبليوجرافيا التي أسَّسها به مارسدن جونز.
وإذا كان قسم اللغة العربية قد حُرِم من تأثير سيزا قاسم على طلابه المصريين، فقد امتد تأثيرها إلى قسم اللغة الإنجليزية والأدب المقارن، شكرًا لوجود ناقدة متفتحة فاهمة فيه هي فريال جبوري غزول. وانتقل به إلى آفاق رحبة، بعد تأسيس مجلة (ألف) به. وحتى في قسم تعليم اللغة العربية للأجانب فإن تأثيرها فيه فاق تأثير قسم اللغة والأدب العربي في الجامعة. فقد كانت هي من فتحت أعين باربارا هارلو على أدب المقاومة العربي، وعلى أهمية التعامل معه بمنهجية جديدة. فأصبحت من بعدها أحد أبرز نقاد أدب ما بعد الاستعمار في أمريكا. فها هي طالبة أمريكية جاءت إلى مصر ضمن طلاب اللغة العربية الأمريكيين لتحسين لغتها العربية فيها، وهو الدور الذي كان يقوم به القسم الذي وجدت نفسي فيه مع سيزا قاسم التي كانت قد التحقت به قبلي بعدة سنوات. لكن احتكاكها بأستاذة من طراز سيزا قاسم غيَّر حياتها العلمية، وزوَّدها بأسس المنهج النقدي الذي بلورته سيزا قاسم في كتابها العلامة (بناء الرواية)، ولكن وفق ما دعته هي في دراسة دالة لها بالسلسلة الذهبية، سنعود إليها بعد قليل. كما جعلت هذا المنهج نبراس التوجه النقدي الذي دعمته مجلة (ألف). ورفدت هذا المنهج الجديد الذي يعتمد على جناحين من التنظير البنيوي لتحليل النص الأدبي، والدرس المقارن الذي يفتح النص على بقية الآداب الغربية، ببقية الأدوات النظرية والمنهجية من خلال عملها في التأليف والترجمة.
وقبل تناول مقالها المهم عن «السلسلة الذهبية» أود الإشارة باختصار إلى دورها البارز في الترجمة، وتأسيس أبعاد أخرى للمنهج الذي بلورته في كتابها العلامة ذاك، وخاصة في الكتاب الذي حرَّرتْه مع نصر حامد أبوزيد عن (السيميوطيقا)؛3 والذي كان مُؤسِّسًا بشكل ما في تقديم المعرفة الحيوية بهذا المنهج النقدي. وفيما قدمته فيه من دراسات نظرية وتطبيقية باللغتين العربية والإنجليزية يعود إليها الكثير من الدارسين حتى اليوم. لأن معرفة سيزا قاسم الوثيقة باللغتين الفرنسية والإنجليزية، ووعيها بأهمية الرجوع إلى هاتين اللغتين لدراسة إسهاماتهما النظرية الحديثة، والتي لا غنى عنهما لتطوير النقد الأدبي العربي، هي التي دفعتْها لأخذ زمام المبادأة في هذا الكتاب/ المشروع. لأن العودة إلى هذا الكتاب تكشف لنا عن رؤيتها الثاقبة لأهمية تقديم تلك المناهج الجديدة للقارئ العربي، ومن خلال من يعرفونها في مصادرها الرئيسة وفي لغتها الأم. فالقسم الأول من الكتاب والذي عنونته بدراسات، كتبها نقاد عرب متمكنون من اللغات التي تبلورت فيها بذور هذا المقترب المنهجي وتطورت: مثل فريال غزول وسيزا نفسها، وأمينة رشيد، وعبدالرحمن أيوب. أما نصر حامد أبوزيد فقد تناول العلامات في التراث العربي. هكذا أرادت من حيث تطويرها لهذا الكتاب أن تقدم مفاهيمه من خلال تفاعلها مع العقل العربي، وعبر هضم نقاده لها. بينما خصَّصت القسم الثاني لنصوص تأسيسية غربية مُتَرْجَمَة، شاركتْ هي في ترجمة أكثر من دراسة فيها.
من خلال هذه النظرة يبدو كتاب (السيميوطيقا) نظيرًا للمنهج الذي بلورته في (بناء الرواية) وابن التلاقح الخلاق بين المنجز الغربي والعقل العربي، تنظيرًا وتطبيقًا. وأظن أن العمل معها في هذا الكتاب، كان له تأثيره الإيجابي على شريكها في إعداده نصر حامد أبوزيد. وهذا ما يردنا إلى مقالها الشهير: «السلسلة الذهبية: تأملات في معنى الأستاذية: من طه حسين إلى سهير القلماوي» الذي استطاع أن يُقدِّم توصيفًا دقيقًا لمسيرتها العلمية، وهي تعكس خطواتها على مرايا خطوات أستاذتها سهير القلماوي التي سبقتها على الطريق. فنعرف من هذا المقال القصير المُركّز الكثير عن اختيارات سيزا قاسم نفسها، وكيف اتبعت خطوات أستاذتها على طريق، ولكنها تنكبتها على طُرُقٍ أخرى كثيرة، حيث كان هذا التنكب نوعًا مغايرًا من تأسيس قيمة الاختلاف التي بدأت بها أستاذتها نفسها طريقها، ولكنه الاختلاف الذي يصون كرامة الكلمة، ويدعم استقلال موقف المثقف الحر. إذ تؤكد في هذا المقال أن السلسلة الذهبية، وهي سلسلة التراكم المعرفي والموقفي والمنهجي التي ينمو بها العلم وتترسَّخ قيمه:
«لم تبدأ السلسلة مع طه حسين ولم تنته مع سهير القلماوي. فكما يعرف الإسناد السلاسل الذهبية، فإن سلسلة الأستاذية لها حلقاتها الذهبية. وتقوم عراقة الجامعات على هذه الحلقات. فالعراقة لا تكمن في الحوائط ولا المكتبات، ولكنها تتجذر في النفوس، تورّث التقاليد والمشاعر والقيم عبر الحلقات. ولا تكمن عراقة التقاليد في نقل ما أرساه الأوائل، بل في تطويره والبناء عليه لينمي اللاحق الصرح، ويقوي حلقات السلسلة، ليستمر العطاء وتنمو المعرفة.» إذ لا تعني الأستاذية في هذه السلسلة مجرد تلقي المعارف فقط، بقدر ما تعني ترسيخ القيم وتطويرها. حيث «يمثل الأستاذ بالنسبة لتلميذه نموذجًا مثاليًا يسعى إلى التوصل إليه، وهذا النموذج يقوم على مجموعة من القيم الثقافية ومنهج علمي، وعلى قيم أخلاقية». فهذه الدعائم القيمية الثلاث: الثقافية والمنهجية والأخلاقية تتواشج جميعها وتتفاعل باستمرار، فما أن يتخلى الأستاذ عن الاعتصام بأحدها، أو يساوم عليه، حتى تتداعى له بقية قيمها. وحتى يتحتم على التلميذ أن يترك الأستاذ وراءه، لأن التلميذ كما تُقرِّر في مقالها ذلك، وعن حق، يختلف عن المريد، ولا بد له من السعي لاكتشاف دربه الخاص به.
وقد وعت سيزا قاسم أهمية الأستاذ العميد الذي انحدرت من سلسلته العلمية أستاذتها. وتبيَّنتْ قيمة النزاهة العلمية والأخلاقية التي رسَّخها في مسيرته، وورثتها بدورها عنه. كما أدركت قيمة سعي أستاذتها للاختلاف معه والاستضاءة بسراجه لاكتشاف دروب جديدة. «كان طه حسين من مدرسة جوستاف لانسون في دراسة الأدب، وهي النابعة من جعبة سانت بوف الذي كان يُركِّز على المبدع لا العمل. لكنها رأت عدم صلاحية هذا المنهج لدراسة النصوص الشعبية، ولذلك أمسكت سهير القلماوي بخيط المنهج النصي في دراستها لكتاب ألف ليلة». وهو المنهج النصي الذي تدرك أن خطوات أستاذتها سهير القلماوي على دربه ليست سوى بدايات أولية على طريق طويل. وأن عليها أن تُطَوِّرَه منهجيًا وتطبيقيًا معًا، فقد شهدت الدراسات السَّردية قفزات كبيرة بعد بدايات القلماوي الأولى فيها. لذلك شقت التلميذة دروب البحث البنيوي، للكشف عما وراء النص من بنى ودلالات من ناحية، وللدخول به في شِعَاب النقد المقارن من ناحية أخرى. ذلك لأن سيزا قاسم كانت تدرك حدود «تلميذة العميد» أو بالأحرى محدودية أستاذتها: «لم تكن التلميذة بنفس نجومية الأستاذ، ولا بنفس الموهبة الذهنية المتقدة، ولا بنفس قدرته على التحليل (رغم كثير من التعنت ولي الحجة في هذا التحليل)، ولا بنفس العبقرية اللغوية والحس الفني لتمثل جوانب الإبداع العربي». وهذا الإدراك هو ما دفعها إلى مواصلة درب طه حسين والاعتصام بنزاهته، أكثر من درب أستاذتها المباشرة.
«لكن التلميذ يختلف عن المريد، فالتلميذ لا يلتزم كل ما صدر عن أستاذه كلامًا مُقدَّسًا، ولكنَّه يستضيء بسراجه ليكتشف دروبًا جديدة». وقد استضاءت سيزا قاسم بما كان في سراج أستاذتها من بصيص ضوء، رغم ضعف ذُبالته التي لم تصمد طويلًا وعصفتْ بها سريعًا رياح رغبتها في التحقق، بل إنها حينما تنتقد سهير القلماوي، لا تلجأ لكشف سقوطها في عصر السادات، وإنما تفعل ذلك بكل رفق «كان شغفها بالإنجاز يجعلها تحاول اختصار الطريق: فكانت في بعض الأحيان تختار السبيل الأقصر والأسهل، بينما كان الأطول والأشق هو الذي يحقق الغاية المنشودة، ويحافظ على قيم ومثل يجدر بالأستاذ الحرص عليها». وحينما تلخص الأمر في نهاية المقال: «عندما أستعيد مسيرة أستاذتي العزيزة أرى كثيرًا من الإشراق والتوهج والحميّة، كثيرًا من الحب والعطاء، كثيرًا من الإنجاز والتفاني في العمل. ولكنِّي أري أيضًا صدامات مأساوية تلحق بعض من يسعى لاختصار الطريق بنظرة براجماتية تستبيح كل السُّبُل في سبيل تحقيق غايات نبيلة في ذاتها فتحترق أجنحته في سعير السُّلطة الحارق». ثم لا تني عن الاعتراف بفضلها، وكأنها وقد سلمت باحتراق أجنحتها في سعير السُّلطة، تريد أن ترد لها بعض جميلها. «ومثلما فعلت مع غيري من تلاميذها، تقبلت مني مدخلًا مختلفًا عن مناهجها. بل ودافعت عن اختيار لم يُرحَّبْ به لا في القسم ولا في السَّاحة الأدبية. فلم يكن يُتصوَّر أن تُقدَّم رسالة دكتوراه تتناول رواية واحدة لأديب ما زال على قيد الحياة، وتُدْرَس عن طريق المنهج البنائي في أوائل السبعينيات».
فإذا انتقلنا إلى كتابها العلامة (بناء الرواية: دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ)4 فسنجد أنه عمل احتشدت له بالتكوين النقدي والمنهجي السليم. فبعد أن حصلتْ على ليسانس الآداب في اللغة الفرنسية، انتظمتْ في قسم اللغة العربية للحصول على ليسانس آخر فيها. وحينما فكَّرتْ في الدكتوراه كان اختيارها مُبْتَكَرًا ورِيَادِيًّا في ذلك الوقت. حيث اختارت أن تكتب رسالتها عن عمل روائي واحد، هو ثلاثية نجيب محفوظ. ومن البداية وقبل أي حديث موجز عن هذه الدراسة العلامة لا بد من عودة سريعة إلى مقالها الذي بدأنا به هذا الحديث. ذلك أن ثناءها في هذا المقال على أستاذتها التي أشرفتْ على رسالتها تلك كان شديد الارتباط بوعي تلك الأستاذة بِجِدَّةِ بحث تلميذتها وريادته. وهو أمر ما كان له أن يتحقَّق دون وعي الأستاذة بأن لدى تلميذتها عُدَّة نقدية لم تتوفر لها هي نفسها، وهي تدرس نصًا كان في أمس الحاجة إليهاـ أي (ألف ليلة وليلة) التي كتبت عنها سهير القلماوي رسالتها للدكتوراه. لكن الأهم كان وعيها بأن سيزا قاسم، بعدما تبحَّرتْ في الفرنسية قادرة على الاتصال المباشر بما صدر في أهم لغتين في مجال النقد الأدبي خاصة، ألا وهما الفرنسية والإنجليزية. حيث أجادت اللغتين وهو الأمر الذي لم يتوفر لكثير مِمَّن سبقوها، ولأغلب من جاؤوا بعدها.
وقدَّمتْ تلك الدراسة بمدخل تكشف فيه عن عُدَّتها المنهجية التي ستتناول الرواية بها، وهي عُدَّة تنتمي أولًا إلى الأدب المُقَارَن من حيثُ إنَّه دراسة نصية مُقَارَنَة للشَّكل الروائي، لا تهتم بتأثرات الكُتَّاب فيما يرونه عن استلهاماتهم، ولا بالقنوات التي مرَّت عبرها تلك التأثرات، وإنَّما بما يتبدَّى منها في ثنايا النص ذاته. وقد اختارت أحد أنضج النصوص الروائية العربية، واختارت في بُعْدِها المقارن مجموعة من أبرز الروايات الغربية لكبار الكُتَّاب الفرنسيين: بلزاك وفلوبير وبروست، والإنجليز جالزورثي وجويس وفيرجينيا وولف. وحتى تتحقَّق هذه المقارنة على أكمل وجه كان لا بد أن تعتمد على منهج في التحليل النصي يُوفِّر لها دراسة بنية الشَّكل الروائي بأحدث الأدوات التي وفَّرتْها المناهج النقدية في دراسة تلك النصوص. وكان أن اختارت في وقت مبكر، سبعينيات القرن الماضي، منهج البنائية الذي كان من أحدث مناهج النقد الأدبي وقتها، وعند أحد أبرز من بلوروا عُدَّة نظرية دقيقة ومفاهيم إجرائية أساسية للتعامل به مع النصوص الروائية وهو جيرار جينيت.
لذلك جمع البحث بين التحليل البنائي والنقد المُقَارَن بطريقة غير مسبوقة في الكتابة النقدية العربية. ولجِدَّة المُقْتَرَب والمنهج كان عليها في كثير من الأحيان أن تتأرجَح في تعاملها مع النص بين التنظير أو شرح النظرية للقارئ، والتطبيق أي الكشف عن تجلياتها في النص الروائي. لكن تميزها النقدي وحساسيتها الأدبية تتكشَّف لنا من خلال التحليل النصي الذي يضع النص الأدبي في بؤرة الاهتمام، ولكنَّه يقارنه باستمرار بالنصوص المرجعية الغربية الأخرى للكتاب الأربعة الكبار (بلزاك وفلوبير وبروست وجالزورثي) ويبقيها برغم أهميتها كنصوص كُبْرَى في خلفية التحليل. وكأنَّه ينتصر للكاتب العربي الكبير ويكشف لنا عن أنَّه لا يقل أهمية عن هؤلاء الكُتَّاب العظام. وقد قسَّمَتْ دراستها تلك لثلاثة فصول خَصَّصَتْ أولها لبناء الزمان الروائي (ص 34-100) والثاني لبناء المكان الروائي (ص 103- 177) والثالث لبناء المنظور الروائي (ص 179-230). ولم يتوقف تحليلها للنص عند البُعْد البنائي وحده، وإنما تناول معه البُعْدَين التاريخي والدلالي، بطريقة كشفتْ معها عن أن البنية نفسها حاملة للدلالة ومُعزِّزة لها، ولها محتواها الذي يُغْنِي مستويات المعنى في النص، وكيف أن الدلالة لا تأتي من المضمون، بل من البنية نفسها، بالصورة التي تشعر معها أن العمل يكشف لك الكثير مِمَّا ينطوي عليه النص، وأن التحليل يُعرِّي طبقات النص المُتراكِبَ بعضُها فوق بعض. وكيف أن اتساع الزمن استلزم اتساع المكان. لأن للثلاثية بنيتها الزمنية وذاكرتها الداخلية الفريدة. حيث تُغطِّي الرواية كلها فترة زمنية تمتد من عام 1917 أثناء الحرب العالمية الأولى وحتى عام 1944 قُرْبَ نهاية الحرب العالمية الثانية، أو بالأحرى نهايتها على الأراضي المصرية في معركة العلمين الشهيرة. وهي بنية زمنية داخلية، أفضِّل نعتها بذاكرة النص التاريخية/ الداخلية. لكن الأمر الشيق في هذه الرواية هو أن جزءها الأول (بين القصرين) وهو أطولها سرديًا (498 ص) يدور في عامين 1917-1919، أمَّا الثاني (قصر الشوق) فإنَّه يُغطِّي فترة زمنية من 1924 -1927 تُوشِك أن تكون ضِعْفَ الفترة التي غطَّاها الجزء الأول، ولكن في مساحة سردية أقل منه (ص 422). أمَّا آخر أجزائها (السُّكرية) وأقصرها من حيث المساحة السَّردية (ص 308) فإنَّه يُغطِّي فترة زمنية أطول من تلك التي غطَّاها الجُزآن السابقان؛ وهي فترة السنوات العشر من 1935-1944. ولوعي سيزا قاسم بأهمية الزمكان حسب تعبير باختين فيما بعد، فإنها التفتت إلى تناظر اتساع الزمان والمكان في ذلك النص الروائي الجميل.
ولا أستطيع أن استطرد هنا في الحديث عن بقية أعمال سيزا قاسم النقدية التي تتجلَّى فيها أهمية أن يتسلَّح الناقد بالنزاهة وبقدرة إبداعية خلاقة تجعل النص النقدي عملًا فنيًا مُسْتقلًا. ولكنِّي أحب أن أشير إلى تعاوني معها في الفيلم القصير الذي أعددته للقناة الرابعة الإنجليزية عن نجيب محفوظ بعنوان (عالم نجيب محفوظ) عقب فوزه بنوبل عام 1988، وهي المناسبة التي تعرَّفتُ فيها على زوجها وجيه دراز. كما أنَّني ساهمتُ –حينما كنتُ أعمل في قطر– بإعداد ملف صغير عنها في مجلة (الدوحة) القطرية عام 2019 شارك فيه معي محمد برادة وفريال غزول، وهو الأمر الذي أسعدها كثيرًا. أن يجيء الاعتراف بقيمتها وأهمية إنجازها وهي على قيد الحياة. ولكنِّي أريد أن أختم هذا المقال القصير بما بدأتُ به، وهو صعوبة رثاء هذه الإنسانة الرائعة والناقدة النزيهة المبدعة، خاصة لأن علاقتي بها كانت قد توثقت في السنوات الأخيرة. وكنت أراها أكثر من مرة في زياراتي للقاهرة. وقد لمست عن قُرْب حزن سيزا الشديد على فراق زوجها السريع قبلها. وتوقها لأن تملأ الفراغ الذي تركه في حياتها بتنظيمها لجلسات للأصدقاء من حولها، تحول بها بيتها الجميل في زمالك القاهرة أيام أن كانت بيوتها أقرب إلى القصور الصغيرة الفاخرة، إلى صالون ثقافي فريد غني بالقضايا والمناقشات التي كانت تضفي عليها بسخاء كرمها وحضورها الجميل عُمقًا ورُقيًّا.
الهوامش
أشير هنا إلى كتابَيَّ: سرادقات من ورق، صدر أولهما عام 1991 والثاني عام 1998 عن الهيئة العامة لقصور الثقافة.
راجع مقالي الوداعي عنه في الجزء الثاني من (سرادقات من ورق).
أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة: مدخل إلى السيميوطيقا مقالات مترجمة ودراسات) إشراف سيزا قاسم ونصر حامد أبوزيد، القاهرة، دار إلياس العصرية، 1986.
سيزا قاسم (بناء الرواية: دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ) القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة كتاب الأسرة عام 2001.