محمد الشحات
أكاديمي وناقد مصري
—-
1- التكوين، وقلق البدايات:
تحتلّ نصوص الناقدة المصرية “سيزا أحمد قاسم دراز” (1935- 2024م) -رغم قلّة عدد كتبها التي لا تتجاوز خمسة كتب رئيسة هي “بناء الرواية: دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ” (1984)، و”مدخل إلى السيميوطيقا: أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة” (1986)، و”القارئ والنص: العلامة والدلالة” (2002)، و”طوق الحمامة في الألفة والأُلَّاف لابن حزم الأندلسي: تحليل ومقارنة” (2014)1، حتى كتابها الأحدث الذي قام بجمعه وتقديمه طارق النعمان بعنوان “شذور الذهب في التفسير والتاريخ والفن والأدب” (2023)2- حضورَها المائز في المشهد النقدي العربي في النصف الثاني من القرن العشرين بصفة عامة، وفي طليعة النقّاد المصريين الذين ينتسبون إلى أفق الحداثة العربية التي كشفت عن آثارها بوضوح لدى كل من عِز الدين إسماعيل وشكري عيّاد وجابر عصفور وعبد المنعم تليمة ونصر حامد أبو زيد وصلاح فضل وصبري حافظ وإبراهيم فتحي وسيد البحراوي، على وجه الخصوص. وهنا، لابد من سؤال أوّليّ: هل كانت سيزا قاسم بالفعل ناقدة طليعية بمعنى ما؟ أم حداثية، مُجدِّدة؟ كيف تَأتَّى لها ذلك؟ ولماذا كانت الحاجة إلى مثل هذا النموذج من النقّاد “الرُّهبان-المعتزلة”3 سواء في ندرة كتبهم النقدية أو في عزوفهم عن بريق الأضواء والشهرة، رغم وجود مُجايِلين لها من العيار الثقيل كَمًّا وكيفًا4.
إن الحداثة، أية حداثة، مهما كانت مرجعيّاتها الفلسفية، تفترض ضمن أفقها النظري سعيًا قصديًّا إلى إقامة قطيعة معرفية مع التراث في الوقت الذي تفترض فيه سعيًا موازيًا إلى تشييد جسر (معرفي) مباشر مع تيّارات الثقافة الغربية. فهل فعلت سيزا قاسم ذلك؟ وكيف؟ وما الأدوات التي أتاحت لها عبور هذا الجسر العابر لحدود الثقافات من “هنا” إلى “هناك”. أظن أنه يمكن لأي باحث عربي (واعٍ) أن يعثر بسهولة ويسر على تجليات أو تطبيقات متفاوتة لهذه المعادلة (النقدية) وفق معيار (أو إشكالية) التراث والحداثة. ويمكن لمثل هذا الباحث -إذا أراد- أن يُحلِّل استراتيجيات الخطاب النقدي التي استطاع بها نقّاد الحداثة العربية بصفة عامة، والمصريون منهم بصفة خاصة، تركيب المكوّنات أو المقولات أو الحقول الاصطلاحية (الغربية) جنبًا إلى جنب المقولات البلاغية والتراثية (العربية) في أجهزتهم النقدية (الحداثية). لقد أُتيح للنقّاد المصريين من خلال هذا المسلك -لكن بدرجات متفاوتة بين النجاح والإخفاق، الفهم العميق أو المبتسر، الحساسية العُليا أو متوسطة القيمة والتأثير- أن يُمارسوا أشكالًا مختلفة من النقد البنيوي أو الشكلاني أو الأسلوبي أو الاجتماعي، بغية قراءة وتحليل النص الأدبي العربي القديم أو الحديث. وقد تجلّت هذه المحاولات والاجتهادات في صيغ نقدية (أو خطابات) شتّى، سواء في مستوى “تَبْيِئَة” المصطلح الغربي من جهة أولى، أو في مستوى الوعي المنهجي بسياقات إنتاج النصوص العربية وظروف نشأتها وتحوّلاتها الجمالية والثقافية من جهة ثانية، أو في مستوى الممارسة النقدية (أو “النقد التطبيقي المقارن”، بلغة سيزا قاسم) التي تعالج فنون الأدب الجديد وأجناسه المختلفة من جهة ثالثة. أما سيزا قاسم نفسها فقد ظلَّت وفيَّةً لبداياتها البنيوية (ذات النزوع الشكلاني) التي شيَّدت عليها لاحقًا تحوّلها المنهجي المفصلي نحو السيميوطيقا الثقافية (وفق تصور يوري لوتمان Yuri Lotman) مرورًا بالهرمنيوطيقا Hermeneutics ونظريات القراءة والتلقّي. وهنا، لابد لنا من وقفة متأنية أمام حدود هذا التحوّل المنهجي اللافت الذي صنعته كتب سيزا قاسم ودراساتها منذ كتابها الأول في النشر “بناء الرواية: دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ”، لا في السياق النقدي المصري فحسب بل في السياق العربي بصفة عامة دون مجاملة أو تضخيم.
من الجدير بالذكر في هذا السياق الباكر، أن النقد العربي المنفتح على الغرب لم يكن قد استقرّ بعد؛ أقصد إلى حقبة نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، قبل أن تظهر مجلة “فصول”5 (التي كانت تُصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب التي كان يرأس مجلس إدارتها صلاح عبدالصبور، وكان رئيس تحرير المجلة الأول عزالدين إسماعيل، وكان جابر عصفور وصلاح فضل نائبي رئيس التحرير، وكان عددها الأول بعنوان “مشكلات التراث”، أكتوبر 1980م)، وهو السياق نفسه الذي شهد بزوغ مجلة “ألف” التي تصدرها الجامعة الأمريكية بالقاهرة (وكان عددها الأول بعنوان “الفلسفة والأسلوبية” عام 1981م). ولم يكن محض مصادفة ارتباط دراسات سيزا قاسم الأولى بمجلَّتي “فصول” و”ألف” لسنوات عدّة، خصوصًا الدورية الثانية منهما التي كانت سيزا من مؤسّسيها -جنبًا إلى جنب الناقدة العراقية فريال غزول-، وكانت من داعميها ومحكّمي بحوثها ومقالاتها واختيار محاورها وقضاياها حتى لحظة وفاتها.
2- لا تبعيّة النموذج الغربي:
منذ كتابها الأول “بناء الرواية دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ”، بل منذ المدخل الذي استهلّت به علاقتها بالقارئ العربي في بداية الثمانينيات، أو علاقة القارئ بها، وضعت سيزا قدمها في المسافة البرزخية بين مفهومي “الأدب المقارن” لدى كل من المدرستين الفرنسية والأمريكية بثبات. لقد أسَّست وعيها على مبدأ اللاتبعية بناء على استقراء دقيق لأزمة الأدب المقارن كما عرضها تفصيلًا رينيه ويليك6 Rene Wellek، حيث مَوْضَعت هذا الوعي النقدي المتمرّد في صيرورة التحوّل المنهجي من الأدب العام إلى الأدب العالمي، مُضيفةً إلى ذلك وعيًا آخر هو لازمة من لوازمه الأكثر نضجًا مفادها أن:
“الأدب المقارن لا ينفرد بمنهج خاص، ولكنه قد يلجأ إلى استخدام مناهج البحث العامة (…) فالأدب المقارن وصف تحليلي ومقارنة منهجية تفاضلية وتفسير تركيبي للظواهر الأدبية المختلفة اللغات أو الثقافات من خلال التاريخ أو النقد أو الفلسفة، وذلك لفهم الأدب فهمًا أعمق كوظيفة ذات نوعية خاصة للعقل البشري” (ص 8).
لقد كانت سيزا واعية بأن المداخل المعرفية التي هي بمثابة الأدوات لدى الباحث المقارن تتمثل في ثلاثة كبرى هي “التاريخ” و”النقد” و”الفلسفة”. وهي -حسب هذا الفهم الباكر- تتفق مع ما سيقوله كلود بيشوا7 لاحقًا من أنه ليس بالضرورة على كل باحث أو ناقد للأدب أن ينطلق في مقارباته من حقل الأدب المقارن، لكنه بالضرورة قد ينتهي إليه بطريقة أو بأخرى، ومُتجهًا نحوه من نقاط بداية شتى، وذلك عندما تكون الضرورة المنهجية دافعة إلى تجاوز حدود موضوع ضيق يتضمن بعض الإشارات أو العلامات أو الصور أو الاستعارات التي تدفع الباحث أو الناقد الأدبي إلى مراجعة نصوص غائبة تنتمي إلى ثقافات وحضارات متباينة في المكان والزمان. لقد ظلَّ تطور علم الأدب المقارن رهين عمليات التطور الديناميكية المتتالية التي استجابت لها النظرية الأدبية المعاصرة منذ القرن الماضي، خصوصًا عندما ربطت عربتها بحصان الدرس العلمي و بقاطرة الدرس الفلسفي العالمي. لذا، لا تفتأ سيزا قاسم تُلِحّ على ضرورة انتقال الباحث العربي منهجيًّا من محدودية الأدب المقارن إلى رحابة النقد المقارن (ص 9) أو ما تسمّيه بصيغة أخرى “النقد التطبيقي المقارن” (ص 11)؛ أي ذلك النقد الذي يمتلك خلفية نظرية يستند إليها ومنهجًا متماسكًا يستطيع الناقد أن يدرس في إطاره النصوص المختارة. كان وعي سيزا المنهجي حاكمًا لدراستها البنيوية (الشكلانية) لثلاثية نجيب محفوظ. واستطاعت بناء على هذا الوعي اعتماد مقولات الناقد الفرنسي جيرار جينيت G. Genette عن الزمن في الخطاب الروائي قبل أن يعرفه أغلب النقاد العرب آنذاك؛ لأن جينيت نفسه يعترف بضرورة أخذ المناهج الأخرى في الاعتبار عند ممارسة أي تحليل نصّي، مثل الاعتبار بالمنهج التفسيري (الهرمنيوطيقي) والمنهج التاريخي، جنبًا إلى جنب استلهامها أفكار الناقد البنائي وعالم اللغويات الروسي بوريس أوسبنسكي B. Uspensky في الفصل الخاص بدراسة المنظور الروائي8. وفق هذا المنهج التطبيقي المقارن، كانت قراءة سيزا قاسم لثلاثية نجيب محفوظ بعد أن عرضتها -أو عرضت عليها- المدرسة الواقعية الفرنسية ممثلة في أونوريه دي بلزاك والمدرسة الطبيعية ممثلة في إميل زولا ومدرسة الروائيين الإنجليز الإدوارديين ممثلة في جلزورذي وبنيت. ولذا، سوف تتسع رقعة التحليل النصّي -دون أن يتسّع الخرق على الراقع-؛ فتقرأ الثلاثية (قصر الشوق، بين القصرين، السكرية) بعد أن تصنع لها سياقًا كبيرًا يحيط بمتن سردي يستدعي، ويُقارن، ويُحلِّل، ويستلهم، أصوات بلزاك وفلوبير (في “أوجيني” و”مدام بوفاري”) وإميل زولا (“المطرقة” و”الفريسة”) وثلاثية جلزورذي “الفورسايت ساجا”، ونصوصًا أخرى تتأرجح بين الغياب والحضور.
3- القارئ والنص، ومنهج
الناقد المقارن:
تمتلك سيزا قاسم جهازًا نقديًّا متطورًا، رغم بداياتها النصّية الباكرة، كما أسلفنا القول. لذا، سوف تكون علامات النقلة النوعية الثانية متزامنة مع قوة الدفع التي اكتسبتها من محرّكات المنهج النصّي (البنيوي، الشكلاني). أقصد إلى انفتاحها الكبير على عالم “السيميوطيقا”9 التي عرفها العالم العربي من خلال عملها المشترك مع فريال غزول ونصر حامد أبو زيد في الكتاب-العلامة “مدخل إلى السيميوطيقا: أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة” (1986). وهو كتاب يجمع بين وظيفتي التأليف والترجمة، فضلًا عن نحت الكثير من المصطلحات التي وجدت سبيلها إلى الخطاب النقدي العربي بسرعة البرق الخاطف. فالسيميوطيقا قراءة ثقافية للعلامات بوصفها دوالَّ صغرى متصلة في شبكة الدلالة المتنامية بعلامات أكبر هي شبكة الأنساق التي تنتقل بنا من عالم الطبيعة إلى عالم الحضارة الذي يقتضي من القارئ الحصيف (المفسِّر أو المؤوِّل) استقراءً دقيقًا واسع المنظور متعدّد الثقافات والمرجعيات. في ضوء هذا الفهم، تنظر سيزا إلى اللغة عبر منظار ثلاثي الأبعاد يقوم على دراسة “الإنتاج” و”الوظيفة” و”الاستقبال”10. وإذا كانت السيميوطيقا تتعامل مع جميع أنواع العلامات؛ اللغوية منها وغير اللغوية، فإن الهرمنيوطيقا ألصق بالنصوص التي تُبدَع في إطار اللغة الطبيعية. وإذا كانت السيميوطيقا ألصق بالإطار الاجتماعي، فإن الهرمنيوطيقا أشد التصاقًا بالنطاق الفردي. بيد أنهما معًا تطوير لعمليات القراءة وتقنين لها وطرح لجميع مشكلاتها. إنّـهما “في الواقع [هكذا تصرّح سيزا قاسم حرفيًّا] المنهج الذي يمكن أن نسلكه لقراءة العلامات والنصوص” (ص 11). أما القراءة فهي عملية واعية، عملية مركّبة ومعقدة ذات مراحل ومستويات متعددة؛ هي: الإدراك، والتعرّف، والفهم، ثم التفسير (ص 11). انطلاقًا من هذا الفهم، سوف تقرأ سيزا قاسم (أقصد كونها “تُحلّل” نقديًّا) سيميوطيقا المكان في الشعر الجاهلي، سواء من حيث مراوحات المكان بين الفردي والجمعي، الإنساني والمقدّس، المكان والسلطة، المكان والحرية، ثم تدلف منه إلى بويطيقا المكان (أو شعرية “الطَّلَل”) في معلقة امرئ القيس. والأمر نفسه في تحليلها لتجلِّي البنيات السيميوطيقية الزمنية في الأعمال الفنية المختلفة. (84). ولا فارق في هذا المستوى من الفهم العميق للمنهج النقدي الذي تتعاطى معه سيزا قاسم بتؤدة، في أن تدرس الشعر الجاهلي أو تُحلّل نصوص المقامات وشروحاتها أو تفكّك روايات نجيب محفوظ أو روايات صنع الله إبراهيم أو تدرس قصص سعيد الكفراوي وشعر جرجس شكري وحسن طلب أو تُشرِّح كتب المفسِّرين والمؤرِّخين العرب والمسلمين من أمثال الطبري والمسعودي وابن خلدون أو حتى تتناول مستويات القراءة عند العلماء المسيحيين. فالمنهج لديها يمتلك أرضًا نظرية خصبة منفتحة على طبقات مرجعية شتَّى، بالقدر الذي يمتلك إجراءاته واستراتيجياته التي يعرف مساربها ومفازاتها الناقدة التي تمارسه بحرية، وهي تعلم أوجه قصوره أو نقاط ضعفه قبل أن تعرف أوجه كماله ومكامن قوّته وسطوته. فلا سلطان لمنهج على نص. ولا سلطة لنظرية على تطبيق.
4- الباحث المقارن، وقلق المعرفة:
لا يمثّل كتاب “طوق الحمامة في الألفة والألاف: تحليل ومقارنة” (1971/ 2014) منعطفًا حادّا بالمعنى المباشر في مسار سيزا قاسم النقدي، أو خروجًا عن تطوّر المنحنى البياني الذي يصف مدارج خطابها النقدي وفق أسس منهجية دقيقة، فهو الكتاب الأول في سفر تكوينها، بيد أنه سوف يغدو الأخير (أيضا) عندما تستدعيه من أرشيف البحث وتضيف إليه فصلًا خامسًا عن “ابن حزم والتراث الغربي”. باختصار، هو كتاب يقع موقعًا بينيًّا. أقصد إلى أنه يجمع بين قلق البدايات وجموح الرؤية (السيميوطيقية-الهرمنيوطيقية-الثقافية- المقارنة) الناضجة التي اعترك فيها وعي الباحثة الشابة (سيزا أحمد قاسم دراز) مع عمق الناقدة (سيزا قاسم) التي ترى بعين البصيرة النقدية ما لم تكن تراه بعين البصر الخاطف. لقد غاب عن كتابها في صورته الأولى وعي الباحث المقارِن وقلقه المعرفي؛ فكان لابد مما ليس منه بد. كان من الضرورة المنهجية فتح نص ابن حزم الأندلسي على كل من أندرياس كابيللانوس أولًا في كتابه “عن الحب”، وعلى دانتي أليجيري ثانيًا في كتابه “الحياة الجديدة”، وعلى خوان رويز ثالثًا في “كتاب الحب المحمود”، وعلى ستندال ثالثًا في كتابه “عن الحب”. وهل النقد التطبيق المقارن [بفتح الراء وكسرها] هو أنموذج سيزا قاسم؟
سوف نعثر على إجابة هذا السؤال لدى طارق النعمان، جامع كتابها الأحدث “شذور الذهب في التفسير والتاريخ والفن والأدب”، ومقدِّمه. لذا، فلا غرابة أن يُعنون طارق النعمان مقدمته لكتابها هذا بعنوان “قراءة في خطاب سيزا قاسم النقدي: المقارنة بوصفها استراتيجية معرفية”. وفي ثنايا مقدّمته، يذهب النعمان إلى الرأي بأن سيزا قاسم قد أضافت إلى وعينا المنهجي حمولة اصطلاحية دقيقة من قبيل “إشباع الدلالة” و”المقارنة بوصفها عملية تناصية مفتوحة على الثقافات”، فضلًا عن رصده اللافت لتكرار بعض الصور الاستعارية في خطابها من قبيل “استعارة الشجرة والغابة” أو “استعارة التوالد” أو “الأسرة النصية” أو “استعارة الامتصاص” أو “استعارة الشبكة”، جنبًا إلى جنب رصده “صفة البينيّة”11. اللافت للنظر -في تصوري- أن سيزا قاسم في طرحها لمفهوم توالد النصوص أو “التناص” الذي تقصد من خلاله إلى موضعة النص في سياقاته المولّدة أو المتوالدة إنما كانت تمارس شكلًا من أشكال التحليل النسقي بدلالاته الثقافية. ولا أراها بعيدة أبدًا عمّا كان يمارسه إدوارد سعيد مثلًا أو فنسنت ليتش في النقد الثقافي، أو ستيفن جرينبلات في التاريخانية الجديدة، أو غيرهم. فاستراتيجيات التحليل المتشابهة هي ما يقود حركة الناقد مع النص من الخاص إلى العام أو من المحلّي إلى العالمي أو الإنساني، ثم العكس.
العلاقة بين النظرية والمنهج علاقة بين وجهي عملة واحدة. وأي صراع من أي نوع قد ينشأ بينهما هو صراع إقصائي متطرّف بمعنى من المعاني. يدخل القارئ عالم الكتاب حاملًا أفقَ توقّعاتٍ بعينه أو فهمًا مسبقًا، سواء عن الكتاب أو عن الكاتب أو عن كليهما معًا. وهو فهم تمّ تأسيسه نتيجة تشكُّل “آفاق توقّعاته” الشخصية والزمانية والمكانية ونتيجة حوار متصل بين القارئ والمقروء. عبر هذا الجدل الخلّاق أو تلك الحواريّة بين النظرية والمنهج، يعلو سقف أية ممارسة نقدية تبحث عن الاختلاف والعمق وسط ممارسات متعدّدة تتسم بالتشابه والتكرار والسطحية. في خطاب سيزا النقدي “لا شيء خارج النص nothing out of the text” إذا استدعينا عبارة دريدا التي وظَّفها وفق فلسفته التفكيكية بامتياز. بيد أن سيزا نفسها التي كانت انطلاقتها النقدية بنيوية (أو شكلانية) لن تنطلق من مقولة بارت “موت المؤلف death of the author” في إحالتها المرجعية الحرفية؛ لأنها تنتسب إلى أولئك الناقدات اللائي يؤمنَّ بقيمة الممارسة النقدية الحرة (والمشروطة في آن). إنها تراهن على فعالية القارئ وقلق الناقد المعرفي الذي يشرع نوافذ نصّه على نصوص الدنيا، يختار منها ما يستجيب له النص (المركز)؛ فيتصادَى معه أو يُحاوره أو يهمس همسًا رقيقًا في جسده وروحه.
الهوامش
1. هذا الكتاب في أصله هو أطروحتها للماجستير التي تقدّمت بها إلى قسم اللغة العربية في صيف 1971 تحت إشراف أستاذها عبدالعزيز الأهواني، ولم يكتب لها النشر إلا بعد ثلاثة وأربعين عامًا؛ أي عام 2014. انظر مقدمة كتابها: قاسم، سيزا (2024). طوق الحمامة في الألفة والألاف لابن حزم الأندلسي، تحليل ومقارنة. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ص 13-14.
2. هذا الكتاب في الأصل مجموعة بحوث ومقالات نقدية نشرتها سيزا قاسم في بعض الدوريّات العربية على مدار سنوات عدّة. وقام بجمع المقالات في حياة سيزا قاسم، وبموافقتها، وقدّم لها بمقدّمة نقدية ضافية طارق النعمان. انظر: النعمان (طارق) تقديم. قاسم (سيزا). شذور الذهب في التفسير والتاريخ والفن والأدب. القاهرة: سلسلة كتابات نقدية. الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2023. ص 67-58.
3. أقصد بـ»الرُّهبان-المعتزلة» دلالة العزوف والاعتكاف والإخلاص للمعرفة بصفة عامة، دون إقصاء دلالة «الانقطاع التام» لدال «الراهب (ة)» في التراث المسيحي وحضور دلالة التوجّه العقلاني للفكر الاعتزالي في تاريخ الثقافة العربية.
4. أقصد على وجه التحديد جابر عصفور وصلاح فضل اللذين ظلّا بمثابة فَرَسَيْ رهان الساحة النقدية المصرية والعربية منذ بواكير السبعينيات حتى زمن وفاتهما في عامين متتاليين: 2021- 2022. أما من حيث صفة «الرهبان- المعتزلة» بدلالتي الندرة والجودة معًا فيمكن اعتبار عبدالمنعم تليمة (بكتابيه الاثنين اليتيمين: «مقدمة في نظرية الأدب»، «مدخل إلى علم الجمال الأدبي») أقرب نقاد الجيل إليها.
5. بعد إصدار العدد الأول من مجلة «فصول» بعنوان «مشكلات التراث»، اتجّهت بوصلة المجلة مباشرة إلى موضوع «مناهج النقد المعاصر». وشاركت فيه سيزا قاسم بمقالة نقدية عنوانها «موسم الهجرة إلى الشمال: تجربة نقدية». انظر: قاسم، سيزا (1981). موسم الهجرة إلى الشمال. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب. مجلة فصول. العدد 2. ص: 224-229
6. قاسم، سيزا: 1984، ص 7.
7. بيشوا، كلود. روسو، أندريه م. (1998): الأدب المقارن. ترجمة أحمد عبدالعزيز. القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، ص 178.
8. لا أنكر أنني شخصيًّا قد أفدتُ من سيزا قاسم في معرفة الناقد الروسي بوريس أوسبنسكي، فعدتُ إلى ترجمة الكتاب إلى الإنجليزية (Poetics of Composition: The Structure of Artistic Text and Typology of A Compositional Form, 1973) قبل أن يترجم إلى العربية بسنوات (كان ذلك أعوام 1994- 1999، بينما تَرجم الكتاب إلى العربية سعيد الغانمي عام 1999 بعنوان «شعرية التأليف بين النص الفني وأنماط التشكيل الفني» عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة)، وأفدت منه كثيرًا في تحليل مستويات المنظور السردي وعلاقتها بالرواي. انظر: الشحات، محمد (2019). بلاغة الراوي: طرائق السرد في روايات محمد البساطي. عمّان: أزمنة للنشر والتوزيع، ص 32-37.
9. فضَّلت سيزا قاسم، جنبا إلى جنب رفيقيها نصر حامد أبو زريد وفريال غزول في كتابهما «مدخل إلى السيميوطيقا..» سالف الذكر، استعمال صيغة التعريب عن الأصل الإنجليزي (Semiotics) لا الفرنسي (سيميولوجي Sémiologie ) الذي شاع لاحقًا. وإذا كانت سيزا قاسم قد مارست التحليل السيميوطيقي في مجال الأدب والنصوص السردية والتاريخية والصوفية، فإن رفيق دربها نصر حامد أبو زيد قد مارسها في علوم القرآن وعلم الحديث والخطاب الديني. ولا أراني إلَّا مُتحيّزا لما قاما به من دمج منهجي رصين وعميق بين حقلي السيميوطيقا والهرمنيوطيقا بمهارة وخبرة كبيرة، بحيث يمكن النظر إليها معًا -في مسار دراسات تحليل الخطاب – باعتبارهما مؤسِّسين رفيعي المستوى لحقل «السيميوطيقا الثقافية» الذي اكتسب شيوعه اللافت حديثًا جدًّا في الثقافة العربية، خصوصًا من لدن عدد من نقّاد المغرب العربي المعاصرين.
10. قاسم، سيزا (2002). القارئ والنص، العلامة والدلالة. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة. ص 10.
11. النعمان، طارق (2023). قاسم، سيزا. شذور الذهب في التفسير والتاريخ والفن والأدب. القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة. ص 23-41.