د. سلوى العمد
ما عرفناه من سيرة غالب هلسا قد يصلح لقراءةٍ في شخصيته وإبداعاته الروائية والفكرية؛ فمن وقائع طفولته ومجمل حياته، نستخلص الموضوعات الأساسيّة التي سيطرت عليه مكانا وزمانا، إذ شكّل ثالوث المرأة والمكان والسياسة محور إبداعاته الأدبية والفكرية. وإذا جاز لنا أن نقول شيئا في هذا الصدد، فهو أنّ مكان غالب وزمانه شكّلا الدراما الحقيقيّة التي تناثرت في ثنايا رواياته.
الطفل والأبوان الكهلان
وُلد غالب لأبوين كبيرين في السن، وهذا يعني أن الفرصة لم تُتَح له لمعايشة أُم وأب شابّين يكبران أمامه بينما هو يكبر أيضا، فيتعرف عليهما بكل أوضاع الأبويين الفتيّين من خصب وعطاء وحيوية. لقد وجد أُمّا كهلة تُرضع صبيّا هو أقرب -عُمرا- إلى الحفيد منه إلى الابن، وإن بقي يرضع منها لسنوات عديدة كما قال مرة. كذلك الحال مع والده الذي عاش طويلا، وقد ظن غالب أنه سيعيش كوالده عمرا مديدا، وأنّ هذا ما سيمكّنه من كتابة كل ما يريد كتابته قبل أن يرحل. وقد يكون هذا الإرث الوهمي لعمر مديد هو الذي جعله يعتدّ بوالدٍ عاش قرنًا من الزمان؛ ففي ذلك وعدٌ خفيّ لغالب يعوّضه عن حقيقة أنه ولد لجدَّين لا لوالدين، وأنّ في العمر الموعود هذا تعويضا عمّا فاته من حياة أسرية طبيعية. وعندما صار غالب صبيا في عمر المدرسة أُرسل إلى مدرسة داخلية هي مدرسة المطران في جبل عمّان.
ما تقدَّم يجعلني أفتتح مقالتي في وقائع أوليّة عن حياة غالب، فعدم توفر بيئة الأُسرة في طفولته، جعله هو ذاته شخصية دراميةً وربما أكثر دراميةً من بعض أبطال رواياته. وهذا الأمر يفسر الغربة القاسية التي عاشها غالب عن الأهل والمكان الحميم. وربما انعكس ذلك في رواياته، حيث كان غالب نفسه حاضرا بطريقة أو بأُخرى. لكن ما لم يحضر فيها بشكل مباشر هو ذلك الفراغ العاطفي الكبير والصامت الذي سيطرَ على حياته.
المرأة في وجدان غالب
أيّ امرأة تلك التي افتقدها غالب وبقي يبحث عنها في هاجسه الدرامي أكثر مما يبحث عنها في الواقع الحياتي. إنها تمثل النساء اللواتي طمح غالب إلى جمعهن في واحدة؛ الأولى: المرأة الأُم (التي ترمز إلى القداسة وتعادل الوطن)؛ والثانية: امرأة القاع الاجتماعي المهمّشة التي تقاوم التهميش وتختطّ طريقها بقوة وصلابة وقد تكون عاشقة ومعشوقة (الخادمة مثلا)، لكن امرأةً كهذه تنتمي إلى شريحة اجتماعية مهمّشة ترمز في ذهن العامة إلى الدنس (عكس القداسة التي ترمز لها الأُم). أما النوع الثالث من النساء الذي بُهر به غالب فتمثله المرأة المثقفة التي تجاوزت الواقع التقليدي فحملت في شخصها معاني القداسة (في ثقافتها) ولكن أيضا معاني الدنس الماثل في عزلها وتهميشها من قِبل مجتمع يعتدّ بسياقه التقليدي؛ ما جعل غالب هلسا يجد فيها خصبا دراميا واعدا كذلك. بمعنى أنه وجد الدراما في المرأة غير التقليدية الخارجة عن السياق الاعتيادي للمجتمع. ولهذا نجد هذه الشرائح من النساء متداخلة في العديد من رواياته في شخص بطلة واحدة في أغلب الأحيان.
أتوقف هنا عند واقعة قد تلقي ضوءا على شخصية غالب. في إحدى زيارات أُمي لي في بيروت في عام 1981، طلب غالب وثلّة من الأصدقاء أن تعدّ لنا أُمي وجبة لا يجدها المغترب أو المنفيّ في منفاه، تلك هي “ورق الدوالي” مع الكوسا والباذنجان المحشي إلى جانب الفوارغ وفتّة المقادم. وقد انشغلت أُمي وشقيقتي الكبرى في إعداد الوجبة لساعات، وعندما عدت من عملي كانتا قد أنجزتا تلك المهمة الشاقة والمملّة ووضعتا الطناجر على النار، وبينما هما في انتظار أن يُطهى الطعام فنجتمع في المساء مع الأصدقاء “المحرومين” من حميميّة اجتماع الأسرة، تناولت أُمي رواية “الضحك” لغالب وأخذت تتصفحها. سألتها: “ما رأيك فيما يكتب؟”، أجابت: “إنه بوهيميّ وعدميّ”، فسألتها مجددا: “أين وجدتِه كذلك؛ بوهيميا وعدميا؟”، فقالت: “في تناوله للمرأة فيما يكتب”. وأظنها كانت محقّة في ذلك، فغالب كتب عن المرأة المستحيلة، وإن استقى شخصيتها متعددة الأبعاد من الواقع الإنساني الخصب. وعندما جاء غالب، قلت له ما قالته أُمي، فقال: “لقد التقطت أُمك دواخلي أكثر مما التقطها النقّاد”.
المكان في تجربة غالب
سأحاول فيما يلي تقديم قراءة لشخص غالب هلسا من منظور يستفيد من المنهجية الأنثروبولوجية كأداةِ معرفةٍ تزاوج أحيانا بين الانطباع والمعلومة وتتيح استخدام الأدوات المعرفية المتاحة لمجمل العلوم الإنسانية، لكنها في الوقت نفسه تدعي لنفسها أدوات خاصة في البحث والتحليل وقد تُنتج نصا أدبيا بلغة العلم ومناهجه.
غالب هلسا شخصيةٌ نموذجٌ لمقاربةٍ تستلهم وقائع سيرته من مضامين المكان والزمان اللذين عاشهما. ففي حياته -منذ ولادته وحتى موته- محطات أساسية ومفترقات طرق أسهمت كثيرا في صياغة شخصيته، قبل أن يقوم هو بنسج شخصياته الروائية المستوحاة أصلا من تجربته إلى حدّ ينعكس كثيرا في المعنى والرمز للوقائع التي عاشها في معترك حياته.
في هذا السياق، يمكن الحديث عن الاغتراب الآخر في حياة غالب، ألا وهو الاغتراب منذ الطفولة عن المكان الحميم. فبعد انفصال غالب باكرا عن بيت الأسرة، لم يعد إليه حتى وفاته. ففي عمر المدرسة أُرسل إلى مدرسة خاصة وأقام في سكن داخلي، ثم أصبح نزيل فندق أو شقة مفروشة في حلّه وترحاله، وفي بعض الأحيان نزيل سجن، وكان نزيلَ المستشفى أيضا قبل أن يعود إلى وطنه مسجّى في كفن. وهكذا جمعت حياته بين أهم اغترابين يفقد الإنسان فيهما الحميمية في الحياة: الاغتراب الزمني الذي يفصله من حيث العمر عن أبوين كهلين، والعيش في الغربة التي لا تعِدُ بالحميمية.
وُلد غالب في الشهر الأخير من عام 1932 في قرية ماعين الواقعة جنوب عمّان، في البقعة الجغرافية التي عُرفت تاريخيا بشرق الأردن. ولنا أن نتخيل ما كانت عليه الحال في ذلك الزمان، أي بُعيد تقسيم بلاد الشام بين الانتدابين الفرنسي والإنجليزي استنادا إلى اتفاقيات (سايكس-بيكو). وعندما مُنح شرق الأردن استقلاله في عام 1946، كان غالب في الرابعة عشرة من عمره. وعندما وقعت نكبة فلسطين كان يافعًا يدْرس الثانوية في عمّان.. هذا اليافع انتمى بالولادة للمذهب الأرثوذكسي الذي تعتزّ رعيّته بأنها من قبائل عربيّة عريقة في بلاد الشام، وقفت إلى جانب الفتوحات الإسلامية ضد البيزنطيين، وتمسكت بالبُعد التاريخيّ والجغرافيّ لهويّتها الدينية، حيث وُلد المسيح عليه السلام وحيث بزغ فجر المسيحية، فهي في حاضرها التاريخيّ مسيحية المذهب عربيّة الهوية والجذور، وهذا ما كان له دور في البيئة الدينية والمكانية والسياسية لغالب هلسا في مطلع حياته.
وفيما يتصل بالبيئة الاجتماعية، وُلد غالب لأبويَن تفصله عنهما –زمنيا- عقود وربما أجيال. فعندما حملت أمّه به، كانت في سنّ الكهولة. أما أبوه، فكان قد تجاوز السبعين عند ولادته. وغالب، كما سبقت الإشارة، ابنُ عشيرة مسيحية من مدينة الكرك الجنوبية، يعيش في قرية ماعين التي لا ينتسب لأيّ من العشيرتين الكبيرتين فيها. غير أن أسرته كانت ميسورة الحال، ووعت أهمية التعليم في ذلك الوقت المبكر، وأرسلته إلى مدرسة ليكون في رعاية قسمها الداخلي. إذن البيت هو المدرسة والمدرسة هي البيت؛ في حين أن ذاكرة الإنسان غالبا ما تضع حدّا فاصلا بين البيت والمدرسة: شتّان بين عالم الطفولة في البيت الحاني، والمكان الذي يقيم فيه الإنسان بوصفه نزيلا. فالساكن في مدرسة داخلية نزيل، والمقيم في فندق أو شقة مفروشة نزيل، والقابع وراء القضبان في السجن نزيل أيضا، أما البيت فلا ينزل المرء فيه بل يسكنه ويسكن إليه، في إشارة إلى السكينة والأمان العاطفي. البيت يختلف جوهريا من حيث المعنى عن المكان الذي يكون فيه المرء نزيلا. فللبيت في ذاكرة ساكنيه وقْع يختلف عن الواقع الصارم لمؤسسة المدرسة، بينما يستضيف الفندق المرء وفقا لمبدأ الدفع عدّا ونقدا، والسجن يحيله إلى رقم لا روح فيه ولا شعور. البيت يمثل المكان بكل مضامينه الإيجابية التي تعزز مكانة الإنسان. أما المكان الذي يكون فيه الإنسان نزيلا فيفتقر إلى المعاني الحميمة، وهو بهذا أقرب إلى اللامكان منه إلى المكان. في اللغة العربية نستخلص المكانة من كلمة “مكان”، أي أن الإنسان يستمدّ مكانته من المكان الذي ينتمي إليه بالوجدان والهوية.
الغربة الطويلة والنهائية واستحالة المكان الحميم في حياةٍ حافلة بالمجهول كانت الهاجس الذي غلب على كلّ ما عداه في مؤلفات غالب وفي بعض الأعمال التي ترجمها. فحين ترجم كتاب “غاستون باشلار” المسمى “شاعرية المكان” (وقد ترجمه بعنوان “جماليات المكان” متجاوزا الترجمة الحرفية على جمالها)، كان مأخوذا بفكرة المكان الحميم مميزا إياه عن “المكان الذميم” (إن جاز التعبير). وقد أخذ غالب مثالا أورده “باشلار” عن الحلزون. فهذا الكائن الرخويّ ينسج حوله قوقعة صلبة تغلّفه فتحميه في داخل منيع. الحميمية هنا في التماهي بين حضن الإنسان وقوقعة الحلزون، فما إن يخرج هذا الكائن من حصنه حتى يتعرّض لصنوفٍ من الأخطار بسبب ليونة بنيته وهشاشة تكوينه، كأني بغالب يرى في نفسه نموذجا صارخا لذلك الكائن الفاقد لمكانته خارج قوقعته.
في مؤلفات غالب هلسا حضورٌ دامغ للمكان، ففي العديد من رواياته، كانت القاهرة مسرحًا للأحداث بكل تفاصيلها. كان ذلك بعد مغادرته عمّان إلى بيروت فبغداد. وبعد إقامة طويلة نسبيا في القاهرة (25 سنة) سافر مجدّدا إلى بغداد، ثم انتقل إلى بيروت، التي غادرها بعد الاجتياح الإسرائيلي إلى عدن، فإثيوبيا، ثم برلين قبل أن يختار دمشق محطةً أخيرة قبيل رحيله الأخير إلى بلدته “ماعين” في الأردن وهو مسجّى.
في جلّ كتابات غالب، نلمس افتقاده للمكان الحميم؛ فعذابات المثقف الملاحَق أو المناضل السياسيّ القابع في مهجع سجن، جنبا إلى جنب مع المجرم واللص وقاطع الطريق، تستحثّ ذاكرة الطفولة. في قصة “وديع والقديسة ميلادة وآخرون”، نقرأ بين السطور وفي ثنايا الكلمات دلالة “ماعين” كرمز لبيت الطفولة الحميم حيث وُلد غالب. والبكاءُ على الأطلال في مطالع المعلّقات، صار عنوانا لإحدى رواياته، حيث البيئة الشرسة للصحراء تستحثّ ذاكرة البيت الغائر الذي تبقى رائحةُ البن عالقة في أطلاله ولا يغيب عنه إيقاع المهباش، والمهباش في رواية “البكاء على الأطلال” يمثّل استعادة للطفولة الدارسة في غابر الأيام، لكنّها العفيّة في الذاكرة. في هذه الرواية أيضا يشتبك البطل مع المكان بكل همومه محاولا استعادة ذلك الشيْء المفقود في زمانٍ غير الزمان ومكانٍ غير المكان، فتنتج عن تلك المحاولة تلك الصورة “الطللية”: (قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزل…). هنا يصبح الحبيب والمنزل عنوانا للشيْ ذاته وهو: استحالة استعادة زمن غابر ومكان دارس.
وفي رواية “سلطانة” يستدعي الروائي ذاكرة اليافع حين كان في مدرسة داخلية في عمّان.
عاش غالب حميمية المكان في حاضرٍ ما مرة واحدة. كان ذلك إبّان الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982، إذ حدّد غالب بيروته التي استدعت فيه الحنين والدفء، تلك كانت بيروت خطوط التماسّ مع قوات العدو الصهيوني، فقد اتخذت خطوطُ التماسّ بالنسبة له سمةَ المدينة الفاضلة التي أحالها مطْهَر المقاومة إلى قدّيسة العصر. وقد عبّر غالب عن ذلك في شهادة سجّلتُها له بُعيد الاجتياح بقليل (نُشرت جزئيّا في مجلة “الطريق” اللبنانية في مطلع عام 1983 وبشكل كامل في صحيفة “العرب اليوم” الأردنية في عام 1998). في هذه المقابلة، ميّز غالب بين بيروت الداخل التي كانت تتحدث عن الصمود وبيروت خطوط التماسّ التي تحدثت عن النصر، وقد انحاز غالب لبيروت خطوط التماسّ. توضح لنا صورة التمايز بين بيروتين ونوعين من الناس بأن غالب هلسا رأى مضمون المكان بناسه، فبيروت خطوط التماسّ هي بيروت الأحياء الشعبية في أطراف المدينة، أما بيروت الصمود فتلك التي تخسر امتيازاتها إذا ما تواصلت المقاومة.
في مضمون تلك المقابلة، كما في مؤلفاته ودراساته النقدية (دراسة عن المكان في الرواية العربية، ودراسة في أعمال زكريا تامر)، نستخلص عنوانا واحدا لحياة غالب الحافلة، ذلك هو الحنين للمكان الحميم ليس فقط في حيزه الجغرافي، بل في ناسه ومواقفه.
هكذا كان المكان عن غالب هلسا بوصفه الحيّز الذي يعزز مكانة الإنسان ويصون كرامته. كان غالب مناضلا لا يلين. كان عنيدا بسلطة المعرفة ووعي المثقف الذي يرى ما لا يراه السياسيّ. ولقد تمثل موقفه هذا بتناوله للثالوث المحرَّم في المجتمع العربي: الجنس والدين والسياسة. وقد تفهمتُ دوافع الحدة في موقفه السياسي، فهو لم يشأ للحصن العربي الأخير الماثل في الكفاح الوطني الفلسطيني أن ينهار، فصرخ صرخته المدوّية المعبّرة عن وعي المثقف الذي يغرّد خارج السرب بحثًا عن المكان الأليف خارج سياق المألوف.
لكنّ هذه الدراما الدفينة في طفولة غالب وحياته لم تتوقف عند هذا الحد، فقد شاءت الظروف كذلك أن يشبّ غالب ويتعرف الحياة السياسية في الخمسينيات من القرن العشرين، فينضمّ ناشطا إلى صفوف الحزب الشيوعي الأردني، ويعوّض ما كان يحسّه كصبي من وحدة وعزلة، بانخراطه في الحياة السياسية التي كانت في أوجها في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، وكأنما وجدَ في ذلك معادلا موضوعيا لما فاته، فتح له أبواب التعرف على الكثيرين والكثيرات وجعلَه أكثر رحابة وخصبا في تناول موضوعاته الروائية والفكرية التي إن تلخّصت في شيء فإنما في موضوعين أساسيين: المرأة، والسياسة بشقّها الشعبي المتصارع مع الحكومة أو الحكومات المتعاقبة.