يعطي السياق الشعري للحوار طابعا خاصا يختلف بالضرورة عن دوره في الفنون المسرحية والقصصية.. وما من شك في أن الحوار يبدو عارضا في القصيدة, وقلما انتظم قصيدة بأكملها في حين أنه أساسي في فن المسرح والفنون القصصية عامة. وحين ينتقل الحوار من جنس أدبي الى آخر فانه لا يفقد وظيفته الرئيسية التي ينهض بها في الفنون القصصية عامة. فهو بالدرجة الأساسية يكشف عن طبيعة الشخصية الانسانية التي تأتي في اطار العمل القصصي أو المسرحي. وينهض بالمهمة ذاتها في الشعر حين يكشف عن أعماق الشاعر وطبيعة همومه وتطلعاته ولا سيما في نمط الحوار الذاتي (Monologue) الذي تتجلى وظيفته الرئيسية في تقديم المحتوى النفسي للشخصية والعمليات النفسية لديها دون التكلم بذلك على نحو كلي او جزئي… لأنه يقدم محتوى الوعي في مرحلته غير المكتملة قبل أن تتشكل للتعبير عنها بالكلام عن قصد«.(1) وقد يتخذ الحوار الذاتي أكثر من مظهر, فهو قد يبدو على شكل مناجاة لشخص آخر او لمعنى من المعاني على أن تجري المناجاة داخل ذات الشاعر. وحين لا يؤدي الحوار الذاتي ما يريده الشاعر فانه يلجأ الى البوح بمعاناته في إطار ما يدعى بالحوار الخارجي (2) (Dialogue) الذي قد يوجه لشخص أثير الى قلب الشاعر أو إلى رمز من الرموز المحملة بالايحاءات. وهو قد يظهر بأكثر من هيئة بدءا بالبوح الهامس وانتهاء بالهتاف الصاخب الذي قد يتطلب السياق الشعري حين يحس الشاعر بأن الصوت الخافت في داخله لا يكفي لتغطية مساحة احساساته. وإذا شاء الشاعر أن ينسج قصة شعرية أو قصيدة قصصية (3), فان دور الحوار في هذه الحالة يقترب من دوره في فن القصة عامة حيث يعطي صورة أكثر وضوحا عن شخصيات القصة الشعرية, ولذلك قيل عن الحوار الجيد بأنه »ذلك الطابع الذي يتسق به الكلام بطريقة تجعله يثير الاهتمام ويستفز المشاعر باستمرار«.(4) وهذا يعني أن الحوار لا يقف عند حدود الكشف عن طبيعة الشخصية بل انه يشيع الأجواء المناسبة لطبيعة القصيدة على أن يرد بشكل مكثف بحيث يؤدي دورا فنيا دالا.
ونادرا ما يأخذ الحوار في اطار القصيدة طابع الجملة الخبرية ذات الطابع التقديري اذ كثيرا ما يأتي على هيئة استفهام او نداء أو سواهما من الصيغ التي تدخل في اطار ما يدعوه البلاغيون ب-(الانشاء)(5). حيث تدعو مثل هذه الأساليب القارئ الى التفاعل مع أجواء القصيدة فضلا عن أن الحوار الشعري يحظى بالصور الفنية التي قد يخلو منها الحوار في دائرة الفنون القصصية والمسرحية. ذلك أن الحوار الشعري جزء من نسيج القصيدة ولابد للشاعر من شموع الصورة الفنية يضيء بها جنبات قصيدته وأرجاءها.
ويمكن للحوار المصوغ صياغة شعرية أن يمنح ايقاعية مضافة لايقاع القصيدة, فهو بطبيعته ذو طابع صوتي يعزز الصورة الفنية ذات الطابع السمعي من جانب ومن الجانب الآخر فانه يمكن أن يشيع الحيوية والحركية في غضون القصيدة وأن يكسر الرتابة ويؤدي الى تنويع الأجواء وأساليب التعبير.
إن الحوار أداة فنية مهمة في يد الشاعر إذا استطاع أن يفيد منها في القصيدة وبما ينسجم مع أجوائها وتطلعاتها. ويبدو أن طبيعة بعض القصائد تفرض طابعا حواريا يلجأ إليه الشاعر بناء على سياق قصيدته. وهذا ما سنقف عنده عبر المجموعة الشعرية الموسومة ؛رياح للمسافر بعد القصيدة« للشاعر العماني هلال العامري حيث ستكون هذه المجموعة ميدانا تطبيقيا للحوار حين يأتي في سياق القصيدة الشعرية.
ومنذ عنوان قصيدة »وللشعر أهتف يا أيها الشعر« (6) نلمس هذا الطابع الحواري الطاغي على أجواء هذه القصيدة. ومنذ مقطعها الأول الذي يشكل استهلال القصيدة فان الشاعر يحاور حلمه إذ يقول:
يجنح حلمي بعيدا
وأسأله مرة: ألا تستريح قليلا
لأنصب من رغبتي خيمة للصباح?
حيث يتأنسن الحلم وأداة الشاعر في هذه الأنسنة هي الحوار الذي يتحول الى قرينة استعارية وفي اطار اللوحة الشعرية التي يرسمها الشاعر للحلم رغبة منه في إشاعة أجواء الألفة والانسجام بينه وبين الحلم من جانب ومن الجانب الآخر الكشف عن هذا التضاد الحاد بين الشاعر وحلمه إذ لا يريد حلمه أن يستقر وبمجرد أن ينتهي التساؤل يعود الشاعر الى ذاته ورغبته في أن يهدأ قليلا إذ أن طموحه وأمانيه التي عبر عنها لفظ (الحلم) لا تدعه يستريح. ويشي التساؤل بضيق الشاعر وبرحه بسبب من انطلاقة حلمه إلى آفاق لا حدود لها, وهو ما أفصح عنه التجسيم الاستعاري الذي أوحت به لفظة (يجنح), وهي تسبغ على حلم الشاعر سمة الطائر الحر الذي يشق الفضاء ويقطع الآماد عبر الأفق اللامحدود. وتعكس الخيمة هنا وقد وردت في غضون حوار الشاعر مع حلمه ايحاءات الراحة والحرية معا ولذلك انتقاها الشاعر ولم يستبدلها بلفظ البيت الذي قد يبدو قيدا من نمط آخر, ما دام الشاعر يود أن يستريح من قيود الحلم وتحكمه. وقد انتقى الصباح كي يحل في تلك الخيمة إيحاء بأن الشاعر يود لو يبدأ بداية أخرى غير التي بدأ بها حياته. وهذا تماما ما يوحيه الصباح الذي هو قرين الانبلاج والتجدد.
وفي المقطع السادس من قصيدة ؛وللشعر أهتف يا أيها الشعر« يحاور هلال العامري الشعر متخيلا إياه صديقا يعي همومه ويستوعبها مستثمرا عطاء التشخيص الاستعاري في قوله:
وللشعر أهتف يا أيها الشعر
يا منتهى نبضات التمرد
يا قمر العتمة الحالكة
يعكس الحوار هنا رؤية الشاعر للفن الشعري الذي يعني لدى الشاعر التمرد والتجاوز والانطلاق فضلا عن أنه نبراس وقبس ومنار. ويستقي هذا من صورتين شعريتين إحداهما تجسم الشعر قلبا بدلالة (نبضاته) وتحيله الأخرى (قمرا) لا تصمد الحلكة أمامه. وهذا يعني ضمنا أن (هلال العامري) يؤمن برسالة الشعر والشاعر, وهذا ما يتأكد لنا في قصائد أخرى عبر هذه المجموعة الشعرية (7) ويؤدي تكرار أداة النداء (يا) ثلاث مرات أكثر من هدف. ففي الوقت الذي يفرغ الشاعر فيها آهته وبما ينسجم مع صوت المد في آخرها, فانه يسبغ تنغيما لا يخفى على السطور الشعرية الثلاثة.
ويأخذ الحوار طابعا آخر في قصيدة»آية الحب, آية الحياة« (8) إذ يكون حوارا خارجيا بيد أنه من طرف الشاعر حسب إذ لا نسمع صوت الحبيبة في القصيدة حين يقول الشاعر في أول مقطعين له منها:
تكونين/ أو لا تكونين/ ضرب من الغيب
سلسلة من غبار
وأحلام قافلة قد أناخت ركاب الكآبة فينا
ليعمرنا الصمت والخوف والانتظار
ينم المقطع الشعري عن حيرة الشاعر وعن تداخل الهم الفردي مع الهم الجماعي في ذاته, وليس أدل على ذلك من لجوئه إلى ضمير المتكلمين (فينا, ليعمرنا). ونلمس منذ السطر الشعري الأول طابعا قدريا يسلس فيه الشاعر قيادة للغيب. وتغلب عليه نغمة حزينة, لا سيما ان الكآبة قد حلت في أعماق الحبيبين, ولا يبدو أنها ترغب في الرحيل بعيدا عنهما. ويأتي الصمت والخوف والانتظار على هيئة قرائن أخر للكآبة الثقيلة. ولا يستسلم الشاعر لمثل هذه الأجواء بل يشرع بفتح النوافذ إيمانا منه بأن الحب قرين الحياة ورديفها, وهو ما يستنتج من عنوان القصيدة (آية الحب, آية الحياة) ولذلك يحشد مظاهر تزخر بالحياة أبرزها البحر الذي يستقر في أعماق الشاعر بوصفه عالما يعج بالصور الحية.
ويمضي الشاعر في انتقاء صور الحياة المقترنة بحضور الحبيبة وبما ينسجم مع البؤرة الأساسية في هذه القصيدة وهي المستقاة من عنوانها (آية الحب, آية الحياة) إذ يقول:
فما كنت يوما سألتك أن تقنطي من هواي
ولا أن تعيشي مع اليأس والذكريات
لأني أحبك أغنية في شفاه الصغار
وإني أذكر أني عشقتك مثل الوجود
وإنك كنت اختصار النساء
وإنك كنت الصباح الجميل, الجميل
وانك كنت القصائد والشعر في كل دار
وهنا ينطلق الشاعر من ذاته بدلالة ضمير المتكلم (كنت, سألتك) وياء المتكلم (هواي), ويعزز هذه الذات عبر أسلوبي التكرار والتوكيد في (لأني, وإني, أني) بعد أن بدأ قصيدته منطلقا من إحساسات الجماعة المعبر عنها بضمير المتكلمين. ويفيد الشاعر من أسلوب النفي في السطرين الشعريين اللذين استهل بهما هذا المقطع بهدف رفض مظاهر اليأس وغياب الحب الذي يعني لديه الموت على وجه الدقة إذ أن حضور الحب يعني حضور الحياة والدليل على هذا إضمامة الصور الشعرية التي تلت هذا الرفض للقنوط واليأس. ولذلك يقترن الحب بأغاني الأطفال القريبة من الفطرة الخيرة, ويكون الحب مضاهيا لوجود الشاعر في هذه الحياة. وأن الحبيبة تعني الخلاصة لنساء الأرض جميعا. وتتداعى الصور الشعرية على ذهن الشاعر, وكلها استجابة لاحساسه بالحياة في ظل حضور الحب وبالموت في غيابه حيث تعني الحبيبة البدء والاشراق المتمثلين بالصباح الجديد. وبقدر تعلق الشاعر بهذه الحبيبة فانه يعشق القصائد والشعر. وهو يرى أن الشعر يساوي وجود الحبيبة إيمانا منه بأن الشعر رسالة تحمل في طياتها الحب والحياة. ويختم هلال العامري قصيدته (آية الحب, آية الحياة) بأسلوبه الذي يفتح كوة في الجدار الصلد مهما كان قاسيا وصفيقا ينفذ من خلالها الى الحياة تماما كما كان يفعل حين ينجح في ايصال حبه الى من يحب حيث يتخلص من الحصار الموحي بالضيق والاختناق.
وربما يخشى الشاعر الحوار وما يجره من عذاب اذ أن الحوار قد يرتبط بالأسئلة الكبيرة المتواصلة التي تلح على ذهن الشاعر إذ يقول في قصيدته»رياح للمسافر بعد القصيدة« (9) وهي التي استأثرت بعنوان هذه المجموعة القصصية:
إلي ببعض من الصمت
إن الكلام يثير السؤال وراء السؤال
ويولج قائله في دهاليز قعر الزنازين
يدخله في فيافي العذاب
ويأتي الكلام هنا رديفا للحوار, ذلك انه السؤال تلو السؤال مما يفضي الى استفاقة الجراح. وربما جرت الأسئلة إلى ما لا تحمد عقباه. في حين إن الصمت السلبي لا يثير المتاعب في ظل الظروف القاهرة التي يعيشها الانسان العربي عامة. ويتضمن هذا النص دعوة الى حرية الرأي والتعبير اللذين لا غنى للطبيعة البشرية عنهما.
وفي»قصة عاشقين في مرفأ الزمن« (10) يتحاور العاشقان حين يتحول الحوار إلى متعة وبهجة تفضيان إلى أن يتجاوز العاشقان حدود الحوار في قول الشاعر:
من الشبق المتوهج في الظلمة الدامسة
تجيء إليه تحاوره
تفتح القلب والشهوة الناعسة
تمزق حد الحوار
وتلغي القرار
وتقذفه في الحصار الذي يلتقي بالحصار
إن المرأة في هذا المقطع الشعري لا تكتسب سمة التجريد المرتبط بالحب, بوصفه قيمة عليا من قيم الشاعر حيث تقترن بالوجود وبالحياة المطلقة كما شهدنا هذا في قصيدة سابقة بل إنها هنا امرأة عابرة تظهر كومضة برق خاطف وتغيب فلا تترك خلفها إلا كما يترك الحلم العابر. ولذلك فانها تأتي من أعماق ظلمة دامسة تكمن في داخل النفس الانسانية وتختفي بعد لحظات في الزوايا والطرقات فكأنها لم تظهر في حياة الشاعر.
وفي قصيدة»لعام مضى لعام جديد سيأتي« (11) يأخذ الحوار شكل البوح أمام الحبيبة التي تكون رديفة للحياة والضوء والخبز والزيت في قول الشاعر:
وأنت بعيني بريق البصر
وأنت حواري
ودفئي الذي أستظل به في ليالي المطر
ويفيد الشاعر من عطاء ثلاث حواس توغلت إلى نسيج صوره الشعرية الأولى: حاسة البصر إذ يقرن الشاعر الحبيبة ببريق بصره والثانية هي حاسة السمع المستقاة من قول الشاعر (أنت حواري) حيث يسعى الشاعر إلى امتاع أذنه بصوت من يحب. ويأتي الدفء كي يؤكد حضور حاسة ثالثة هي حاسة اللمس. وحين يتلاحم تأثير ثلاث حواس, فمعنى ذلك تكريس تأثير اللوحة الشعرية وتعزيز وقعها.
وفي قصيدة؛تكوين للخليقة الأولى« (12) يحضر الحوار كي ينتظم القصيدة كلها. وهو يطالعنا عبر محاورة الشاعر لامرأة تبدو رمزا للأنثى بوجه عام اذ يقول:
يا امرأة في كل الأزمان
هزي أرداف همومك هزا
ودعيها تنساب بأرض النسيان
وكأن الرقص يعين تلك المرأة على أن تتخلص من همومها التي هي هموم الشاعر ذاته وقد أسقطها على تلك المرأة. وتكمن ثنائية متضادة في قول الشاعر (هزي أرداف همومك هزا) إذ أن مثل هذه الحركة تشي بالرقص الموحي بالبهجة والحيوية في حين انها ترد في سياق حزين وهي تسند إلى الهموم في سياق الاستعارة المكنية التي تؤنسن الهموم وتهبها ما للانسان من أعضاء وسمات.
وكما خاطب الشاعر المرأة فانه يحاور الوردة التي هي المرأة أيضا على الصعيد الرمزي, وربما تكون قسيما رمزيا للحياة أو الطبيعة التي يلجأ إليها الشاعر حين تستبد به الهموم وتحاصره إذ يقول:
هبي يا وردة هذا الموج الدافق
واكسي الزبد المنشق بياضا
أول لونا أحمر
أو أخضر
فالبحر له طبعان
حيث تقترن الموجة في مخيلة الشاعر بالوردة, وهي وردة تكتسب لونها من لون الأفق, وقد نسب لها الشاعر طبيعتين إحداهما: الثورة والتمرد اللذان اصطبغا باللونين الابيض المرتبط بالزبد والأحمر الدال على الموت والمستمد من لون الشفق المؤذن بالغروب والأفول. والأخرى الحياة والطمأنينة اللتان عبر عنهما اللون الأخضر بايحاءاته المفصحة عن النضارة والنماء.
وينسب الشاعر الحوار للماء إذ يقول:
يقذفني الماء بعيدا
وبعيدا يقذفني
ويعود الماء ينادي
».. لن توقف ما يجري
لن توقف مكتوبا.
في صفحات العمر المنسية
لن تقرأ اقدارك
في زمن يسحق فيه الانسان… «
وانتقاء الشاعر للماء محاورا ينطوي على أكثر من دلالة, فالماء رمز من رموز الحياة والخصب, وصوته يشي بالعنفوان والحركة الدائبة. لذلك يبدأ الماء حواره مع الشاعر بأن يفصح له عن طبيعة الحياة الجارية وان الشاعر لا يستطيع ايقافها مع رنة حزن قدرية. ويمهد الشاعر لهذه المحاورة التي جرت بين الماء والشاعر بتكرار؛يقذفني الماء بعيدا, وبعيدا يقذفني« حيث يشع بعد دلالي مفاده أن حركة الماء المعبرة عن حركة الحياة هي التي تسير الشاعر فتقذفه بعيدا عن مجراها وأما البعد الآخر فانه ايقاعي يهب المقطع الشعري قدرة مضافة على التأثير لا سيما انه مستمد من حركة الماء الدائبة. وينطبق هذا تماما على التكرار الذي ورد على لسان الماء المؤنسن وهو يخاطب الشاعر في سياق تشخيص استعاري ينتظم هذه اللوحة اذ يتكرر قوله (لن توقف) مرتين. ويعود على حرف النفي (لن) الذي يعني النفي المطلق في الماضي والحاضر والمستقبل كي يسنده إلى فعل آخر (لن تقرأ….) إفصاحا عن الاستسلام والاحباط الذي يعيش فيه الانسان في هذا الزمن الذي أدانه الشاعر.
وينتقي الشاعر رمزا آخر من رموز الحياة, وهو الصباح قرين البدء والميلاد الجديد, فيسند إليه حوارا مع الفجر الطالع في قوله:؛والصبح ينادي أرملة الفجر الطالع«, ومع أن الصباح والفجر يشيان بالتجدد والمسرة فان الشاعر أوردهما في سياق كئيب إذ أن الصباح لا يمكن أن يطل ما لم يحتضر الفجر وهي صورة تتناسب والسياق الشعري الحزين الذي بدأت به القصيدة. ومعنى هذا أن الجديد لا يأتي بالضرورة إلا على أنقاض قديم. وهذا هو شأن الحاضر الذي لا يمكن أن يقبل إلا على أشلاء ماض ينحسر. وكأن الشاعر رصد حركة الحياة الدائبة عبر هذه الصورة الشعرية ومن منظور داكن.
وإذا كان لابد من سطور أخيرة تختم بها هذه الدراسة التي انصرفت إلى الحوار في مجموعة رياح للمسافر بعد القصيدة للشاعر هلال العامري. فان الحوار بدا ملمحا مهما من ملامح القصيدة في هذه المجموعة. وهو أسلوب فني يأتي في نسيج القصيدة مضفيا عليها الحيوية والحركية. والحوار قد ينتظم القصيدة كلها ويطبعها بطابعه وربما يكتفي بجانب منها حسب. ولا ريب في أن الحوار حمل أفكار الشاعر وأظهر أحاسيسه سواء أكان على هيئة حوار مع الذات أم على شكل كلام يجهر به الشاعر ويوجهه الى شخص أو معنى كالحلم والشعر أو شيء كالبحر والماء. ولقد أجرى الشاعر الحوار على لسان الماء والبحر والصباح في سياقات شعرية مختلفة. وجاء الحوار على أكثر من مستوى صوتي بدءا بالمناجاة مع الذات ومتدرجا في صيغته المجهورة ما بين البوح والنداء صعودا الى الهتاف والصراخ. وتشيع في حوار الشاعر أساليب النداء والاستفهام والطلب والتوكيد والتكرار وسواها من الأساليب وبما ينسجم مع طبيعة القصيدة وأجوائها الحية.
الهوامش
* هلال العامري؛رياح للمسافر بعد القصيدة, 1993.
1 – روبرت همفري, تيار الوعي في الرواية الحديثة, ترجمة د. محمود الربيعي دار المعارف بمصر, ط2, القاهرة 1975, ص44.
2 – مجدي وهبة معجم مصطلحات الأدب, مكتبة لبنان, بيروت 1974, ص011.
3 – أورد الدكتور جلال الخياط مصطلح القصة الشعرية في كتابه: الأصول الدرامية في الشعر العربي, دار الحرية للطباعة, بغداد 1982, ص7. وأطلق الدكتور عزالدين اسماعيل مصطلح القصيدة القصصية في كتابه: الشعر العربي المعاصر, قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية, دار العودة ودار الثقافة, ط3, بيروت 1981, ص30.
4 – روجرم. بسفيلد (الابن), فن الكاتب المسرحي, ترجمة: دريني خشبة, دار نهضة مصر, القاهرة 1978, ص218.
5 – ينظر: الخطيب القزويني, الايضاح في علوم البلاغة, تحقيق: د. محمد عبدالمنعم خفاجي منشورات دار الكتاب اللبناني ط5, بيروت 1980, ص227, وما بعدها.
6 – هلال العامري, ص53.
7 – نفسه, ص73, ص93.
8 – نفسه, ص81.
9 – نفسه, ص87.
01 – نفسه, ص95.
11 – نفسه, ص101.
12 – نفسه, ص107.
صبري مسلم باحث واكاديمي عراقي يقيم في اليمن