وُلد فريد ادغو عام 1936 في استانبول. تخرج من أكاديمية الفنون الجميلة في استانبول، ثم تابع دراسته في باريس. عمل في الصحافة، وكتب الشعر والقصة والرواية، واهتم بالرسم والفن التشكيلي. انعكس ما عايشه في شرق تركيا حين عمل معلماً في هكّاري، على كتاباته، فرسم بقلمه هموم ومعاناة أهل الشرق التركي. كتب بلغة سلسة وجمل قصيرة عن هجرة الآباء من الشرق إلى الغرب التركي، تاركين خلفهم زوجاتهم وأبنائهم، عن تعدد الزوجات من أجل توسيع بنية العائلة، عن جرائم الشرف والثأر والقتل بسبب وبدون سبب، عن العيش في الكهوف، وعن ثلج لا يفارق قمم الجبال. أثارت روايته “موسم في هكّاري” جدلاً واسعاً في الوسطين الأدبي والسياسي. نال جائزة سعيد فائق للقصة القصيرة عن مجموعته القصصية “في إحدى السفن”، ونعرض تالياً عدداً من قصصه القصيرة جداً من مجموعته القصصية “قصص من الشرق”، يوجه فيها الأنظار إلى هيمنة الثلج والقتل والهجرة والموت في تلك الأصقاع، وحنينه إليها رغم قساوتها.
=منتصف الشتاء
=-يا لهذا الثلج، يا خالد!
-لم ترَ بعد ما هو أشدّ سوءاً، يا معلم! ما زلنا في بواكير الشتاء.
-هل قلت بواكير الشتاء؟ هل هذا لا يزال من البواكير؟
-أجل.
-لا أكاد أرى أمامي، يا خالد. أكلُّ هذا الثلج ليس سوى من البواكير؟
-سيتوقف قريباً يا معلم.
-وبعد ذلك؟
-بعد ذلك، ستهبط الذئاب. عندئذ يبدأ منتصف الشتاء.
-حسناً، وماذا سنفعل حينذاك؟
-سنمكث داخل بيوتنا في ذلك الوقت، يا معلم.
***
بلا بوصلة
أسأل حاملاً البوصلة في يدي:
-إلى أين نحن ذاهبون، يا رمضان؟
-إلى القرية.
-لكن طريق القرية ليس من هذا الاتجاه!
-ما عاد هناك طريق للقرية، يا معلم. الثلج أغلق طريق القرية. لا طريق للقرية حتى الصيف.
-كيف سنصل إلى القرية، إذن؟
-نشق طريقاً جديدة. هذا ما نقوم به الآن.
-لكنك تشق طريقاً في الاتجاه الخاطئ.
-لا تنظر إلى البوصلة في يدك، يا معلم. اتبعني.
-لكنك في الاتجاه الخاطئ، يا رمضان.
-دعك مني إذن، واتبع البوصلة. أو شق لنفسك طريقاً خاصة بك.
***
هذا
-ما هذا؟
-ثلج.
-لم أرَ مثل هذا الثلج قط.
-كم من الأشياء ستراها هنا.
-ماذا سأرى؟
-ذئاب وكلاب.
-وماذا أيضاً؟
-دببة وثعالب.
-وماذا أيضاً؟
-إن أسعفك الحظ فقد تصادف إنساناً.
-في مثل هذا الثلج؟
-إن لم تضل طريقك في مثل هذا الثلج. أو إن لم يضل طريقه. أنت وحظك…
***
الصوت
-من مات؟ قال صوت ما.
-من قتله؟ قال صوت آخر.
-كم شخص مات؟ قال صوت ثالث.
-متى قُتلوا؟ قال صوت مجهول.
-القاتل سيموت أيضاً، قال صوت مألوف.
-وثلاثة أطفال أيضاً، قال صوت مختلف.
-وخمس نساء، قال الصوت نفسه.
-إلى أين نحن ذاهبون؟ سأل صوت عجوز.
-لا تسأل كأنك لا تعلم، قال صوت شاب.
-والله، لا يعلم، قال صوت آخر.
لأنه حين أغمض عينيه، مات معه كلبه النابح وبيته وقمة الجبل وعين الماء الجارية وأشجار الحور المتمايلة مع الرياح والثلج الذائب والشمس الساطعة!
***
كَرَم
-هل سأموت قبل أن أكبر؟ سأل كَرَم.
-لماذا ستموت؟ قلت.
-الكل يموت. الموت حتمي مثل حلول الليل، قال.
-لن يصيبك مكروه، قلت.
-اصحبني معك إذن. عندما أكون إلى جانبك، لن يصيبك مكروه أنت أيضاً، قال.
-حسناً، لكن ماذا عن أمك وأبيك وأخوتك وخرافك وكلابك؟ قلت.
-سيموتون جميعهم. الكل سيموت على أية حال. إن ذهبت معك، أنت ستنقذني، وأنا سأنقذك.
***
أمي وأنا
القرية هُجرت.
حتى الأطفال ماتوا.
لم يبقَ على قيد الحياة سوى هو وأمه.
هكذا يقول.
-وماذا ستفعلون؟ أسأل من قبيل الكلام.
يسأل، ثم يجيب دون توقف:
-نحن؟ سنموت قريباً. أمي وأنا.
-لماذا لا تغادرون هذا المكان؟ أقول.
-نذهب من هنا؟ يقول مندهشاً. لقد ذهبنا إلى كل الأماكن. أمي وأنا. لم يبقَ سوى هذا المكان.
***
التسجيل
-ما هي وظيفتكم هنا؟ قلت.
-أسجّل البريد الوارد ، يا حضرة المفتش، قال.
-حسناً، هل تقرؤون محتوى البريد؟ قلت.
-كلا. وظيفتي تسجيل البريد على السجل. لا يوجد في دائرتنا أحد وظيفته قراءة محتوى البريد، قال.
-حسناً، ماذا تفعل الآن؟
-أرجو المعذرة، قال. (يترك القلم من يده) نسيت أن أخبركم أنه مناط إليّ مهام كتابة كل ما يقال هنا أيضاً.
-هل ستكتب ما يدور من حديث بيننا؟ قلت.
-هذا ما أفعله الآن، يا حضرة المفتش، قال.
-لكنني لست مفتشاً، قلت.
-ليكن، لا فرق. الجميع في الشرق ملزم بتأدية وظيفته. دون سؤال أو نقاش.
***
من
“لا يفلح من يرى هذه الجبال”، قال العجوز.
أخذت ذلك على محمل خرف كبر في السن.
مضت سنوات على هذا الكلام.
عدت مجدداً إلى تلك الجبال.
جبال قراها هُجرت، وكلابها توقفت عن النباح.
سألت أول إنسان ظهر أمامي:
-أين ذهب الأهالي؟
نظر إلي بنظرات خالية من التعبير.
كرّر دليلي سؤالي باللهجة الخاصة لتلك المنطقة. الشكر لله، لقد فتح الرجل فمه وقال بضع كلمات. ثم تابع طريقه كأن لقاءنا أمر عادي .
-ماذا قال؟ سألت دليلي.
-ذهبوا إلى المكان الذي أتيت منه، قال.
***
ماذا
-ماذا تبغي في مجاهل الأرض هذه؟ سأل صوت مألوف.
لا أبغي شيئاً.
هناك، على قمة الجبل، كنتُ بين أناس أحياء وأموات على قمة ذاك الجبل. لا شيء سوى هذا.
ذلك ما قلته.
-لا تتحدث كأنك منهم. أنت! لماذا أنت هناك؟ سألني.
-لا أدري. ربما، لأني ما عدت منتمياً إليكم، وقد أصبحت منتمياً إليهم، قلت.
للكاتب التركي فريد ادغو ترجمة: صفوان الشلبي