كتب المفكر العماني خميس بن راشد العدوي مقالاً بعنوان «المتبقي في الفكر»، والمقال المكتوب أدناه لا يأتي من قبيل مقالات الرد بل هو مقال معاضد للفكرة، مشدد عليها.
غابة الكائنات
الأفكار هي تلك الكائنات البيولوجية التي تتحرك وفق محددات لينة مرنة، داخل الدماغ على الأرجح، ليس الإنسان من يفكر إن نحن ابتغينا الدقة، إنها تلك الغابة من الكائنات المتفاعلة داخليا، والتي تستمد طاقتها البيولوجية من الجسد، وسلوكها من طبيعة العلاقات الداخلية فيما بينها، وتمارس تغيرا دائما مع الزمن من خلال هذا التفاعل الداخلي من جهة ومن خلال التغذية الراجعة في اتصالها بالمحيط عبر قنوات الحس من جهة أخرى. سأقترح هنا نموذجا قابلا للتعديل بالطبع، التعديل من قبل آخر حتى لا أقع تحت شرك المتبقي الذي لا أبصره، يصور هذا النموذج التفكير على أنه منظومة مفتوحة، والمنظومة المفتوحة هي مجموعة من العناصر أو الكائنات التي تربط بينها علاقات، وتستهلك المدخلات فيما تنتج بدورها مخرجات خلال عملية التطور الداخلي.
منظومة التفكير / البنية الداخلية
أ) وحدات التفكير: تتكون منظومة التفكير من وحدات أساسية، هي الكائنات الفكرية، مثل فكرة القلم وفكرة الجري (إن لهذه الفكرة تركيبتها الداخلية أيضا كما أنها لا يجب أن تتطابق مع الواقع إنما يفترض بها الاتساق مع علاقات أو قوانين منظومتها).
ب) العلاقات: تتفاعل هذه الكائنات من خلال علاقات محددة قابلة للتغير كما هو حال الوحدات الأولية، تحدد هذه العلاقات السلوك أو لنقل ناتج الاتصال بين وحدتين.
ج) المنظومات الجزئية: تتجمع الكائنات الفكرية في عناقيد مترابطة، لتشكيل منظومات تفكير جزئية، مثل الخرافات والأخلاق والمنطق والنحو وأصول الفقه ونحوها، تترابط هذه المنظومات بدورها لتكوين منظومة التفكير الكلية،وقد تعيش هذه المنظومات الجزئية متجاورة في سلام رغم التعارض المنهجي بينها مثل المنظومة التي تجمع الخرافات وتلك التي تعنى بالمنطق أو علم الأحياء مثلا، وهو ما يفسر جزئيا وجود علماء ذرة أو فيزياء ناجحين وهم في الوقت نفسه مخلصين مصدقين بالبوذية مثلا، ذلك ما يسميه البعض بالازدواجية.
منظومة التفكير / البنية الخارجية
أ) الاستقبال: يتعرض الإنسان لعمليات ضخ مستمرة للبيانات من البيئة المحيطة، تدخل من قنوات خاصة هي قنوات الحس، تكون على هيئة شفرات خاصة تتوافق مع طبيعة القناة، أمواج صوتية (ميكانيكية) فيما يتعلق بالأذن أو كيميائية فيما يتعلق بالأنف، ما يحدث لاحقا لهذه الشفرات هو عملية ترجمة، تحويل إلى طبيعة تتوافق مع منظومة التفكير، وبالتالي يمكن معالجتها من خلال العلاقات باعتبارها كائن فكري.
ب) الإرسال: بالطريقة ذاتها لكن في طريق عكسي يتم توليد كائنات فكرية، تترجم إلى طبيعة تتوافق مع القناة الخارجية مثل الحركة أو الكلام.
منظومة التفكير /آلية العمل
يخضع كل كائن فكري يدخل المنظومة إلى عملية قراءة أو تأويل تتحدد من خلاله أي منظومة جزئية ستعالجه، فالجلوس في صف الرياضيات مثلا يستدعي منظومة مختلفة عن تلك التي تستحضر عند الاستماع إلى عضة مهيبة من شيخ وقور، وإذا كانت هاتان المنظومتان من طبيعة متشابهة قابلة للتراسل المشترك والتأثر والتأثير فيما بينها فإن رؤية كلب عقور وأنت على قدميك تستدعي منظومة مختلفة تماما.
بعد دخول الكائن الفكري تتم عملية استدماج، يُضم إلى المنظومة أو يحل محل كائن سيتم استبعاده،وبالتالي يحدث نمو أو تغير في بنية المنظومة الجزئية كمّاً ونوعا، تقرأ المنظومة الكائن الداخل حديثا من خلال كائناتها وعلاقاتها، ولذلك تحدث عمليات الفهم المختلفة، فكائنات كل فرد مختلفة عن الفرد الآخر عادة، ومن هنا يحدث سوء الفهم أيضا. وللسبب ذاته تقوم عمليات الحوار والتواصل الدائم بين أفراد الحارة الواحدة أو بين الأصدقاء أو الفرقاء على تعزيز الشبه بين هذه الكائنات.
تقوم المنظومة الجزئية بعملية رفض للكائن الفكري عند اكتشاف عدم التوافق، مثلا عندما تقول لطالب رياضيات أن واحد زائد واحد يساوي ثلاثة، أو تقول لأحد عُبّاد الشمس أنها مجرد كرة نار لا أكثر ويوجد منها الكثير في الكون، إن للمنظومة آليات دفاع تمنع من انهيارها، لا يفترض بها أن تكون منطقية، المهم أن تكون مقبولة ضمن قوانين المنظومة فقط لا أكثر.
عندما تعجز المنظومة عن الرفض، بسبب وجود تعزيز من كائنات أخرى داخل المنظومة، يدخل الكائن الفكري إلى جسد المنظومة وإنْ في وضعية قلقة، إنه لا يلبث أن يصنع اهتزازات في بناء المنظومة أو ربما يفتح الباب السري لكائنات ستساهم لاحقا في عملية انهيار، المثال : من يبني إيمانا عميقا بشيء ما مستندا إلى قدوة ما، شخصية حية أو تاريخية، ثم يحدث ما يكشف له «خواء» تلك القدوة، إن ذلك ولا شك سيصيب منظومة إيمانه ذاك بانهيار، وربما هزات لكل المنظومات الجزئية ذات الصلة، وإذا كانت تلك القدوة تشكل إحدى قواعد المنظومة فقط فإن كائنا فكريا صغيرا سينمو هناك، وسيجبر المنظومة على إعادة هيكلة ذاتها إما من خلال الاستغناء عن تلك القاعدة وتدعيم بقاءها أو من خلال نقل القلقة إلى بقية القواعد تهيئة لانهيار مستقبلي.
الانهيار وإعادة البناء
لا تلبث منظومة التفكير الكلية المتابعة للحدث من اكتشاف الفجوة الناتجة عن الانهيار، وبالتالي تحدث عملية بناء أو لنقل عملية ترميم فأي منظومة جزئية جديدة بديلة ستتخذ لذاتها نفس القواعد، أو أنها ستبدأ من حيث انتهى الانهيار، يعتمد ذلك على فداحة الانهيار. لا يحدث الانهيار لمنظومة التفكير الكلية، إن ذلك يعني الجنون الخالص، انفصال عن العالم كُليةً، أو الموت وتحلل الجسد الحاضن لهذه الأبنية البيولوجية.
حرب المنظومات
تتعايش المنظومات باعتبارها كائنات في المنظومة الكلية، لكن الفصل بينها ليس حديا كما يتبدى للذهن، إن بينها علاقات وبعضها ينبني على بعض، وقد تتشارك في بعض الكائنات الفكرية، وقد تجري على الكائن الفكري انسحابات وتغيرات ونمو واستقطاعات تبعا لتغيرات المنظومات الجزئية ونسب انهياراتها، تحدث أيضا عملية صراع بين المنظومات على تحديد المناطق المتنازع عليها في أرض الواقع،مثل دوران القمر وموت الإنسان، هل يحدث لأسباب مادية أم غيبية مثلا، ونرى تمظهراتها الخارجية في ما يحدث بين المناهج المادية والغيبية والمناهج المزدوجة مثلا.
فناء المنظومات
إن هذا التغير المتكرر مع الزمن الطارئ على المنظومات في اتصالها المستمر بالواقع، وطبيعة التشويش التي تحدث عند انتقالها من كائن إلى آخر، أو من جيل إلى جيل، سيؤدي حتما إلى فناء المنظومة بطريقة غير ملاحظة لتنشأ مكانها منظومات أخر، وذلك على مستوى الجماعة، مثلما نلاحظ في موت اللغات وتحور الأفكار الشديد عبر السنوات، ولذلك لا نجد مذهبا فكريا أو رؤية عقدية إلا وتحدث له تلك التغيرات التي تلغي بُنوّته للمصب المفترض، وأحسب أن ذلك من جماليات الوجود تلك الحركة الدائبة من الموت والحياة.
المتبقي
أين يقبع المتبقي فيما سلف من حديث؟ إنه هناك تستطيع رؤيته فيما أعجز أنا عن ذلك، لكن المتبقي الذي تبصره لن يبصره سواك، فهناك متبق لكل قارئ، أو هناك متبقيات بعدد القراء، والسبب أن لكل مفكر (إنسان أيا كان) منظوماته الخاصة المتكونة عبر الزمن كما أسلفت، ولأن الإنسان – وبلغة عدوية هذه المرة – لا ينتبه إلى أن متبقيه يسهم في قراءة متبقي الآخر، وذلك ما يجعل المتبقي بال التعريف غير موجود أصلا إلا كما توجد كلمة إنسان، يتعدد تماما كما هي الحقيقة تتعدد بتعدد المحقين، رغم أننا نتفق على تسميتها بالحقيقة.
أسوق هنا تحيتي الخالصة للعدوي، في ذمه البواح للجمود، الذي هو آلية من آليات المنظومات في الدفاع عن مبانيها، وفي إدراكه الجميل لحركة الزمن التي لا تتوقف.
إن الحوار الجمعي الدائم – كما أعيد هنا ما فهمته من مقال العدوي – يسهم في اكتشاف المتبقي (البنية الشعورية التي تتحكم في التفكير)، لكن ذلك يعتمد على الصدق مع الذات في بحثها عن متبقيها، إلا أنه ولا شك يسهم في تجويع وضمور متبقي الجماعة، وبالتالي يمهد لعمليات الانهيار والترميم تلك العمليات الضرورية لا لنكون مستعدين للمستقبل بل لنسهم في صناعته.
هامش
1) انظر: عنف اللغة لجان لوسيركل، مقدمة محمد بدوي، طبعة المنظمة العربية للترجمة، 2005.
عبـــدالله المعمـــري
شاعر من عُمان