رضا عطية*
تستعمل الكاتبة الروائية اللبنانية هدى بركات في روايتها الأحدث بريد الليل الحائزة على جائزة البوكر لهدا العام 2019- تقنيتين سرديتين في تأسيسها لمبنى الخطاب الروائي لروايتها: تقنية الرسائل التي تمثل متن الخطاب السردي وتحتل المساحة الأكبر من فضاء الراوية، القسم الأول من النص السردي المعنون بـ»خلف النافذة»، وتقنية تبدو كـ»كتابة مذكرات» في القسمين الثاني والثالث من الكتاب المعنونين بـ»في المطار» و»موت البوسطجي» الذي يأتي كخاتمة، ويبدو هذان القسمان اللذان يحتلان المساحة الأصغر من فضاء الرواية بمثابة هوامش للخطاب السردي، لكنها تلعب دورًا رئيسيًّا في استكمال مقولات الخطاب وبيان الرؤى المقابلة والمتممة لما يطرحه أصحاب الرسائل الخمس في الشطر الأول من النص الروائي.
ولما كانت الشخصيات، أصوات الخطاب السردي الرئيسية، تستعمل أسلوب الرسائل لبث مقولاتها عن حياتها المحايثة وأحداثها الواقعة في الآن، فإن ذلك يبدو خارج سياقات الزمن الذي نعيشه حيث وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلومات التي لم تبقِ لوسائل الاتصال القديمة كالبريد جدوى تذكر لأن الزمن قد تجاوزها وباتت في طي المتحفية الزمنية.
وإذا كانت الرسائل تعني وسيطًا ما للتواصل بين الذات والآخر، فهي تعني كذلك أنّ ثمة مسافة ما تفصل بين الذات/ المُرسِل الخطاب والآخر/ المُرسَل إليه الخطاب، مسافة مكانية وقد تكون مسافة شعورية وكذلك زمنية، ولكن هل تعني الخطابات نقصان قدرة على المواجهة المباشرة، والالتحام السريع بين الأشخاص محور هذا التفاعل المراسلاتي، أو بالأحرى قد يعبِّر عن فقدان المُرسِل الشجاعة في الدخول في مواجهة حوارتية مع الطرف الآخر، المُرسَل إليه؟
الفجيعة باعثًا على البوح الاعترافي
ترتبط كتابات الشهادة وأدب الاعترافات التي تتخذ هنا قالب الرسائل وعاءً بثيًّا لها بأحداث فجائعية وصدمات كبرى؛ لأنها تأتي كممارسة تطهُّرية تُمارس بواسطة الذات التي تبثُّ الرسالة النصية، ويبدو فعل الحكي أو البث الخطاباتي عبر الرسائل بأثر مباشر أو غير مباشر لتلك الفجائع التي تظل عالقة في وعي الذات وترتسم آثارها وصورها في لا وعيها لتبقى محرضًا لها على البوح حد الانفجار أحيانًا.
وقد تأتي كتابة الشهادة، التي تستعمل أسلوب الخطابات،هنا، باعترافات صادمة من الأشخاص الذين يقدمون شهاداتهم حد أنّها قد تمثل صدمة ما للأعراف المجتمعية والقواعد الأخلاقية، فهي كتابة تكشف عن تمرد ما للذوات ضد النسق الاجتماعي والأخلاقي المهيمن، فهي كتابة ضدية بقدر ما هي كتابة تمارس فيها الذات تعرية لنفسها.
وقد تتراوح وتتنوع الفجائع والصدمات التي تبدو أثرًا وعاملاً دافعًا في كتابة الشخوص شهاداتهم على هيئة رسائل ما بين صدمات شخصية كعلاقة الذات بأسرتها وأخرى مجتمعية كالحروب الأهلية، أي أن التفسُّخ الأسري والمجتمعي هو بمثابة المركز لفجائع الذوات والباعث المحرِّض لهم على الكتابات الاعترافية والإدلاء بشهاداتهم بكثير من الجرأة والمكاشفة البوحية، لذا تأتي هذه الرسائل كشهادات تعبِّر فيها الذوات عن آثار ما عاينوه من فجيعة، كما في الرسالة الأولى التي يكتبها شاب إلى امرأة جمعته بها علاقة حب:
كنت أنوي أن أكتب إلى أمي عن تلك اللحظة التي وضعتني فيها في القطار، وحدي وأنا في الثامنة أو التاسعة من عمري. أعطتني رغيفًا وبيضتين مسلوقتين. قالت إنَّ عمّي ينتظرني في العاصمة، وإنّ عليَّ أن أتعلَّم لأنَّي أذكى إخوتي، وقالت: لا تخفْ. لا تبكِ.
وأنا، ينبغي لي القول، خائفٌ، مرعوب، وحيد، مستوحش وعدائيّ مذ تحرُّك القطار. وعندي رغبة عميقة في إيذاء شخص لا أعرفه، حتى لا أجد له أعذارًا. شخص ليس لي أيّ نوع من الصلات به، أطلق رغباتي من دون استعمال عقلي، إذ يبدو لي أحيانًا أنَّ عقلي هو عدوي الأوَّل. (ص9).
على الرغم من أنّ الغالب على السياقات الخطاباتية هو سرد وقائع وأحداث راهنة من حياة الذات فإنّ استدعاءات الذات، هنا، لمأساتها أو بالأحرى لجذر مأساتها تاريخيًّا، حيث الشتات منذ الطفولة وتخلي الأم عن الذات، ما رسخ في دواخل تلك الذات شعورًا عدائيًّا إزاء الآخر ومجتمعها بمثل شعورها الخاص بالعدائية نحو نفسها (العقل) في إحساس تشككي وشعور بفقدان الثقة في النفس والعالم- قد جعل هذه الرسالة شهادة سيرية للذات التي تكتب هذه الرسالة بأثر صدمة الذات بالانقطاع المُبكر عن الأهل، خصوصًا الحضن العاطفي للأم.
لذا تبدو هذه الرسائل وقد ولدت من رحم الفجائع الكبرى؛ كما في الرسالة الثالثة التي يكتبها شاب مُلاحق أمنيًّا في أوربا وتحديدًا فرنسا إلى أمه ببلد عربي، لبنان:
…أعود إلى خوفي الأوَّل، مضافًا إليه الخوف الذي كنت أحقنه حقنًا في عيون من أقوم بتعذيبهم… كأنّي أجمع خوفي ممن عذَّبوني إلى خوف من عذَّبتهم. كأنّه خوف جسم واحد هائل الحجم. يسير ويلمّ كل ما في طرقه ويكبر ويتورّم. (ص68).
تكشف الرسائل التي هي بمثابة شهادات للذوات التي تكتبها عن التكوين النفسي المعقد لهؤلاء الشخوص؛ إذ تتبدى العقدة النفسية، كما تلوح، هنا، في ميراث طويل للخوف جراء ممارسات انتهاكية وتعذيب مورس في حق الذات أو مارسته هي في حق آخرين- كآثار تبقى مترسبة على جدران الذاكرة، فتمسي هذه الرسائل هي كتابة التاريخ الذات المُعَذَّبة في خوفها الممتدّ.
وتبلغ مأساة الذات ذروتها في رواية بريد الليل في شعورهم بالاغتراب حد إيثارهم العزلة والوحدة كما تكتب صاحبة الرسالة الثانية إلى رفيقها في كندا:
…لم أعد أتسلّى إلا حين أكون وحدي. حتى حين أخرج من بيتي أنتقي موسيقى أحبّها لأبقى قليلاً في البيت وحدي. ولأنّي حين أعود سأسمع الموسيقى وأنا ما زلت في الخارج، وأنا أدير المفتاح في قفل الباب، وأقول في نفسي إنّها هي نفسها الموسيقى، موسيقاي، وإنّ أحدًا لم يدخل في غيابي ويحرِّك الهواء. وإنّي، إذن، كنت وحدي في الداخل ولم أضجر. شيئًا فشيئًا، ويومًا بعد يوم، صارت الوحدة بذخًا كاملاً؛ ملكًا عظيمًا. الوحدة فيّ هواء لا يتنفّس فيه أحد سواي. (ص35).
يساكن الذات شعور بالتكيُّف مع «الوحدة» حد استعذابها، تكريسًا للموقف الانعزالي الذي تتخذه الذات التي يتفاقم اغترابها، ما يؤكّد نفي الذات للعالم الذي شعرت بنفيه لها، في إحساس بغياب الآخر من هذا العالم.
ويبدو الخطاب المستعمل في بريد الليل باستفاضة الأصوات المتلفظة عبره، كاتبي الرسائل في بث مشاعرهم وحوادث ماضيهم أقرب إلى أسلوب المذكرات السيرية منه إلى الرسائل الخطاباتية.
في رواية بريد الليل ثمة صدمات تعرَّض لها كتّاب الرسائل قد أفضت بهم إلى الكتابة الاعترافية، كالفقدان: فقدان الأم والأب والعائلة والرفيق، والحروب الأهلية والرحيل القسري عن الأوطان والشتات في الغربة، كل هذه الأزمات والكوارث كانت محرضًا للذوات على الكتابة حد شعور كل شخصية تعثر بالمصادفة على رسالة مَن قبلها، بمماثلتها له، حتى دونما تلاقٍ، كما تكتب صاحبة الرسالة الثانية إلى صديقها الكندي عن صاحب الرسالة الأولى:
لماذا أخبرك بهذا كلّه؟ كي أتسلى قليلاً وأنا أنتظر، ولأنَّ وحشة ذلك الرجل، كاتبِ الرسالة تشبه وحشتي كثيرًا… ولو أنَّ حكايته لا تشبه حياتي في شيء. لكني أحسست بشكواه كأنّي صديقة قديمة، أو كأنّي أنا نفسي المرأة التي يتكلّم إليها. (ص33).
تبدو تلك الخطابات التي يجد كاتب كل خطاب منها رسالة سلفه عن طريق المصادفة كمرايا ترى فيها كل ذات نفسها في ما يبثه سلفها من فيوضات شعورية تكشف عن معاناته ومأزوميته، وكأنّ ثمة استنساخًا ما أو توالدًا ما للوحشة والألم، لتتشابه مصائر الذوات وتتلاقى في قدرية الحزن ومداومة الشعور بالوجع وتجدد الاغتراب.
الرسائل ككتابة رثائية
الغالب على الرسائل التي يكتبها الأشخاص في رواية بريد الليل أنّها تجيء بمثابة مرثيات تبثها الذوات سواء لماضيها الذي تطل منه الذكريات الموجعة أو لحاضرها الذي تواجه فيه قسوة العيش وتعسفات الحياة.
في الرسالة الأولى التي يكتبها شاب في باريس لسيدة لبنانية يطغى الماضي على وعيه وبخاصة رحلته وهو صغير لم يتجاوز الثامنة أو التاسعة من عمره إلى العاصمة:
منذ تحرّك ذلك القطار، وهبطت عليّ ظلمة تشبه مغيب الشتاءات… لكنّ القطار بقى يسير في ذلك المغيب كأنّه نفق طويل، لا ينتهي.
وبقي ذلك المغيب في رأسي مهما تكن ساعات اليوم. هو نفسه المغيب الذي تدخل فيه الشمس عند الأفق، والذي يبكي فيه كلُّ الأطفال، ويحزن كلُّ الرومنطقيّين الطيّبين، من إحسان عبد القدّوس إلى ريلكه. كآبة تلفّ الكائنات اللطيفة الجميلة ولا تفسير لها. (ص10).
يتبدى أنّ الحزن يظل مترسبًا في وعي الذات وعالقًا بذاكرتها منذ رحيلها في عهد الطفولة، مغتربة، حتى آنيها وحاضرها المحايث، وكأن الزمن النفسي الذي تعيشه الذات هو زمن الغروب الذي استحالت آثاره كتمظهرات مكانية، فبدى ذلك «المغيب كأنّه نفق طويل، لا ينتهي» في إحساس رومانسية بلانهائية الاغتراب وبجمود الحياة حد الموات، فيبدو أنّ للذات أنموذجًا أيقونيًّا في حزنها الرومنطيقي مثل إحساس عبد القدّوس وريلكه، في انفتاح ممتد على عديد من نماذج وأنماط الكتابة الرومنطيقية، كتعبير ما عن ترسخ الشعور الإنساني الحزين بالألم الوجودي، فتمسي الكتابة تصويرًا لتراجيديا الوجود التي تلقي بظلالها على وعي الذات بامتداد رحلتها الزمكانية في الوجود.
وإذا كان الرجل صاحب الرسالة الأولى يعبّر عن وجده الرومنطيقي مقرونًا بكتابه الرومنطقيين، فإنّ صاحب الرسالة الثانية التي تكبها سيدة عربية إلى صديقها في كندا تعرب، أيضًا، عن مشاعرها الرومنطقية، لكن مقرونة بمن تفضلهن من النماذج الموسيقية الرومنطقية:
أنت تعرف الديفا أمّ كلثوم على ما أذكر، لكنك لا تعرف عبد الحليم… ربّما سأحدّثك عن حبي اللامحدود لعبد الحليم، وكيف أودى بي هذا الغرام إلى التهلكة… لا، هذا موضوع حزين ومحزن، ولسنا هنا للاعترافات المأساوية. لكن، باختصار، دمَّر هذا الرجل، عبد الحليم، حياتي. قد يبدو لك الأمر سخيفًا، أو أنّه مزاح من امرأة تريد أن تبدو أوريجينال…
…دعك من عبد الحليم. سنجد كلامًا كثيرًا على أمور نعرفها نحن معًا. أصلاً، هذه الموسيقى التي لا تتوقف في ممرّات الفندق وفي المصعد وبهو الاستقبال، وحتّى في حمامات الغرف، نعرفها أنا وأنت. لقد اختاروا شوبان الرومنطيقيّ لتطرية قلوب العشاق الذين يتقابلون هنا، أملاً في دفعهم إلى تمديد حجوزاتهم وقتًا أطول. (ص ص44- 45).
يبدو أنّ رومنطيقية هذه المرأة، كاتبة الرسالة، في تعلقها برموز الغناء والموسيقى والشعور بأنّ سبب تعاستها في الحياة هو تعلقها بما قدمه رموز الإبداع الفني الرومنطيقي في الموسيقى من أعمال، فهل يكون ذلك بأثر الشعور بالصدمة، صدمة تمايز الواقع عما تمثلته الذات، بوعي رومنطيقيّ ساذج، من يوتوبيا ما، اكتشفت زيفها ووهميتها؟
وفي القسم الثاني من رواية بريد الليل الخاص بمذكرات قصيرة أو مرويات قصيرة يرويها أشخاص على صلات بالأشخاص، أصحاب الرسائل في القسم الأول من النص السردي، فيتحدث الرجل الكندي، صديق تلك المرأة التي كتبت الرسالة الثانية في القسم الأول له دون قيامها بإرسالها، أي دون وصول رسالتها إليه عن تردده في علاقته بتلك المرأة بسبب مراجعته لموقفه الرومنطيقي:
…أم إنّ رومنطيقيتي البلهاء، والتي ضربت رأسي، لم تحتمل تعب السفر، حين لا تعود لا في الكتب ولا في الأفلام. منذ عشرات السنين، لم أقرأ كتبًا من هذا النوع ولم أشاهد أفلامًا عاطفية. إلامَ ردّتني تلك المرأة، الفتاة القديمة؟ إلى أي فخ؟ نسقط في الواقعية الراشدة حين ننزل عن الكنبة ونفتح الباب. الكنبة التي صارت أجسادنا المتعبة تتعرف بسرعة وسعادة إلى التكوُّر الخفيف الذي صنعته تلك الأجساد عليها. والباب الذي نغلقه وراءنا حين نعود إلى البيت كأنّه يردّ عنّا أهوال العالم الخارجي وكوابيسه وأخطارَه.
إنّه العمر. تأخرنا كثيرًا. تأخرنا أنا وهي. (ص105).
كأن الذات تنعي نفسها أو تنعي رومنطيقيتها التي أمست بها خارج الزمن وتخلفت عنه. ثمة شعور ما بالإنهاك النفسي والجسدي يداخل الذات وهو ما يدفعها إلى التخلّي عن رومنطيقيتها. وكأن هذا إعلان عن موات الرومنطيقية ولا جدواها، شعور باليأس والعجز أمام ما تفرضه معطيات الحياة والواقع، شعور بالانسحاق والانكماش إزاء سطوة التعب وتقدُّم العمر.
وإذا كانت الرواية كنص تخييلي تقتضي تعددية بولوفونية في أصوات النص، بمعنى تمايز شخصيات النص الروائي، مع ما قد يتوارد من بعض التماثلاتبينها، في مقولاتها وأيديولوجياتها ورؤيتها للعالم، فهل ما يطرحه الخطاب الروائي في رواية بريد الليل، من مقولات متماثلة لعدد من شخصيات النص المختلفة، كمقولات مأزومية الرومنطقيين، واستمرارية معاناة عدد من الشخصيات لآثار الحرب الأهلية التي عاينوها في بلادهم- إنّما اختراق من صوت المؤلِّف الحقيقي للنص، هدى بركات، لأصوات النص وسارديه؟ بالفعل، ثمة إلحاح على أفكار بعينيها تتردد في مقولات عدد من الشخصيات المختلفة، كمقولة آثار الزمن وتبدل الملامح الجسدية للخصية حد شكها أنّ آخرها، سواء كان الصديق/ الصديق، الأم قد يتعرّف على صاحبه بسهولة إذا التقاه بعد طول افتراق.
الكتابة كإيقاع
في الرسائل التي يكتبها أصحاب الخطابات في رواية بريد الليل نجد أنّ ثمة تمثيلاً ما لترددات الذوات النفسية وإيقاعاتهم الشعورية، وإن كانت السمة الغالبة على تلك الرسائل الطول النسبي والتكرار الملحاح على الأفكار الرئيسية التي يطرحها أصحاب كل رسالة وإن تشاركوا، هؤلاء الكتُّاب الخمسة في مشاعر الوحدة وفقدان الآخر والشتات والقلق.
الغالب على البنية اللغوية في الرسائل الخمس الطول وتمهل الإيقاع حد التباطؤ أحيانًا، فلا أحداث كثيرة تُذكر وكأنّ التشكيل اللغوي لتلك الخطابات يبرز شعور هؤلاء الذوات من كتّاب الرسائل بجمود الحياة وانحسارهم أكثر في مآسي ماضيهم من عنايتهم بحاضرهم والحادث فيه وهو ما يجعل إيقاع الخطاب السردي شديد البطء، فتعمل الكتابة، هنا، على تجسيد الحالة النفسية للذوات.
في حديث صاحب الرسالة الأولى إلى رفيقته وصديقته عن قوة رغبته فيها تتبدى حالات العلاقة بين الذات والآخر:
مأساة. هذه مأساة، إذ هذا كلّ ما عندي. رغبة خالصة، كاملة ناجزة ولا تنقص.
أنتِ من أنقصها. بسؤالك المستمرّ «الضمانات»؛ عن خدمة ما بعد البيع. إلى متى سـ… امتحان مستمرّ وتريد أن أسقط في الامتحان. (ص20).
تعمل مواضع التكرار والوقف والقطع أو الصمت على بيان دواخل الذات وما يعتمل في أغوارها النفسية، فتكرار كلمة (مأساة) يبرز تعمق شعور الذات بالمأساة وإلحاحه عليها، أما الصمت أو بالأحرى القطع، قطع الفعل بعد سين التسويف ما يعني فقدان الذات القدرة على استمرارية العلاقة مع الآخر على نفس الوتيرة وذات النمط.
وفي موضع آخر من نفس الرسالة يكشف كاتب الرسالة الأولى عن تردداته في تمثُّل علاقته بالآخر، المرأة صديقته:
صحيح أنّي قلتُ أيضًا مرّة إنّي مغرم بك. حسنًا، كأنَّه لم يُغرَم بك رجل من قبل! كأنّي الرجل الوحيد على هذه الأرض! أسبلتِ جفنيكِ وتبسَّمت بدلال وارتباك. لم تقولي لي أنا أيضًا مغرمة بك، ثمَّ… ثمَّ رحت تنظرين أن تبدأ الحكاية؛ حكاية ما. أيُّ حكاية يا بنتي؟ ألم يكن ذلك «الاعتراف» كافيًّا؟ حتّى الشاطر حسن شرحوا له ما هو مطلوب للفوز بالأميرة ست الحسن. بعد ذلك قفزت السمكة التي تحوي الجوهرة إلى حجره. هل أذهب إلى صيد السمك؟!
هل أغنّي لفريد الأطرش؟
إنّه سوء فهم فظيع. و…
انتظري.
هناك رجل لا يكف عن النظر في اتجاهي. يخرج إلى الشرفة وعينه عليّ. ومن وراء زجاجها يبقى وقتًا طويلاً مستديرًا بالكامل نحوي. (ص15).
تعمل التكرارات التي بينها توقف كما في تكرار (ثم) على الكشف عن دهشة الذات إزاء مواقف الآخر وتصرفاته غير المبررة أو المتوقعة. وإذا كانت كثافة الأسئلة تكشف عن الحيرة التي تداخل الذات من الآخر فإنّ ورود سؤال مثل: (هل أغنّي لفريد الأطرش؟) عقب سؤال مثل: (هل أذهب إلى صيد السمك؟!) بشكل يبين عن انعدام الترابط أو الاتصال المنطقي الذي يكفل تبعية السؤال الأخير لسابقه فإن ذلك يبين عن ارتباك ما يشوش على الذات، كما يكشف القطع والتوقف بعد حرف العطف (و) برسم نقاط ثم بيان ما يربك الذات من مراقبة شخص مجهول لها، فإن ذلك يبدو تمثيلاً لاضطرابات الذات وقلقها.
وفيما يتبدى أنّ أسلوب القطع والصمت ينتمي إلى أسلوبية الشفاهية المغايرة والمضادة لأسلوبية الكتابية التي من المفترض أن يكون عليها نمط كتابة الرسائل والخطابات، لكن مثل هذه الانقطاعات والتوقفات الخطية تبدو تمثيلاً ماديًا يفيد من مادية اللغة في إبراز توترات الذات النفسية وتذبذباتها الشعورية.
كذلك تكشف الرسالة الثانية التي تكتبها سيدة إلى صديقها الذي تكتب إليه رسالتها في كندا عن علاقتها معه وكذا عن تفكيرها بأمر الشاب العربي الذي وجدت رسالته بالفندق في عديد من مواضع الصمت عن حالة هذه المرأة التي تفكر بشأن صاحب الرسالة الأولى:
وأنا في أي حال لن أعود إلى بيتي. مستحيل. ثمّ لا شيء لديَّ أفعله، ولا أحد ألتقيه. وبما أنّك لن تأتي فسوف أمحو كندا من لائحة الأمكنة التي وضعتها كإمكانية للـ…
سوف أجده، أو أجد أثرًا له في باريس. وسأعرف إن كان عاد إلى بلده بعد الثورة التي قامت هناك، وبعد أن استعاد جواز سفره. لا تختفي الناس هكذا، كالملح في الماء. وحين ألتقيه سوف… (ص15).
تبدو الذات في حالة تيه وفقدان للبيت والمسكن، وبأثر حالة الشتات التي تعيشها تبدو في حالة فقدان لرؤية واضحة لما يمكن أن تفعله، وفي مقابل شعور الذات بفقدان البيتأو بالأحرى الرغبة في عدم معادوتها البيت في المكان الآخر تبدو ناقمة على المكان الآخر الذي فيه صديقها، كندا، فتقطع الحديث عنها، باعتباره مكانًا له إمكانية ما، كأن تكون إمكانية الرحيل أو السفر إليه، وكذلك يبدو القطع المؤشر له بالنقاط بأثر تداخل الأفكار وتصارعها، وبأثر تفكير هذه المرأة في ذلك الشاب الذي عثرت على رسالته بغرفتها في الفندق، ثم يكون القطع والتوقف بعد (سوف) إبرازًا لفقدان الذات الرؤية المستقبلية لما يمكنها فعله.
لذا، تبرز مواضع الصمت والقطع والتوقف ارتباكات الذهن وتداخلات الأفكار وتزاحمها أو تصارعها أحيانًا، في وعي الذات، فتأتي الكتابة كممارسة خطية ورسم تجسيدًا للإيقاع النفسي والتذبذب الشعوري والتموج الانفعالي للذات بما يعتمل بداخلها من توترات تنعكس على طرائق أدائها التعبيرية كتابةً.