الانزعاج، التوتر، الثوران النفسي، فقدان السيطرة على التحكم في رباط المعقول الهاوي إلى مزلق، ردود فعــل..
قد لا تمر بنا يوم أو يومان لا نغضب ولا ننزعج، فأحــوال مـعــيـشتـنا تـرغـمـنا عـلى ذلـك، وتـجـبـرنا عـلى الـتـعامل مع أفراد ذوي مستويات فكرية مختلفة وأمزجة متباينة ورغبات متعددة واعتقادات متنوعة، ونعيش وسط مجتمع يضم مالا يحصى من الممارسات والسلوكيات الصادرة من سائر المخلوقات الحية.
إن التصادم الفكري الذي يحدث بين الناس هو مبعـث الانـزعـاج والـغـضـب، فحيـن نـقـع فـي حـوار أو نـقـاش مـع شـخـص يعارضـنا تـوجها فكرياً ويختلف عنا مستوىً علمياً أو فهماً، فـإن هــذا يُـحـدث سداً مانعاً يحول دون مرور أفكارنا المقتنعين بها. وكنتيجة طبيعية يُحدث انفجاراً غاضباً داخل النفس تتبدد فيه أفكارنا في خضوع القبول بما أراده غيرنا أو يفجر معه السدَّ الذي وضعه الطرف الثاني فنجتازه مثبتين أفكارنا وقناعاتنا.
إننا لا نتعامل مع الإنسان فقــط بـل نتـعـامـل مـع حـيـوانات وحشرات وآلات وبرامج وقوانين وأسس، ومنظومة كبيرة من المجالات الحيوية تحدها وتطوقها أسوار الزمان والمكان، لذلك كان الجبر على قبول ما لم نقتنع به هو ناتج الكسر الذي أحـدثه غيـرنا فـي مـسار أفـكارنا، فشاع بيننا مسمى «مجبور» الذي نردده حين ننفذ أمراً أو مشروعاً لسنا مقـتـنـعـين بـه للدلالة على حالة الكسر في خط الرغبات الفكرية والذي اضطرنا لوضع «جبيرة» توصل المقطوع من أفكارنا وقناعاتنا، فمن هذا الكسر يصدر ألم الانزعاج والتوتر..
إن الحياة متداخلة التراكيب متشابكة التفرعـات وفـي تـعـقـيد دقـيـق لا يمكنـنا حـياله إلا تـطوير قدراتنا الفكرية وتطويع عقولنا بما يتناسب مع معطيات الحياة وقواعد سيرها. فمعظمنا مدرك مُعْـطـَى «الاستحالة» الذي يشكل قاعدة أساسية من نظام هـذا الـكـون. فالـكـون العـظـيم هذا في وضع منظم دقيق يتصف نظامه بالحماية المانعة تخلخلـَـه واختلاطَ معطياته. ولو نظرنا في حولنا ودققنا النظر في الكيف الذي تم به إيجاد الأشياء والمعطيات لأدركنا أهمية قانون الاستحالة الذي ينظم هذا الوجود..
إن تصور الحياة دون وجود استحالة في كل معطياتها يأخذنا في عالم فوضوي مختلط التراكيب ينتج عنه استحالة أخرى وهي عدم المقدرة على السيطرة عليه. فهل يمكننا تقبل الحياة لو استطاع الإنسان أن يدخل ويخرج من الجدران والموانع بحرية مطلقة ؟
لقد وفر أمر الاستحالة نظاماً آمناً لبني الإنسان ولسائر المخلوقات ومكنه من مباشرة حياته بطريقة منظمة وسليمة.
وهل يمكن أن نتصور الإمكان المطلق في المعطيات ماذا يحدث لو كان كل شيء رهنَ التطويع ورهن الاستخدام ؟
إن الحياة بهذا التصور ستختلف كلياً عن هذه الحياة التي نعيشها ونكون فيها أشبه بإله يقول لإرادته : «كن… فيكون».
لنلقِ نظرة على الأبواب والأقفال والمفاتيح التي أدت دورًا كبيرًا في رقي هذه الحضارة وتقدمها وفي تنظيم الحياة وبرامجها.
إن استحالة اختراق الأبواب والجدران بالجسم الإنساني أدت به إلى وضـع هـذا الـنـظـام الحـامـي حـقـوقه وممتلكاته ونفسه، فعم نظام الباب والمفتاح سائر الأبنية ووسائل النقل لإحداث نظام حماية قانونية يمكنه من خلالها العمل والتعمير. فظل الباب قناعة أكيدة في أفكارنا، وظل المفتاح المخصص الحل المرضي لفتحه… ولكن ماذا يحدث لو كُـسر قفلُ الباب عنوةً وباقتحام غير قانوني.. !
لاشك أن ردة فعل النفس تكون غاضبة ومنزعجة لأن ذلك التصرف والسلوك كسر قناعة الفكر قبل كسر قفل الباب.
لقد كان فهم المصطلحات وتفعيلها في حياتنا غاية فكرية ورغبة نفسية تقينا خـطـر الوقوع في مآزق ومطبات الحياة وفي حالات التوتر والانزعاج والغضب.
إن مصطلحي «الاستحالة» و«القابلية» مصطلحان يأخذان بعداً فلسفياً وجانباً إجرائياً يـجـب فـهـمـهـما وتـطبيق قانونهما في حياتنا وحياة من حولنا من موجودات.
فقانون الاستحالة تأسس في كل شيء موجود على الأرض وطبق على كل عناصر الطبيعة، فكان ظهوره معجـزة إلـهـية تـنـخـلق تلقـائـيـاً حـيـن يـلـتــقـي مستحيلان في ثقب إبرة.. «إن الذين كذبوا بآيتنا واستكبروا عنها لا تُفتـَّـح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سَمِّ الخياط… » (آية 40 – الأعراف)
إننا لو وضعنا قضيب حديد بين فكي الباب وأردنا إغلاقه لاستحال ذلك الفعل أبداً ولو قضينا العمر كله في ذلك الفعل.
هكذا حياتنا تدور… في أنظمة وقوانين صارمة وتحت قدم نظام وقائي عجيب دقيق قـَلَّ من ينتبه إليها ويفكر فيها، وكثر من يحاول كسرها وإخضاعها لإرادته.
لننظر الموجودات كيف تتحرك، وكيف تتبرمج، وكيف تتفاعل، وكيف تتطوع وكيف (تستحيل)!
(الكهرباء) مثال يمثل جميع الموجودات… هذا النظـام الـمـدهش العجيب الخطير كان في مستودع العلم مركوناً دون استخدام ولم يلتفت إليه الإنسان إلا من قرون قريبة، وحين اكتشفه كان كغيره من الأنظمة الحيوية التي تتمتع بنظام الاستحالة المعمول به ضمن قانون الطبيعة.
وقد تركز أمر الاستحالة في تطبيقه للاستخدام البشري دون توفير حماية القابلية التي بموجبها يتم تطويع الكهرباء في أنظمة صناعية تمنح الإنسانَ سيطرة الاستعمال وفك عقدة الاستحالة.
ومن نظام الحماية (القابلية) انبثقت ملايين التطبيقات المستحيلة وبالتالي تم وضع الأنظمة والمعطيات المطوعة صلابة الاستحالة. فصنعت الأسلاك والمفاتيح والمصابيح بمختلف المقاسات والأحجام وطاقات التحمل، وصنعت التوصيلات والمجمعات، وصممت البرامج والوحدات… فأدت الكهرباء مليارات الوظائف التي كانت مستحيلة، وأسهمت في فك الارتباطات المتداخلة في بعضها.
نظرة عميقة في صميم هذه الحياة توضح لنا أن كل صغيرة وكبيرة تجري وفق نظام دقيق يعطي الحياة «صفة المرونة» التي تضمن سلامة استمرارها وبقائها. إن الكون بقدر ما هو متفكك بسيط في سطحه، هو متداخل معقد في داخله. فالحياة ترى ظاهرها مسارات متنوعة وطرقاً متعددة واتجاهات متفرعة هنا وهناك (مفككة)، وتلمس بساطة الخيارات وبساطة فهم المعطيات ومقدرة تفعيلها إلى مشهد حيوي، لكن العمق والداخل لنظامها تبرز على محلله علامات الاستفهام، وعبارات الاستغراب والتأفف من التداخل والتشابك والاتصال الذي يكون روابط معقدة يصعب تفكيكها وحلها.
ولكن بفضل وضع القواعد والأنظمة استطاع الإنسان تفكيك وحل الكثير من الارتباطات المتداخلة فيما بينها وتسهيل عملية الفهم والإدراك الذي يؤدي إلى تنفيذ العمل وتوصيل قنوات الاتصال بين الأشياء… فإشارات المرور والدوارات مثلٌ على تنظيم الحركة المتداخلة بين مسارات العربات على الطرق المتفرعة ولولاها لحدث التصادم بين الحين والآخر. ووضع اللوحات الإرشادية والأسهم والصور وسائلُ مساعدة لفك الارتباطات وتنظيم حـركة الفكر داخل موقعه «الدماغ» وقيامه بتوجيه الأعضاء نحو تنفيذ المقاصد والمطالب القولية والفعلية.
ولا شك أن بعثرة الأشياء والمشي دون تحديد المسارات الدالة على ماهية الطريق – كونه طريقاً سليماً آمناً أو طريقاً خاطئاً هالكاً- يوقع الكائن في أخطاء الوصول إلى نتيجة إيجابية، ويسبب له الزلل والوقوع، وبالتالي الفشل فالإحباط فالخسران…
لذلك كان السبب الرئيس في إخفاق الإنسان هو ذلك الكسر الذي يحدثه في مجرى النظام فيتبع نظاماً آخراً غير المتوافق مع الأنظمة الأخرى التي تشكل سلسلة واحدة لا يجب قطع إحداها.
« تبغي النجاة ولم تسلك مسالكها
إن السفينة لا تجري على اليبس»
(المتنبي).
انظر الأشياء التي تستخدمها، تجد في كل منها إشارة ترشدك إلى كيفية العمل الذي تريد تحقيقه، فثوبك الذي تريد لبسه توجد به إشارة إلى المدخل الصحيح الذي تتم به عملية اللبس ومن دونه لا تتحقق العملية. وعلب المشروبات والمعجونات والمنظفات تحتوي على إشارات وعلامات تساعدك على عملية الفتح. وإذا ما حاولت القيام بعملية الفتح من موضع آخر، فإنك تقع في عراك وصراع وضياع للوقت وربما تلف العلبة وبالتالي خسرانها، فيصيبك الضجر والتأفف والقنوط التي بدورها تؤدي بك إلى مرحلة خطيرة من مراحل « العقدة في فهم الحياة».
هكذا هي الحياة كتلك العلبة إذا ما خرجت عن نظامها وقواعدها فإنك تقع في العراك المستمر الذي لن تخرج منه فائزاً أبداً – (حسب قانون الاستحالة)
إننا نعيش في عالم تزدحم الأعمال فيه وتكثر الواجبات والمسؤوليات يوماً بعد يوم… نبدأ صباحنا والأعمال تنتظرنا من البارحة، وفي ظرف ساعة أو أقل يجب أن ننفذ عشرات الأعمال والواجبات دون تباطؤ أو تهاون…
ما يلبث منبه النوم يدق حتى يفز الواحد منا كالمصعوق… فتنتشر جداول الأعمال في فكره كانتشار النار في الليف… وتبدأ أمواج الاختيارات تتعارك في حيرة القرار أي الأعمال ننفذها أولاً، وتنهال عشرات الكرات المتراسلة على ملعب القرار لإثبات الأول والشروع فيه… وهناك الوقت يمر وينقضي…
وفي زحمة الأفكار وتكرّس الأعمال نجد أنفسنا منجزين في تلك الساعة بعض أو كل ما كنا عازمين على فعله وما لم ننجزه نؤجله حتى وقت آخر…
خطوات.. خطوات.. منذ الصباح الباكر ونحن نمشيها على طريق الحياة وتكثر وتزداد بعدد تكاثر وازدياد الثواني المارة.
حركة عجيبة هي حركة الإنسان.. في صحوته ونومه وهو في صراع وعراك وزحام.. حياتنا كلها حسابات في الفكر تولد حركات في اليدين والقدمين.. تتولد من هذه الحركات آلاف الأعمال والمنجزات في اليوم الواحد…
نقابل هذا وهذا وهذا وهذا وهذا وذاك وذاك وذاك وذاك… أوووه… عالم متداخل في حركة منظمة، في توقيت دقيق ومحدد بالغ دقة التحديد.
إننا لم نعد ندرك أيهما أسرع، الوقت أم الأعمال!
هل كثرة الأعمال قلصت مدة الزمن الشعورية – والزمن هو الزمن؟
فأصبحنا نراه قصيراً مقارنة بالأعمال التي يجب إنجازها يومياً، أم الزمن- فعلاً – في طريقه نحو الدخول في مسار آخر؟
تكاثرت الموجودات في حياتنا أيما تكاثر وازدادت معدلات الأشياء إلى درجة الزحام المكتظ، وكنتيجة طبيعية تقسم الزمن في حياة كل فرد إلى أجزاء قصيرة رغبة في الوصول إلى توافق متزن بين جميع المتطلبات.. فأخذ الإنسان في شمس هذه الظروف يفكر كيف يمكنه موازنة حياته وتنظيم مساراته بحيث تغطي جميع احتياجاته، فقسم الزمن إلى وحدات زمنية متفاوتة الطول ومختلفة المسميات، فثوَّن ودقًّـق وأيـَّـم وسبـَّـع وشهـَّـر وسوَّن وقرَّن وجيَّـل الزمن([)، فانشأ التقويم واخترع الجداول والمذكرات والمفكرات والمواعيد المحددة مسبقاً، وقبل هذا اخترع الساعة، وقبل الساعة زجاجات الرمل، وقبلها استخدم الشمس وظلها كوسيلة للتنظيم والتحديد..
عالم عجيب، يحير فكر المفكر ويبهر اكتشاف المتأمل، تتوافق فيه الأشياء وتنسجم دون خلط أو تضارب.. ولا يحدث خلط أو تضارب إلا إذا حاول الإنسان استخدام مخصصات معينة لمجال معين في مجال آخر لا يرتبطان بصلة أو علاقة كاستخدام الملح لصنع كوب شاي أو استخدام الوقود للاستحمام…
هكذا تعلم الإنسان فن الحياة وأساليب العيش وطرق الوصول إلى توافق أمثلَ بين الأشياء التي يستخدمها وبين الـنتـيجة المرجو حدوثها. فأخذ يـصنف ويقسم ويوحد ويطابق ويماثل ويدمج ويمزج ويخلط ويربط ويعقد ويوافق ويجاري ويحاكي ويجزئ ويحلل ويعادل ويكمل ويكرر ويشطر.. فكان أن ظهر تصنيف المجالات وتقسيم الوحدات والحقول.. فوضع الإنسان- بفضل هداية الله له- لمسارات حياته طرقاً مفهومة مختلفة ومتباينة عن غيرها، وتفرعت عنها طرق أخرى حتى يسهل استخدام الأدوات والبرامج والمواد اللازمة لإنجاز المشاريع وبناء الأرض وتعميرها، فحدد للصناعة مجالاً واخترع له ما لا يحصى من البرامج والوسائل والمواد والآلات، وحدد للزراعة مجالاً مختلفاً واخترع له مجالاً لحصره سبيل من الوسائل والآلات، وقس على تينك المجالين المجالات الصحية والعسكرية والبحرية والعمرانية والرياضية وأفرعها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
وانظر إلى ما تم إنجازه واختراعه من مواد ومستلزمات في كل مجال… وجميع تلك المجالات تصب- في النهاية – في مجال واحد وقسم واحد وصنف واحد وهو مجال التكامل الذي تـُبنى عليه قواعـدُ الحياة وأسسها…
ألا ترى (السكين) بدأها المجال الاجتماعي بفكرة، فنفذها الصناعي بمشروع ثم أخرجها الاقتصادي إلى السوق، فاشترتها المجالات الصحية والرياضية والعسكرية والزراعية، واستخدمها الصغير والكبير، فتعددت أغراضها وتنوعت استخداماتها حتى شكلت عنصرًا فعالاً من عناصر الحياة لا يمكن الاستغناء عنه.. لكنه (السكين) كان محدودَ الوظائف حاله حال أي موجود في هذه الأرض وكان مصنفاً ومعداً لأشياء تتوافق مع طبيعة صنعه وتكوينه. فإذا ما حاولنا استخدامه في غير اختصاصه انكسر وتعطل عن العمل، كأن نقطع به حديداً أو زجاجاً.
شبكة عظيمة هي الحياة تتفرع في خطوط متوازنة متسقة منتظمة تلتقي بعضها لوجود ترابط وتوافق وتنفصل أخرى لوجود تنافر وعدم توافق….
ولما كان التقسيم والتنظيم ضرورة من ضرورات الحياة كان للغة دور عظيم في هذا العمل الجبار بل كانت المحور الذي دارت وتدور عليه جميع تنظيمات البشر وتقسيماتهم، ومن غيرها ما كان للإنسان قدرة على إنجاز ما أنجزه من هذه العلوم وهذه الشبكة الهائلة من تنظيمات الحياة… لذلك كان لا بدَّ من تعدد اللغات واختلافها، وكان لا بدَّ أن تكون لكل موجود حيًّ لغة حتى للجماد منها، فالأصوات الصادرة من الآلات والمركبات وغيرها، والروائح المنفرة الصادرة من الأطعمة الفاسدة وغيرها كلها إشارات ولغة يستجيب لها الفكر البشري عند انتباهه إلى أصواتها ليقدم لها الحلول التي تقيه من مخاطرها.
وساهم الإنسان في العمل اللغوي إسهاماً عظيماً، وقدم فيه مجهوداً جباراً استطاع به إيصال العلوم والمعارف إلى ذروة عالية من التقدم والرقي.
فأسس للغة قواعدَ ابتدأت برموز وبعلامات وبإشارات، وأخذ يضع رمزاً دلالياً لكل ما يرى ويستخدم من مواد وأفعال وأقوال، فظهر نتيجة هذا الاتحاد بين الدال والمدلول علوم شتى وتقسيمات وتصنيفات مختلفة على خطوات أقدامها تم تحديد الوسائل والمواد اللازمة لتفعيلها، وتم اختراع الرموز الموضحة مفاهيم ومعاني الموجودات في الطبيعة ليسهل عليه التعامل معها حوارًا واستخداماً،، فاخترع الإنسان بعد ذلك رموز الحروف ورموز النقاط ورموز العلامات ورموز الحركات، وقام بتصنيفها وتحديدها وفق مخصصات محددة ومقننة لا يمكن تخطيها وتجاوزها وإلا ضاع المعنى والتغى المفهوم. فلو أردنا كتابة (صنع) ووضعنا (.) فوق الصاد لضاع المعنى والتغت وظيفة الكلمة. ولو أردنا نطق الرمز (ج) من غير حركة (صائت) لما استطعنا تحريك الساكن (الصامت)، ولبقي الرمز صامتاً ثابتاً في مكانه. وحدد لكل سلوك يصدر من عناصر الطبيعة مسمىً خاصاً يتعارف عليه المجتمع ويتداوله، فأصبح لكل موجود مسمى يرصـد الـفعـل ويصفــه، فــمُسـمَّى (القتل) لا يمكن أن نسمي به سلوكاً غير السلوك المتعارف عليه، فرؤيتنا إنسانا يشرب لا يمكن أن نسمي ذلك السلوك قتلاً.
وقد كان لمرونة الموجودات وقابليتها للتطويع وللغة التي تتحدث بها دور عظيم في سرعة الإنشاء والتطوير والتحديث فكل شيء في الأرض وعليها يمكن للإنسان أن يستخدمه ويصنع منه مواد تحقق له القدرة على فك الارتباطات وحل التداخلات…
«هذا خلق الله، فأروني ماذا خلق الذين من دونه… « آية (11) لقمان.
إنه الله خالق هذا الكون ومسخر ما فيه من كائنات للكائنات نفسها – تتصارع وتتعارك وتتقاتل فتندفع نحو التقدم والتطور من أجل استمرار ربوبيته على جميع من يخلق حيث أن الرب صفة غير مستقلة بذاتها ووجودها قائم بوجود الكائن، فإن غاب الكائن غاب الرب. لأنه – باختصار – (على من يكون رباً إن لم يكن هناك مربوبون؟)
فمصطلح (الرب) لا يمثل وجوداً مستقلاً إنما هو سلطة تشريعية وتنفيذية تتحقق بوجود العنصرين المعروفين :
1 – الأرض.
2 – والشعب.
«أنا ربكم الأعلى» آية (24 – النازعات)
وعلى العكس – تماماً – يكون الإله. فهو وجود مستقل بذاته، أزلي الكينونة لا يحتاج إلى مخلوقات ليكون وجوده بل تنبثق منه جميع المخلوقات. ومن هنا كان سؤال من سأل: من خلق الله؟
سؤال لا يحمل صحة السؤال، لأن الله خالق (خالق) ولا يمكن أن يكون مخلوقاً أبداً، لتنافر وتضاد الحالتين. فـ(من) ليس لها معادل في الوجود على الإطلاق. فكيف نسأل من خلق الله وهو الخالق؟ وكيف يكون الخالق مخلوقاً؟ ثم كيف لنا أن نتصور السلسلة الطويلة المكونة من حلقات (من) أن تنتهي لو استمررنا نسأل من خلق الله ومن خلق خالق الله ومن خلق خالق خالق الله…؟
لقد ظهرت تلك المجالات الكثيرة نتيجة انقسام الإنسان إلى فئات ومجموعات بسبب الأهواء والميول والرغبات والقدرات. فالإنسان يمثل فئات بشرية متخصصة في الدين وأخرى في الرياضة وأخرى في الفن وأخرى في الأدب وأخرَيات في السياسة والطب والزراعة والهندسة والتاريخ والاقتصاد والكيمياء والفيزياء.. وكل هذا من أجل التكافؤ والاتزان والتطور والتقدم والازدهار.. وكنتيجة طبيعية جداً ظهر التضارب والتنافر وعدم التوافق بين فئات البشر، فإنسان الدين لا يتفق أبداًـ ولا يوائم إنسان الفن – مغنياً كان أو ملحناً أو راقصاً وأحياناً رساماً أو نحاتاً…
فمثلما لا يمكن أن يلتقي الزيت والاستحمام كذلك لا يلتقي إنسان الدين وإنسان الفن.. وعلى ذلك نقيس جميع الفئات ونحاول ربطها ببعضها، لنجد التنافر في بعضها والاتحاد في بعضها، حالها كحال أي صناعة تصلح لهذا ولا تتفق مع ذلك…
لقد كان لاشتباك الموجودات بعضها ببعض دور عظيم في ازدهار هذه الحياة وتقدمها، فهذا النظام الحيوي قادنا إلى حركة عجيبة قاعدتها الكسر والبناء. فنحن كل لحظة نشهد انكسار المواد في محيط حياتنا وحياة غيرنا.. فأصبحت قاعدة «الكسر لغة البناء» عجلة من عجلات التحرك التي يسير بها كيان الحياة. ومن ذلك المنطلق جرت عربة الحياة تصطدم حركاتها بالمواد التي تملؤها فتهدم وتكسر وتحطم وتبيد وتحرق، فتغيرت نتيجة هذا الاجتياح العظيم لسرعة الحياة حضارة الإنسان وطرق عيشه وأساليب تمدنه وخرائط توجه وتصاميم إنشائه وكيفية صناعته وزراعته، فظهرت العلوم الكثيرة وتوسعت المفاهيم والنظريات وكثرت الاكتشافات والأبحاث والبحوث.. وعلى إثر هذا صححت كثير من المعتقدات والتفاسير والنظريات والفلسفات والنصوص والفتاوى والتواريخ والمصطلحات والحسابات والمقاسات – أو قل هدمت وكسرت وتم بناء الجديد عنها. وارتفع في لفظة (حية) صوت مـــمــدود بعــد يائــها الساكنة (ا) فطالت إلى أن أصبحت (حياة).
إننا نحتار حين تنكسر من بين أيدينا أية مادة قابلة للكسر بل نغضب وتتوتر اعصابنا وتنفعل قوانا البدنية حين يكسر أحد أولادنا كوب ماء أو طبق طعام أو مزهرية ونؤنبه بالقول أو نعاقبه بالضرب في ردة فعل ينحل فيها حزام العقل ويضيق مرحبُ الصدر… وردة الفعل هذه طبيعية، ومنسجمة تمام الانسجام مع حدث الكسر الذي أحدث على الكوب أو الطبق. فالطفل أو غيره حين يكسر مادة ما فهو في حقيقة الفعل أحدث كسرًا في خط تفكيرنا الذي استقر على حالة مستقيمة من الشعور والاقتناع بأن ذلك المنكسر يجب أن يكون في حالة «غير الكسر» قابلاً للاستعمال وصالحاً للعمل، فإن أصابه طارئ أحدث فيه عـُطـلاً فإن استجابة الفكر الفورية تكون مطابقة لذلك الحدث والذي بدوره يرسل إشارات انفعال وغضب إلى الجهاز العصبي…
إن الاندفاع الشديد العظيم لمسار الحياة يأخذ في اتجاهه كل ذرة في هذا الكون ويتقدم بها نحو فلسفة عجيبة تنبني عليها قواعد الحضارات التي تتزايد مجالاتها في كل جزء من أجزاء الثانية – هذه الفلسفة هي فلسفة التجديد والتطوير والتحديث لما هو موجود أصلاً.
فإن نظرنا في أي اتجاه يحيط بنا ودققنا في المواد المنتشرة به لوجدناها صورة أو شكلاً مجدداً أو مطوراً أو محدثاً. فالبيت الذي نسكنه هو شكل وتصميم جديد للبيت الذي سكنه أجدادنا وآباؤنا- أو قل الإنسان القديم- والملابس التي نلبسها هي صور وأشكال حديثة لنفس المــواد التي كانـت تصنع منها الملابس.. وقس على هذا كل ما هو موجود من مواد وصناعات- السيارات، الطائرات، السفن، المباني المختلفة، الآلات والمعدات، الأوراق، المواد الغذائية، حتى الإنسان هو وجود مطور ومجدد عبر مرور الزمن وذلك حتى يتمكن من التكيف ومواءمة الظروف البيئية والأحوال المعيشية.
وفلسفة الخلق هذه ترتكز على فكرة واحدة ذات مضمون واحد مع تغير الأشكال… فالإنسان والحيوان والحشرات وكل ما يدخل في هذه المنظومة ترتكز فكرة خلقه على فكرة واحدة وهي امتلاك نفس الأجهزة ونفس الأعضاء تتكاثر بنفس الفكرة وتمارس نفس السلوك في ذلك وإن شذ القليل. كذلك الحال في عالم النبات… وهنا تبرز عظمة الخالق وبديع صنعه فتغيير المادة في الخلق ليس كتغيير الشكل كون المعطيات يمكن توفيرها في حين يصعب إحضار أشكال متعددة لنفس المادة إلا على الله تعالى. فانظر هذه الأعداد الهائلة من الأشكال في بني البشر- فقط – وكلها مخلوقة من مادة واحدة وبفكرة واحدة.
ولتبسيط هذه الفكرة، نفترض:
لو أحضرنا مادة (التراب) وطلبنا من أولئك المبدعين فن التشكيل الفخاري أن يصنعوا لنا ألف شكل غير مقلد من ذلك التراب لعجزوا عن صنع شكل واحد. بيد انه يسهل عليهم الأمر قليلاً لو طلبنا شكلاً معيناً دون اشتراط للمادة المصنوع منها. لكن الإنسان قادر – عن طريق إلهام الله – أن ينتج الأعداد الهائلة من الأشكال المصنعة سواء بمادة واحدة أو أكثر.. وهنا ندرك تفرد الله بالخلق الحي وإعطاء الإنسان فرصة الحركة لإنشاء وإنتاج ما أراده الله أن يكون.
فالله – تعالى – لا يقوم بصنع كوب أو سيارة ولا ينزلها من السماء إنما يحدث هذه المشاريع والتصاميم في فكر الإنسان لينفذها على الأرض مستخدماً القدرات الفكرية والبدنية والبصرية التي خلقها فيه بإبداع دقيق ومنظم فائق الإعجاز… ولو تتبعنا مراحل التطور التي مرت بها حضارة الإنسان لوجدناها تجري في ثوابت محددة وملازمة لخط توجه مسار الحياة. فمنذ وجود الإنسان على الأرض كانت طبيعته وكيفية خلقه واحتياجاته تدفعه نحو القيام بأعمال وأفعال هي البؤرة الأولى التي تطورت وتحدثت حتى يومنا هذا.
فالإنسان ارتبط خط حياته بشبكة هائلة من المجالات الحركية والهندسية والزراعية والصناعية والعمرانية والاتصالية. فهو لا يمكن أن يقف طوال عمره.. فمشى.. وهو لا يمكنه أن يحمل الأثقال ويمشي، فاستخدم الحيوان لنقله ونقل أغراضه.. فبدأت حركة التطور في مجال النقل والمواصلات تتطور شيئاً فشيئاً…
و هو لا يمكنه السكوت الدائم والانفراد الانعزالي.. فتكلم.. وهو لا يمكنه إيصال صوته وأفكاره إلى كل الناس، فاكتشف الرموز واستخدم الطيور والكلاب واستعـمـل الإشارات، فبدأت حركة التطور في مجال الاتصالات تتقدم نحو الأمام شيئاً فشيئاً…
وهو لا يمكنه أن يعيش في العراء ولا يعيش دون لباس ولا يمكنه عدم الأكل والشرب والإخراج، فاتخذ لنفسه الكهوف فالبيوت ثم المنازل والقصور واستحدث المرافق وسماها بأسماء تدل على تقدمه وتطوره.. فلبس وطور.. وأكل وشرب فصنع لذلك مالا يمكن تصوره.. فتقدمت الصناعة والزراعة والهندسة والعمران تحت أقدامه.. وهو لا يمكنه ألا يلهو ويلعب فابتدع الملاهي والألعاب.. وأراد أن يفرح ويطرب، فغنى ورقص واخترع لذلك الآلات والوسائل… وجمع كل المجالات التي يتحرك فيها ويباشر فيها سلوكياته وأعماله في منظومة واحدة وشبكة واحدة تدور فيها كل العلوم والبرامج وارتبطت في خطوط متشابكة لا يمكن الفصل بينها… فالطب يحتاج إلى زراعة وصناعة وهندسة وعمران واتصالات ومواصلات.. وهكذا سائر المجالات يكمل بعضها بعضاً.. وهذه التقسيمات المتشابكة التي حدثت في المجالات راجعة إلى ما يحمله الإنسان من صفات خلقية.. فهو وجود متكامل متحد متشابك من جميع تلك المجالات…. فهل يوجد إنسان صحيح لا يمشي أو لا يمارس حركة التكاثر أو لا يشر ب أو لا يأكل أو يقوم بعملية التخلص من فضلات الجسم أو لا يمرض أو لا يلبس أو لا يلهو.. ؟
بالطبع لا.. فالإنسان واحد، وعلاقته بجميع المجالات أمر طبيعي ما دامت المجالات وجدت متسقة مع فطرته الإنسانية والبشرية. ووحدوية الإنسان هذه صادرة من كونه مخلوقاً من روح واحدة ومن مصدر واحد ومن مادة واحدة.. فمصدره الله وروحه من روح الله.
إن حركة التطور التي يقوم بها الإنسان- بالنسبة لعمر الكون الأرضي – تمر بسرعة شديدة لا يمكن تصورها وتخيلها، وتأخذ أبعاداً متشعبة ومرتبطة مع مجالات عديدة جداً هي الأخرى في تشابك وترابط بالغ الاتساع والتعقيد. ولكنها في نفس التوقيت هي حركة بطيئة جداً بالنسبة لحياة الإنسان، فهذه الحركة سارت خطواتها بمصباح (لا يوجد جهل في الحياة إنما يوجد علم غائب)، فأخذ الإنسان – مدفوعاً بحاجاته – يبحث عن هذا العلم الغائب، فيجده في كل شيء من حوله..
فكان لسرعة العلوم دور في التحرك السريع لعجلة الكون، لكنها كانت بطيئة جداً حتى تصل إلى الإنسان، فالعلم الغائب ظل يصل إلى الإنسان بخطوات بطيئة جدا على الرغم من وجوده في هذا الكون بين يدي الإنسان، لكن هذا التدرج كان ضرورياً لإعطاء الأجيال فرصة الاكتشاف والبحث والمعرفة.
وفي قصة سيدنا عمر بن الخطاب إشارة إلى غياب العلم عن عقولهم حين سأله أحدهم بعد أن ذكر الفعلين اللذين كان يفعلهما في (الجاهلية)، أكل الصنم المعمول من التمر بعد عبادته (فعل مضحك) وقيامه بمشروع دفن ابنته الطفلة، (فعل مبكي)…
سأله : ألم تكن لكم عقول ؟
قال عمر : «بلى.. لكن لم تكن لنا هداية»
تلك الهداية هي العلم المتطور الذي يرتقي بالإنسان إلى درجات أعلى وأسمى.. إنها عقيدة التحدي ومهارة الصراع فوجود الله تعالى مرتبط بخفائه. فالله سبحانه غير ظاهر للأعين والوصول إلى اليقين به يأخذ زمناً وجهداً وعلماً متدرجاً، فهو – اللطيف – في خفاء كخفاء الفكر، لا نراه إنما نرى أفعاله. لذلك كان الوصول إلى معدل عالٍ من العلم هو وصول إلى معدل عالٍ من معرفة الله واليقين به. ومعرفة الله لا تحدها حدود إنما خط ممتد متنام ٍ ليس له نهاية أبدًا كحال العلم المتنامي في الامتداد. كما أن غياب العلم راجع إلى تداخله مع العلوم الأخرى، فعلم الطب – مثلاً – داخل مع علم النفس وعلم النبات وعلم الجينات وعــلم الوراثة وغيرها من العلوم. ولو أخذنا « بيت الإنسان « ومراحل تطور العلوم التي حدثت فيه وعليه لوجدناه يشكل منظومة عجيبة من الارتباطات والتشابكات، ويمثل وحدة بنائية عظيمة من وحدات الحضارة. فالإنسان لا يمكن أن يعيش في طبيعة مليئة بالمخاطر التي تهدد حياته، فبحكم هذه الصفة التي خلق بها اندفع نحو البناء والتعمير، فاتخذ الكهوف (كعلم بدائي) فلما ضاق وصعب عليه المسكن بنى الأكواخ المخصصة للنوم فقط، وفصل موضع نومه عن مكان طبخه وقضاء حاجاته (كعلم أفضل فكرة) فلما رأى صعوبة الطبخ خارجاً بسبب الأمطار والرياح وغيرها أعد للطبخ مبنىً خاصاً.. واتخذ العراء مواضعَ لعملية الإخراج ولما تزايدت المجتمعات أفاقت في نفسه صفة الحياء والخجل فدفعته لبناء أماكن مخصصة لـقـضـاء حـاجاته.. وهكذا تحركت عجلة التطور العمراني وتتابعت الأفكار المصممة والمنشئة والمحدثة انكسارات فكرية تتمخض عنها حضارات عمرانية عظيمة في نظر أجيالها، بسيطة في نظر العلم الغائب عن فكر الإنسان.
إن فكرة الحبو عند الطفل هي علم مختف مستقر في تكوينه لا يمكن أن يظهر إلا بعد انبعاث الشعور بأن النوم علم بسيط لا يمكن البقاء فيه طويلاً… فلما زاد نمو الأعضاء زاد الإدراك بأن هناك طريقة أفضل من النوم، فحبا الطفل في طريق علم جديد.. وبعد سنوات تطور العلم في فكره فمشى، ثم جرى، ثم طار وتنقل بمختلف الوسائل.. (وكل ذلك بفكرة + حركة = ناتج.)
فبالفكرة يندفع الإنسان، وبالفكرة يقف.. بالفكرة يرفع يده، وبالفكرة يفعل بها ما يشاء (حسب استطاعته) « وهزي إليك بجذع النخلة، تساقط عليك رطباً جنياً « (مريم/ 25)
علم يغلب علماً.. وفكر يكسر فكراً.. وعقل يحل عقلاً… وصراع طويل.. طويل جداً بين الأفكار المندفعة في فكر الإنسان كالجيوش الغفيرة… وكله بالحركة..
ولما تطورت العلوم البدائية وتحسن مستوى التفكير عند الناس نشأت ثقافات المجتمعات واعتقاداتهم فأصبحت قواعد ثابتة لا يجب أن يكسرها أحد– وإن حدث ذلك كانت ردة الفعل مسايرة للفعل الذي حدث. ومن هنا أرى أن الجنون مجرد فعل غير معقول وسلوك غير متوافق مع أنظمة المجتمع وقوانينه. فالجنون تصرف سلبي ناتج من جراء جنوح الفكر إلى مسار مخالف للمسار الذي يحقق درجة الكمال في الفعل أو السلوك، ويمثل درجة متدنية من درجات التقدير الاجتماعي. إن مصطلح الجنون ليس مصطلحاً سيئاً أو ضاراً بمسار الحياة، إنما هو قسم مضاد وحالة فكرية لإرادة الفكر العاقل… وورودها حتمي لأنه يشكل القسم الثاني من أقسام نظام الحياة، والجانب المخالف للجانب العاقل واللذين يدفعان الحياة معاً للتطور والاستمرارية… وقد تعودنا – اجتماعياً – أن نطلق على أي فعل يصدر من الغير ويكون غير مرغوب فيه أو غير قانع ٍ لمسار تفكيرنا بأنه فعل جنوني بينما يراه غيرنا قمة في الحكمة والعقل المحكوم. وإن قسمنا الحياة في تقسيم ٍ نصفُ به الفعل المجنون وغير المجنون لوجدنا أن الحياة تدور في أفكار مجنونه صادرة من تدبير مجنون… يتمثل هذا الجنون الطاغي – في مسار الحياة – في اعتقاد الناس أن كل فعل يصدر من أي مخلوق هو فعل جنوني لا يرقى إلى مستوى العقلانية الناجحة – إن لم يوافق اعتقاداتهم. فمسار الحياة محكوم بتفكير مجنون يدور فيه خلاف واختلافات البشر – وربما اجتمعوا على حصيلة قليلة من الأعمال والأفعال العاقلة مصدقة في نجاح القبول والاقتناع. فالصلاة عند ناس أحكم الفعل المربوط، بينما عند آخرين « جنون «. والاهتمام بعلم الفضاء مع إنفاق الطائل من الأموال جنون عند فئة من الناس، في حين يراه الآخرون أصلب متانة العقل… وقس على هذا أي فعل أو سلوك يقوم به الفرد أو الجماعة تجد انقسام الناس في وصفه بين مـُجـَنـِّن ٍ ومـُعـَقـِّل ٍ… الغناء، اللعب، الرقص، اعتناق الأديان، الحروب، إكثار الأموال، اللباس، الأكل، الشرب، حركات وسلوكيات الأطفال. أما ما أطلق عليه المجتمع جنوناً حقيقياً والذي أصاب مجموعة من الناس فلا أراه إلا سلوكيات وأفعالاً مخالفة لقناعات المجتمعات بعد استقرارها نسبياً. فما هي أفعال المجانين التي يقومون بها والتي جعلتنا نصنفهم في هذا القالب المعيشي؟
هل التعري والمشي في الشارع دون ملابس فعلٌ مجنونٌ ؟ عند البعض جنون وعند آخرين ليس جنوناً… فالذي يمشي في الشارع عارياً إنسان يحمل فكراً بدائياً يحركه في ذلك الجين الذي ورثه من الأصل، فتطور هذا الجين وظل في تطوره متدرجاً في درجات، فذاك وتلك يمشيان عاريين، وذاك وتلك يمشيان نصف عاريين، وتلك وذاك يمشيان ثلث عاريين وغيرهما ربع عاريين، وآخرون متسترون… ولكل درجة تفكير… ويبقى الأصل أصلاً.
إن السلوكيات والأفعال التي يقوم بها ما يسمى بالمجنون هي سلوكيات وأفعال خارجة عن خط القناعات التي خطه المجتمع وهي كاسرة مسار الفكر المقتنع بعكس ما يفعله المجنون… فالمجنون يأكل، يشرب، ينام، يبكي، يضحك، يسير في نفس الخط الذي يمشي عليه (العاقل)، إنما له مسارات أخرى احتفظ بفكرتها منذ عصر الإنسان البدائي، ولو توافق المجتمع على (عدم استخدام اللباس) لكان ذلك الفعل فكرة مقبولة وطبيعية جدًا لا اعتراض عليها. وعلى هذا أرى أن (لا حقيقة ثابتة في الثقافات والاعتقادات) فهي مجرد توجهات فكرية تتغير وتتطور نتيجة كسر الأفكار من قبل أفكار أخرى. ولا نستبعد أبداً أن يأتي عصر يلتغي فيه استخدام اللباس، وتكون المرأة هي مؤسسة هذه النقلة في المجتمعات بحكم غرورها بجمال أعضائها الداخلية. وما نشهده من زحف في تطور فكرة اللباس يبشر بأن (ثقافة التعري قادمة من جديد).
لقد كان للصفات الشعورية داخل طبيعة الإنسان الدور الأعظم في تقدمه وفي تطور حضارته وفي تحركه. فبفضل تلك الصفات اندفع لتأسيس العمران ومتعلقاته ومرافقه… فصفة الخوف قادته لبناء بيتٍ وقادته لتطويره، وقادته أيضاً إلى اختراع الأسلحة وتطويرها، وبسبب حيائه وخجله أضاف مرافق الاستحمام والإخراج. وظل في هذا الامتداد نحو التقدم فترة طويلة جداً، وظل القصور ملازماً له عبر كل الأجيال، وليس القصور في ذات الإنسان وفي طبيعته إنما في طبيعة العلوم الممتدة والمتشعبة إلى نهاية لا نعلمها أو إلى ما لا نهاية. وبسبب العلم الغائب الذي قد يجده أو لا يجده. بالإضافة إلى عامل الوراثة الفكري الذي يتناسل مع الأجيال… فالإنسان إلى اليوم ما زال يحمل الجين المحفز للكتابة على الجدران وما هذا السلوك إلا موروث جيني يحمله مجموعة كبيرة من الناس إن لم يكن كلهم. ولا يزال يقتل مدفوعاً بقوة الجين الموروث من (قابيل)، وهو لا يزال يحب التعري والكشف عن عورته مقود بالجين الذي ورثه من آبائه البدائيين….
هذا هو المخلوق العظيم الذي خلقه الله… إنه يمثل معجزة كبرى لا يمكن لأحد أن يخلقه. لقد خلقه إنساناً إيجابياً فقط ولم يخلق فيه جانباً سلبياً أبداً، وما اعتقدناه بأنه سلبي هو في الحقيقة إيجابي بحت يدخل كعنصر أساسي في تشكيل خط سير هذه الحياة.. فصفة الغرور قادته لأن يتزين ويتجمل، فطور لباسه الأنيق وأنشأ محلات الحلاقة وصالونات التجميل، وصنع العطور والمساحيق المجمـِّـلة وكلها لإبراز جماله المغرور…
فخطا بالحياة خطوات واسعة نحو التقدم والتطور.. وصفة الغيرة قادته للتسابق والتنافس فبنى غيرةً لأن جاره بنى منزلاً جديداً، وتعلم غيرة ً لأن أحد معارفه أو أهله تعلم… وصفة العدوانية وحب التملك قادته للتعدي على حقوق الغير أو قتلهم فقاد ذلك إلى إنشاء الجيوش والقوات والأسلحة والسجون، وأدى هذا إلى إيجاد الوظائف واتحاد الصناعة مع العمران، مع الطب، مع الزراعة.. وصفة السلطة والترف قادته نحو بناء القصور واختراع الآلات واستخدام التكنولوجيا. وصفة البخل قادته نحو الشراء البسيط من لباس ومأكل…. إن ما حول تلك الصفات إلى السلب هو الإفراط فيها واستخدامها في غير موضعها. حالها كحال أي شيء في هذه الحياة يمكن أن يتحول سلبياً بعد أن كان أصلاً في الإيجاب وما يحوله إلى الإنسان.. فتعلمُ الكتابة لا يمكن أن يكون سلبياُ أبداً عند النساء، لكن نظر إليه بعض فقهاء الدين الإسلامي القدامى على أنه سلبي.. فحرموا تعلم المرأة الكتابة، وذلك خوفاً عليها من أن تستخدمها في مشاريعَ تضرها وتقتل بها حياءَها وتنقل بها شرفها إلى الهاوية. وهذا ما حصل بالفعل عند كثير من النساء، فبالكتابة راسلت امرأة رجلاً، وبالكتابة واعدته، وبالكتابة زنت فعصت فخانت فهوت.
كانت الكتابة علماً خفياً ولما ظهر ظهرت معه علوم لا حصر لها وكلها إيجابية لكن الإفراط فيها حولها – في بعض الأحيان – إلى علم سلبي.
لقد كان لموت الإنسان حكمة التجدد والتطور لهذه الحياة مثله مثل أي موجود مخلوق. فبقاؤه يعني بقاء الحياة في حالة ركود.
إن هذا الموت هو حركة ديناميكية تنتج بسبب التصادم التي تحدثه الحياة أثناء مرورها وبسبب قابلية الإنسان للموت أو الكسر.. الأمر الذي ينتج للحياة إنساناً جديداً يحمل فكراً جديداً يمكنه التطوير والتحديث بالصورة التي يرسمها الله في مشيئته.
إن هذا الترابط المدهش بين الانكسار الذي يحدث في فكر الإنسان وبين تقدم الحضارة يرسم لنا حالة الصراع الطويل الهائل الذي يمتد مع خط الزمن.. فقد أودع الله القدير في ذاكرة الإنسان الأفكار (من غير حصر). هذه الأفكار مختلفة ومتباينة وذات طبيعة حركية متقدمة، وعلى أساس التقسيمات التي حدثت في طبيعة الإنسان انقسمت أفكاره إلى مستويات ومجالات عديدة جداً تمثلت في استقلالية الفرد وعنصريته. ومن هنا نشأ الخلاف والصراع الفكري، وتضاربت الأفكار فيما بينها وتقاتلت وتناحرت، وكله من أجل التطور الحضاري. فشمل هذا الصراع كل المجالات، المادية، والاجتماعية، والسياسية، والدينية.
وحدثت عمليات الكسر والهدم فالإصلاح والبناء ليس على مستوى المادة فقط، إنما شملت النصوص والتشريعات والقوانين والأنظمة…
و نظرة موجزة سريعة إلى ما كان سائداً في المجتمعات الإنسانية من تشريعات وأنظمة وقوانين توضح لنا ما تم فيها من عمليات كسر وهدم ومن ثم انبنى عنها عقائد وتشريعات وأنظمة أخرى نتجت نتيجة تغير فكر الإنسان..
و نظرة سريعة أخرى في الأفكار التي صممت وأنشأت حضارة (السيارات) تبين لنا حجم المعارك الفكرية التي دارت بين العقول ومقدار الأفكار التي ماتت في تلك المعارك.. وعلى ذلك نقيس كافة الصراعات الفكرية التي حدث وتحدث في الحياة لنخلص إلى حقيقة وجوب الكسر فالموت لتقدم حضارة الحياة. ونخلص إلى حقيقة (الحياة مشكلة محلولة). وسيظل الإنسان في تقدم مستمر نحو الاستحداث والتجديد والتطوير لحل المشكلات، وهذه النقلات تحدث نتيجة انكسارات عديدة وعلى كافة المستويات والمجالات، تحدث كل يوم في محيط حياته محدثة المسارات التي يريدها الله. فتطور هذه الحياة كان بالهدم وبالكسر وبالتحطيم إما بتسخير الطبيعة وإما بتسخير الإنسان الذي هو جزء من مكونات هذا الوجود. فمثلما الأمطار والرياح والحرائق والحيوانات والحشرات تغير وتطور وتهدم وتبني، كذلك الإنسان سخر ليكون فكره مركزاً لتلقي مشيئة الله وشيء من علمه.
فمن بيت متواضع أحدث في أفكارنا صوراً ورسوماً وتصاميمَ ثم نوايا ثم أفعال كسر وهدم، فبناء جديد وتصميم أحدث من السابق. وكل ذلك حدث نتيجة إرادة الله التي من شأنها التقدم نحو الوجود الأمثل والكيان الأروع، فألقى تلك الإرادة في فكر الإنسان، وسخر له وسائل الهدم والبناء، وقبل ذلك كسر فكرة قديمة كانت موجودة في ذهن إنسان قديم وأحل بدلاً عنها فكرة جديدة فإنسان جديد فبيت جديد، والمعطيات واحدة… الفكرة هي الفكرة… تم كسرها وصياغتها من جديد في تقدم أفضل، والبيت هو البيت، والإنسان هو الإنسان، والله هو الله.
كل ما حدث هو أن الله طور فكرة التصميم والإنشاء، فتطورت الفكرة فالبيت فالإنسان فالوجود..
وهذا يقودنا إلى مفهومي الثابت والمتحول من الموجودات. فالأصل ثابت لكن الشكل متحول متغير. ويقودنا إلى تصور الأجيال المقبلة وهي ستهدم هذه الحضارة التي اعتقدنا أنها في أرقى مستوياتها، لكنها سوف تكون محط تغيير وتبديل وتطوير من قبل الجيل الجديد من الإنسان المطور الحامل تطور الوجود الأرضي المحسوس…
إذن ستنتهي هذه الحضارة شكلاً، لكن ثوابتها وأصولها ستبقى، وسينتهي فكر الإنسان القديم نتيجة ظهور جيل جديد من الأفكار وستظل الأجيال في صراع فكري هائل ونزاع نفسي عظيم وذلك من أجل الوصول بالحياة الدنيا إلى أرقى مستوى لها في نظر الإنسان وسوف يرتفع تطورها ويرتفع ويرتفع ويرتفع إلى قوله تعالى :
« إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام، حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها، أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس. كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون « يونس 24»
والله خير الصادقين….
(*) = أفعال مشتقة من الثانية والدقيقة واليوم والأسبوع والشهر والسنة والقرن والجيل.
عبــدالله النهـــدي
كاتب من عُمان