عامٌ أتى .. عام مضى
لا يكاد الفرد منا يستقبل العام الجديد كحدث مباغت، إلا ويزحف آخر أكثر سرعةً واقتحاماً. هيجان أزمنة وسنين وأيام، انطلقتْ من عقالها وتاهت وتلاطمت في براري حياتنا ورغائبنا، مساعينا وأحلامنا المحدودة أيما حدود بسقف الزمن ومتوالية قسوة عبوره العاصف.
لم نعدْ نستطيع العدّ والإحصاء، تلاشت روزنامة التقويم وحدود وحداته، بمعالمها الواضحة، وسالت في أحشاء السنين المندفعة… مثلما لم يعد في المتناول عدُّ وإحصاء الموتى والقتلى، حتى عبر فضاء الأجهزة الالكترونيّة، العالية الاستيعاب، والدقة، من فرط ما يتساقطون بفعل الكوارث البشريّة والطبيعيّة والمرضيّة، في كل مكان وصوب عبر خرائط أرض البشر المُصابة جرّاء ذلك بالخَرَف والتصدّع والدوار.. وإن تفاوتت القسمة بشكل ذريع بين بلدان مترفة حققت مكاسب إنسانيّة وحقوقيّة بشكل فعلي، لا لفظي ودعائي، وأخرى يفترسها الفقر والحروب والأوبئة.
٭ ٭ ٭
لم تعد الحدود واضحة كما كانت، تلاشت واضمحلّت، صرنا في تيّار الزمن الجارف، وفي الأعماق منه، سفينةً توشك على الغرق من غير قوارب نجاة أو حتى تلك القطع الخشبيّة والنباتات الطافية على سطوح المياه المدلهمّة التي تشكل خيط أمل للغرقى والمنكوبين.
تلاشى طعم الفروقات بين الأيام والشهور، بين المواسم والأعياد، صارت متساوية في الضجر والرتابة وانهيار الأحوال.
تلاشت فروقات الأحاسيس وتمايزاتها تجاه البشر والأشياء، إنه «السقوط الكامل في الزمن» وسنينه وأيامه المنفلتة من مرابضها الحصينة، لتسحق كل علامة وتحديد وتدفعهما الى ساحة المحو والغفلة والنسيان..
كان في الماضي ثمة تمايزات، مواسم وأعياد. ثمة إحساس عميق بمتواليات الأشهر والسنوات. كانت هناك علامات فاصلة ومحطات نقف أمامها، أفراح وأحزان شفيفة. ثمة شُرُفات مغمورة بضوء القمر الفتيّ، ومدن مضاءة بالفوضى والأحلام.
وهناك في البعيد، البعيد من الذاكرة التي يحاصرها المحو والنسيان، برارٍ شاسعة تسرح فيها الظباء والغزلان، ويمرح فيها الوحش اللاهث من طِراد الصيّادين..
تلاشى ذلك كله واختلط بسيلان الأزمنة ودمائها.
٭ ٭ ٭
ربما لأنّ الكائنَ، وهو جسم من الأجسام السابحة في هذا الفضاء اللامتناهي- أو المتناهي، لا أكاد أتبيّن أي معرفة أو تحديد في غَبَشِ السنين- ربما لأن هذا الكائن، حسب قانون الجاذبيّة الشهير، حين يبدأ بالاقتراب من نهاية شوطه و«مشواره» يتسارع في السقوط والارتطام. وبعبارة أقل حدّة، العودة إلى ما يشبه سديمه الأول الذي خرج منه في أول الرحلة والمشوار.
وفي هذا السقوط المتسارع الأليم، لا يعود الكائن يعوّل أو يلتفت بالطبع إلى الفواصل والعلامات، إلى سياقات الأيام وبيان المفاصل والمنحنيات.. ربما سحر الأرض، أرضنا في هذه الحالة، وجاذبيتها التي لا تقاوم للأجسام السابحة والتائهة في فضائها المترامي. يزداد هذا السحر غِوايةً كلما اقترب الجسم- الكائن البشري من فتنة الأرض، فتنة القيعان السحيقة.
الضباع تلهث وراء طرائدها
قلتُ أسلّي نفسي بالمشي، رغم سحُب الدخان والتلوّث التي تلف المدينة، وتطبق عليها من الجهات الأربع.
أتسلّى بالمشي، ربما يبددّ كآبة توغل أكثر في الأيام الأولى لدخول البلاد.
لم يعد فرح اللقاء كما كان، لم يعد ثمة فرح على الإطلاق. تبّدد في الغبار المتراكم الراكض من غير هوادة..
الضباع تلهث وراء طرائدها في الخلاء.. الزمان لا يلهث، طرائده هي اللاهثة المنتحبة على الدوام. إنه على عرشه الوارف مسترخٍ يرقب خراب العالم والحيوات، ساديّا، موضوعيّاً، وعلى نحو رفيع من صرامة أزليّة.
٭ ٭ ٭
قلت أسلّي نفسي بالمشي، مشيتُ عبر الشارع الممتدّ حتى الميدان الصاخب، انظر يميناً وشمالاً، مستنفراً قُدُرات الحواس جميعها. أتفادى المركبات بأنواعها والعابرين على غير هدى. أحاول ملاحظة التغيّرات التي تصدع المكان وتنسف معالمه..
لا شيء يذكر.. المشهد على حاله الكرنفالية كأنما يحتفل بموته، كأنما يشيّع هذا الموت بحطام أصوات وضحكات جاد بها الزمان أخيراً في غمرة هذا الاحتفال الجنائزي المتقشف والخالي من المهابة التي تمنحها اللحظات الكبرى..
٭ ٭ ٭
في كل مدينة عشتُ فيها، أو لم أعشْ، تكون الأيام الأولى منذورة لمثل هذه الأحاسيس القاتمة، لمثل هذا التشظي الكئيب..
أرى قطعانَ الضباع، أشتمّ رائحتها العَفِنة التي تطبق على المدينة..
أراها تطارد ضحاياها من غير لهاث مسترخيةً هادئةً، وقد اختطفت مزاجَ الزمن، أو إنها إحدى كتائبه الطليعيّة في التدمير..
بهذا المعنى حتى الزمن انحطّ، نزل من علياء سؤدده، بوسائله الراقية المهيبة، المرئي منها والخفيّ، نزل إلى التحالف، أو التجنيد لهذه المخلوقات الشائهة الممسوخة القذرة..
تُرى هل هناك فرق أساسي بين وسائل راقية رفيعة، وأخرى وضيعة صغيرة، إذا كانت المحصّلة، المحق والتدمير، تدمير روح المكان والبشر والقيم وتحويلهم إلى مشتقّات ضباع وامتداد غرائز رخيصة، وخرائب؟
ربما هناك فروق كبيرة تشبه تلك التي تفصل بين موت تراجيدي كبير وآخر تخلَّت عنه العناية كما في الأساطير، فصار موتاً غُفلاً لا يكاد يلحظه العابرون على أديم هذه الأرض..
لكن المدُن التي أشير، يجدر بها موت آخر، موت آخر وحياة أخرى.
٭ ٭ ٭
كنتُ بالفعل أنوي الحديث عن تسلية المشي في أزمنة الكآبة، الذي ربما يساعد كنوع من علاج، مثل السباحة في البحار الشاسعة الزرقاء.. وأن أصل عبر هذا المشوار الى بيت صديق أو مطعم أتناول فيه وجبة العشاء، مستمعاً إلى الموسيقى، ذلك الفن الأكثر غنائية حسب (هيجل) والأقرب إلى الكمال وفق (نيتشه) وأن أذكر في طريقي بعض علامات وأسماء لأماكن حميمةٍ قضينا فيها أوقاتاً سعيدة.
لا أعرف ما الذي جرف القلم المرتبك أساساً إلى هذه الحالة المشهديّة القاتمة.. هواجسَ آخر العام المحتدمة بالنهايات؟
لكن ما الذي يجعل آخره يختلف عن أوله، عن وسطه، في جَلَبَة هذه المواكب وزحمة هذا الغبار؟
إرث العائلة
على غير هدى، كان يتخبّط بين البرك والمستنقعات، في ضواحي النخيل الآسنة.
يبدو أن فصل الصيف العاصف بريح الغربيّ قد أشرف على الأفول، مما يترك لخريف الموز وأشجار البردي، المتساقط الأوراق، مخلفاً ذلك الفراغ الكئيب الذي تتركه عادة، الفصول والبشر في رحيلهم الذي لا ينقطع على مرّ الأزمان.
(أليست الفصول ومظاهرها تعطي فكرة عن عبثية الطبيعة والحياة التي لا تستطيع إلا تكرار نفسها؟)
على غير هدى كان يتخبط، ثوراً وحشيا، في عَماء المكان، في يده يلمع السكين، أو نصل خنجر يلمع في مختلف الجهات، لا أكاد أتبيّن على نحو واضح؛ أكان سكيناً أم خنجراً، أم ساطور جزار؟
كانت آلة قتل حادّة ومضيئة تتدلىّ من يده الهائجة بالشكيمة والغضب..
متعثراً بين البرك الآسنة والأوراق الجافّة، باحثاً عن طريدته في منحدرات النوم واليقظة.
ليست هناك أهداف أو هدف واضح للقاتل ولا لجريمة المقتول، والذنب الذي ارتكبه جرّاء ذلك. شبحٌ يطارد آخر وسط ذلك الديكور الهشّ الذي خلّفه الصيف لخريف سريع يلمع بين أشجاره نصلٌ أكثر سرعة في مضائه وشدّته التي تخطف البصر وتجعل البدن يرتجف صريعاً قبل أن يصل إليه.. ربما ورثه القاتل عن أبيه، عن جدّه، فصار إرث العائلة التي ربما، ينوي القاتل أن يصفي ضحيّته بإسم مجدها وشرفها المهدور بين القبائل والشعوب. وربما أن القاتل لا يملك مثل هذا الدافع الجماعي لنواياه العدائيّة، فكان دافعه مطلق شخص للقتل. ولا يدعي أي شيء خارج هذا النزوع المحتدم داخله، كأن يلصقه بصوت الجماعة المهدورة كرامتها، فيكون معبّراً عن هدف يخرجه من الحيّز الشخصي إلى الجماعي وربما القومي والإنساني العام، الذي لو قُدرت له الدعاية والنشيد، لدخل حيّز، التقديس والخلود..
في يده الخنجر اللامع، بلطة الجزّار الذي يحصد مئات الرؤوس يوميّاً، من غير أن يرفّ له جفنُ رأفةٍ بل بلذة شبقيّة عارمة..
قبل أن تنزل بلطة الجزّار على الرأس الغارق في مياه النوم وأوراق الخريف، كانت صرخة تنفجر لتطفو فوق المياه التي يسبح على موجها جسده المثقل بالهواجس والذكريات.
سيـــف الرحــبي