فاضل العزاوي
لكل نص إبداعي قصته التي لا يعرفها سوى الكاتب نفسه. فحين نقرأ كتابا ما نفكر عادة فيما يقوله الكاتب لنا وليس فيما جعله يقول ما قاله لنا. حين وضع الكاتب النمساوي الكبير ستيفان زفايج كتابه المدهش عن رحلة ماجلان كتب يقول إن ما جعله يكتب كتابه ذاك هو شعوره بالخجل. فقد سافر من أوروبا الى القارة الأميركية في سفينة توفرت فيها كل أسباب الراحة من سكن وطعام وشراب وخدمة ومع ذلك شعر بالتعب والإرهاق والخوف والملل في رحلته التي استغرقت أسبوعين فقط عبر المحيط الأطلسي، مما جعله يشعر بالخجل من نفسه وهو يقرأ تفاصيل رحلة ماجلان التي استمرت شهورا عدة بدون خرائط او دليل في متاهات لا متناهية من المياه، في سفينة بدائية، معانيا هو ورفاقه البحارة الجوع والعطش والأوبئة. ولكن إذا كان الخجل هو ما جعل زفايغ يكتب عن ماجلان، فإن ثمة كتابا يكتبون عن حب او حنين، او كراهية او تصفية حساب … الخ.
هذه المشاعر تتعلق دائما بالسؤال الذي يوجه الى كل كاتب يؤلف كتابا: لماذا كتبت هذا الكتاب؟ ما الذي تريد أن تقوله فيه؟ غالبا ما يطلب الناشرون من الكاتب أن يقول شيئا عن معنى كتابه الذي يقدمه للنشر وعما يجعله يستحق النشر. وبالطبع لن يكفي أن يقول الكاتب إن كتابه يدور حول الاحتلال الأمريكي للعراق او جرائم داعش او الحرب في سوريا، فالصحف ووسائل الإعلام الأخرى تنشر كل يوم قصصا واقعية مرعبة تكاد تجعلنا نعيش كل شيء كطرف في القصة. الحروب نفسها تدور أمام عيوننا في التلفزيون مثلما نموت مع الضحايا. كل هذا جعل الكتابة الأدبية تصبح أكثر صعوبة وتعقيدا، فثمة خطر دائما أن تفقد مثل هذه الكتابة التي تقوم على وصفة ما الحدود التي تفصلها عن الاستهلاك الصحفي. يروي الكاتب الكولومبي ماركيز في مذكراته أن إحدى دور النشر المولعة بالحصول على الجوائز كانت تدرس الوضع العام في البلد كل عام وعلى ضوء ذلك تختار الموضوع الأهم الذي يمكن أن يستقطب اهتمام القراء ولجان تحكيم الجوائز. فإذا كان الموضوع يخص حرب العصابات مثلا كلفت كاتبا روائيا معينا تعتقد أنه قادر على كتابته بطريقة جيدة وإذا ما كان يخص لعبة كرة القدم أسندته الى كاتب روائي آخر. هذا المرض انتقل الآن الى الرواية العربية، ليس عن طريق دور النشر، وانما الكتاب أنفسهم. فقد راح بعضهم يتصيد أي موضوع يمكن أن يستدر به اهتمام محكمي الجوائز وربما شفقتهم أيضا. وهكذا صارت تصدر كل عام عشرات الروايات التي لا تصلح حتى أن تكون ريبورتاجات صحفية جيدة.
*
كيف يختار الكاتب موضوعه إذن، إن لم يختره من الصحف والمجلات والتلفزيون والفيسبوك؟ ما من قانون يمنع الكاتب من استغلال أي مادة تصادفه، سوى انه محكوم دائما بشرط لا يمكن تجاوزه هو أن يحوله الى أدب حقيقي. كلنا، سواء أكنا كتابا أم لا، نملك قصصا لا عد لها. كل يوم نسمع في البيت قصصا عن الجيران وفي المقهى يروي لنا الأصدقاء قصصا من كل لون. لقد انتبهت في فترة مبكرة من حياتي إلى أن كل العلاقات البشرية منذ البداية وحتى الآن تقوم على قصص. كل معركة او حرب هي قصة او مجموعة قصص يتقرر على ضوئها النصر او الهزيمة. وهل يمكن لنا أن نتحدث عن حب ما بدون قصة ما بين فتى وفتاة؟ والأكثر من ذلك أن كلمات اللغة نفسها تضمر تاريخا طويلا من القصص. فما نكاد ننطق بكلمة «الشيطان» مثلا حتى تخترق رؤوسنا قصته المعروفة التي توردها الكتب المقدسة، وهو بذلك يختلف عن «الملاك» الذي يمتلك هو الآخر قصته الخاصة به. ولذلك سيكون من السذاجة أن يتعامل الكاتب مع كل هذه المادة المبذولة أمامه بدون وعي الشرط الذي يحولها الى أدب. لا يكفي أن تكون مع او ضد أمر ما، فهذا موقف عام يمارسه الجميع، وانما أن تكون مبتكرا، أن ترى ما يقع خلف الواقع نفسه، لتجعلنا أكثر معرفة به. ثمة قاعدة ذهبية يعرفها كل كاتب حقيقي: الاعتراف بالحقيقة، بدل مسايرة العواطف الساذجة. ليس هذا بالتأكيد وصفة للإبداع الذي يتطلب دائما تلك الشرارة التي تقدح في الروح والتي يدعونها الموهبة، تلك القوة التي تتنزل علينا كوحي من علياء خفية فينا، يحول ما هو يومي وعابر الى مطلق قد يحتفظ بوهجه طويلا.
حسنا، كيف أختار ما أكتب عنه؟ شخصيا، أتابع بدأب كل ما يحدث في العالم: الصراعات السياسية والتحولات الاجتماعية بالتأكيد، ولكن أيضا التطورات الكبرى في العلوم والفلسفة والفنون. ولكون عملي مرتبطا بالأدب أجهد ألا يفوتني شيء منه. والأدب في نظري لا يقتصر على الأدب العربي وحده وانما على الأدب في العالم كله. وفي الوقت ذاته يسحرني تراث الماضي الأدبي في الثقافات كلها. إنني أستمد مادتي من الواقع الذي يتسع عندي ليشمل الكون كله، ويتسع أكثر ليشمل كل ما أفكر به أيضا، متحدا بالخيال في مزيج سحري يشكل رؤياي الى العالم. ولتعيين المكان الذي أقف عليه تعلمت من كاتب مثل سيرفانتس في عمله المدهش «دونكيخوته» ومن دانيال ديفو الذي يعتبره بعض النقاد كاتب أول رواية إنكليزية في عمله الساحر «روبنسون كروزو» ـ (1719) الصعود عاليا او الهبوط عميقا للإمساك باللحظة التاريخية، تلك الإشراقة الأصعب في عملية الكتابة كلها. لقد أفلح سرفانتس في أن يصور لنا أجمل غروب شهده العالم: نهاية القرون الوسطى وفرسانها المضحكين الذين يقاتلون طواحين الهواء، معتقدين أنهم يغيرون بذلك العالم. أما دانيال ديفو فقد كشف لنا روح العصور الجديدة القادمة: الفردية المرتبطة بالبورجوازية وسلطانها الاستعماري. يبني روبنسون كروزو كل شيء بيديه وحين ينقذ خادمه فرايدي (جمعة) من الموت على يد الهمجيين الذين كانوا ينوون التهامه يمتلك كل الحق في السيادة بالطبع. ثم مر ما يقرب من قرنين قبل أن يأتي جيمس جويس ليكشف لنا في عمله المدهش «يولسيس» ضآلة البورجوازي وتفاهته. في الحقيقة تتسع اللحظة التاريخية لتشمل كل تحول او تغيير جوهري في المجتمع او الحياة البشرية. إن ما يهمنا في الأمر كله هو التأثير الذي يتركه الزمن في تدفقه على مصائر الأفراد والمجتمعات، ليس كتاريخ، فنحن لسنا مورخين، وانما كحياة ضاجة بالتناقضات وقبل ذلك كمغامرة في المجهول، كبحث عن شيء ما، كحساسية جديدة. هكذا كان الأدب الحقيقي دائما. ملحمة «كلكامش» وبعدها «الاوديسه» لهوميروس وضعتا الأساس لكل ما يأتي تاليا، إذ كل رواية كتبت حتى الآن هي في الحقيقة تنويع عليهما.
*
بدأت حياتي الأدبية شاعرا، لكنني كنت أجد الكثير من المتعة في النثر أيضا. لقد سحرني منذ طفولتي كتاب «ألف ليلة وليلة» رغم الأشعار الركيكة المحشوة بين طياته، وأخذت بـ»الكوميديا الإلهية» لدانتي و»هكذا تكلم زرادشت» لنيتشه وروايات دستويفسكي وهمنغواي وإرسكين كالدويل وإكزوبري. كان من السهل عليّ كتابة القصيدة. لم يكن الأمر يتطلب الكثير من التخطيط. يكفي أن تكتب جملة حتى تعقبها أخرى والموضوع نفسه يفرض وحدته.
كان العمل الأول الذي نشرته في العام 1969 هو «مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة»، عمل يمكن اعتباره رواية وشعرا في آن. في أواسط الستينات كنت أرى، أنا الخارج لتوي من السجن والغاضب على العالم كله، أن عليّ أن أحرر نفسي من كل الأغلال المقدسة. منطلقا من فكرة سارتر أن الآخرين هم الجحيم مسخت جميع سكان مدينة بغداد الى تماثيل حجر ورحت أتنزه في عالم لا يوجد فيه أحد سواي، موحدا الأزمان كلها في بؤرة واحدة يعكسها نص يوحد الأجناس الأدبية في نص واحد هو رواية وقصيدة وقصة قصيرة ومقالة وخيال علمي ورؤيا فلسفية. نص جديد يبتكر شكله الخاص به، متضمنا ظلالا من سيرتي الذاتية وتجربتي الحياتية. ولأن مثل هذا العمل لا ينتهي أبدا أعدت كتابته ثانية ونشرته في العام 1980 في بيروت بعنوان «الديناصور الأخير» ثم اشتغلت في الأعوام العشرة الأخيرة هنا في برلين على صياغة ثالثة له باللغة الانكليزية (سوف يصدر في العام القادم في لندن).
أما روايتا «القلعة الخامسة» ـ 1972 (ترجمت الى الانجليزية والتركية) و»مدينة من رماد» ـ 1976 (ترجمت الى اللغة الانكليزية بعنوان «المسافر وصاحب الخان») فترتبطان بتجربتي الشخصية التي مررت بها في المعتقلات. رواية «آخر الملائكة» ـ 1992 (ترجمت الى الانجليزية والألمانية والأندونيسية وتترجم الآن الى العبرية) فقد فكرت بها أكثر من عشرين عاما. حاولت أن أكتبها وأنا في العراق ففشلت. كنت أريد أن أكتب قصة تعكس روح الشرق كله. ثم اهتديت الى أن ما جعلني أفشل في كتابتها هو ما كان ينقص تجربتي: رؤيا المنفى. فلكي أرى الكون في ذرة رمل، كما يقول وليم بليك في إحدى قصائده حولت جقور، وهي محلة في كركوك الى مركز للعالم كله. إنها العمل الوحيد الذي كان يجعلني أصاب بالحمى عند كتابة أي مقطع منه، فألجأ الى الفراش وأنا أكاد أموت عاطفة. رواية «كوميديا الأشباح او في الطريق الى الجنة» استعادة عصرية لأسطورة الخليقة، زاخرة بالشعر. ورغم أنها لم تلق حتى الآن التقدير النقدي اللائق بها فإنها تعكس في نظري ربما أكثر من أي عمل آخر لي ما يمكن للغة أن تفعله بالنص. وبعد ذلك جاءت روايتي الكبيرة «الأسلاف» التي حاولت فيها أن أقدم منظورا جديدا الى الطريقة التي تكتب بها الرواية، فهي رواية داخل رواية وجديدة في موضوعها وطريقة بنائها.
*
ثمة فارق، سواء في الشعر او الرواية او القصة، في أن تكون مسجل وقائع او مكتشفا ورائيا ومبتكرا. لا معنى لكتابة تغرد بما يقوله الجميع ولا قيمة لرواية تسترضينا وتكذب علينا، بدل أن تصدمنا برعودها وبروقها بما يجعلنا أكثر وعيا بأنفسنا. فلكي يكون الكاتب قادرا على كتابة نص جديد بالفعل عليه هو نفسه أن يكون جديدا في حياته ورؤياه وطريقة تعامله مع العالم. اختيار الموضوع هو الأصعب دائما، فأنا لا أكرر أحدا، والأكثر من ذلك انني لا أريد أن أكرر نفسي أيضا. تكمن الصعوبة دائما في الطريقة التي تكتب بها موضوعك، إذ لكل موضوع طريقة كتابته الخاصة به. ورغم أهمية الخبرة والتجربة فإنني أشعر في كل مرة أكتب فيها قصيدة او رواية أن عليّ أن أكتشف الكتابة من جديد. وهنا أريد أن أشير الى بورخس الذي هدم الحدود القائمة بين القصة القصيرة والمقالة وماركيز الذي قدم لنا مفهوما سحريا جديدا للواقع وجيمس جويس الذي قلب كل مفاهيمنا عن الأدب. ثمة دائما ألف طريق وطريق تنفتح أمامي وعليّ أن أسلك واحدة منها، بدون خوف من أن أضل الطريق. في الأغلب أظل أشتغل على النص طويلا. كان همنغواي يعيد كتابة نصوصه عشرين مرة أو أكثر. أعتقد أنني لا أقل عنه دأبا في ذلك. كان عملي في الصحافة تدريبا مفيدا لي على كتابة تذهب مباشرة الى المطبعة. ولكن يصعب فعل ذلك مع العمل الأدبي.
في فترتي العراقية كنت أكتب بقلم حبر لا أفرط به أبدا، حالماً أن تكون لي طابعة، سوى أن الحصول عليها كان يتطلب موافقة الأمن، وهو ما كنت أتجنبه بالطبع. ولذلك كان أول ما فعلته عند وصولي الى المانيا هو الحصول على أكثر من طابعة. لكنني لم أفلح في استخدامها كثيرا بعكس سالمة التي تولت طباعة معظم أعمالي. ولم أهجر الكتابة بقلمي القديم الا مع انتقالي الى الكتابة بالكومبيوتر في مطلع التسعينات من القرن الماضي. قد يبدو مثل هذا الأمر عاديا وسهلا، لكنه ليس كذلك في الحقيقة. فالشاعر الألماني انتزنسبيرغر ما زال يرفض التخلي عن طابعته القديمة وكذلك كان الأمر مع غونتر غراس. أما صديقي الروائي الكبير توماس لير فيكتب نصه أولا بقلم الحبر ثم ينقله الى الكومبيوتر.
وبالطبع، ثمة أوقات وعادات مفضلة للكتابة عند الكتاب. كان نيتشه يكتب أعماله في الصباح الباكر ويرفض تبديد وقته وذهنه بقراءة أي كتاب قبل ذلك. أما همنغواي فكان يعمل مبكرا جدا في الفجر، حيث يكتب واقفا أمام لوح معد للكتابة، متجنبا الجلوس بسبب وجع الظهر الذي كان يعاني منه. وكان أفضل مكان لأجاثا كريستي تكتب فيه رواياتها البوليسية هو البانيو الذي تقضي فيه العديد من الساعات. والأغرب من ذلك أن بربارة كارتلند وهي كاتبة بريطانية نشرت 724 رواية في حياتها وباعت مليار نسخة منها كانت تدخل في الفراش وتملي قصتها، وهي دائما عن الحب، على سكرتيرتها، مؤلفة رواية جديدة كل أسبوعين. وبالمناسبة، كان العقيد معمر القذافي أحد قرائها المعجبين بها. أما أنا فقد اعتدت الكتابة حتى حين أكون وسط الآخرين. في معتقل خلف السدة في 1963 قرأت على الشاعر بلند الحيدري قصيدتي «المجوس في الصحراء» فاستغرب من قدرتي على الكتابة في مثل ذلك الجو الكافكاوي. ومع ذلك يظل الوقت الأفضل عندي للكتابة هو الليل الذي كثيرا ما أسهره حتى مطلع الشمس. مع الزمن تعلمت أن أكون كاتبا 24 ساعة في اليوم. ومهما بدا ذلك غريبا فإن ثمة قصائد لي ألفتها بالفعل في نومي. حاولت الكتابة بالمسجل أيضا. فلكي أصل الى حالة التداعي الحر للكلمات والأفكار لجأت عند وضع بعض مقاطع «المخلوقات» إلى التسجيل الصوتي، وهي محاولة لم أكررها سوى مرة واحدة في العام 1971 حين قررنا، الشاعران جليل حيدر وصلاح فائق وأنا، أن نؤلف نصا من ثلاثة أصوات عبر نزهة في شوارع بغداد. لكن المحاولة انتهت بعد أن عبرنا جسر الجمهورية الى جانب الكرخ، حين أحاط بنا رجال الأمن والشرطة من كل جانب، معتقدين أننا جواسيس نتصل بالخارج.
*
مبحرا في أنأى المحيطات أقول:
كولومبوس لم يكتشف سوى أميركا، أما أنت فأمامك العالم كله لتكتشفه!
اكتشف قصتك التي لم تخطر ببال أحد من قبل!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نص سوف ينشر في كتاب تعده دار شهريار في البصرة عن طرق الكتاب في كتابة نصوصهم