نزار سالم*
الزمن اسم لقليل الوقت أو كثيره، ووقت الشيء هو الفعل المحدد المرتبط بذلك الزمان وفقاً لمعاجم اللغة العربية. فهل الزمن موجود لنعيشه أم مفقود لنبحث عنه ونستعيده؟! سؤال خطر ببالي، عندما قررت المغامرة بقراءة رواية تتألف من سبعة أجزاء (النسخة العربية). لا أظن بأن مارسيل بروست عندما كتب روايته في 13 عاماً كان معنياً بالإجابة عن سؤالي أو غيره من الأسئلة التي سوف تخطر ببال قراء سِفره المحتملين. إن الزمان الذي يتحدث عنه بروست في روايته ذائعة الصيت “البحث عن الزمن المفقود” والتي ترجمت إلى العربية في سبعة أجزاء عن دار شرقيات للنشر والتوزيع عام 1995م، بترجمة إلياس بديوي (من الجزء الأول إلى الخامس) والدكتور جمال شحيد (الجزآن السادس والسابع)، عبارة عن رحلة سائلة في الزمن الخارجي وما تعلق منه مع لزوجة الزمن الداخلي المتواشج مع كينونة الوجود للكاتب ومن حوله من بشر وحكايات وموسيقى وفن وأحداث منذ يفاعته حتى كبره وشيخوخته. يقول مالكولم بوي: ” الكتاب كله قصة بحث روحي ناجح مر الراوي فيه عبر العالم الساقط، المليء بالكذب والخداع، والمظاهر الاجتماعية والرغبات الجسدية القلقة، من المحن الروحية التي يواجهها عادة الساعون وراء الحكمة والفضيلة”(1).
قراءة “البحث عن الزمن المفقود” رحلة ذائبة في زمن متداخل مع أضداده من الأزمنة، زمن رجل مستفيق أو نائم مغموس في زمن أناس مستيقظين، وزمن حالم مشرع في عالم مجهول يتدفق في إغفاءات النوم ليخلق أكثر من زمن. زمن يهبنا حيوات أخرى منبثقة من تلك الصور المتخيلة والمفترضة لزمن تتعدى حدوده كل الأزمنة. الرواية أشبه بقالب حلوى متعدد الطبقات ربما بلغ الألف أو أكثر، لكن رغم كل هذا العلو والتسامق والتعدد ظلت مكونات هذا الجاتوه متجانسة في الطعم واللون والرائحة. تجانس جعل الكل المنفصل يعبر عن نظرة واحدة ذات أبعاد متعددة ومتداخلة ومتباينة ومتوافقة مع روح الكائن البشري. زمن فنتازي مغمور في زمن متجاوز ومتجاور وغائص في كينونة وزمان الوجود. الرواية اندياح عذب، لصور الحياة، يجعل قارئ النص في كثير من مقاطعها يشعر وكأن مسام جسده تتفتح من تلقاء نفسها بوجيب نوراني يغدو فيه كل شيء روحاً خالصة تحلق بعيداً في القيمة الإنسانية للزمن. قيمة ليست في خلاصتها إلا زمن يعيشه بشر تواشجوا من خلال علاقاتهم مع طبيعة حضورهم الإنساني في الوجود. أليست البُرهات العابرة والمليئة بالأحداث المكثفة والبسيطة زمنًا متداعيًا لعمر الإنسان من الميلاد حتى الشيخوخة!!
ارتكز بروست في رحلته الشائقة والشفافة مع الزمن البشري المفقود والمستعاد (الخاص/العام) في آن على الذاكرة أو فعل التذكر بحيث جعل الاستعادة للأحداث والأفعال واللحظات الحميمية الخاصة مادة ذائبة تنبثق من فعل بسيط يقوم به المرء في يومه، كشرب كوب من الشاي أو تناول حلوى حيث يأخذه الطعم أو الرائحة إلى تلك اللحظات الغائمة والمتوارية في طيات النسيان الغائرة داخل النفس. فبحسب بروست فإن الذاكرة ليست مستودعاً للذكريات فحسب، إنها طاقة الديمومة والتغير المتدفق إلى اللانهائي داخلنا لتهبنا صورة متجددة للحياة والأحداث لزمن آخر عشناه منذ فترة. لذلك فإن الأديب لا يستغني عن هذه الطاقة العجائبية وهو يبني حركة شخوصه وتوجههم على صفحات العمل الأدبي الذي يحاول إبداعه. يقول أندريه موروا في مقدمته للرواية متماهياً مع ما ذهب إليه بروست: “إن كامل حياة الكائنات البشرية نضال ضد الزمن، فهي تبغي التعلق بحب، صداقة، بقناعات، ولكن نسيان الأعماق يرتفع شيئاً فشيئاً حول أجمل ذكرياتهم وأغلاها” (2).
متلازمة الزمن العام والخاص
يؤمن الروائي بأن الفن بعموم والأدب بخصوص يمتلك طاقة وقدرة وافرة على استعادة الزمن بصورة مغايرة للحظة الحدوث وذلك من خلال مقاربة جوانية فائقة الحساسية لذلك الحدث، وبالتالي يتمكن الأديب أو الفنان من استعادته أو بعث تلك اللحظة الإنسانية على صفحات عمله الروائي أو لوحته الفنية أو مقطوعته الموسيقية بصورة أكثر مفارقة وغنى. لذلك خلال الثلاثة عشر عاماً التي قضاها مارسيل بروست في كتابة مطولته المقدرة بعشرة آلاف صفحة(3) أنجز عملاً روائياً فذاً، حافظ فيه على المسار الروائي عبر الأزمنة والأمكنة التي اختارها مسرحاً لأحداث روايته ومداراً لحركة شخوصه بدءاً من قرية كومبريه وانتهاء بمدينة باريس بعد الحرب العالمية الأولى. مسار رغم امتداد زمن الرواية فيه إلا أن الكاتب استطاع الحفاظ على تطور حركة شخوصه وتشابك الأحداث بدينامية تسكنها روح تلك الأماكن رغم تجاوز عدد شخوص الرواية المائتين، وغطى فيها الكاتب فترة حياتهم الممتدة من اليفاعة حتى الشيخوخة والموت. استطاع خلالها عبر ذلك التدفق في أوردة الزمن الحقيقي والمجازي أن يعبر عن القضايا التي كان يود طرحها في الفن والموسيقى والسياسة والحرب والتاريخ والثقافة والشأن العام خاصة ما تقاطع منها مع طبيعة الشخصية الفرنسية والشخصيتين الألمانية والإنجليزية.
برع الروائي كذلك في وصف الأمكنة وما تضفيه وتمنحه لشخوص روايته من معان وقيم وبهجة من خلال رصد الزمن الممتد بين فضاء المكان والنفس وذلك من خلال تتبع التفاعل والفعل مع الطبيعة البكر الصامتة (الجبال/ الوهاد المعشوشبة) في كومبريه والمتحركة (غابة بولونيا/ ممرات الشانزليزيه) في باريس والاستلقاء على الشواطئ اللازوردية الضاجة بالحلم والمفعمة بروح الغرابة المنتشية بالمجهول في بيلبك. حيث البِشر الذي يولد قدرة خاصة على الإحساس بالوجود الخاص الممتد مع لحظة التكرار والتفرد التي تجعل لحظة الحضور في المكان قيمة لامتناهية في التأثير والتأثر على طبيعة الروح مع الممتد من برهة الزمن المعيش. كما يطل علينا الفعل الإنساني المتعدد والمتداخل والمختلف في عمق التشبث بالإيدلوجيا التي تعيد تشكيل حياة البشر في زمن الأحداث والقضايا المصيرية العامة، عندما تنتهك بعض الأحداث داخلنا وتزلزله بغير رجعة. يتوقف بروست عند حدثين تاريخيين ملهمين، “مسألة دريفوس” والتي لا يكف عن التذكير بها طوال الأجزاء السبعة من الرواية، رغم أنه أفرد لها أكثر من ربع الجزء الثالث (جانب من منازل غيرمانت) من خلال النقاشات التي دارات بصالون آل غيرمانت، و”الحرب العالمية الثانية” التي حاول من خلالها توضيح مدى تأثير الشخصية الألمانية على الثقافة الفرنسية، وقد غيب الموت بعد الحرب الكثير من شخصيات الرواية ” الزمن المستعاد”.
وعندما نأتي إلى التداخل الزمني بين العام (الرواية/الموسيقى/الفن) والخاص (السيرة الذاتية) فإننا نجد بأن الروائي (الراوي) قد قام بخلق مزيج لطيف بين حياته الخاصة وحياة من جايله من كتاب وما شاهده خلال زياراته للمتاحف والقصور، وما قرأه من كتب الفنانين والنقاد. ففانتوي في الرواية ليس إلا صورة مفترضة لفاجنر، الموسيقار والأوبرالي الألماني الشهير الذي أحبه بروست، أو كما ذكر جان إيف تادييه بمقدمة الجزء الأول، ص71: “إن “فانتوي”، كحال “بيرغوت” ليس إلا شخصية رمزية لبروست”. كذلك نجد شخصية الشاعر والناقد الفني راسكين مبثوثة على طوال صفحات الرواية. كان بروست شغوفاً بشعر راسكين وكتبه حيث قام بترجمة العديد منها إلى الفرنسية مثل كتاب “سمسم والزنابق” الذي يدور حول القراءة. من جهة أخرى كان الراوي يحول الموقف الخاص الذي يعيشه إلى حالة عامة محاولاً تمثلها بصورة درامية في العلاقات بعالم الفن والفلسفة. فقد فسر قصور نيتشه في التمييز بين علاقات الصداقة الخاصة القائمة على المشاعر الصرفة، وتلك المبنية على الثقافة في إطار شرحه للخلاف الذي جمعه بفاغنر بالجزء الثالث، ص 271: “ومفاده أنها أمر زهيد إلى حد أنه يعسر علي إدراك أن يكون رجال على شيء من النبوغ من أمثال “نيتشه” قد بلغوا من السذاجة أن يخصوها بقيمة فكرية أن يمتنعوا بالتالي عن صداقات لا صلة لها بالتقدير الفكري” عندما زاره صديقة روبير دو سان لو في وقت لم يتوقعه وكان أحوج ما يكون إلى أحد يمد له يد العون لكي يواسيه فيما ألم به. كذلك أدخل العديد من شخصيات “بلزاك” وحاول تطويرها في نسيج العمل الفني، ولم ينتقد ميل “بلزاك” إلى اللوحات والرسم من خلال تصور فنٍ داخل شكل فن آخر (5). كما يقول جان إيف تادييه في مقدمة الجزء الأول، ص35. ” إن البحث عن الزمن المفقود ينافس بدوره الرسم ويقدما لنا لوحاته الكلامية الخاصة وحتى رسامه الخاص “ايليستر”.
انسيابية الزمن في الرواية
عند المضي قدماً بالقراءة، يجد المرء أن الرواية رحلة في زمن الإنسان الواحد والمتعدد، حيث ركز الكاتب نظرته إلى العالم عبر تفتيت زمن الفرد الخاص داخل زمن الجماعة أو العصبة التي ينتمي إليها حتى اكتملت القطع شيئاً فشيئاً لتعبر عن الكينونة الإنسانية في صورتها المعقدة. إنه زمن يتداخل فيه البشر مع البشر والأمكنة مع الأمكنة والطبيعة والحالة الشعرية الحالمة الناتجة عن التداعي المجازي للزمن مع الفن والدين والبشر، فتصبح الأزمنة المتداخلة لكل كائن زمناً خاصاً مرتبطاً بعلائق أبدية مع الأزمنة الكلية لكائنات الوجود في حقيقتها أو مجازها. استعمل الروائي المقطوعات الموسيقية بالنص لتعبر عن ذلك الهارموني الخاص بين تلك الحيوات المتدفقة قلقاً ورغبة وجنونا، وقد تجسد ذلك عبر السوناتات الموسيقية التي كانت تقدم بالصالونات والعروض الأوبرالية التي كان يحضرها الراوي وشخوص الرواية. فنجد فنانين بعينهم مثل فاجنر، ولوحات لرامبرانت والشعر لراسكين وهوجو، وتحليل لروايات بلزاك وديستوفيسكي وفلوبير وغيرهم.
أما زمن الدين فإنك تجده مبثوثاً في أجزاء الرواية من خلال ما تمثله الكنائس (العمارة/ اللوحات الفنية) والقسس وعلاقتها بالأحداث والفن وما انعكس منه على الفعل الإنساني الممتزج والمستمد من الموقف الديني تجاه قضايا الإنسان. قطع متناثرة بثت في جسد الرواية من خلال الآراء والمواقف التي يتبناها شخوصها الذين يمثلون الطبقة الأرستقراطية وذلك عبر معانٍ ومضامين متناثرة في تلك الأرجاء المنبسطة من أديم الزمن الممتد داخل النفس البشرية بكل تناقضها واضطرابها. أما عند الحديث عن زمن النوم فإن الروائي يتحدث عن زمن آخر مختلف عن زمن اليقظة. زمن به أكثر من زمن متداخل يختلف تبعاً للهيئة التي نلج بها النوم، سواء بسبب الحالة النفسية أو الإرهاق أو الشبع أو السكر أو سواهما مما يحدث للمرء قبل النوم. ولقد عبر بروست عن ذلك صراحة عندما قال بالجزء الرابع ص251 و252: ” والوقت الذي ينقضي بالنسبة للنائم في أثناء الإغفاءات مختلف تمام الاختلاف عن الوقت الذي تجري فيه حياة الإنسان اليقظان. فتارة يكون جريانه أكثر سرعة فيبدو ربع ساعة نهاراً، وأحياناً أكثر طولاً فنظن أننا لم نصب إلا إغفاءة هينة في حين أننا نمنا اليوم بكامله. حينئذ تنحدر عربة النوم إلى أعماق لا يستطيع التذكر من بعد اللحاق بها فيما أطر العقل أن يعود أدراجه قبل أن يبلغها. إن عربة النوم، مثلها مثل عربة الشمس، تذهب بخطو متساوً، وفي جو لا يمكن لأية مقاومة فيه أن توقفها من بعد إلى حد أنه لا بد من حصاة نيزكية صغيرة غريبة عنا (ألقى بها أي مجهول من قبة زرقاء) لتصيب النوم المنتظم (الذي ما كان ثمة داع لتوقفه لولا ذلك وربما ما دام بحركة متشابهة إلى أبد الأبدين) وترده في انعطافه إلى الواقع وتجعله يحرق المراحل ويجتاز المناطق المجاورة للحياة “.
الحب والفن
زمن الحب هو إحدى الثيمات الرئيسية بالرواية، زمن متدفق عبر أوردة النص فهو يطالعك من أولى صفحات الرواية حتى آخرها. هو أشبه بنهر الرواية المتلاطم ضفافه بالعلائق الإنسانية التي قام الكاتب (الراوي) بنسجها بين أكثر من 200 شخصية. إنه شعلة عابرة لكل أزمنة الجغرافيا والتاريخ ونور متعالٍ يجعل الزمن اللامرئي عمراً متحققاً داخل النفس بواسطة برهة تنظم في طياتها كل الأزمنة المتعالقة مع وجود الإنسان في بوتقة الفعل المتعدد. إنه زمن الأزمنة الممتدة علائقه بين لحظة الزمن المعيشة والأخرى المفقودة المتأرجحة بين المدرك وسديم اللامدرك من الزمن المندثر والحاضر من هذه الحياة كما يعتقد الكاتب. حيث الوجود الذي نحن متفاعلون ومنفعلون مع ماهيته جزء منا، لذلك ليس بنا حاجة إلى البحث عما هو موجود فينا بالضرورة. فالإنسان في بحثه عن حقيقته (الحب/ الجمال) لا يسأل إلا عن ذلك الجزء من طبيعة ذاته الذي يجعله متمسكاً بالوجود حتى آخر رمق في هذه الحياة.
لقد توسع الكاتب في الحديث عن زمن الحب واستطرد في الحديث عن علاقاته النسائية (الراوي). تحدث عن طبيعة تلكم العلاقات، وكيف اشتبكت ونمت عبر الأماكن والأحداث والذكريات وأصبح تأثيرها على مسار حياة شخوص الرواية ومزاجهم عبوراً كاملاً لهذا الوجود. تحدث عن إلبرتين الطفلة الصغيرة التي تعرف عليها (الراوي) في كومبريه وتذوق معنى اللطافة والعاطفة التي يبثها الاقتراب الضاج برائحة الجسد الطفولي (جانب من منازل غيرمانت) ثم كيف أضحى هذا الحب في باريس كل حياته، جمال وجنون ووجع وغيرة نهبت روحه في نهاية المطاف وأسلمته إلى حالة من غياب الحب الناتجة من شدة التعلق والوله بتلك المرأة. لقد استفاض الراوي في ذكر علاقته بهذه المرأة بأكثر أجزاء الرواية (سادوم وعامورة – السجينة -الشاردة). أما جلبرت، التي توقف عن حبها باكراً، فقد أحبها زمن عبث الرفقة على شاطىء بيلبك، حيث البحر والأشجار والممرات والشاطئ الممتلئ بالمصطافين. لقد كانت وروحه تتنقل بين صويحبات الصيف الصغيرات وهن يتنفسن بضجيج الفرح الممتلئ بالحياة (في ظلال ربيع الفتيات).
أما العلاقة مع السيدة غرمانت التي بدأت بشاراتها الأولى في كومبريه بالجانب الآخر من محل سكناه (الراوي) فقد تعمقت في باريس من خلال صالونها الشهير. لكن العلاقة التي بدأت بهوس انتهت بصورة عابرة بسبب الضجر اللامبالي لنزوة شاب يريد أن يعرف الحياة. أما العلاقة مع السيدة دو ستير ماريا، والتي نشأت بعد انتهاء علاقته مع السيدة غرمانت فهي ردة فعل لهذا الفشل. حاول الكاتب (الروائي) في سياق حديثه عن هذه العلاقات أن يستقصي ما أثارته داخل نفسه من رغبة أو خوف أو جنون. كل علاقة كانت رحلة محفوفة بأمل وضياع حاول من خلاله مقاربة تخوم النفس البشرية المثقلة بالشوق والرغبة والحنين. لكن “إلبرتين” تبقى الشخصية الرئيسية التي تضج بها جنبات الرواية منذ الجزء الثاني وحتى آخر الكتاب، وكما يقول الناقد جان إيف تادييه في مقدمته العامة للرواية ” إن إلبرتين في جميع الأحوال هي إلهة الزمان الكبرى عند بروست، وهي أداة معرفة عامة وما يعادل الجليس بالنسبة للرسام” (4).
هنالك أيضا الحب الأمومي أو العائلي، حب الأم والجدة، والذي يبدأ به الكاتب مطلع روايته بوصف ما يحدث له عندما لا يحصل على قبلة ما قبل النوم من أمه. لكن العلاقة بالأم ظلت تحمل بين طياتها الكثير من الالتباس والظلال الزائفة والمضببة التي حاول الكاتب أن يستوضحها طوال أجزاء الرواية. أما العلاقة بالجدة فهي منذ البدء وجدت مكتملة وناضجة إذ تمثل ذلك الدفق الأمومي الذي يستمد الروائي (الراوي) من رحيقه دفء وعبق الحب اللامشروط. لذلك فإن لحظة موت جدته وما سبقها من تداعيات نفسية كانت أوج تجلي الفعل الإنساني المغدق في شفافيته وحزنه. لقد أبدع الكاتب في وصف تلك اللحظة وما قبلها وهو يقول بالجزء الثالث، ص ٢١٦: ” نحن نقول إن ساعة الموت غير أكيدة، ولكننا حين نقول ذلك إنما نتمثل هذه الساعة وكأنها واقعة في مكان مبهم بعيد ولا نظن أن لها علاقة بالنهار الذي بدأ ويمكن أن تعني أن الموت – أو امتلاكه الأول الجزئي لنا والذي لن يتركنا بعده – يمكن أن يحدث في هذا العصر نفسه، وما أقل إيهامه، هذا العصر الذي نظم فيه سلفا استخدام الساعات جميعها. أنت تحرص على نزهتك ليتوافر لك في الشهر مجموع الهواء النقي اللازم، وقد ترددت في اختيار معطف تحمله معك والحوذي الذي ينبغي استدعاؤه، وإنك في العربة والنهار أمامك كله قصير المدى لأنك تبغي أن تكون عدت في الوقت المناسب لاستقبال إحدى الصديقات، وتود أن يكون الطقس في الغد في مثل صحوه، ولا يخطر لك أن الموت الذي كان يسري فيك على مستوى آخر وسط ظلمة لا تنفذ إليها الأبصار قد اختار بالضبط هذا النهار ليدخل مسرح الأحداث بعد بضع دقائق في اللحظة التي ستبلغ فيها العربة تقريبا منطقة الشانزيليزيه”. للخدم والمزارعين والعاملين نصيب من هذا الحب الذي يمتد تأثيره إلى ما هو أعمق من اختلاف الطبقة الاجتماعية والمستوى الثقافي والمعرفي الذي ينتمي له الإنسان، وعلاقة الراوي بخادمة الأسرة “فرنسوزا” خير دليل على ذلك فهي من العمق بحيث تعبر عن حب ينطوي على بعض الغيرة الذي تبديه تجاه إلبرتين.
الشخصية البروستية
ما يستبد بالإنسان من قلق أسطوري في سياق تحقيق رغبات نفسه يجعله مدفوعاً دون كلل أو فهم في كثير من الأحيان وراء هاجس تحقيق تلك الرغبات الغامضة، وغير الواضحة وغير المحددة (الرغبة الميتافيزيقية) لأنها تستبد به وتبرحه من خلال فعل وجوده في علاقته بنفسه ومع الآخرين في هذا الكون. حتى اذا استطاع ملامسة تلك الرغبة تركها وانطلق إلى رغبة أخرى أشد إلحاحاً وأكثر تمثلاً لطبيعة نفسه المتعطشة إلى الجديد والغامض كما يعتقد. الشخصيات الروائية في “البحث عن الزمن المفقود” حائرة في كل الأمكنة والأزمنة (الماضي/الحاضر/ المستقبل) فهي منقسمة على ذاتها ضد ذاتها كما أنها مفتتة إلى أنا متعدد متتال حسب رأي رينيه جيرار (4). فعندما تزوج موريل ابنة أخت جوبيان، صاحب النزل، تخلى عن علاقته براعيه البارون شارلو لأن زوجته طلبت منه ذلك. لكن هذا السبب الظاهري للرغبة يخفي سبباً أعمق، سببا يتجسد في خوف موريل من غضبة البارون الذي أصبح يصرح بتلك الفترة في الصالونات عن رغبته بقتله. هذا التطور بالصيغ الخاصة للرغبة الميتافيزيقية للشخصية البروستية يتطلب حضور الروائي – السارد بشكل دائم داخل العمل الروائي. حسب وجهة نظر رينيه جيرار،(6) فإن الشخصية البروستية (المحكومة برغبتها الميتافيزيقية) ظلت محتاجة إلى تدخل الروائي (كلي المعرفة)، والذي هو هنا مارسيل بروست نفسه. من أجل تجميع أجزاء الزمن ومقارنتها للكشف عن تناقضات تفلت من انتباه الشخصيات نفسها. لذلك فإن رينيه جيرار يرى أنه بالإمكان رصد وتتبع تطور الشخصية البروستية داخل النص (منذ النشأة حتى الخروج) في ثلاث مراحل:
أ. المرحلة الأولى، وفيها تعطي الشخصية انطباعا بالدوام والوفاء للمبادئ التي تسعى إلى تحقيقها.
ب. المرحلة الثانية، ويحل فيها التنوع محل الوحدة والانقطاع محل الدوام والغدر محل الوفاء.
ج. المرحلة الثالثة، وهي تعبر وتشي عن تناقص الشخصية حيث الانطباع بالتنوع والانقطاع خادع بقدر الانطباع بالوحدة والدوام.
لذلك تدور شخصيات بروست على هوى رغبتها. ولا يجب اعتبار هذا الدوران تحولات أصيلة، فسببه معطيات متغيرة لوسيط واحد أو لتغيير في الوسيط على أكثر تقدير (7). تقدم لنا شخصية البارون، شارلو صورة واضحة، وهي في حقيقتها تماثل أغلب الشخصيات البروستية في تطور الرغبة الميتافيزيقية، منذ ظهورها الأول في جزء “في ظلال ربيع الفتيات” عندما تركها السارد تتحدث عن نفسها كمثقف تعذبه رغبته الميتافيزيقية، ومن ثم ينحدر إلى الدرك الأسفل متجاوزا لطبقته بتدخل من الروائي – السارد في جزء “سادوم وعامورة” حتى يتوج ذلك بترديه في ساديته إلى أن يغيبه الموت بالجزء الأخير في رواية “الزمن المستعاد”. ينطبق ذات الشيء على إلبرتين وسون وسان لو وجيلبرت وغيرهم في إطار تطور نمو الشخصيات داخل العمل الروائي.
الخاتمة
ختم الروائي رائعته ” البحث عن الزمن المفقود” بجزء أسماه “الزمن المستعاد”. فإن كان الزمن يفقد فهل بالضرورة يتم استعادته؟! فماذا كان يعني الكاتب بالزمن المستعاد في سياق عمله الروائي؟! هل هو ضد الضد من الفعل التام للزمن، أم الناقص الذي يقوم على استعادة واستدعاء ذكرى، وجمال وصحة ونشاط ووعي من أجل خلق عالم جديد مغاير ومختلف عن عالم الواقع الممتلئ والضاج بالكثير من المنغصات بالنسبة للروائي وشخوصه؟! يقر بروست في هذا الجزء من روايته بأن شيخوخة شخوصه قد فاجأته لدرجة أنه لم يتعرف إلى بعض الأصدقاء بصالون فيردوان عندما ذهب اليه بعد الحرب. الجزء الأخير من الرواية رحلة وداع حزينة، ودع فيها بروست شخوصه وأماكنه من خلال استعادة حزينة لكل تفاصيل المكان، والبشر، والموت الذي فجع شخوص روايته الواحد تلو الآخر. لحظات من الزمن تمتزج فيها ذكريات شذى الماضي المنفتح على شباب الحياة النضرة المزهزة بذلك القوام الممشوق والأجساد المدلهة بالنعيم المتدفق فرحاً وعنفواناً للحياة، لكنها الآن مشوشة بصور الشيخوخة الموغلة في الغياب والتعب. وجوه أرهقتها الحياة، ولوح بنضارتها تقدم العمر، وبدلتها المصائب حتى غدت مفارقة للحظة الماضي النضرة التي كان يعرف، وجوه لم تعد تمت بصلة لتلك الأرواح.
حاول الروائي في هذا الجزء تتبع حياة شخوصه مستدعيا كل ما تبقى أو مازال عالقاً في أنفسهم من رغبة الحياة وصراعها الكامن في طبيعتهم التي تنوس بين الإقبال على الحياة بوازع الرغبة والإدبار عنها بسب الخوف من الموت أو كليهما معا. حاول ذلك مستعيناً بذكريات حاول أن يستعيدها عندما عاد إلى حياة صالونات باريس (فيردوران وغيرمانت) بعد أن غيبه المرض، وانتهاء الحرب. آثر بروست ألا يتحدث عن الحرب كفعل فظيع واكتفى برصد ما خلفه هذا الحدث الجلل على شخوص الرواية من نزعات شوفينية تم تبنيها وهي متباينة مع حياة الصبا والحب والولع. لقد أضحت معرفة الأصدقاء بعد كل تلك الأحداث أمراً عسيراً، فأمسى في حاجة إلى استعادة ذهنية من نوع ما لكي يتمكن من استعادة أرواحهم التي كان يعرف. لذلك نجده يؤكد في هذا الجزء على أن الحياة الحقيقية التي يعيشها المرء بامتلاء تكمن في الأدب. الأدب الذي خلق الروائي من خلاله عالماً كان يأمل أن يضارع في مخياله حكاية ألف ليلة وليلة التي كان يعشقها بشغف. كذلك استقرت فكرة الموت عند بروست بهذا الجزء من الرواية بحيث أضحت تزاحم فكرة الحب داخل النفس، لذلك تجده يقول في آخر صفحات الجزء السابع، ص٢٩١: “كانت فكرة الموت ترافقني بشكل دائم تماما كفكرة الأنا”. رواية ” الزمن المفقود” رحلة خاصة وعامة، ومسير جزئي وكلي في ذات الوقت لذلك هي تختصر رحلة إنسان وتصف رحلة البشر في عوالم مرهفة ومسكونة بقلق الحب وسعادته وتباريح الكراهية وأوجاعها. حب يبقى احتمال تحققه، رغم القلق الأسطوري الذي نعيشه، مرهوناً بمقدار واحتمال نزف روحنا في الحياة داخل الآخر الذي في آخر الأمر هو نحن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* قاص وكاتب عُماني.
(1) “فرويد وبروست ولاكان – قصة نظرية”، الطبعة الأولى 2009، مالكولم بوى، ص72
(2) “جانب من منازل سوان”، الطبعة الثانية، مقدمة أندريه موروا، ص76
(3) “الزمن المستعاد”، الطبعة الثانية، مقدمة المترجم، ص8
(4) “جانب من منازل سوان”، الطبعة الثانية، مقدمة جان إيف تادييه، ص 57
(5) “نفس المصدر”، الطبعة الثانية، جان إيف تادييه، ص35
(6) “الكذبه الرمنسية والحقيقة الروائية”، الطبعة الأولى 2008م، رينيه جيرار، ص284
(7) “نفس المصدر”، الطبعة الثانية، رينيه جيرار، ص286
(8) “نفس المصدر”، الطبعة الثانية، رينيه جيرار، ص286
1