خلقت جماعة «شعر» ابتداء من العام 1957م تاريخ صدور بيان الكتابة الجديدة ليوسف الخال(1) مناخا فكريا وتيارا إبداعيا متميزا عن كل التيارات الفكرية، والإبداعية التي سبقته، سواء من حيث الطرح التنظيري للشعر أومن حيث تفعيل هذا الطرح من خلال الإبداع المتفرّد الذي تمثل في الشعر الجديد بنوعيه الشعر الحر وقصيدة النثر، هذه الأخيرة وجدت الأرض الخصبة التي نمت وازدهرت فيها، فقد سجل أن أول اهتمام جدي بالشعر المنثور كان اهتمام جماعة «شعر» اللبنانية التي صدرت شتاء 1957م، وكانت أول مجموعة طبعت لواحد من جماعتها هو أنسي الحاج بأشهر، ثم تبعهما شوقي أبو شقرا ويوسف الخال وفؤاد رِفقه، وآخرون، ولكن الملاحظ أن تسمية الشعر المنثور لم تصبح (قصيدة نثر) إلا بعد اكتشاف أدونيس كتابا فرنسيا عنوانه (قصيدة النثر من بودلير حتى الوقت الراهن) لكاتبته (سوزان بارنار).
وقد صدرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب عام 1959م في باريس، وبعد شهور من صدوره كتب أدونيس مقالا عنوانه (في قصيدة النثر) نشره في مجلة «شعر» شتاء عام 1960م(2)، فكان أول من أطلق على هذا النوع من الكتابة تسمية (قصيدة) كما فعلت سوزان برنار، ولم يكتف بذلك فقد نشر قصيدة نثر عنوانها «مرثية القرن الأول «في العدد نفسه من مجلة شعر، فبدت مقالته وكأنها مقدمة لقصيدته النثرية»(3).
وفي عام 1960 أصدر الشاعر أنسي الحاج ديوانه الشعري «النثري» الموسوم بـ«لن» وكتب مقدمة يُنظّر فيها للنوع الشعري الجديد أي قصيدة النثر، اعتمد فيها على أفكار سوزان بارنار في كتابها السابق، فطرح إشكالية صياغة الشعر من النثر وقدرة الشاعر على توليد نصوص شعرية من أعمال نثرية، لكون الآداب العالمية كلها أنتجت في نثرها شعرا عظيما، لأن الشعر لا يقف عند حدود الوزن والقافية أو البحر والرويّ .
وقد مثّل الحاج لهذا «بنشيد الانشاد» في العهد القديم من الكتاب المقدس وبشعر سان جون بيرس(4)، أي عوض الإيقاع النمطي بالرؤيا الشعرية أو الكيان الواحد المغلق على حدّ تعبيره الذي تزيد من تفاعله فرادة التجربة وعمقها.(5)
ويتحدد دور مجلة شعر في مساعدة قصيدة النثر وإعلاء شأنها ونشرها وتأكيد فنيتها في النقاط الآتية:
أ- التكفل بنشر الدراسات التي تتعرض بالنقد والتحليل (الإيجابي) للدواوين الشعرية الحداثية التي تتخذ من قصيدة النثر أنموذجا للكتابة والثورة، كما تكفلت المجلة أيضا بنشر الدراسات الشعرية النظرية، ودواوين شعرية متميزة. ففي العدد الحادي عشر من مجلة شعر، ظهرت أول محاولة تنظيرية للتوجه الجديد، ممثلة في مقالة أدونيس بعنوان «محاولة في تعريف الشعر الحديث» فقد وُضحت في هذه المقالة تأثيرات المفاهيم السريالية على أدونيس، فإذا به يعرف الشعر بأنه رؤيا وكشف، وإذا به يعتبره نوعا من المعرفة ونوعا من السحر، وتغيير في نظام الأشياء والنظر إليها. بل إنه يرى أن الشعر يغير إيقاع نقل الواقع بإيقاع إبداعه، ويحجب واقعا أغنى، وراء وقائع العالم…»(6)
ب _ تقديم الترجمات الشعرية للقصائد الأجنبية وذلك دون التزام القافية والوزن وهذا ما جعلها تمثل أنموذجا -للاحتذاء – وممارسة طقوس كتابة جديدة.
ج _ تثبيت مفهومات جديدة تصّب في خدمة قصيدة النثر أهمها :
1. التشكيل الموسيقي الجديد البعيد عن الإيقاعية التقليدية.
2. تحرير اللفظ من سلطة الشعر من خلال هدم الفاصل بين الألفاظ الشعرية والألفاظ غير الشعرية.
3. كتابة القصيدة وقراءتها كبنية رؤيوية مغلقة ومتكاملة في الوقت نفسه، والدعوة للتخلي عن التفكك البنائي الذي يقدم على الشكلية «باعتبار أن قصيدة النثر ذات شكل قبل كل شيء، ذات وحدة مغلقة، هي دائرة أو شبه دائرة لا خط مستقيم هي مجموعة علائق تنظم في شبكة كثيفة، ذات تقنية محددة وبناء تركيبي موحّد منظم الأجزاء، متوازن، تهيمن عليه إرادة الوعي، التي تراقب التجربة الشعرية وتقود توجيهها.»(7)
وتلتقي هذه المفاهيم مع البرنامج الشعري ليوسف الخال مؤسس مجلة شعر، الذي يمكن قراءته في النقاط الآتية:
[ التعبير عن التجربة الحياتية على حقيقتها كما يعيها الشاعر بجميع كيانه، أي بعقله وقلبه معا.
[ تطوير الإيقاع الشعري العربي وصقله على ضوء المضامين الجديدة.
[ الاعتماد في بناء القصيدة على وحدة التجربة والجو العاطفي العام لا على التتابع العقلي والتسلسل المنطقي.
[ الإنسان في ألمه وفرحه، في خطيئته وتوبته، في حريته وعبوديته، في حقارته وعظمته، في حياته وموته، هو الموضوع الأول والأخير، كل تجربة لا يتوسطها الإنسان هي تجربة سخيفة لا يأبه لها الشعر الخالد العظيم.
[ وعي التراث الروحي العقلي العربي وفهمه على حقيقته وإعلان هذه الحقيقة وتقييمها كما هو، دون خوف أو تردد.
[ الغوص في أعماق التراث الروحي العقلي الأوروبي، وفهمه والتفاعل معه.
[ الإفادة من التجارب الشعرية التي حققّها أدباء العالم، فعلى الشاعر اللبناني الحديث ألا يقع في خطر الانكماشية كما وقع الشعراء العرب قديما بالنسبة للأدب الإغريقي.(8)
د – إعلاء شعار الاحتواء الإبداعي المتميز دون إقصاء، حيث مثلت المجلة إطارا للتجارب الشعرية الجديدة وميدانا للشعراء الشبان الروّاد في ميدان قصيدة النثر.
وكان مناخ نشاط جماعة شعر أكثر ملاءمة لتفعيل الرؤى والأفكار والطاقات التجديدية، أكثر من أي مناخ سابق بحيث اجتمعت مجموعة من الأسباب عجّلت بانتشار أفكار الجماعة انتشارا واسعا في الساحة الأدبية والإبداعية العربية نذكر منها ما يأتي:
1- تنامي التوجّه نحو الآخر الأوروبي فكريا وإبداعيا، من خلال بعث حركية التجربة الأدبية خاصة من الثقافة الفرنسية والثقافة الأنجلو أمريكية، فقد قرأ أعضاء الجماعة بشغف كبير إشراقات رامبو، وفصله في الجحيم وأزهار الشر وسأم باريس لبودلير، وأناشيد مالدورور للوثر يامون، فوقفوا على «ترجمات النتاج الغربي من الشعر خاصة ممّا أثبت أن موضوع القصيدة المترجمة، والغنائية التي تزخر بها، وصورها ووحدة الانفعال والنغم فيها عناصر قادرة على توليد الصدمة الشعرية دون حاجة إلى وزن وقافية(9).
كما كان لصدور كتاب الأديبة والناقدة الفرنسية سوزان برنار «قصيدة نثر من بودلير حتى الوقت الراهن» أثرٌ كبيٌر رسم وحدّد كلّ مفاهيم الشعرية الحداثية الجديدة عند جماعة شعر، فقد كتب الأستاذ الشاعر رفعت سلامّ في التقديم لترجمة كتاب سوزان برنار قائلا:
«لكتاب (قصيدة النثر من بودلير حتى الوقت الراهن) لسوزان برنار تاريخ عربي، وفاعلية مؤكدة في الشعرية العربية منذ صدور طبعته الأولى عام 1958م بباريس، بل ربما كانت فاعليته، عربيا، أعمق وأفدح من فاعليته فرنسيا، في مجاله الحيوي الأصلي، مفارقة تضيء في بعض وجوهها آليات التفاعل الثقافي وأشكالها العربية… وطوال هذه السنين-قرابة الأربعين سنة-ظل الكتاب هاجسا أساسيا لدى شعراء الحداثة العربية، فكان غائبا حاضرا، في آن، غائب بالفعل؛حاضر بالقوة، لكنه الغياب الذي لا يفضي إلى نسيان، بقدر ما يفضي إلى التشبث بالغائب، ليصبح حضورا فادحا، بلا غفران، انه نوع من المهدي المنتظر.»(10)
2 – ضعف الشعر التقليدي وانحطاطه أمام الرغبة في معايشة الواقع المعيش، بعيدا عن المعايشة الوصفية الغنائية، وإنما خلق فضاء عالم جديد يوازي ويعادل العالم الموضوعي المعيش، إنها لحظة خلق القصيدة الرؤيا كمظهر من مظاهر الحداثة، وهذا ما عملت الجماعة على تجاوزه وتجسيده خاصة إذا علمنا «أن قصيدة النثر قد جاءت في سياق ملمح الحداثة وهو التجاوز.وتخليها عن الوزن أو الإيقاع الخارجي ربما يكون أهم خطوة من خطوات هذا التجاوز، لأنها الخطوة التي بدأ بها ألف ميل مسيرة قصيدة النثر.»(11)
3- ميل الكثير من شعراء الخمسينات إلى «الكتابة بالنثر»، خاصة الشعراء الواقعيين والشيوعيين الذين اقتربوا من النثر لا في أسلوبهم ولغتهم فحسب، بل في الجو والأداء خاصة عند عبد الوهاب البياتي، ونذير طعمة، و جبرا إبراهيم جبرا، وقد تميزت كتابات هؤلاء بالعمل على تبسيط الجملة الشعرية انطلاقا من بساطة المفردة وبساطة التركيب بحثا عن جماهيرية الشعر ومقروئيته الواسعة بين أفراد الشعب.
في ظل هذا المناخ رسمت مجلة شعر استراتيجية قصيدة النثر كملموس حداثي مبني على تجسيد لحظات الرفض، وفق محمول من محمولات الحداثة، فليست «قصيدة النثر في تجاوزها الشكل القديم مجرد رفض له، وإنما هي جزء من مؤامرة على التقليد الذي لا يعكسنا. ولهذا فهذه الخيانة ليست شرفا فحسب بل هي قبل ذلك عمل طبيعي إحساسي تجاه هذا التقليد الذي يشبه سجنا شرط التحرّر منه هدمه حتى على ما فيه».(12)، خاصة إذا لاحظنا أن قصيدة النثر التي تدعو إليها هذه الجماعة هي قصيدة تعمل على أن تفارق القصيدة العمودية، مفارقة شكلية ومضمونية لا رجعة فيها. وهذا عكس قصيدة التفعيلة التي ظلت محتفظة بعلاقات مختلفة مع النمط القديم، بشرط ألا يفهم من هذا إحداث قطيعة تامة أيضا مع التراث، «لأن قصيدة النثر كما عرفنا قبلُ لها صلة بهذا التراث بإحالتها إليه، سواء منه القديم، حين وصلها عن طريق التراث الصوفي بظهوره فيها، أو الحديث حين وصلها بالشعر المنثور وإرجاعها إليه إرجاعا رئيسا .»(13)
تعرف موسوعة «برنستون» للشعر والشعرية « Princeton Encyclopedia of Poetry and Poetics» ، قصيدة النثر على النحو الآتي: «هي قصيدة تتميز بإحدى، أو بكل خصائص الشعر الغنائي، غير أنها تُعرض على الصفحة على هيئة النثر، وإن كانت لا تعد كذلك…وتختلف قصيدة النثر عن النثر الشعري (Poetic Prose) بأنها قصيرة ومركّزة، وعن الشعر الحر(Free Verse)بأنها لا تلتزم نظام الأبيات، وعن قصيدة النثر بأنها عادة ذات إيقاع أعلى، ومؤثرات صوتية أوضح، فضلا عن أنها أغنى بالصورة وكثافة العبارة. وقد تتضمن قصيدة النثر رؤيا داخلية وأوزانا عروضية. ويتراوح طولها على وجه العموم، بين صفحة (فقرة أو فقرتين)وثلاث صفحات أو أربع، بمعنى أنها تماثل القصيدة الغنائية المتوسطة الطول، وإذا تجاوزت هذا الطول فإنها تفقد توتراتها وأثرها، وتصبح تقريبا نثرا شعريا.»(14)
يتضح من التعريف الموسوعي السابق لقصيدة النثر أن هذا اللون من الأدب في الشعرية الغربية التي تمثل الرافد الأساسي لجماعة شعر، هو مُحكم التعريف، محدد الأدوات وواضح الغايات خاصة عند الفرنسيين، الذين عُدّوا رواد هذا التشكيل الشعري المتفرد والجديد، في حين جاءت المفارقة الكبرى في استراتيجية جماعة شعر أنهم تبنوا التعريف السابق وانطلقوا في التنظير لقصيدة النثر من نقطة انتهاء النقد الفرنسي- فيما أرساه من مفاهيم خاصة عند سوزان برنار-دون أن يكون لديهم النموذج الإبداعي التطبيقي «وهو ما فعله كل من أدونيس في مقالته بمجلة شعر اللبنانية عدد 14 لسنة 1960م، وأنسي الحاج في مقدمته لديوانه «لن»، وفخري صالح في مجلة فصول المصرية، وغيرهم من النقاد ممن سار على نهجهم، ومن الدلائل التي تؤكد على تبني تعريف لقصيدة النثر يبتعد تماما عن تواجدها الفعلي في الوطن العربي، أن الذين تبنوا هذا التعريف من الشعراء والنقاد عادوا مرة أخرى لهدم ما تبنوه، بل بلغ الحد تبني عكس ما كان تماما، سواء على مستوى النصوص الإبداعية، أم على مستوى النقد والتنظير»(15).
لهذا مثلت جماعة شعر، في تقديري، الحلقة الشاذة من حلقات الشعرية العربية بامتياز. لأنها أقرّت بضرورة الهدم والبناء ولكن دون أن تُنّمِطَ ما تبني ولا تشكّل ما تؤسس.فلقد حاول بعض أعضائها وعلى رأسهم أنسي الحاج وأدونيس، ويوسف الخال تثبيت بعض المفاهيم الأولية لقصيدة النثر بالرغم من إيمانهم أن الثابت شكل جاهز والنمط قيد يعيق الرؤيا والتحديث، فحددوا خصائص قصيدة النثر التي احتوت ضمنيا على مبادئ اتجاههم في الكتابة والثورة، هذا ما يعرضه الدكتور رفعت سلام في النقاط الآتية :
أ – يجب أن تصدر قصيدة النثر عن إرادة بناء وتنظيم واعية، فتكون كلاّ عضويا مستقلا، وهذا ما يتيح لنا أن نميزها عن النثر الشعري الذي هو مجرد مادة، فالوحدة العضوية خاصية جوهرية في القصيدة.
ب – هي بناء فنيّ متميز.فقصيدة النثر لا غاية لها خارج ذاتها، سواء أكانت هذه الغاية روائية أو أخلاقية أو فلسفية أو برهانية. فهناك مجانية في القصيدة، ويمكن تحديد المجانية بفكرة اللازمنية.
ج – الوحدة والكثافة، فعلى قصيدة النثر أن تتجنب الاستطرادات والإيضاح والشرح، وكل ما يقودها إلى الأنواع النثرية الأخرى.»(16)
أما أنسي الحاج فقد عرض في مقدمة ديوانه «لن» تعريفا لقصيدة النثر ركزّ خلاله على ثلاثية الإيجاز والتوهج والمجانية، كشروط أساسية للانتقال من مرحلة الاحتذاء بالإرثيين إلى أنموذج الإبداعيين يقول:
«…لتكون قصيدة النثر قصيدة نثر، أي قصيدة حقا، لا قطعة نثرية فنية، أو مُحمّلة بالشعر، شروط ثلاثة: الإيجاز (الاختصار)، التوهّج، والمجانية. فالقصيدة، أي قصيدة… لا يمكن أن تكون طويلة، وما الأشياء الأخرى الزائدة سوى مجموعة من المتناقضات، يجب أن تكون قصيدة النثر قصيرة لتوفّر عنصر الإشراق، ونتيجة التأثر الكلّي المنبعث من وحدة عضوية واحدة..»(17).
وأرى أن هذا الكلام لأنسي الحاج ما هو إلا صدى مباشر لكلام سوزان برنار حول شروط الارتقاء بالنثر إلى الشعرية، أي البحث عن تحقيق الإيجاز تجنبا للاستطرادات والإسهامات التفسيرية، أي كل ما قد يؤول بها إلى أنواع النثر الأخرى، ثم التوهّج وصولا إلى مجانية القصيدة ذاتها. تقول:»…وقد حاولتُ الإشارة إلى الشروط الضرورية لوصول قصيدة النثر إلى جمالها الخالص، أي أن تصبح قصيدة حقا لا قطعة نثرية منمقة إلى هذا الحد أو ذاك: فالإيجاز والكثافة والمجانية، ليست بالنسبة لها مثلما رأينا عناصر جمال محتملة، وإنما عناصر جوهرية حقًا بدونها لا وجود لها…»(18).
أما الفقرة في النص الأصلي فهي على النحو الآتي :
«..j’ai tenté d’indiquer …les conditions nécessaires pour que le poème en prose atteigne sa beauté propre, c’est a dire soit vraiment un « poème » et non un morceau de prose plus ou moins travaillé : brièveté, intensité, gratuité sont pour lui ,nous l’avons vu, non des éléments de beauté possibles, mais vraiment des élément constitutifs sans les quels il n existe pas … »(19)
وأعتقد أن الحاج قد سلمّ تماما بمعطيات برنار، إلى درجة أنه لم يستطع أن يخلع على مقتبساته من برنار طابعا شخصيا، واصطلاحا أقرب إلى الإبداعية منه إلى النقل الحرفي، هذا ما يتضح في الترجمة الآتية للشروط الثلاثة :
وقد أثنى أدونيس على تنظيرات الحاج وإبداعاته في مجال التأسيس لقصيدة النثر العربية، في رسالة بعثها إليه من باريس أوائل العام 1961م. تحدّدت من خلالها الفلسفة العامة لجماعة شعر من جهة، وفلسفة قصيدة النثر من جهة أخرى، يقول في بعض منها:
«..يُسمينا الإرثيون «الفوضى». يسموننا أيضا «الخيانة». هكذا نبدو في أعينهم. للمرة الأولى، لا يخطئون النظر. فالحق أننا نعلن فوضانا وخيانتنا.في ذلك العالم الممغنط بالجيف المقدسة.ولا نكتفي، بل نقنع الجيوش بالخيانة، كما تقول: يعني، نقنعهم بالفوضى أيضا.»(20)
ويتضح مما سبق أن نون الجماعة التي يستعملها أدونيس والتي تعود بالضرورة الى جماعة الشعر، هي حدّ تجسيد الفصل بين الأنا والآخر في تمظهراته المختلفة، الأنا الفوضوية، الهدامة، الخالقة، الحالمة برؤيا تتجدد بتجدد الرائي ذاته، فلا تقع في سوداوية النمط ولا سلطوية الإرث تمارس الرفض الذي يهزّ العالم في لحظة مخاض القصيدة، وتعلن التأسيس من منبر الحرية الإبداعية يقول:
«هكذا نخطط وجودا يجعل الوجود حولنا غريبا، يمحوه، يسلبه الحضور، هكذا نسقط ونجد خلاصنا في السقوط، هكذا نعلن أنفسنا غواة وخائنين.الهاوية تأتي معنا، نعرف ذلك، سنعمّقها، سنوسّعها، سنصنع لها أجنحة من الريح والضوء…المكان يقاومنا، الأشياء تقاومنا، الماضي والحاضر يقاومنا، البعيد وحدة معنا، ولا سلاح لهذا البعيد غير حضورنا الشعري »(21) .
وذهب أدونيس في خطابه إلى أنسي الحاج، إلى تحديد موقف الجماعة المرحلي (22) من التراث. فرفض الانزواء في إحدى زواياه المقدسة لأنه لا يعدو أن يكون جزءا من حضورنا وليس هو حضورنا ذاته، يقول :
«ليس التراث مركزا لنا. ليس نبعا وليس دائرة تحيط بنا. حضورنا الإنساني هو المركز والنبع. وما سواه والتراث من ضمنه، يدور حوله. كيف يريدوننا إذن أن نخضع لما حولنا ؟ لن نخضع، سنظل في تواز معه، سنظل في محاذاته، وقبالته، وحين نكتب شعرا سنكون أمناء له، قبل أن نكون أمناء لتراثنا. إن الشعر أمام التراث لا وراءه.فليخضع تراثنا لشعرنا نحن، لتجربتنا نحن…من هنا الفرق الحاسم بيننا وبين الإرثيين: لا يقدم نتاجهم إلاّ صورة الصورة، أما نحن فنخلق صورة جديدة»(23).
وتتضح مما سبق أسس التنظير للنوع الشعري الجديد عند الجماعة عموما وأنسي الحاج وأدونيس على وجه التخصيص، بحيث لم تعد قصيدة النثر مجرد ثورة شكلية ومضمونية في الحركة الشعرية العربية الحديثة بل هي ثورة جذرية على كل ما سبقتها من الأشكال الشعرية ومفاهيمها، باستقلاليتها ورقيّها. وحين يعود أدونيس بذاكرته إلى مرحلة تأسيس مجلة شعر وبعث قصيدة النثر كملمح من ملامح تجسيد الحداثة الشعرية، يطرح ثلاثة مبادئ أساسية كانت وراء تشكيل النموذج الجديد بعيدا عن المفاهيم الفرنسية «البرنارية» التي سادت حينها فيقول :
«وقد تبنينا ما اصطلحنا على تسميته بـ«قصيدة النثر، انطلاقا من ثلاثة مبادئ (مستقلة عن مفهوماتها الفرنسية ) أوجهها فيما يأتي:
[ الأول هو أن الشعرية العربية لا تستنفدها الأوزان، على الرغم من كمالها وغناها فنيا، وأن هذه اللغة تزخرُ بإمكانات تعبيرية، طرائق وتراكيب يتعذر أن نضع لها حدا نهائيا تقف عنده، فهي لغة مفتوحة على اللانهاية.
[ الثاني هو ابتكار طرق وأشكال أخرى للتعبير الشعري، تواكب الطرّق والأشكال القائمة على الوزن وتؤاخيها، بما يغني اللغة الشعرية العربية، وينوّعها ويعدّدها، وفي هذا إثراء للمخيلة وللذائقة أيضا.
[ الثالث هو الرغبة العميقة في جعل اللغة العربية مفتوحة على جميع التجارب الشعرية في العالم، وفي وضعها، إبداعيا، على خريطة الإبداع الكوني بخصوصيتها لكن في الوقت نفسه بانفتاحها ولانهائيتها، تفاعلا ومقابسةً وحوارا»(24)
من هنا نستطيع أن نقول إن جيل مجلة شعر بتنظيراته وإبداعاته في مجال قصيدة النثر أضحى يمثل جيل الرؤيا الشعرية الحداثية، لأن الحداثة في تمظهرها الفني هي رؤيا قبل أن تكون أي تشكّل فني آخر، فالمبادئ الأدونيسية السابقة لا تجسد التحوّل في النظر إلى الموروث الفني و«الإبداعي» العربي وإنما تمثل في تقديري مرحلة انتقال نحو تفعيل الرؤيا إبداعيا عبر ّ قصيدة النثر، فقد «كان هذا التحول يعني على صعيد الممارسة الشعرية الانتقال من لغة التعبير إلى لغة الخلق، ومن لغة التقرير أو الإيضاح إلى لغة الإشارة، ومن التجزيئية إلى الكلية، ومن النموذجية إلى الجديد، ومن الانفعال بالعالم إلى الكشف عنه، ومن المنطق إلى اللاوعي ومن الشكلية القبلية إلى أشكال خاصة يفرزها تنامي الرؤيا. من هنا فإن كل رؤيا هي تغيير لنظام الأشياء؛وقفز خارج منطقها يفرز لغته الخاصة، لغة التغيير والتحول، لأن الرؤيا هي تحويل لعلاقات الأشياء. ومن هنا كانت الرؤيا خروجا عن الأشكال المألوفة، إلى أشكال محدّدة بقابلية جاهزة. إن الرؤيا هي تمرد على سلطان النموذجية الفنية الموروثة ودخول في أشكال غير معروفة مثلما هي موقف من العالم، وشكل من أشكال الوعي الفني له…»(25).
لهذا ثارت نظرية الشعر عند الجماعة على التقسيم التقليدي السلفي للقصيدة العربية حين تنظر إلى العالم نظرة حسية، تُشيِّئُه تارة وتجزئه تارة أخرى، فلا تعكسه إلاّ ظاهريا من خلال الوصف. في حين تتشكّل الرؤيا كمشروع فكري وإبداعي انطلاقا من مراجعة الثوابت السابقة، فتهدم النمط والنموذج وترفض الاحتذاء كسبيل لتحقيق شاعرية معينة، حينها تصبح القصيدة الرؤيا قصيدة لا تتحدث عن العالم بل تحدث العالم، لأن «القصيدة السلفية تنقل العالم مجسما إلى أشياء، في حين أن القصيدة الرؤيا تكتشف العالم في كُلّيته الحقيقية، في وحدته الكونية…الشاعر الرؤيوي يكتشف الأشياء. وبين الانفعال والاكتشاف فرق أساسي.»(26)
إنّ المتتبع لمسار قصيدة النثر عند جماعة شعر، ومن انتسب إليهم في مرحلة الستينيات، يدرك مباشرة أن التنظير السابق حول «القصيدة الرؤيا» قد تجاوز جانبه المجرّد، وأضحى تنظيرا يجد مسوغات تفاعله داخل الصراع الاجتماعي والفكري في مرحلة الستينيات من القرن الماضي، وهذا ما جعل قصيدة النثر تصطبغ -في تقديري-بالصبغة الإيديولوجية، إيمانا من الشاعر أن الأدب (الشعر) هو تعبير عن أيديولوجيا كيفما تجلى أو تمظهر، من هنا ثُبِّتَ الشكل وتعدّدت الرؤيا التي أسست لها جماعة شعر، وكتب على أساسها أنسي الحاج ويوسف الخال وأدونيس ومحمد الماغوط، وظهر تيار جديد من الشعراء لا يميل إلى إثارة الأبعاد الميتافيزقية بقدر ما يطرح ويصدّر لأفكار إيديولوجية وقومية ووطنية ضمن إطار الشكل المتفرّد الجديد؛ فانقسمت قصيدة النثر إلى قسمين، قسم يرتكز على مبادئ الجماعة في ربط النص الشعري بالرؤيا، وقسم ثان يرتكز على شحن اللغة العادية والكلمة اليومية بالطاقة الشعرية كفارق جوهري بين كلام الشعر والكلام النثري العادي، وهذا ما اصطلح عليه جمال باروت «بالقصيدة الشفوية وهي القصيدة التي تطرح تساؤلات الإنسان في المدينة العربية المعاصرة. حيث تلتقط توتر الحياة اليومي، وشرائحها، وصيرورتها ولحظاتها الإنسانية المستمرة، والأشياء الصغيرة منها ومشاعرها اليومية، لتكون وجدانا فنيا لها»(27).
ويذكر باروت أن محمد الماغوط يمثل النموذج الشفوي لقصيدة النثر، خاصة بعد ديوانه «حزن في ضوء القمر» الصادر عام 1959م و«غرفة بملايين الجدران»1964م، أي بعد مرحلة التنظير الأولي لقصيدة النثر من طرف الحاج وأدونيس، فإذا كان الحاج بديوانه «لن» يعكس الجانب الرؤيوي لقصيدة النثر، فإن الماغوط يمثل الجانب الشفوي منها، ومع هذا فهما يشتركان في جانب تخطي الشكل الخارجي للقصيدة العربية.(28)ويختلفان في نقاط أساسية يمكن حصرها فيما يأتي:
أولا: اعتماد قصيدة الرؤيا على الكلمة كإشعاع دلالي مشبع بالمحمولات الفكريةوالطروحات الثقافية والفنية، حيث تصبح الجملة مجموعة من الإشارات والعلامات المشفّرة التي تحيلنا نحو اكتشاف العالم وفق الذات الشاعرة بعيدا عن الوصف. أما القصيدة الشفوية فغايتها إعداد الكلمة العادية التي تلقي طاقات شعرية تقربها من الكلام الشعري وتبعدها عن الإخبار والوصف والتقرير.
ثانيا: تعتمد قصيدة الرؤيا على الطرح المركّب، حيث تتناسل الموضوعات وتتولد الأنساق بين المجرّد والحسّي، الثابت والمتغير، في إطار بنية شبكية تركيبية مفتوحة لاحتواء بنيات إضافية تفرض حضورها أمام الشاعر، في حين تنطلق القصيدة الشفوية من الطرح الواحد(المفرد) والنسق الفكري الواحد ضمن بنية خيطية تتفاعل كلما زاد إشراق الكلمة وتوترها الشعري.
ويكشف محمد جمال باروت هذه الفروق في الثنائية الآتية :
– القصيدة الشفوية – القصيدة الرؤيا
– البعد الواحد – تعدد الأبعاد
– الصوت المفرد – تعدد الأصوات
– المناخ الغنائي – المناخ الدرامي
– البنية الخيطية -البنية الشبكية
(التركيبية)
-الأشياء الصغيرة(الجزئية) -الرؤيا الكلية(الشمولية)
– الكلام – اللغة
– حركة الشعور في الكلام – حركة الرؤيا
في الصور(29)
أما نقاط الاشتراك والتوافق بين القصيدة الشفوية والقصيدة الرؤيا فقد حصرها الدكتور عبد العزيز موافي في نقاط عديدة نذكر منها ما يأتي:
[ اتخاذ اللغة المتداولة وسيلة لتفجير شعرية التقرير.
[ الاستناد على الحدس الانطباعي الحسي .
[ البحث عن شعرية النص، والعمل على نفي شعرية الجملة.
[ اكتشاف الشعرية في العالم، لا إضفاء الشعرية عليه.(30)
ومن نماذج الماغوط في القصيدة الشفوية في مرحلة الستينيات، نصه الموسوم بـ(الهضبة) والذي استمد ثقافته من الكلام اليومي، وشُحنت كلماته بطاقات شعرية أبعدته عن الكلام النثري وقرّبته أكثر فأكثر من الشعر المفعم بالتواترات الغنائية، القريب إلى الغموض، ولكن من دون الولوج إلى متاهات الرؤيا وأعماق الذات فقصيدة الهضبة عبارة عن رؤية تلامس الواقع المعيش للشاعر في إطار حركية المجتمع والوطن، ضمن فضاءات تعبيرية رؤيوية شفافة ابتعدت عن الإيغال السريالي يقول :
لا تصفعني أيها القدر
على وجهي أمتارٌ من الصفعات
ها أنا
والريح تعصف في الشوارع
أخرج من الكتب والحانات والقواميس
خروج الأسرى من الخنادق
أيها العصر الحقير كالحشره
يا من أغريتني بالمروحة بدل العواصف
وبالثقاب بدل البراكين
لن أغفر لك أبدا
سأعود إلى قريتي ولو سيرا على الأقدام
لأنشر حولك الشائعات فور وصولي
وأرتمي على الأعشاب وضفاف السواقي
كالفارس بعد معركة منهكه
بل كما تعبر الكلاب المدربة حلقاتِ النار
سأعبر هذه الأبواب والنوافذ
هذه الأكمام والياقات
محلقا كالنسر
فوق خفر العذارى وآلام العمال
باسطا جناحي كالسنونو عند الأصيل
بحثا عن أرض عذراء
كلما لامسها كوخٌ أو قصر
أميرٌ أو متسول
وثبت جامحةً في الهواء
كالفرس الوحشية إذا مسّها السرج.
أرضُ،
لم توجد ولن توجد إلا في دفاتري.
حسنًا أيها العصر
لقد هزمتني
ولكنني لا أجد في كل هذا الشرق
مكانا مرتفعًا
أنصبُ عليه رايه استسلامي.(31)
ومن خصائص التشكيل الشعري عند الماغوط ضمن إطار القصيدة الشفوية تكثيف الصورة الشعرية ذاتها، بحيث يستطيع المتلقي أن يحيد عن مسألة الموسيقى الخارجية في إطارها التقليدي لأنه وجد السر التشكيلي المتمثل في مجموعة الانفعالات الكبيرة التي تشع من اللغة الشعرية الماغوطية، إنه «يتوجه إلى الحس مباشرة، ويتكئ على مفردات وصور حسية باستمرار، إن التشبيه بكافة أقسامه والاستعارة بلونيها، كلها مادية حسية باستمرار في شعر الماغوط…وفي الحقيقة لا يمكن لنا إدراك أبعاد لغة القصيدة الماغوطية، إلا إذا قرأنا القصيدة كاملة، وهذه خاصية الشعر الرفيع الذي يشكل نسيجا عضويا واحدا لا انفصام فيه.»(32)
وتتضح هذه اللغة الشفوية في ديوانه «حزن في ضوء القمر»أين يعود بنا إلى المنابع الأولي للشعر، حيث تتفاعل الرؤية الحسية داخل بنية القصيدة لتولّد لنا إيقاعا موسيقيا يتسلل إلى نفوسنا، حينها ندرك أن القصيدة الشفوية الماغوطية هي قصيدة «جماهيرية» بامتياز، يمتزج فيها الحزن بالثورة والحرية، يقول:
..فأنا أسهر كثيرا يا أبي
أنا لا أنام
حياتي – سواد وعبودية وانتظار
فأعطني طفولتي
وضحكاتي القديمة على شجرة الكرز
وصندلي المعلق في عريشة العنب
لأعطيك دموعي، وحبيبتي وأشعاري(33)
أما قصيدة الرؤيا فتعّد قصيدة الشاعر اللبناني بول شاوول(24) «وجهك الغياب الأقصى» نموذجا رؤيويا لقصيدة النثر في ذات المرحلة بامتياز، فمنذ عام 1974م تاريخ صدور «أيها الطاعن في الموت»، أولى مجموعاته الشعرية، يواصل شاوول تشريع كتابته على التجريب والاختبار، منقِّباً عن الكنوز والينابيع والغيوم والأمطار العالية، كاشفاً الآفاق، ، متابعاً مهمة الشاعر المطلقة في ارتياد الحرية والمجهول، معلِّياً الجسور التي تقرِّب بين الثقافات وجوانب المعرفة.حيث العمل على استحضار اللاوعي كآلية من آليات الكتابة الفوضوية المكثفة والمجانية. الأمر الذي يسهم أكثر فأكثر وعن قصدية (إرادية) في غموض وإبهام قصيدة النثر، فقد أصاب لغتها تفكك في العلاقات، بتفريغ المفردات من دلالاتها المعروفة المألوفة وشحنها بأخرى غريبة غير مألوفة، فتغربُ التراكيب والصور ويغمض المعنى ويتبهّم، وبخاصة أن هذا الشحن يجري تحت هاجسين من هواجس الحداثة وهما التجريب والرؤيا، والرؤيا في قصيدة النثر تتغذى بشكل رئيسي من عالم اللاوعي(35).
يقول بول شاوول :
ثم استدرت
كان وجهك الغياب الأقصى
طاعنا في الليل
كلماتك الأبجدية بين
شقوق الساعات
زهرة الجمر على رماد الجفن
لو كان البؤبؤ ينعم بالحمّى
لو كان الصدر صفحة السكون
رعشة تخلي الحواشي
يتفرّد الموت على عري الحلبات والأسوار
إذا ارتفعت بين لحظات الدم
يتموّج السهل تحت
ثقل الريش والغناء
ضربة في العدم
يهتز رنين الوادي
وتعم الفجاج
في الأيدي المصلوبة بين النسيان
من سوف يشرق بعد الطوفان
بعد البرقة الأخيرة التي تشعر الحجارة والعروق
بعد ليلة الصيف التي تلمع في كل النجوم
كان وجهك الغياب الأقصى
حتى قلت الفجر الفجر
كل تلفت حجرٌ للذكرى
أهرام الوقت المقطوع
لو تدخل ملامحي الجدران
(حتى تنفجر الغصة)
(حتى أُبتر على ضفة الثانية كالوداع)
عريٌ يغبط طلوع المأساة
آه ! يا حارس العبث
يدٌ تدغدغ ثمر البحر
جسد يحفظ الحضور
عندها عبرت أحد الفصول
وأغلقت عليك…..(36)
لقد أحالنا النص السابق إلى مقاربة مستوي التشكيل الرؤيوي عند بول شاوول، فهو الشاعر الإشكالي والمثير للجدل منذ ظهوره في بداية السبعينيات، حيث رفض الدخول في عباءة الآخرين أوفي عباءة النقد المِِِِؤدلج حينها، وما زال يرفض الاستسلام للمعايير الجاهزة. كما يرفض الاستسلام لغواية الإعجاب، لذلك كانت تجربته الشعرية، في تقديري، عبارة عن مقترحات جديدة للقصيدة المعاصرة المتشكّلة في إطار قصيدة النثر؛من خلال العمل على التدمير البنيوي للقصيدة التقليدية، وتدمير اللغة المركبة للتشكيل التقليدي ذاته، ومع هذا وذاك يصرّ علي تدمير الذات بمعني التجاوز المستمر لها، وبمعنى التجريب الذي لا يتوقف، انه التجريب المبني على فلسفة الحداثة المستمر بحثاً عن المجهول، أو طلباً للحرية التي لا تحدها حدود النقد، لأنّ النقد مطلق والشعر نسبي، ولذلك فهما لا يلتقيان وفق مبادئ الكتابة الجديدة.
ويتضح مما سبق أن الشاعر وفق الرؤيا «الشاؤولية» يجب أن يبحث دائما في كيمياء الشعر وأحلام اليقظة الما ورائية، ووعيه التصوفي، وكتابة كل ما يخطر على باله وتدوينه في كل لحظة حتى لا يعاني من الإخفاق الشعري، لأنه القادر على إعادة خلق كينونة الأشياء وتحويل الزمن إلى إبداع شعري ، به ينتصر على فنائه الذاتي كإنسان.
وقد تجلت هذه الرؤيا في الكتابة عبر مساره الإبداعي إلى غاية دواوينه الأخيرة حيث يقول في ديوانه «بوصلة الدم»:
وتنتظر منقارا يفجر الصخور
وتنتظر طفلا يزيل الحدود بين الطبشور والثلج بين
الحديد والليلك بين الحجر والحمامة
وتنتظر فصولا تنشر حريتها في الينابيع والأمطار
والهواء(37)
ويتضح التحطيم البنيوي لنمط القصيد العربية التقليدية، بل حتي لتجارب الشاعر في ميدان قصيدة النثر نفسه، من خلال ديوانه الموسوم: «كشهر طويل من العشق» أي عمد شاوول إلى تقسيم الديوان تقسيما رؤيويا نابعا من ذاته الرافضة للأنموذج الشكلي حتي في دواوينه السابقة، فقد تألفت المجموعة من أربعة أقسام. القسم الأول يحتوي على عشرة مقاطع. والقسم الثاني بعنوان «نساء» يحتوي على ثلاثين مقطعا. والقسم الثالث بعنوان «أحوال الجسد» يحتوي على ثلاثة مقاطع ذات عناوين: توابع الجسد، بلادات الجسد، الضوء. والقسم الرابع بعنوان « المطر القديم» يحتوي على ثلاثة مقاطع.
في هذه المجموعة يتفاعل دور الشاعر ويتّسع موغلا في التجربة من المتناهي في الصغر إلى المتناهي في الكبر. كأنه يمسح روحه بزيت الشوق والضعف لاغيا ما يقف حائلا بين العشق وفكرة العشق، بين الرغبة والفكرة الرغبة، بين الجسد وفكرة الجسد، ويشتعل بولعه وخبله وشبقه وقداسته ، بجحيمه ورماده، وقهره وحقده ، وحنانه وقسوته. وذلك في نفس ملحمي وقريحة لا تستكين ولا تهدأ، تتحسّس الأمكنة وتتشمم كل ما يعبق ويفيض ويتجلى في عاصفة وجدانية لا تبقي ولا تذر.
إن هذه المجموعة التي تتميز بلغة ناضجة وجريئة ومجازفة، تجعل المتلقي يعيشها ويحّسها بجميع حواسه في العين والأذن والأنف والجلد واللسان، فيتشهى يلهث في متابعة إيروسية تلهب العين والخيال معا، يقول:
ياصباحات مشرقة من الأبد إلى الأبد على مضارب
الدم والكلمات
ياصباحات الأحصنة الطافرة من الشرايين
ياصباحات الأرض الواحدة والزمن الواحد والموت
الواحد
ترتعش لحظة وتتلاشى في موكب النحاس
يلمع البلور المغبرُ
تتضرَّج نعامةٌٌٌ بغيابها(38)
الهوامش
(1) كان ذلك في 31 يناير (جانفي) 1957، بعد سنتين من عودة يوسف الخال من أمريكا التي كان سافر إليها في 1948، وتشكيل مجلة شعر صحبة أدونيس وخليل حاوي ونذير العظمة.
ينظر: خير بك، كمال. حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر، ط2، المشرق للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت 1986، ص 72
(2) لتدقيق التاريخ فقط أذكر أن أدونيس كان قد نشر هذه المقالة في العدد 14 من مجلة شعر ربيع 1960.
(3) نشأت، كمال. شعر الحداثة في مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1998 ص 203.
(4) بيرس، سانت جون ( Perse ،Saint-John) . ولد في قوادلوب يوم 31 ماي1887 وتوفي في جزيرة جيون الفرنسية يوم20 سيبتمبر، 1975، .ينظر :
-Dictionnaire Encyclopédique De La Littérature Française , art 🙁 Saint-John)
(5) ينظر، الحاج، أنسي. ديوان «لن»، المقدمة ، ط1 بيروت 1960ص.ص 5 ـ 15.
(6) موافي، عبد العزيز. قصيدة النثر من التأسيس إلى المرجعية، ص 121.
(7) موافي، عبد العزيز. قصيدة النثر من التأسيس إلى المرجعية ، ص 122
(8) – ينظر: خير بك، كمال. حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر، ص ص 77، 78.
(9) أبو جهجة، خليل.الحداثة الشعرية العربية، ص 134.
(10) سلاّم، رفعت. مقدمة ترجمة كتاب سوزان برنار، قصيدة النثر من بودلير حتي الوقت الراهن، ج 1، ص 07.
(11) – القعود، محمد عبد الرحمان. الإبهام في شعر الحداثة، ص 154.
(12) المرجع نفسه، ص 155.
(13) نفسه، ص 156.
(14) ـ Princeton Encylopedia of poetry and poetics .enlarged
ed.( princeton university press.1974 ) p.664
نقلا عن ديب، محمد . قصيدة النثر بين الموهبة الفردية والرافد الغربي، مجلة الطريق، العدد الثالث، سبتمبر، بيروت 1993.
(15) ـ الضبع، محمود إبراهيم . قصيدة النثر وتحولات الشعرية العربية،ط1، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة،2003، ص 307.
(16) ـ سلام، رفعت. مقدمة ترجمة كتاب سوزان برنار، قصيدة النثر من بودلير حتي الوقت الراهن، ج 1، ص 08
(17) الحاج، أنسي. مقدمة ديوان «لن»ص 12.
(18) بارنار، سوزان. قصيدة النثر من بودلير حتى الوقت الراهن، الجزء الثاني، ص 605.
(19) Bernard, suzan .le poème en prose de Baudelaire jusqu>à
nos jours, paris 1959 p 763
(20) أدونيس. زمن الشعر، ط6، مزيدة ومنقحة، دار الساقي ، بيروت، 2005 ص 320.
(21) المصدر نفسه، ص 321.
(22) هذا الموقف المصّرح به في هذه الرسالة، هو موقف مرحليّ تغير مع تغير النظرة الخاصة إلى التراث لدى الجماعة في مرحلة السبعينات وما بعدها، حيث أضحي البحث في التراث يلهم الجماعة، رغبة منها في الوقوف على الشاذ والمتغير فيه وصولا لآلية التحديث والحداثة.
(23) أدونيس. زمن الشعر، ص 321.
(24) مجلة الآداب (البيروتية).»حوار مع أدونيس حول مجلة (شعر) وقصيدة النثر»، العدد 9/ 10، سنة 2001ص 47.
(25) باروت، جمال. الشعر يكتب اسمه، ص ص 53 ، 54.
(26) باروت، جمال. الشعر يكتب اسمه، ص 57.
(27) المرجع، نفسه، ص 90.
(28) نفسه، ص 92.
(29) باروت، جمال. الشعر يكتب اسمه، ص 97.
(30) ينظر موافي عبد العزيز. قصيدة النثر من التأسيس إلى المرجعية، ص 123.
(31) الماغوط ، محمد. الديوان، دار العودة بيروت، د ط ، د ت ، ص 323 ـ 325.
(32) خنسة، وفيق، دراسات في الشعر السوري الحديث، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر 1981، ص66
(33) الماغوط، محمد، حزن في ضوء القمر، دار العودة بيروت 1973، ص25، نقلا عن وفيق خنسة، دراسات في الشعر السوري الحديث، ص74.
(34) بول شاوول، شاعر لبناني ولد عام1948، كتب قصيدة النثر منذ بداياته الأولى وتفرد بلغته الهاربة من نموذج التشكيل المعجمي، من أعماله. أيها الطاعن في الموت، أوراق الغائب، نفاد الأحوال، منديل عطيل..الخ
(35) القعود، محمد عبد الرحمن. الإبهام في شعر الحداثة، ص 164.
(36) شاوول، بول. ديوان «أيها الطاعن في الموت»،ط2، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ، 1981ص ص 51 ـ 57
(37) شاوول، بول . بوصلة الدم، رياض الريس للكتب والنشر، لبنان 2004 ص10
(38) شاوول، بول . كشهر طويل من العشق، رياض الريس للكتب و النشر، لبنان، 2001، ص21 .
حبيب بـوهرور
ناقد وأكاديمي جامعي، الجزائر