لم يكن عبد المحسن طه بدر (1932-1990) مجرد ناقد أدبي, يقرأ الكتب ويستعرض النظريات الأدبية, ثم يقدم لقرائه خلاصة تحليلاته وآرائه, بل كان قبل هذا – وهنا مناط تميزه – صاحب موقف واضح وبسيط, مفرط أحيانا في وضوحه وبساطته. لا يحفل بما يلقى إليه من الغرب أو الشرق, وإنما يهتم غاية الاهتمام بأن يجتهد في فهم واقعه, وأن يكون مفهوما لقرائه العاديين, ومؤثرا فيهم, ومقنعا لهم. قد يختلف الناس حول منجزه النقدي النهائي, وقد يختلفون حول أحكامه القاسية, وحول أدواته النقدية البسيطة شبه التعليمية, حول منهجه النقدي ومدى قدرته على إضاءة النصوص التي يقف عندها, وحول تصنيفاته للرواية العربية, حول كونه ناقدا اجتماعيا أو تاريخيا أو تعبيريا أو قوميا أو واقعيا أو ماركسيا (وكلها أوصافا طلقت عليه)..
قد يختلف الناس حول هذا كله, لكنهم لن يختلفوا غالبا حول كونه نموذجا متفردا للناقد الذي يحرص على تحقيق أعلى درجة من الاتساق بين نقده الأدبي, ومعتقداته النظرية, وحياته المعيشية.
لقد بدا لقرائه وزملائه وتلاميذه وكأنه لا يملك شيئا من معلومات الناقد البراقة; فأمثلته التي يضربها في الكتب وفي قاعات الدرس واحدة, بعيدة تماما عن التجريد, هدفها تعليمي بحت, تعكس حرصا مبالغا فيه على الإفهام. نادرا ما يتردد في كلامه اسم ناقد آخر; فمنبع الكلام واحد وصيغته تعليمية ونهائية وحاسمة. إنه الناقد الذي يستشعر ضخامة مسؤوليته, لا إزاء النقد الأدبي بالمعنى الضيق, بل إزاء مجتمعه وواقعه ووطنه. نوع من المثقف الطليعي الذي يسعى إلى قيادة مجتمعه إلى تغيير مأمول.
وربما كان وراء هذا الحسم والوضوح واليقين الذي تحدث به عبد المحسن طه بدر دائم ا, في دروسه وفي كتاباته(1), عاملان أساسيان:
أولا : تصور خاص لوظائف الناقد, وفي مقدمتها الوظيفة الاجتماعية والتعليمية, وهي الوظيفة التي تقتضي عنده بالضرورة عدم الانفصال عن قضايا الواقع المباشرة وأسئلته البسيطة. »الاتصال بالواقع« هي كلمة السر في نقده كله كما سنرى: سواء في مسحه التاريخي لنوعين كبيرين من أنواع الأدب العربي الحديث, هما الشعر والرواية, أو في نظريته النقدية, أو في تطبيقاته على نصوص من الأنواع الأدبية المختلفة. إن للأدب – والفن – الجيد عند عبد المحسن بدر وظيفته في فهم الواقع وتغييره, كما أن للنقد الجيد وظيفته في فهم الأدب وتقييمه على هذا الأساس الاجتماعي ذاته.
ثاني ا: أساس تاريخي (مستمد من قراءة تفصيلية لتاريخ الأدب والثقافة والمجتمع العربي الحديث). لقد بنى عبد المحسن بدر قناعاته الأساسية على هذا الأساس التاريخي, فحاول أن يتعلم من تجربة من أسماهم »كبار المثقفين« في تاريخ الثقافة العربية الحديثة, وألا يكرر أخطاءهم; ومن ثم لم يكن من السهل أن يغير قناعاته مع كل صيحة نقدية جديدة; إذ أنها لم تكن مجرد آراء جاهزة استمدها من الآخرين ويسهل أن يغيرها ويستبدل بها أخرى.
ومن المؤكد أن هذا التصور الخاص الثابت لوظيفة الناقد من ناحية, وهذا الوعي التاريخي الحاد بتجربة كبار المثقفين وأخطائهم طوال تاريخنا الحديث من ناحية أخرى, قد أفسدا على عبد المحسن بدر تقييمه النهائي لبعض التيارات الفنية في تاريخ أدبنا الحديث, وجعلا موقفه متصلبا وجارحا في بعض المواقف وإزاء بعض النصوص, لكنهما منحاه أيضا قدرة أعلى على الحسم واستيعاب الظواهر الجديدة في إطار رؤية واضحة وثابتة إلى حد بعيد, وهي قدرة قد لا تتوافر للناقد الذي لا يملك مثل هذه الرؤية. وإذا لم نبدأ من هذه النقطة, فإننا لن نفهم كثيرا من منجزات نقد عبد المحسن بدر, وكثيرا من مشكلاته أيضا.
في الصفحات الأخيرة من كتابه ؛البحث عن المنهج في النقد العربي الحديث« يستفيد سيد البحراوي بقوة من النتائج التي انتهى إليها أستاذه, حين يرد أزمة المنهج في هذا النقد إلى سبب جوهري واحد, هو عدم قدرة النقاد العرب – في مختلف مراحل النقد العربي الحديث, ولأسباب مختلفة – على قراءة أسئلة الواقع العربي ومحاولة استيعابها والإجابة عنها, والاستغراق بدلا من ذلك في الإجابة عن أسئلة واقع آخر(هو الواقع الأوروبي في غالب الأحيان), وتكريس ذهنية تابعة لا جدوى منها ولا أمل فيها.
ويشير البحراوي إشارات عابرة إلى: ؛نقاد قلائل رفضوا الانصياع للتبعية وظلوا متمردين, وهؤلاء نسيهم التاريخ, الذي ما زال (رغم ديموقراطية العصر الحديث) تاريخ السلطة«, كما يشير إلى: ؛عدد من النقاد كفوا عن متابعة أي جديد في ساحة النقد الأوروبي, وبقوا محافظين على مناهجهم التقليدية, التي وإن حوت تناقضاتها القديمة, فإنها تظل أكثر فعالية, وخاصة في النقد التطبيقي, وقدرة على القيام بالوظيفة الاجتماعية للنقد, أي تحقيق الصلة بين المتلقي والنص؛(2). ومع أن البحراوي لا يتوقف عند نموذج مما قدمه هؤلاء النقاد, ومع أنه لا يشير في هذا السياق إلى اسم عبد المحسن بدر أو غيره, فإن أي متابع لمشهد النقد العربي في السبعينيات والثمانينيات, لا يملك إلا أن يتذكر هنا اسم عبد المحسن بدر, الذي اشتهر بين زملائه وتلاميذه بحدته في مقاومة بريق الصيحات الغربية الجديدة ورطانها النقدي الغامض, وبحرصه على ثبات المنهج وبساطته شبه التعليمية.
وتحاول هذه الورقة أن تتخذ من عبد المحسن طه بدر نموذجا لهؤلاء النقاد العرب المحدثين القلائل, الذين حاولوا الانطلاق من أسئلة الواقع; لترى ما الذي استطاع هؤلاء النقاد تحقيقه, وما الذي فشلوا في تحقيقه, ولماذا, وما الذي بقي من عملهم لتفيد منه حركة النقد العربي في وقتنا الراهن.
وقد يكون من الضروري إلقاء الضوء أولا على المقصود بـ»أسئلة الواقع«. لقد بات من المعروف أن العالم العربي – مجتمعه, وثقافته, وأدبه, ونقده..إلخ – قد تنازعه طوال تاريخه الحديث, ولايزال يتنازعه تياران أساسيان: أحدهما يجتهد للعثور على حلول لمشكلات الحاضر في ما قدمته الحضارة العربية الإسلامية القديمة التي كانت متفوقة, والآخر يسعى لاقتناص الحلول واستيرادها من الحضارة الغربية الحديثة التي لا تزال متفوقة. وفي أتون الصراع بين هذين التيارين القويين لم يفرغ أحد لفهم الواقع الموضوعي للمجتمع العربي الحديث.
من المؤكد أن التيارين كليهما كانا يسعيان لفهم هذا الواقع وتغييره والنهوض به, لكن ما حدث – من وجهة نظر عبد المحسن بدر – أنه قد تمت التضحية بهذا الواقع أو الاستعلاء عليه, مرة لصالح الحضارة العربية الإسلامية (في التيار الأول) ومرة لصالح الحضارة الغربية(في التيار الثاني). وهكذا اجتهد المثقفون في الإجابة عن أسئلة مزيفة; لأنها ليست أسئلة واقعهم الحاضر, بقدر ما هي أسئلة واقع غريب عنهم زمانا ومكانا. ومن الغريب أن هؤلاء المثقفين كانوا يلحون على فرض الأسئلة والأجوبة على واقعهم الذي لم يفهمهم ولم يتواصل معهم, مما زاد من اتساع الشقة بينهم وبين هذا الواقع, فاصطدموا به واستعلوا عليه وغرقوا في تشاؤمهم ومشكلاتهم الذاتية(3).
كان من الطبيعي والحالة هذه أن يتركز عمل عبد المحسن طه بدر على التاريخ الأدبي, في سياق من التاريخ الاجتماعي العام, في محاولة لفهم العوامل الحاكمة لحركة التاريخ العربي الحديث, ومن ثم العوامل المؤثرة في التاريخ الأدبي.
والحق أنك لا يمكن أن تفصل عمل عبد المحسن بدر الناقد عن عمل عبد المحسن بدر المؤرخ, كما لا يمكنك أن تفصل نقده للأدب عن نقده للنقد ; وذلك لسبب أساسي: أن كبار الأدباء الذين درسهم كانوا هم أنفسهم كبار النقاد والمثقفين, خاصة في جيل طه حسين والعقاد والمازني..إلخ, وهو الجيل الذي انخرط في علاقة مركبة مع الثقافة الأوروبية, كما أنه الجيل الذي حاول أن يبلور أشكالا للأدب ومناهج للنقد في ثقافتنا العربية الحديثة.
في تأريخه للأدب العربي الحديث شعرا (في رسالة الماجستير) ورواية (في رسالة الدكتوراه), وبعد أن فرغ من صياغة تصوره للوظيفة الأساسية للأديب والناقد والمثقف: رؤية الواقع وتقييمه والحكم عليه وتوجيهه, ولما لاحظ أن أدبنا ونقدنا وثقافتنا لم تفلح في الاتصال الحقيقي بواقعها, كان عمله كله منصبا على البحث عن إجابة لهذا السؤال: ما الذي أعاق أدباءنا ونقادنا عن رؤية واقعهم بشكل موضوعي ? وكان البحث التاريخي هو طريقه للإجابة عن هذا السؤال.
ولا شك أن عبد المحسن بدر في هذه المرحلة التأسيسية من عمله, كان يبني على مبادئ المنهج التاريخي كما تعلمها من أساتذته: طه حسين, ومحمد مندور, وشوقي ضيف وعبد العزيز الأهواني.. ولم يكن مستغربا ولا مستهجنا أن يبدأ رسالتيه في تاريخ الشعر والرواية, بمهاد تاريخي مطو ل, وأن يبدأ كل فصل من فصول الرسالة بعد ذلك بمقدمات من قبيل (العوامل المؤثرة – عوامل ظهور الرواية – الظروف التي أحاطت بممثليها – الظروف التي أحاطت بممثليها وأثرها على نفسياتهم وتفكيرهم وأدبهم..إلخ). وكلها عناوين تشي بنزوع تاريخي وبيوجرافي سائد.
ويرتبط هذا النزوع التاريخي عنده بفكرة تسري في عمله كله, هي فكرة »التطور«.. يقول في مقدمة تطور الرواية العربية: ؛ولما كنت من عنوان رسالتي معترفا بأن الفن والأدب ظاهرة متطورة تؤثر وتتأثر بالمحيط الذي تعيش فيه, وهو بهذا ليس ظاهرة جامدة وثابتة ولكنه ظاهرة دائمة النمو والحركة والتشكل والتغير تستجيب في حركتها لظروف بيئتها, لذلك كان من الضروري أن أكو ن لنفسي إحساسا واضحا عن العوامل التي أثرت في تطور حركتنا الأدبية والفكرية؛(4). لقد كان الغرض إذن من هذه المقدمات التاريخية الكثيرة والطويلة, أن يبني الناقد الشاب لنفسه أولا, تصورا واضحا عن اتجاه التطور العام ودلالته وقوانينه في الواقع العربي الحديث, أو في البيئة العربية الحديثة, باعتبار أن تطور الواقع أو البيئة هو أساس التطور الثقافي والفني الذي يدرسه الناقد.
وبقدر ما أصبحنا ننظر الآن إلى مثل هذه المقدمات, التي تحتل مساحة كبيرة من كتابي عبد المحسن عن الشعر والرواية, بصفتها ترهلا وعبئا لا طائل تحته, فإنها كانت بالنسبة له الأساس الذي بذل فيه جهدا كبيرا, ثم بنى عليه واستخلص منه مبادئ ثابتة, ظلت معه حتى النهاية كما سنرى.
ثلاثة مصطلحات في نقد عبد المحسن بدر لها سحر خاص, تتردد كثيرا في كتبه, ويتم بناء عليها تقييم الأدباء وأعمالهم, ويصعب فهم تطورات منهجه النقدي دون إدراك العلاقات المتشابكة والمتغيرة فيما بين هذه المصطلحات الثلاثة, وهي حسب ترتيب ظهورها في نقده: التطور, الواقع, الرؤية.
التطور(4) هي الكلمة الأقدم التي ورثها عن أساتذته, يتردد صداها في عناوين كتبه ومقالاته, بدءا من رسالة الماجستير بعنوان: »التطور والتجديد في الشعر المصري الحديث« 1957, إلى رسالة الدكتوراه بعنوان: »تطور الرواية العربية الحديثة في مصر« 1963, إلى محاضراته لطلبة جامعة بيروت العربية بعنوان »تطور النقد العربي الحديث« 1968 إلى مقالته الشهيرة »حركات التجديد والتطور في الأدب العربي الحديث« 1978. هذا فضلا عن أنها كانت الأساس الذي بنى عليه خطة العمل في كل دراساته الأخرى.
لقد بدت الكلمة في بحثه عن »تطور الشعر« مجرد جزء من الميراث المثالي لأساتذته (وخاصة شوقي ضيف), الذي لا يذكر عبد المحسن كتابه« التطور والتجديد في الشعر الأموي« ضمن قائمة المراجع, وإن أشار إليه عرضا في متن الكتاب(5). وجاء تطور الأدب هنا مقترنا بما كان يسمى تطور »الحياة« (6), لكن الكلمة ما لبثت أن اقترنت فيما بعد بكلمة »البيئة«, ثم كلمة »الواقع«, فاكتست بظلال ماركسية وقومية, وأصبح تطور الأدب مقترنا بما يسمى تطور »الواقع«.
ومع أن صيغة التطور- وخاصة في كتابيه عن تطور الشعر وتطور الرواية, وفي مقالته عن حركات التجديد والتطور في الأدب العربي الحديث- كانت تسير على وجه العموم, وكما رسمها فى مقدمة »تطور الشعر«, من »مظاهر التطور في الحياة المصرية الحديثة في مختلف مجالاتها من سياسية واجتماعية وفكرية وأدبية«, إلى »أثر ذلك كله على موقف الشاعر من الحياة«, إلى »تأثير هذا الموقف على مضمون الشعر« ثم إلى »تطور صياغته التي اعتبرنا تطورها متصلا بتطور المضمون ونابعا منه« (7) أي من الواقع المادي, إلى الوعي, إلى الفن مضمونا وشكلا – مع ذلك, فإن موقف الأديب أو رؤيته فيما بعد – وخاصة في كتب حول الأديب والواقع, والروائي والأرض, ونجيب محفوظ – بدت وكأنها تحتل المكان الأول الذي تبدأ منه حركة التطور; فالواقع يبدو وكأن لا وجود له إلا عبر »إحساس« الأديب به, أو »موقفه« منه, أو »رؤيته« له.
و قد اقترن التطور عند عبد المحسن بالتقدم أو بالتجديد في معظم الأحوال, وبدا قيمة موجبة في حد ذاته, فهو يتصاعد عادة من الأدنى إلى الأعلى, سواء كان ذلك على مستوى نوع أدبي معين (كالرواية التي تتطور, في كتاب »تطور الرواية« من الرواية التعليمية بدرجتيها, إلى رواية التسلية والترفيه, إلى الرواية التحليلية, إلى رواية الترجمة الذاتية, مع ملاحظة وجود درجات من التطور داخل كل نوع من هذه الأنواع الفرعية) أو كان ذلك في معالجة موضوع معين (كموضوع الأرض أو القرية في كتاب »الروائي والأرض«) أو كان ذلك على مستوى إنتاج أديب معين (كنجيب محفوظ الذي يمر إنتاجه, في كتاب »نجيب محفوظ: الرؤية والأداة«, بأطوار متصاعدة من العلاقة مع الواقع.
ربما كانت فكرة التطور مجرد حيلة تصنيفية سهلة ومقبولة استخدمها عبد المحسن كما استخدمها أساتذته من مؤرخي الأدب, دون أن يكون وراءها هذا العمق الأيديولوجي سواء المرتبط بالماركسية, أو المرتبط بالوعي القومي أو الناصري كما لاحظ جابر عصفور مرة في قراءته لكتاب تطور الشعر(8), لكن الشيء المؤكد أن التطور كان عند عبد المحسن قيمة موجبة, فمجرد كون الكاتب متطورا يمنحه امتيازا خاص ا. حتى في التعليق على مجموعة قصصية واحدة لكاتب شاب(فاروق منيب مثلا) يقسم الناقد الشاب(عبد المحسن بدر) قصص الكاتب إلى مراحل فنية متتالية متطورة, تعبر عن مراحل نفسية متتالية متطورة مر بها الكاتب. وليس أدل على القيمة الموجبة التي ينطوي عليها التطور, من هذه العبارة التي يختم بها الناقد تعليقه على مجموعة فاروق منيب »الديك الأحمر«, يقول: »وأخيرا فإن أملنا في فاروق كبير, وذلك أولا لأنه كاتب يعبر عن جيلنا, وثانيا لأنه يحاول هذا التعبير مخلص ا, فهو لا يلجأ إلى الشعارات ولا إلى اللهجة الخطابية ولا إلى الإثارة, وثالثا لأنه كاتب متطور يتجه إلى الأفضل بطريقة مستمرة متصلة, وهذا المعنى الأخير يؤكد ثقتنا فيه ويجعلنا ننظر في أمل ولهفة إلى إنتاجه المقبل« (9).
وما من شك أن تحول مبدأ التطور إلى هاجس ملح يوجه كل تصنيفات الناقد على هذا النحو, قد أحدث نوعا من الارتباك الذي ترك أثرا سلبيا على عمله ; إذ كثيرا ما واجه أعمالا لا تستقيم مع تصنيفاته التطورية, فلجأ إلى حلول استثنائية, وخاصة حين يتعارض التطور الفني مع التطور التاريخي. حدث هذا في تطور الشعر وفي تطور الرواية, يقول في مقدمة تطور الرواية: ؛واستقر رأيي في النهاية على اختيار منهج يجمع بين المنهج التاريخي والمنهج النقدي ; لأني مادمت أؤمن بالتطور فلا يمكنني أن أغفل تأثير الزمن في تطور الرواية, ولما كان هذا التطور لا يظهر إلا منعكسا على موضوع الرواية والأسلوب الذي اتبعه مؤلفها في كتابتها كان لابد للباحث من قياس هذا التطور على ضوء المقاييس النقدية, ولذلك حاولت في تقسيم البحث وفي طريقة معالجته الجمع بين هذين العنصرين, ووجدت أن الجمع بينهما لا يتعارض مع واقع تطور الرواية العربية في مصر إلا في حالات نادرة حاولت تبريرها؛(10). ولابد للقارئ أن يلتفت في هذا النص إلى مجموعة من الأشياء; فالتطور مبدأ منهجي ينطلق منه الناقد ومسلمة »إيمانية« و»لا يمكن إغفالها«, وكل ما يمكن أن يفعله إذا حدثت تعارضات أن »يحاول تبريرها«. كما أن هذه من المرات النادرة التي يستخدم فيها عبد المحسن مصطلح »الانعكاس« في سياق شبه ماركسي.
ومن المهم أن نلاحظ أيضا أن مبدأ التطور في كتاب تطور الشعر, لم يكن قد وصل إلى مرتبة المسلمة الإيمانية التي وصل إليها في تطور الرواية وما بعدها, ولم يكن من ثم قد اكتسى ظلالا ماركسية; وهذا يعني أن تغيرات كبيرة وواضحة – وإن لم تكن حاسمة – قد وقعت في قناعات عبد المحسن وفهمه للمصطلحات, بين كتابه عن تطور الشعر 1957, وكتابه عن تطور الرواية 1963, وهي تغيرات اقترنت باستخدامه المصطلح الثاني: الواقع والواقعية.
حتى أنهى عبد المحسن بدر رسالة الماجستير لم يكن لمصطلح الواقع والواقعية أي حضور في نقده, وحين نبحث عن المصطلح في كتاب »تطور الشعر« لن نعثر عليه سوى مرة واحدة, في إشارة هامشية مرتبطة باستخدام هيكل للعامية في رواية »زينب«, يقول: »وكما بدأ الأدب يتخلص من الاعتماد على الأدب العربي القديم ليعبر عن واقعه, كذلك تخلصت الأساليب من الاعتماد على الصياغة العربية القديمة لتكون أكثر سهولة وطواعية وملاءمة للتعبير عن الواقع, بل لشدة ارتباطها بالواقع. وتظهر هذه المحاولة في استخدام هيكل للغة العامية كأداة للحوار في قصة »زينب« (11). وكانت الكلمة المستخدمة دائما بدلا من كلمة الواقع – في كتاب تطور الشعر – هي كلمة »الحياة« كما لاحظنا من قبل.
وبدءا من عام 1956 ظهرت كلمة الواقع في مقالة »الأدب والتجربة«, ثم احتلت الكلمة في عام 1958 مكانها في عنوان مقالته »نحو أدب واقعي مخلص«, وهو عنوان يحمل قدرا واضحا من التبني لحلم الواقعية الصاعدة, وهو ما يؤكد مرة أخرى أن تغيرا كبيرا قد وقع, في فهم عبد المحسن لمصطلحاته وتداعياتها خلال فترة الإعداد لدراسته عن تطور الرواية, ومن المرجح أنه تغير يرتبط بصعود المد القومي الذي ارتبط به حلم عبد المحسن, وإن لم يتوقف أبدا عن نقده وتقويمه.
لقد أصبحت كلمة الواقع – بالإضافة إلى كلمة التطور – قاسما مشتركا في كل ما يكتبه; ذلك أن »الاقتراب« من الواقع و»الإحساس« به و»رؤيته« تمثل الغاية التي يسعى إليها التطور الطبيعي ; فالنوع الأدبي – خاصة الرواية – يتطور ويتقدم وتتخلق تقاليده الفنية كلما اقترب من الواقع (تطور الرواية), ورؤى الكتاب تتقدم وتتصاعد في تطورها كلما اقتربت من الواقع, فتبدأ من الرؤية الرومانسية البعيدة عن الواقع, وتنتقل إلى الرؤية الفكرية المثالية المفروضة على الواقع, ثم تتقدم خطوة أخرى نحو الواقعية, إلى أن تصل إلى الرؤية الواقعية في نهاية المطاف (الروائي والأرض); وأعمال الكاتب الواحد تتطور وتكتسب قيمتها الفنية كلما اقتربت من الواقع واتصلت به (نجيب محفوظ: الرؤية والأداة).
وهكذا يتطور الفن صاعدا حتى يصل إلى الواقعية, أما إذا تخطى الواقعية بأي معنى, فإن هذا سيصبح في نظر عبد المحسن أقرب إلى الارتداد ; ولعل هذا يفسر لماذا توقف عبد المحسن في دراساته للرواية عند حدود الواقعية ; فقد ظل طوال السنوات العشر الأخيرة من حياته يقرأ الرواية المعاصرة, رواية ما بعد الواقعية, ويتابعها ويسعى لكتابة دراسة عنها, ولكنه ظل مترددا جدا إزاء هذه الخطوة, إلى أن قدم محاضرة تذكارية في ذكرى عبد العزيز الأهواني عام 1987 بعنوان »الرواية العربية المعاصرة« (وهي المحاضرة التي لم يتخذ عبد المحسن قرارا بتحويلها إلى بحث منشور, لكن نصها نشر كما هو, ونقلا عن النص الصوتي المسجل, بما يتضمنه من ارتجال, وذلك بعد وفاته بثلاث سنوات, ضمن كتاب »دراسات في تطور الأدب العربي الحديث«). ومع أن هذه المحاضرة توقفت عند حدود الرصد والتصنيف, ورسم الخطوط العامة لما حدث من تحولات في الرواية المصرية بعد 1967 – فإن الموقف النهائي لعبد المحسن من هذه التحولات كان سلبيا; لأن هذه الروايات تنكبت طريق الواقعية, وعادت إلى تضخيم الذات على حساب الموضوع. الأثر الإيجابي الوحيد الذي يسجله عبد المحسن لهذه التحولات يتعلق بنوعية الاقتراب الجديد من الواقع, يقول: ؛الأثر الإيجابي هو أن الناس نظروا إلى الواقع بتفحص أكثر, النزعة التشككية جعلت الوعي بالغ الشدة ويجب إعادة النظر في كل مسلمة, ويجب ألا يؤخذ أي أمر على أنه مفروغ منه..« (12)
ولعل هذا يفسر أيضا لماذا لم يكمل عبد المحسن مشروعه عن نجيب محفوظ. لقد ظهر كتاب »نجيب محفوظ: الرؤية والأداة« عام 1978 (13), وكان واضحا من غلاف الكتاب في طبعته الأولى, أنه يمثل جزءا من مشروع لدراسة كل روايات نجيب محفوظ, غير أن القراء فوجئوا بأن الطبعات التالية للكتاب جعلت الكتاب مكتملا في ذاته وتخلت عن إكمال المشروع(14). لقد انتهى رصد التطور في الجزء الأول من الكتاب عند روايات محفوظ الواقعية النقدية, وكان الجزء الثاني استكمالا ضروريا لمشروع عبد المحسن, لأنه سيؤيد الفصل الاستهلالي العميق الذي رصد فيه الجذور العامة الثابتة في رؤية نجيب محفوظ, وهي الجذور المستمدة في معظمها من رواياته الميتافيزيقية في الستينيات, لكن عبد المحسن لم يكتب هذا الجزء وأغلق الكتاب عند جزئه الأول, فهل كان ذلك لأن روايات محفوظ الميتافيزيقية غير الواقعية في الستينيات لا تستحق الجهد المبذول في دراستها ? أم لأنها كانت ستضع الناقد من جديد أمام مأزق التطور الصاعد ?
في كتاب تطور الرواية حلت كلمة ؛الواقع« تماما محل كلمة ؛الحياة« التي كانت سائدة في كتاب تطور الشعر, وهو أمر يرتبط بصعود المد القومي وما صاحبه من صعود دعوة الواقعية في الخمسينيات كما ذكرت من قبل, لكنه يرتبط كذلك بطبيعة النوع الروائي ونشأته وتقاليده, كما عرفها عبد المحسن عند النقاد الإنجليز, وخاصة إيان واط وأرنولد كتل, وهما الناقدان اللذان استند إليهما في دراسة الرواية الفنية وعوامل ظهورها »فالرواية عند كتل ؛نثر روائي واقعي كامل في ذاته وله طول معين«, وأهم ما يميز الرواية عند واط هو هذه »النظرة الواقعية«. ويستخلص عبد المحسن من هذا أن »الأسس التي تفرق بين الرواية الفنية وبين غيرها من الأشكال الفنية التي سبقتها, تنحصر في أن الرواية الفنية تتجه إلى الواقع, في الوقت الذي تتجه فيه الأشكال الأخرى إلى خلق عالم قائم على الوهم والإسراف في الخيال«(15). إن ما يميز »الرواية الفنية« عما أسماه »رواية التسلية والترفيه« (المقابل العربي للرومانس) هو هذا »الحس الواقعي« أو »محاولة الارتباط بواقع المجتمع«.
وكما كانت كلمة التطور هاج سا ملحاحا في نقد عبد المحسن بدر كانت كلمة الواقع, فـ»الواقع« و»الارتباط بالواقع« و»الحس الواقعي« و»الاقتراب من الواقع«.. صيغ تتكرر كثيرا في كتاب تطور الرواية. ومع أنه يميز بوضوح بين صفة »واقعي« التي توصف بها الرواية الفنية, وبين الواقعية التي هي مذهب أدبي محدد,ويشير إلى أنه يستخدم كلمة واقعي هنا »بمعنى عام يتلخص في الاتصال بالحياة الواقعية.. وبعيدا عن أي تداع يثيره مذهب أدبي محدد« (16) – مع ذلك, فإنه في موضع آخر من الكتاب, سيلاحظ العلاقة المثيرة بين الرواية (بما هي نوع أدبي) والواقعية (بما هي مذهب أدبي) يقول: ؛فالفن الروائي لم يتأثر كثيرا بالرومانسية, لأنه بطبيعته فن موضوعي لا يستفيد كثيرا من النزعات الذاتية والعاطفية المسرفة. صحيح أن الرومانسية ثارت على القواعد, وصحيح أنها ساعدت على ظهور أشكال من الرواية التحليلية والسيكولوجية والتاريخية والعاطفية, لكن دورها اقتصر على التمهيد لظهور الرواية الواقعية, التي ينظر إليها كثير من الباحثين باعتبارها الممثل الحقيقي الأصيل للرواية الفنية« (17). كان من الطبيعي إذن أن يجد عبد المحسن بدر في الرواية نوعه الأدبي المفضل الذي يتجاوب بطبيعته مع مبادئه المنهجية, فيصرف معظم جهده في دراستها.
وبقدر ما يعكس هذا الحس الواقعي الملازم لنوع الرواية منطقها الخاص الجديد في إدراك العالم, فإنه يعني عند عبد المحسن بدر مزيدا من المهارة الفنية, مزيدا من التماسك والبناء العضوي والمعقولية. مع الرواية الفنية/الواقعية ؛أصبح البناء عضويا متكاملا, تؤدي كل جزئية فيه بالضرورة إلى الجزئية التي تليها, ولم تعد نهاية الرواية تمثل عجز الكاتب أو سأمه من الاستمرار في تقديم العجيب والغريب, ولكنها أصبحت تمثل نهاية إحساس الكاتب واكتماله.. « (18), ويستطيع الباحث – كما يقول عبد المحسن بعد ذلك بسنوات في مقالة »حركات التجديد والتطور في الأدب العربي الحديث« – أن يلمح(في الرواية الواقعية) قدرا أكبر من الحس الواقعي يؤدي إلى مهارة فنية متزايدة» (19). الحس الواقعي إذن لم يعد قيمة إيجابية بسبب مضمونه ودوره الثوري الكاشف فقط, بل أصبح قيمة إيجابية كذلك لأنه يؤدي إلى مزيد من إحكام الصياغة والشكل, فيعني في النهاية مهارة فنية متزايدة.
والحق أن هذه المهارة الفنية المتزايدة لم تكن في رأي عبد المحسن, وليدة مجرد »الاتصال بـالواقع« في ذاته, أو مجرد »الاقتراب من الواقع«, وإنما كانت وليدة ما سماه »التجربة«, أو ما سماه في تطور الرواية »إحساس الأديب« أو »انفعاله« بالواقع, وهو المصطلح نفسه الذي أصبح فيما بعد »رؤية« الأديب للواقع.
لم يصغ عبد المحسن مصطلح »الرؤية« صياغة نهائية إلا في أواخر الستينيات, حين كان يعد لكتابيه »الروائي والأرض« و »حول الأديب والواقع«, غير أن لهذا المصطلح جذورا قديمة وبعيدة في نقده, أهمها استخدامه الباكر لكلمات من قبيل: »تعبير« و »إحساس«, و»انفعال«, و»تجربة«, و»مخلص«, و»صادق«, و»عميق«..إلخ, بكل تداعياتها التعبيرية, وكلها كلمات ظلت معه حتى النهاية. وكان نص تعريفه للأدب, الذي استمع إليه كل من جلسوا أمامه في قاعات الدرس خلال السبعينيات والثمانينيات, دالا في هذا السياق, خاصة إذا عرفنا أن كلامه الشفاهي في المحاضرات لم يكن يختلف كثيرا عن كلامه المكتوب في الأبحاث الأكاديمية. كان تعريفه للأدب كما يلي: ؛الأدب تعبير بالكلمة عن تجربة إنسانية صادقة وعميقة«.
بيد أننا سنخطئ التقدير إذا لم نفهم السياقات التي استخدم فيها الناقد هذه الكلمات, صحيح أنها كلمات مقترنة بنظرية التعبير, وصحيح أنها وليدة إعجاب مبكر بالرومانتيكيين ومنجزهم في نظرية الفن, وربما كانت وليدة »رواسب منسربة من ترجمة سامي الدروبي لكل من كروتشه وبرجسون« كما يلاحظ جابر عصفور(20). كل هذا صحيح ومنطقي; لأن منجز الرومانتيكيين في نظرية الفن كان – كما يقول أبرامز – نقطة فارقة بين النقد التقليدي والنقد الحديث بمختلف اتجاهاته, بما في ذلك النقد الذي يعترف بأنه ضد الرومانتيكية(21) (كنقد عبد المحسن). لكن الصحيح أيضا والغريب, أن استخدام عبد المحسن لهذه الكلمات جاء دائما في سياق الدفاع عن الواقعية وفنيتها, وهو ما أدى – من ناحية – إلى قدر من التخلص من الحمولة التعبيرية لهذه الكلمات, وأدى من ناحية أخري إلى تحوير في الصيغة الواقعية المطروحة, وتحويلها إلى صيغة مهجنة خاصة بعبد المحسن بدر.
لقد دخلت كلمات »التجربة« و »التعبير« و »الانفعال« و »الإحساس« إلى معجم عبد المحسن بدر النقدي, في الوقت نفسه الذي دخلت فيه كلمة »الواقع« و »الواقعية«, واندمجت هذه الاصطلاحات جميعا في سياق محاولة الإجابة عن السؤال الكبير: إذا كانت وظيفة الأدب والفن هي رؤية الواقع والتعبير عنه, فما الذي أعاق كتابنا ونقادنا ومثقفينا عن رؤية واقعهم ?
في مجموعة المقالات التي نشرها أواخر الخمسينيات, ووضعها بعد ذلك في كتابه «حول الأديب والواقع«, يطرح عبد المحسن دعوته لأن يكون العمل الأدبي نتاجا لتجربة شعورية, صحيح أنه لا يستخدم صفة »شعورية« هذه, وإنما يستخدم بدلا منها صفة »إنسانية«, ولكن حين يشرح مفهومه للتجربة لن يتردد في استخدام كلمتي «الشعور« و»الإحساس«, إذ يقول في مقالة »الأدب والتجربة« 1956.الأدب رحب رحابة الحياة الإنسانية نفسها.. ولكن ليس معنى هذا أن يسجل الفنان لوحات الحياة تسجيلا واقعيا مباشرا ليصبح فنانا, محتجا بأن هذه هي الصورة الواقعية للحياة.. فما من شك في أن هذا تسجيل مباشر صادق ولكنه يخلو من الروح, ولكي يأخذ وضع من الأوضاع معنى التجربة, فلابد أن يكون منفردا بدلالة خاصة أو إحساس خاص يعطي له لونا خاصا في نفس الأديب أو الفنان, بحيث يمكن انتزاعه من الحياة ليصير خبرة خاصة للفنان, أو تجربة. ومن الضروري والحالة هذه أن تكون التفاصيل التي يختارها الفنان في تجربته هي التفاصيل التي تساعد على إبراز هذا اللون الخاص أو هذا الشعور الخاص الذي أحسه الفنان تجاه هذا الموقف أو ذاك من مواقف الحياة, بحيث يكون هذا الشعور هو السلك الخفي الذي يربط كل أجزاء العمل الفني أو الحركة الدينامية التي تبعث الروح في كل أجزائه«.(21)
التجربة إذن هي مصدر الروح في العمل الفني, وهي التي تحول العلاقة مع الواقع إلى فن, أو قل إنها هي التي ستحمي الواقعية من طغيان السطحية والدعاية وأدب المناسبات الثورية, وهو الأدب الخطابي التعليمي الذي وقف عبد المحسن ضده على الدوام, حتى لو ادعى الواقعية والثورية. يقول في مقالة »شعر المناسبات في أدبنا المعاصر« 1958 : »إن أحدا لا يستطيع أن ينكر أن الفنان في عرضه لتجربته كإنسان يعي طبيعة مجتمعه وظروفه, لابد أن يكون له هدف يسعى إليه, ولكننا ننكر أن يكون هدف الشاعر مقدما على طبيعة إدراكه لفنه, وإمكانيات هذا الفن, وإلا كانت النتيجة الطبيعية أن يفقد وظيفته كشاعر, وتأثيره كمصلح في نفس الوقت. والشاعر الذي يرضى بأن تختار له الجماعة موضوع انفعاله, والزاوية التي ينظر منها إلى موضوعه, يكون قد ضحى في الوقت نفسه بحريته« (22), ويقول في مقالة »الشعر العربي والتجربة الإنسانية« 1956: »وبينما كنا نأمل أن يصل الاتجاه الجديد (المقصود اتجاه الشعر الحر في بداياته) بالشعر العربي إلى مرحلة التحرر الكامل, والتعبير الحر عن الواقع الإنساني ممثلا في تجربة حقيقية, أصبح هذا الاتجاه نفسه عرضة للانطواء في التيار الجديد الذي أخذ يفرض على الشعر الجديد قبل أن يكتمل تحرره, مفاهيم الاشتراكية والكفاح.. «.(23)
بعد ذلك, وبدءا من تطور الرواية, سنقرأ عن إحساس الأديب وانفعاله كلما قرأنا عن الواقع ; فالمجال الأدبي برمته »يرتكز على تعبير الفرد عما يحسه إزاء الواقع« (24), وأهم العوامل المؤثرة على كتاب رواية التسلية والترفيه »أن رواياتهم لم تكن تعبر عن إحساس, أو انفعال خاص يريد الكاتب إبرازه وتصويره, وكانت رواياتهم والحالة هذه لا تحمل تصويرا لمشاكل مجتمعهم.. » (25), أما الرواية الفنية فغايتها »التعبير عن إحساس الأديب بالعالم الذي يحيط به, وهو لذلك لا يعتمد على الإيهام بقدر ما يتجه إلى الواقع« (26), بعكس رواية التسلية والترفيه التي ؛لا تحاول الكشف عن إحساس خاص للأديب ; وهي لذلك تفقد الحتمية والسببية, فتخلو من الرابطة التي تربط بين أحداثها, ومن المحور الذي تدور حوله الأحداث, وتصبح مجرد معرض للشاذ وغير المتوقع وتفقد الرابطة العضوية التي تجعل منها بناء متماسك ا..؛(27)
وهكذا تتحول التجربة, أو التعبير عن إحساس الأديب الخاص إزاء الواقع, إلى ضمانة لفنية العمل الأدبي وتماسكه, وتتحول الصيغة النقدية لعبد المحسن طه بدر إلى صيغة اجتماعية/تعبيرية, حيث تعلن عن تبن كامل للصيغة الاجتماعية الماركسية في العلاقة بين الفن والمجتمع(28), بينما تنطوي على إعجاب قوي بالصيغة التعبيرية حول الشكل الفني العضوي الذي ينهض على فاعلية الخيال.(29)
ولكن رغم هذه الإشارات الكثيرة في تطور الرواية, للدور الذي يلعبه إحساس الأديب وانفعاله بالواقع في صياغة الشكل الفني وتماسكه, ورغم الصفحات المطولة التي سطرها عبد المحسن في الحديث عن نفسيات الأدباء وظروفهم ; فإن التوازن أو التفاعل كان لا يزال قائما بين أطراف العملية الإبداعية الثلاثة: الواقع, ورؤية الأديب(أو إحساسه), والعمل الأدبي. أما في »حول الأديب والواقع« و»الروائي والأرض« و»نجيب محفوظ: الرؤية والأداة«, فإن هذا التوازن أو التفاعل قد أخذ يتراجع, حيث برز الاهتمام بـ»الأديب« أو »الروائي« أو »نجيب محفوظ«, أو ق ل برز الاهتمام بالفرد المبدع أو الذات المبدعة, على حساب الاهتمام بالواقع أو الموضوع من ناحية, وعلى حساب الاهتمام بالفن أو الأداة أو الشكل من ناحية أخرى.
لقد جاء أول استخدام لمصطلح »الرؤية«, في إشارة من هذه الإشارات الكثيرة لإحساس الأديب في كتاب »تطور الرواية«, حين كان عبد المحسن يتحدث عن رواية طاهر لاشين »حواء بلا آدم«, ولاحظ أن الظاهرة التي لم يتخلص منها الكاتب – رغم جودة عمله – أنه لم يستطع في بعض الأحيان أن يبدو موضوعيا في رؤيته للواقع« (03).
أما الصياغة النهائية للمصطلح فقد جاءت كما ذكرت من قبل, في مقدمتي »حول الأديب والواقع« و »الروائي والأرض«, اللذين صدرا في العام نفسه 1971. وأية مراجعة لكتاب »الروائي والأرض« يمكن أن ترصد مجموعة من الأمور الدالة: أولا/ تراجع الحديث عن الواقع التاريخي الذي عاش فيه الأديب وكتب رواياته, ثاني ا/ انهماك كامل في الدراسة النفسية للعملية الإبداعية ودور الفنان فيها, وتركيز على مسؤوليته الذاتية واختياراته, وإبراز لطبيعته كإنسان عادي يتميز بدرجة أعلى من الذكاء والحساسية.., وهو انهماك تعكسه تماما نوعية المراجع المستخدمة في مقدمة الكتاب, أي المراجع التي تركز على دراسة العملية الإبداعية, وطبيعة الفنان وعمله, والدراسة النفسية للأدب(31), ثالث ا/ رغم الطابع التطبيقي الذي اتسمت به هذه الدراسات, وهو أمر إيجابي كانت الساحة النقدية تفتقر إليه ولا زالت ; فإن الطريقة التي درست بها الروايات ظلت ثابتة عند الطريقة نفسها التي استخدمها الناقد في تطور الرواية, دون استفادة واضحة من منجز الدراسات الأدبية والسردية الأحدث(32), وهو ما أثر بالضرورة على خصوبة الأدوات النقدية, التي يتناول بها أعمالا أدبية معاصرة, يفترض أنها أكثر تعقيد ا.
ومع كتاب »نجيب محفوظ: الرؤية والأداة«, يصل هذا الخلل في التوازن بين أطراف العملية الإبداعية إلى نهايته, إذ يكاد نجيب محفوظ يخرج تماما من واقعه التاريخي, وت غلق الدائرة عليه وعلى رواياته, وي درس في المطلق, وتتضح هذه الصورة كلما تقدمنا مع فصول الكتاب(33). في كتاب نجيب محفوظ يختفي إلى حد بعيد الحديث عن الظروف التاريخية التي كتب فيها رواياته, أو ما كان عبد المحسن يسميه قبل ذلك »العوامل المؤثرة«. هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى, ورغم تقدم الزمن وتنامي الدراسات السردية , يزداد إحساس القارئ في هذا الكتاب بالافتقار إلى بعض الدراسات النقدية الحديثة, التي تضيء للناقد بعض جوانب العمل الأدبي وتعينه على رؤيتها, وبالتالي تظل دراسة شكل الرواية متوقفة هنا أيضا عند مرحلة »تطور الرواية«.
وهكذا كان عبد المحسن بدر يتطور – من غير قصد – في اتجاه التركيز على رؤية الذات المبدعة واختياراتها, على حساب التركيز على الواقع التاريخي للأدباء وأعمالهم, وعلى حساب التركيز على أدواتهم الفنية, التي عدها عنصرا تابعا وتأتي في المرتبة الثانية بعد الرؤية ; فكانت النتيجة أنه اختزلها في ما سماه »اللغة«, ثم هم شها وأرجأ دراستها إلى الفقرات الختامية من كل فصل.
لعل من المفيد الآن أن نتساءل : ما الذي أدى بناقد اجتماعي من الطراز الأول مثل عبد المحسن بدر, إلى مثل هذا الموقف المتناقض المرتبك ? هل هي الرواسب التعبيرية التي لم يفلح الناقد في إحداث قطيعة نهائية معها ? أهو حجاب المعاصرة, منعه من اكتشاف الواقع التاريخي لأعمال وأدباء معاصرين له ? أم هو الموقف المأزوم المصدوم لكل المثقفين العرب – خاصة القوميين منهم – في أعقاب كارثة 1967 ? أم هو التصور الصارم الذي بناه الناقد عن مشكلات الثقافة والمثقفين العرب طوال العصر الحديث, وأبرزها مشكلة العلاقة مع الثقافة الأوروبية, وهو التصور الذي كان عبد المحسن مصرا عليه ومستعدا للتضحية بكل شيء من أجله, خاصة بعد أن رآه يتكرر حوله بصور مختلفة, تماما كما كان في كل مراحل علاقتنا مع الغرب في العصر الحديث ?
ربما كانت هذه العناصر كلها فاعلة فيما حدث لنقد عبد المحسن بدر بعد 1967, لكن العنصر الأخير كان أكثر العناصر حسم ا, ويا للمفارقة – قد يكون هذا العنصر الأخير: أي تصور عبد المحسن لطبيعة العلاقة مع الغرب, من أهم العناصر الباقية في نقده اليوم وغد ا.
جاء تصور عبد المحسن بدر لطبيعة العلاقة, بين المثقفين والأدباء العرب من ناحية والثقافة الغربية من ناحية أخرى, بعد رحلة تأمل وبحث في سياق الإجابة عن السؤال الكبير: ما الذي أعاق أدباءنا ومثقفينا طوال تاريخنا الحديث عن رؤية واقعهم ? وكان جوهر الإجابة هو: الخضوع الكامل والتبعية التي انخرط فيها هؤلاء الأدباء والمثقفون في علاقتهم مع التراث العربي أولا , ثم مع الثقافة الأوروبية بعد ذلك, بحيث يأتي الالتفات إلى واقعهم الاجتماعي الحي – إذا أتى – في مرتبة تالية.
خلال المرحلة الأولى التي كتب فيها عبد المحسن رسالة الماجستير, لاحظ ما تركته الثقافة الغربية على نفوس الشعراء والنقاد من إحساس بالعزلة والتمزق والقلق والتشاؤم..إلخ. لكن تقييمه النهائي لطبيعة هذه العلاقة وتأثيرها لم يكن ينطوي على إدانة, بل ربما انطوى على قدر من التشجيع والفرح. ولنقرأ ما كتبه في نهاية الفصل الأول من رسالته للماجستير, التي تحولت إلى كتاب »التطور والتجديد في الشعر المصري الحديث«: »أما أثر الإقبال على الأدب الأوروبي فيظهر في الإحساس الفني الصادق بهذا الأدب, مما نتج عنه أن بدأت المحاولات القصصية للكتاب المصريين تكتمل, كما ظهرت في قصة »زينب« لهيكل وكما سيظهر بعد ذلك في العصور التالية, كما بدأ الشعر أيضا يتخلص من الاعتماد مباشرة على الشعر القديم ويتجه إلى آفاق جديدة«(34). في هذا النص يبدو أثر الثقافة الأجنبية على أدبائنا إيجابيا تماما فالرواية تنشأ, والشعر يتخلى عن القديم ويتجه إلى »آفاق جديدة«, كل هذا بفعل الإقبال على الأدب الأوروبي.
أما حين ينتقل عبد المحسن إلى الإيمان بمبدأي »التطور« و»الواقعية« أواخر الخمسينيات, في مرحلة الإعداد لكتاب »تطور الرواية» ; فإن موقفه هذا سيتبدل تماما ; ففضلا عن التمزق والحيرة والقلق الذي تركته هذه الثقافة الأوروبية في نفوس أدبائنا, لاحظ أنها تركت أثرين آخرين خطيرين:
الأول/ ؛تبعية مطلقة أدت إلى انفصال هؤلاء الأدباء عن واقعهم الفعلي, فهم في رغبتهم في مواجهة واقعهم انتهوا إلى الثورة على التراث العربي القديم, وإلى ضرورة منافسة الحضارة الأوروبية والتفوق عليها, ولكنهم باندفاعهم إلى هذه الرغبة انتهوا إلى اتخاذ هذه الحضارة مثلا أعلى, وأدى هذا بدوره إلى وقوعهم فريسة التبعية المطلقة لهذه الحضارة في كثير من الأحيان, وأصبحت قيمهم ومثلهم لا تنبع من الواقع بقدر ما تحاول فرض قيم الحضارة الغربية ومثلها عليه, وبذلك أصبح موقفهم متناقضا محير ا, فهم في الوقت الذي أرادوا أن يعبروا فيه عن هذا الواقع انتهوا إلى الانعزال عنه, وحين أرادوا التخلص من التبعية للتراث العربي وجدوا أنفسهم يقعون في تبعية أخرى للتراث الغربي.. « (35)
الثاني/ فرض تطور غير طبيعي على الواقع المصري ; ففي صراع القديم والجديد لإصلاح الواقع المصري, وجد دعاة الجديد ؛نموذجهم في الحضارة الأوروبية المتفوقة, وجعلوا من هذه الحضارة وقيمها ومثلها نقطة الانطلاق إلى إصلاح الواقع, ولكنهم في اندفاعهم إلى التأثر بهذه الحضارة كانوا كثيرا ما ينسون الواقع الذي يريدون إصلاحه.. مما جعل الكثير من محاولات الإصلاح لا ينبع من التطور الطبيعي للواقع وظروفه, ولكنه كان أشبه بالحلم الذي يستمده صاحبه من مراحل متفوقة للحضارة الغربية ويحاول فرضه على هذا الواقع«(36).
إنه تطور مفروض على الواقع المصري وليس تطورا طبيعيا, لكن الذي فرضه لم يكن الاستعمار الأوروبي بشكل مباشر, الذي فرضه هم مثقفونا وقادة نهضتنا عبر مراحل مختلفة من تاريخنا الحديث, وخاصة في المراحل التي تزايد فيها التدخل الأجنبي. صحيح أن كلام عبد المحسن هنا يتصل بجيل الليبراليين المجددين الذين نشأت الرواية على أيديهم, لكنه يدرك أن طبيعة العلاقة مع الثقافة الغربية لم تتغير في جوهرها طوال تاريخنا الحديث, حتى في سنوات الخمسينيات والستينيات حين كان المد الواقعي في ذروته ; ومن ثم فقد ظل هذا موقف عبد المحسن بدر من العلاقة مع الثقافة الغربية, صاغه وأعاد صياغته مرات متعددة, وكان لا يفتأ يكرره في كل كتبه, ويرصد ما يتركه في نفوس المثقفين ومواقفهم من تناقضات. يقول في مقدمة كتابه »حول الأديب والواقع«, معددا العوامل التي تؤدي إلى عجز الأديب عن الإحساس بواقعه: ؛..كما يعد موقف أديبنا العربي من الثقافة الأجنبية المتفوقة مسؤولا عن عجزه عن الإحساس العميق بواقعه, فهو لا يتقدم من هذه الثقافة من موقف من يريد استخدام خبرتها ومناهجها كعوامل لإخصاب تجربته, تمنحه قدرة أكبر على تحليل واقعه, ولكنه يتقدم إليها من موقف الخاضع المستسلم الذي يرغب في تبنيها تبنيا كاملا.. ولأن كل حصيلة الفكر الأوروبي معروضة أمام مثقفينا وأدبائنا, فإن كل واحد منهم يختار من هذه الثقافة ما يحلو له ويريحه, ومادام فكره وأدبه لا ينبع من معاناة حقيقية لواقعه, ولكنه مستمد من حلول جاهزة لواقع آخر, فهو يستطيع أن يفرض علينا رؤية أي مذهب أدبي يريده, ويمكنه أن يدعي بأنه وجودي أو عبثي كما يحلو له, كما يمكنه أن يكون خليطا من هذا كله إذا أراد, وعلى مجتمعنا أن يستجيب لهذه الحلول المثالية والجاهزة والمختلطة وإلا حكم عليه بالغباء والتخلف« (37)
ومع أن مقدمة كتاب »الروائي والأرض« تنتهي هي الأخرى بفقرة كاملة عن مشكلة العلاقة مع الثقافة الأجنبية, وتأثيرها على رؤية الأديب لواقعه(38), فإن الصياغة الأخيرة الأكثر نضجا ووضوحا جاءت في مقالة »حركات التجديد والتطور في الأدب العربي الحديث«, وهي المقالة التي تقدم مسحا سريعا ودقيقا لتاريخ الأدب العربي الحديث, وتلخص خبرة عبد المحسن العميقة بهذا الأدب: تاريخه, وأنواعه الأدبية, ونقده, وثقافته. في هذه المقالة يتبلور وعي عبد المحسن بدر أكثر بالتاريخ الاجتماعي لمصر الحديثة, ويربط بوضوح بين موقف المثقفين من الثقافة الغربية, وموقف الطبقة الوسطى التي ينتمون إليها إزاء الاحتلال الأوروبي: ؛والحقيقة أن البرجوازية العربية تختلف بحكم ظروفها اختلافا كبيرا عن البرجوازية الأوروبية.. لقد كانت خاضعة لأرستقراطية أجنبية هي الأرستقراطية التركية, ثم جمعت إلى هذا الخضوع خضوعا آخر للبرجوازية الأوروبية مما أدى إلى ضعفها وانقسامها وتمزق حركتها, وعدم قدرتها على فرض ثورتها على الواقع وتغيير قيمه بما يتلاءم مع مصالحها.. أما موقفها الثقافي فقد أدى سقوط الحواجز بين مثقفيها وبين الثقافة الأوروبية إلى الإقبال والاندفاع نحو هذه الثقافة اندفاعا كان أقرب إلى اتخاذها مثلا أعلى.. بحيث يمكن أن نقول إن مثقفي هذه الفترة استبدلوا تبعيتهم للثقافة الغربية بتبعيتهم للتراث.. « (39)
من المؤكد أن عبد المحسن بدر لم يكف عن متابعة ما يجري على ساحة الثقافة الأوروبية, على الأقل في مجال اهتمامه, أي الدراسات النقدية والأعمال الأدبية, لكنه كان قد توصل إلى قناعة حاسمة بأن أسئلة الواقع المباشرة ومشكلاته البسيطة أهم بكثير من متابعة ما يجري على الساحة النقدية في الغرب من تيارات, ربما لا علاقة لها بأسئلة واقعنا, أو ربما أعاقتنا – كما أعاقت مثقفينا السابقين – عن إدراك كنه هذه الأسئلة, كما توصل إلى قناعة أخرى بأن قراءة أعمالنا الأدبية, بما نملكه فقط من فهم للواقع الذي صدرت عنه هذه الأعمال, وبما نملكه من حساسية ذاتية إزاءها, وربما بما نملكه من أدوات نقدية بسيطة, أفضل بكثير من متابعة النظريات النقدية الغربية التي تتوافد علينا بصورة لا تنتهي, و قد تفيد أو لا تفيد في قراءتنا لهذه الأعمال, بينما تستغرقنا وتستهلكنا بغموضها, بما قد يفضي في النهاية إلى إفراغ النقد الأدبي من معناه ووظيفته الأساسية من وجهة نظر ناقد اجتماعي كعبد المحسن بدر.
ورغم أن كلمة ؛الواقع« Reality, و»الواقعية« Realism, قد أصبحت – شأن معظم المصطلحات النقدية الأساسية – كلمة غامضة قابلة للتلو ن بألوان كثيرة, كما سيلاحظ أدباء ما بعد الواقعية ونقادها(40), فإنها ظلت عند عبد المحسن بريئة من التداعيات والخلافات الفلسفية, كما ظلت بعيدة عن شعارات الواقعية في الخمسينيات, واقعية المناسبات, وربما معادية في جوهرها لهذه الشعارات.
ومع أن الكلمة ارتبطت عنده من غير شك بصعود التوجه الاشتراكي والقومي العربي في الخمسينيات, كما ارتبطت بدعوات الالتزام المختلفة, وخاصة الماركسية منها; فإن المعنى الغالب لكلمة الواقع في كتاباته, ظل مرتبطا بفكرته الأساسية عن طبيعة العلاقة المرتبكة, القائمة على إحساس قاهر بالدونية, بين مثقفينا في العصر الحديث والثقافة الغربية المتفوقة. التداعي الأساسي لكلمة الواقع عند عبد المحسن, ألا يدخل الأديب على أسئلة واقعه البسيط بإجابات جاهزة مركبة مهما يكن مصدرها, وسيزداد الأمر سوءا إذا كان مصدر هذه الإجابات واقعا آخر وثقافة أخرى, وسيصبح الأمر في غاية التعقيد إذا كان مصدر هذه الإجابات هو الثقافة الغربية القاهرة التي فرضت نفسها; بحيث لم يكن لدى المثقف العربي أية فرصة لتأملها أو نقدها, وستكون مساحة الوهم والمخادعة في هذه الحالة الأخيرة أوسع وأعمق, لأن المثقف يستخدم إجابات قدمتها ثقافة قوية قاهرة لا سبيل إلى إنكارها أو مقاومتها أو حتى مناقشتها.
وتثبت حركة النقد الأدبي العربي حتى الآن جدية الموقف الذي اتخذه عبد المحسن, فالمسافة بين أدبنا ونقدنا من ناحية وبين المتلقين من ناحية أخرى تزداد اتساع ا, بحيث فقد الأدب والنقد معظم وظائفه في مجتمع كمجتمعنا. لقد اتخذ عبد المحسن بدر موقفا حديا ومتطرفا تماما إزاء هذه القضية, لأنه عدها قضية جوهرية من قضايا حياته ووطنه التي اتخذ فيها جميعا نفس الموقف, وشأن المواقف الحدية أنها يمكن أن تجلب لصاحبها الخسارة كما يمكن أن تجلب له الاحترام.
الهوامش
(1) تتعجب الباحثة السويدية مارينا ستاج في عرضها النقدي لكتاب »تطور الرواية«, فتقول: « إنه – أي عبد المحسن – شديد الثقة بمعرفته الخاصة وسلطانه, لدرجة أنه يفتتح الكتاب بفصل تمهيدي من 37 صفحة, يلخص فيه كل العوامل والأحداث والتناقضات الفاعلة في تطور الفكر, منذ الحملة الفرنسية في 1798 حتى الحرب العالمية الثانية, وهو يفعل ذلك دون إشارة مرجعية إلى عمل علمي واحد« راجع:
Marina Stagh. A Critical Review of a Classical Work on the Literary History of Egypt
بحث غير منشور في معهد اللغات الشرقية, استكهولم, هولندا , دون تاريخ.
(2) سيد البحراوي: البحث عن المنهج في النقد العربي الحديث, دار شرقيات, القاهرة 1993, ص ص 111-116.
(3) هذا تلخيص لفكرة أساسية يتردد صداها في كل كتابات عبد المحسن طه بدر, ويمكن للقارئ أن يجد أوضح صياغة لها في المهاد التاريخي المطول لكتاب تطور الرواية العربية الحديثة في مصر (1870-1938), دار المعارف, القاهرة 1983 ط4, وكذلك في مقالة »حركات التجديد والتطور في الأدب العربي الحديث«, المنشورة ضمن كتاب »حركات التجديد في الأدب العربي«, دار الثقافة العربية, القاهرة 1978.
(4) عبد المحسن طه بدر: تطور الرواية العربية الحديثة في مصر (1870-1938), مصدر سابق, ص15.
(4) قبل أن تقترن كلمة ؛التطور« Evolutoin بتشارلز داروين (1809-1882) ونظريته عن أصل الأنواع وتطورها عبر الانتخاب الطبيعي, وقبل أن تجد هذه النظرية صداها في التأريخ للأدب على يد كل من فرديناد برونتيير و هيبوليت تين (1828-1893), كانت مقولة التطور ذاتها لها سحرها الخاص وقدرتها التنظيمية لدي المؤرخين والفلاسفة ربما منذ آرسطو, فالانتقال من »طور« إلى »طور« في كل دراسة تاريخية يبدو أمرا بديهيا. لم يكن هناك خلاف على فكرة التطور, كان الخلاف دائما ولا يزال, حول الأساس الذي يتحكم في التطور. وجاء أبرز تفسير لمنطق التطور وحركته على يد الفيلسوف الألماني هيبجل (1770-1831) الذي قدم بفكرته عن الجدل وصراع الأضداد أرضية قامت عليها وحولها كتابات كثيرة, لكن أهمها على الإطلاق كتابات الماركسيين, الذين بنوا على فكرة الجدل الهيجلي (الدياليكتيك) بعد أن حولوه من نهج مثالي إلى نهج علمي.
وإذا كانت كلمة »التطور« تكاد تختفي من كتب تاريخ الأدب في الغرب منذ عشرينيات القرن العشرين, كما يقول رينيه ويليك, فإن الكلمة ربما بدأت تظهر في كتب تاريخ الأدب العربية منذ ذلك التاريخ أو حوله, في كتابات طه حسين وزملائه وتلاميذه, وقد أخذ معناها منذ أواخر الأريعينيات يعكس الفهم الماركسي للتطور وحركته, إلى أن بدأت الكلمة تختفي من النقد العربي أيضا في أواخر السبعينيات. وقد استخدم عبد المحسن بدر الكلمة بهذا المعني الماركسي بدءا من كتاب تطور الرواية.
وللتعرف السريع على تاريخ هذا المصطلح ودوره في التأريخ الأدبي الغربي, راجع مقالة رينيه ويليك ؛مفهوم التطور في تاريخ الأدب« ضمن كتابه:
Rene Wellek. Concepts of Criticism, Edited by Stephan G. Nichols,
jr. Yale University Press, 1963. Pp: 37-53.
(5) رغم التماثل الكامل بين عنوان كتاب شوقي ضيف ورسالة عبد المحسن; فإن الإشارة إليه لا ترد إلا مرة واحدة وفي سياق عارض, ص 276 حين يقول: ؛وقد استخدم بعض شعرائنا القدامى هذه المؤثرات الصوتية في شعرهم, ووضح لنا الدكتور شوقي ضيف في كتابه عن تطور الشعر الأموي وتجديده كيف استغل شاعر مثل ذي الرمة مثل هذه المؤثرات الصوتية ببراعة. راجع عبد المحسن طه بدر: التطور والتجديد في الشعر المصري الحديث, الهيئة المصرية العامة للكتاب 1991, ص276.
(6) المصدر السابق, ص8.
(7) المصدر نفسه, ص ص8-9.
(8) جابر عصفور: قراءة نقدية في »التطور والتجديد في الشعر المصري الحديث«, مجلة العربي الكويتية, مايو 1992, ص154.
(9) راجع الدراسة النقدية بقلم عبد المحسن بدر في ختام مجموعة فاروق منيب: الديك الأحمر,دار القومية العربية, د-ت (ولكن المؤشرات داخل المجموعة والدراسة الملحقة بها, تشير إلى أن الكتاب نشر حوالي عام 1960),ص 205.
(10) عبد المحسن طه بدر: تطور الرواية العربية الحديثة في مصر, مصدر سابق, ص61.
(11) عبد المحسن طه بدر: التطور والتجديد في الشعر المصري الحديث, مصدر سابق,ص111.
(12) عبد المحسن طه بدر: دراسات في تطور الأدب العربي الحديث, دار المستقبل العربي, القاهرة 1993, ص 85.
(13) صدر الكتاب في طبعته الأولى عن دار الثقافة العربية بالقاهرة عام 1978, وعلى الغلاف إشارة إلى أنه الجزء الأول
(4) صدرت الطبعات التالية للكتاب عن دار المعارف, وجاءت خالية من الإشارة إلى كونه الجزء الأول, راجع الطبعة الثالثة من الكتاب, دار المعارف, القاهرة1984.
(15) تطور الرواية العربية الحديثة, مصدر سابق, ص198.
(16) المصدر نفسه, ص199.
(17) المصدر نفسه, ص135.
(18) المصدر نفسه, ص201.
(19) عبد المحسن بدر: حركات التجديد والتطور في الأدب العربي الحديث, مصدر سابق, ص73.
(20) جابر عصفور: قراءة نقدية في كتاب التطور والتجديد في الشعر المصري الحديث, مرجع سابق, ص155. وقد تكون هذه الرواسب من برجسون قد وصلت إلى تكوين عبد المحسن بدر عبر وسيط آخر طالما أبدى إعجابه به, هو مؤرخ الفن المجري أرنولد هاوزر صاحب الكتاب الشهير ؛التاريخ الاجتماعي للفن« الذي ترجمه فؤاد زكريا إلى العربية تحت عنوان ؛الفن والمجتمع عبر التاريخ«; فقد كان هذا الكتاب يقع على رأس قائمة الكتب التي يكلف عبد المحسن تلامذته بقراءتها. ومن المعروف أن هاوزر (1892-1978) قد تتلمذ في باريس تلمذة مباشرة على الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون (1859-1941) وتأثر به تأثرا عميقا وخاصة في كتابه هذا.
(21) راجع:
M. A. Abrams . The mirror and the Lamp: Romantic theory And
The Critical Tradition, Oxford University Press. New York, 1953, p: vii
عبد المحسن طه بدر: حول الأديب والواقع, دار المعارف, القاهرة 1891 (ط2), ص ص18-19.
(22) المصدر نفسه ص69.
(23) المصدر نفسه ص59.
(24) تطور الرواية, ص51.
(25) المصدر نفسه, ص144.
(26) المصدر نفسه, ص198.
(27) المصدر نفسه, ص199.وراجع كذلك الإشارات الأخرى المتكررة إلى ؛إحساس الأديب« في المصدر نفسه,صفحات:201-205-215-242-250-280-323-366-401.
(28) هناك صيغ ماركسية متنوعة لطبيعة العلاقة بين الفن والمجتمع, لكنها جميعا – حتى في أكثر صورها جدلية – تقوم على أساس منهجي واحد مؤداه: أن الحركة تبدأ من المجتمع لتنعكس بعد ذلك في الفن.
(29) تقوم الصيغة الرومانتيكية هنا على أساس أن الشكل الفني المتماسك لا يمكن أن يكون شكلا ميكانيكيا مفروضا من الخارج عن طريق العقل. إنه شكل عضوي ينمو ويتخلق من داخله, والقوة الفاعلة فيه هي الخيال. راجع على وجه الخصوص الفصلين السابع والثامن من كتاب:
-.Abrams. The Mirror and the Lamp, pp: 156- 226
(30) تطور الرواية, ص280.
(31) أهم المراجع التي يتكرر الأخذ عنها في مقدمة الكتاب, كتابا مصطفى سويف: »العبقرية في الفن« و ؛الأسس النفسية للإبداع الفني«, ثم هناك بعض الكتب الأخرى المترجمة التي اهتمت بالعملية الإبداعية, مثل كتاب إيردل جنكنز: الفن والحياة, وكتاب كولنجوود: مبادئ الفن. حتى كتب تاريخ النقد الأدبي ومناهجه, مثل كتاب ريتشاردز: مبادئ النقد الأدبي, وكتاب ديفيد ديتشس: مناهج النقد الأدبي, اختار منها عبد المحسن الفصول التي تتحدث عن النقد النفسي أو المنهج النفسي في النقد. راجع عبد المحسن طه بدر: الروائي والأرض, دار المعارف, القاهرة1983(ط3)
(32) هذا أمر تعكسه المراجع المستخدمة هنا أيضا ; إذ لا ترد في كتبه الثلاثة الأخيرة, أية إشارة إلى مرجع حديث في دراسة السرد, بينما وردت إشارتان – في مقدمة الروائي والأرض مثلا – إلى مرجعين من مراجع تطور الرواية, هما كتاب بيرسي لوبوك: صنعة الرواية, وكتاب أرنولد كتل: مدخل إلى الرواية الإنجليزية. راجع عبد المحسن طه بدر: المصدر السابق.
(33) يعكس الفصل الأول, وعنوانه »جذور الرؤية«, هذه الصورة بوضوح, فهو بطبيعته يستخلص صورة مجردة لأهم العناصر التي تتألف منها رؤية الكاتب. وكلما تقدمنا مع الفصول التي تحلل الروايات المختلفة, قل الحديث عن السياق التاريخي لهذه الروايات. راجع: عبد المحسن طه بدر: الرؤية والأداة: نجيب محفوظ, مصدر سابق.
(34) عبد المحسن طه بدر: التطور والتجديد في الشعر المصري الحديث, مصدر سابق, ص111.
(35) تطور الرواية العربية, مرجع سابق, ص51.
(36) المصدر نفسه, ص04.
(37) حول الأديب والواقع, مصدر سابق, ص13.
(38) راجع الروائي والأرض, مصدر سابق, ص ص45-46.
(39) راجع عبد المحسن طه بدر: دراسات في تطور الأدب العربي الحديث, مصدر سابق, ص54.
(40) يمكن الإشارة هنا – على سبيل المثال – إلى ما كتبه عن كلمة »الواقع« كاتب وناقد مثل إدوار الخراط. يقول: ؛أتصور انه ربما كان الأدب يدعي أحيانا أكثر مما له وربما كان يقوم بدور أكبر بكثير مما يدعي او ينسب اليه. هو طبعا ليس مرآة للواقع, او ما يسمى »الواقع«, أي مجموع الظواهر التي يصطلح أحيانا على تسميتها بالواقع. رغم انه يشتمل على ذلك كله, لعل الأدب في مراحل تطوره المختلفة قد فعل هذا, لكن أظن أن ما يرفع الأدب انه إذا كان قد فعل ذلك فقد تجاوزه أيضا في الوقت نفسه. الواقع في ظني كلمة أعمق وأوسع وأوثق; إذ يشتمل على ما لا يمكن حده من الظاهر والخفي, من الحلم والصحو, من المرئي واللامرئي, من المدرك والذي لا يكاد يدرك, من المسمى والذي لا يمكن أن يسمى, هذه كلها أيضا, عناصر الواقع أو عناصر من واقع ما. وان كان قد أجرى المصطلح وفقا للتطور التاريخي للأدب والرواية, وخاصة في منتصف القرن العشرين, بأن ينسب إلى الواقع نوعا معينا يتناول المشاكل الاجتماعية والاقتصادية ومشاكل المحرومين من الناس, قضاياهم وظروفهم وما هو حقير أو دنس أو أرضى أو ما هو صراع نحو التغيير.
وهو كله مشروع وجدير باهتمام العمل الفني, بداهة, ولكنه لا يستغرق الفن ولا يقتصر الفن عليه, فقد أصبحت للواقعية صفات كثيرة, وخرجت من نطاق الواقعية النقدية والاشتراكية, إلى الواقعية السحرية, أو واقعية الفانتازيا, وتجاوزت المفهوم الذي كان سائدا عندئذ.
راجع شهادة إدوار الخراط, بعنوان »كل منا ملتزم«, والمنشورة ضمن محور عن »الالتزام في الأدب«, مجلة »نزوى« العمانية, العدد
خيري دومة
ناقد وأكاديمي من مصر