فـي المنهج وشعرية التقبل:
أنوي في هذه الورقة النقدية أن أقف في حدود ما يتيحه لي المجال على بعض خصائص الكتابة الشعرية في نماذج من قصائد محجوب العياري(1) بالتركيز على مجموعته «الطفل» بحثا عن هوية ممكنة للكتابة مسكونة بشعرية الطفولة وسردية الذاكرة.
ولأنّ مدارات الاشتغال ستنصبّ على نصوص تبدو من الوهلة الأولى متبدلة وساحرة تدهش وتؤسطر الوقائع الذاتية بحس وحشي تشكيلي عفويّ متداعٍ..فلا مناص لي إلاّ أن أتوسّل قراءة المتعة حيث تتفاعل الذات مع النص المقروء تجليا وحلولا دأبي في ذلك أن أبحث في بعض ما به يستوي النصّ عند قارئه تأويلا، مداره على سيمياء الكلام وأنظمة القول تنتج مبانيها ومغانيها ومعانيها .وقد أستدل بما ربض من صدى الكاتب الحي محجوب الشاعر في ذاتي وذاكرتي.وإن كنت مثله أخشى من بعض سدنة النقد وقد عرّى رياءهم وهم من هم يرتزقون بماء شعره.
ولكن في كل الأحوال لا هادي لي إلاّ النصّ أنصت إليه طويلا وقد أطرق على بابه طرقا خفيفا أو أنقر نقرا شفيفا وقد أدقّ عليه دقّا عنيفا ولا أسلم له الزمام إلاّ متى استوى بعلم الناقد وذوق القارئ مشروع قراءة قوامها التعدّد والتأويل.هكذا النصّ ونصّ محجوب على وجه التحديد تملؤه الشقوق والمهاوي فيدعوك إلى مغامرة وجود تأسرك غوايته فإذا أنت منه على مذهبه وإن اختلفت وإذا أنت مقيد مثله كبروميثيوس لأنك سرقت النار من خالقها . مذهبك مذهبه وشؤون دنياك شؤون دنياه إن أنت بشعره تطهّرت وتماهيت به تماهي مسرح الإغريق . وقد تغترب في شعره وتتسافى فإذا بينك وبينه حجب النقد ومعاول الهدم والبناء كما مسرح التغريب البرشتي.وليس لك فكاك في الأخير إلاّ أن تكون في أتون طقسه الباخوسي ولذائذ تهويماته ترقص رقصة زوربا وترفع نايك في الريح وتشعل قنديلك في الظلمات وتدعو كل اللغات إلى موائدك» لغة ضوء /لغة فيض/ لغة لم يطمثها لا البحارة، لا الرهبان ولم تعرفها حلاقات المجذوبين، لغة تعرف كيف تسمي الماء نخيلا .لغة تتحسّس قلبي المشرق بثقوب لا عدّ لها..»(2)
الشعر ومدار الطفولة:
ليس للباحث وهو يبحث عن خصائص الشعرية في نصوص محجوب العياري وصلتها بالطفولة إلاّ أن يدرس ذلك في جدل النصوص وتفاعلها نثرا وشعرا، وقد استوقف انتباهنا ونحن نقرأ ما تيّسر من نصوصه اندساس الطفولة في ديوانيه «تداعيات في الليلة الأخيرة قبل الرحيل» و«حرائق المساء، حرائق الصباح» حدّ التكتّم فلا حضور للطفولة إلاّ بوصفها ذكرى تتسلّل من زاوية الوحدة «حيث لا يسهر فيها غير الليل، وغير بقايا قدح» وحيث «تتعرى كل فصول العمر أمامك واضحة»(3)
لعلّ في هذا الطقس الباخوسي يبوح الشاعر بوجع الطفولة قائلا :
ذكرى
لطفولتك المذبوحة
تندب في وجع الأيام طفولتها.(4)
بل لعلّ نهر الحنين إلى الطفولة يفيض بأقباس الوجد والألم في قصيدة عنوانها للطفل(5) حيث تتربع الأمّ على عرش مملكة الحبّ، وحيث يطمح الشاعر إلى استعادة طفولته بحثا بأسلوب رومانسي عن النقاوة الأولى، نقاوة الفرح للا شيء والحزن للاشيء:
يا سيّد
لو تتحرّر من ثقل الأعوام
وتذبح فيك الوهم العاقل
لتعود نقيا كالأطفال
فتبكي .. تبكي ..وبلا خجل(6)
إنّ البحث عن الطفل المفقود أو الطفل المنشود سيظلّ هاجسا يستبدّ به كلّما حاصرته الأيام .بهذا تستحيل الطفولة ملاذا وخلاصا في عالم لا خلاص فيه فمن أزمنة الترحال والوحشة وليل الخمارات والمدن العاهرة يستلّ الشاعر رؤياه الطفولية محاولا أن يعيد مافات وأن يرجع عقرب الزمن إلى الوراء مستعيرا من الطفولة صفتها:
كنت الطفولة
والطفولة كيف تزهر
إن هجرت رحابها
وغدوت كهلا
آه الطفولة كم ستخسر إن رحلت
فعد إليها
عد إليها(7)
إنّ الألم ليستبدّ بالشاعر حين يرى الطفولة المذبوحة تئن من أوجاعها فيلبس قناع من تألموا وأملوا غير أنّ البلاد خانتهم وجارت عليهم :
مذ كان طفلا
يؤجل أعراسه
بانتظار الصباح الذي سوف يأتي
ولكنّ هذا الصباح المرجى
تهاوى قتيلا قبيل الولادة.(8)
وفي قصيدة «طفلان»(9)، وبأسلوب رومنطيقي يسيل غنائية يستعيد مشهد عشقه الأوّل عشق طفل لطفلة يتقاسمان الحبّ وكعكة الصبح والأمنيات:
وطفلين كانا
يقاسمها كعكة الصبح
تعطيه ما جمّعت من تصاوير زاهية
أو كتابا،
وتمضي،
ويمضي،
يدا في يد
مسرعين إلى المدرسة!
ألم يقل عنه محمد القاضي «هو يكتشف العالم بعيني طفل ما زال يدهش أمام النار ويحاور الذكرى ويحاكي حفيف الأوراق».(10).
إنّ ما يمكن للباحث أن يستخلصه من خلال العينات التي رصدنا هو أنّ الشاعر كان أميل في بداية تجربته ووسطها إلى الجمع بين غنائية الأسلوب وإيحائية الخطاب وهو في كلّ هذا لا يخرج عن غنائية نزار قباني ولا رمزية محمود درويش في أطواره الشعرية الأولى.
واللافت للانتباه أيضا أنّ بعض قصائد الثمانينيات والتسعينيات التي مدارها على الطفولة هي أصداء ما سيكتبه نثرا في شهادته عن الطفولة وأوجاع الكتابة .
مجموعة «الطفل» والهوية المغايرة للكتابة
لا بدّ من القول إن مجموعة الطفل الشعرية التي كتب محجوب نصوصها في مطلع الألفية الجديدة هي مركب من النصوص والعتبات والمتون .ولعلّ هذه السمة تدعونا إلى القول «إنّ للنصّ الموازي ومكوّناته بما في ذلك عتبات النصّ قيمة أساسية في تحليل بنية النصّ واستخلاص دلالاته.. وفي هذا الصدد تشكّل العتبات النصية كالعناوين والفواتح والخواتم والمطالع وما يدخل في التصدير أو التذييل أو التختيم وغيرها مما يصاحب النصّ مكوّنا أساسيا من مكوّنات النصّ الموازي. والنصّ الموازي في عرف المنظّرين صنفان(11) نصّ مواز داخلي (Péritexte) ويشمل كلّ ما يحيط بالنصّ الرئيس من مكمّلات داخلية ابتداء من الغلاف، مرورا بالعنوان والتصدير والتقديم، وصولا إلى الهوامش وما لفّ لفّها . ونصّ مواز خارجي (Epitexte) وهو الذي يتعلّق بكلّ معلومة خارجية متّصلة بالنصّ وكاتبه كالحوارات والشهادات والمذكّرات والمنثور من أقواله وأفكاره والمصرّح به في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية وماشابهها دون أن تكون معيّنة في النصّ.
وللنصّ الموازي بصنفيه قيمة محورية في تفكيك النصّ الرئيسي وإضاءة عتماته واستجلاء علاماته.لذلك فإنّه حقيق بأن يحلّل ويفسّر بوصفه نظاما من العلامات تؤشّر من بعيد أومن قريب إلى ما يحتوي عليه النصّ الرئيس من بنى ودلالات .وما هذه الأبنية والمداليل إلا كاشفة النص الموازي، تحاوره في هيئة من الجدل لا يني.. ولم يهمل الباحثون المختصّون بالنصوص الموازية وملحقاتها الحديث عن وظيفة مقدّمات النصوص الرئيسية ومداخلها والنهايات والخواتم. وأفاضوا في تدقيق الفروق والروابط الظاهرة والخفية التي تعقد الصلة بين كلّ الأطراف وتخلق نسيج النص الحي».(12)
على هذا الأساس قاربنا مجموعة الطفل وتابعنا سمة تداخل الأجناس فيها لا من جهة الاختصاص في تحليل ظاهرة التداخل هذه وإنّما من جهة سيرة الذات وأصداء طفولتها كما تتبدّى في إنشائية الخطاب ومما بدا لنا ونحن نتأمل حدث الطفولة وسيرة الذات أن لابدّ من الوقوف على نصّ الشهادة(13) وصلته بفضاء الشعر.
فـي نص الشهادة:
اختار الشاعر لشهادته الشعرية المنثورة عنوانا هو «عن الطفولة وأوجاع الكتابة» وهو عنوان يشي باقتران الطفولة بالكتابة وأوجاعها عن طريق واو العطف. وإننا لنلمح هذا الاقتران من خلال مضمون الشهادة. فهي شهادة مشحونة بالتكثيف والحذف وبالإيحاء.وبالمسكوت عنه فبين الفكرة والفكرة تسكن نقاط الاسترسال، فضلا على أنّ الانتقال من وصف وضع العائلة المادي إلى وجوه الحرمان من اللَّعب واللعَب واللباس والهدايا جاء سريعا ومقتضبا. لكأنّ الشاعر رام الإلماح لا التفصيل والتكتّم لا البوح. وقد جعل حديثه عن زمن الطفولة موصولا بزمن الكتابة، زمن الخربشات الأولى «لقد كنت أكتب لأعبّر عن مشاعر صغيرة، آنيّة وذاتية.. أمّا اليوم، فما عدت أميّز بين الكتابة والحياة»(14)
ما يمكن أن يستخلصه قارئ هذه الشهادة أنّ محجوب العياري هو طفل متمرّد على طفولته، تعلّم وهو الفقير المولود ذات صيف 13أوت 1961 تسلّق الجبال ليذهب من قريته هنشير عيشون بالشمال التونسي إلى مدرسته البعيدة. وكان لزاما أن يتحوّل إلى راع لقطعان الماعز يوم الآحاد والعطل حتى يقتات وأهله الفقراء .لم يعرف من اللعب غير الطين يطوّعه أشكالا طائرات وعصافير. وكان يحلّق بخيال الطفل إلى الأفضية البعيدة حيث يسكن الشعر.تمرّس بنظم الشعر وكتب في العامودي فأتقنه. وكتب في شعر التفعيلة فأجاد. وتسلّلت إليه قصيدة النثر فخلص منها إلى كتابة السرد. قارئ مجيد لآداب الشرق والغرب حتى صارت له مكتبة وصار راعيا لها موظّفا ساميا ورئيس مصلحة للكتاب والمطالعة.قصيدته تكتبه تقوله بلا جلبة ولا غوص في الغموض، حداثي ينهل من تراثه ويقتات من وقته الصعب.
إنّ الكتابة على الكتابة فيما يندرج في الميتانص ليتضمّن ضربا من الخلاص النفسي كثيرا ما يكون الشاعر في حاجة إليه بعد أن قطع شوطا مهمّا من التجربة.أليس قول الكاتب «صرت أكتب من أجل تحقيق توازن داخلي .أعرف سلفا أنّه لن يتحقّق…أكتب من أجل الانتصار على طمأنينة زائفة تعتريني أحيانا..أكتب من أجل أن تسود شريعة القلق..»(15) هو ضرب من ضروب القلق الدائم الذي يتسلّل بين شقوق النص ولاشعوره وهو إحساس أرى أنه لزم الشاعر منذ طفولته وعبّر عنه بصيغ مختلفة وبدرجات وعي حادة وملهوية حين صار الكلام على الموت شكلا من أشكال الخلاص، وأفقا مفتوحا على هوّة الكتابة ومغامرة تخومها تخوم لذة الموت، إن استعرنا فكرة باتاي ( George Bataille).
من هذه الزاوية لا يمكن أن تكون الكتابة إلا ممارسة لتجربة القلق، الذي هو مصدر كل معنى وكل مشروع وجود -إن أخذنا برأي هيدجر في «الكائن والزمن» -حين يواجه الكائن في كلّ لحظة من الزمن موته المستتر. هكذا يكون القلق في شعر محجوب العياري ألما وتمزقا «تشظيا..ودمارات روح»(16) إذا ما استعرنا بعض مفردات الشاعر. أو لا يكون الألم بالمعنى الهيدجري «هو ما يصل في التمزّق الذي يميز ويجمع، إنه لحمة التمزّق، إنّه العتبة، الألم، إذن، هو الاختلاف»(17).
إنّ الاختلاف ليس إلاّ كونا واستحالة بتعبير المسعدي، حالة الألم وحالة ما قبل الألم. والألم موصول بالكتابة ومتّصل بعزلة الذات، وهي تواجه مغامرة انفصالها عن ذاتها وعن العالم حين تواجه موتها وتتّقد بحرية مشتهاة.
هكذا الكتابة إقامة في الألم عتبة تتوسط الوجود والعدم . الكتابة تحرّر دائم من مكان يأسر وزمان يفيض»إنّ الكتابة في نظري ممارسة قلقة أو لا تكون..أكتب في النهاية حتى أكون»(18)
هوية الكتابة في مجموعة «الطفل»
تنفتح مجموعة الطفل وتنفرج وتنقفل بالعتبات -كما أسلفنا القول- وتستلّ عنوانها من قصيدة هي طالع القصائد الطوال والقصار التي تضمها المجموعة .
وقد قسّم متنها إلى أقسام ثلاثة: عنون الأوّل بـ«أصوات ومرايا»، واشتمل على تسع قصائد أطولها قصيدة الطفل التي منها اشتق العنوان الأكبر للمجموعة.وعنون القسم الثاني بـ«ما تيسّر من القصار» وضم ّست عشرة قصيدة قصيرة هي أقرب إلى شعر الومضة. أما القسم الثالث الأخير فقد وسمه «عن الموت وعن حماقات أخرى» واشتمل على أربعة نصوص شعرية جاءت القصيدة الأولى في جزئين وعنوانها من عنوان القسم «عن الموت وعن حماقات أخرى».وجماع هذه القصائد ما كتب منها في شعر التفعيلة أو في النثيرة مدارها على انتظار امرأة قد تأتي وقد لا تأتي، عشقها الشاعر وحملته إلى براري الوجد والوجدان، وطافت به البحر والبرّ والسماء: امرأة يحلم أن تجيء في فستان أزرق، أزرق مثل الحلم ..امرأة لا يسميها في البدء ثم تصير في قصيدة «نسيان» سلمى ويكابد من أجلها الحب والفراق والفقد المرير، فإذا بالشاعر يندب انكساراته «أنا سيّد الانكسارات ما عدت شيّا» .وتبلغ رمزية اللعب عنده ذروتها في قصيدة «رجل في الشمس» حيث يأخذ النصّ منحى تسريديّا يستمد معناه الإحالي من نصّ غائب لغسان كنفاني «رجال في الشمس». ويعدل به من سياق إلى سياق ومن حلم إلى يقظة، انتقال عجيب من حكاية الأصحاب الأربعة وقططهم السود الأربعة إلى حكاية السجن ووهم الحرية. ومن الوجهة النقدية فقد كسر الشاعر في هذه القصيدة أسلوبه الغنائي وجمع بين ملحمية الخطاب ومسرحة الحدث عن طريق الحوار والانتقال المفاجئ من وضع إلى وضع والتحوّل من التحقق إلى عدمه .بل لعلّ اصطباغ الأسلوب بنفحة حكائية تشويقية أشخاصها على سبيل الترميز قطط من شأنه أن يجعل قابلية القراءة متنوّعة، مادام النص يزخر بفنون اللعب الطفولي والرمزي بأبعادها التأويلية.
إنّ إرادة الطفل الشاعر لا تتوقف عن طلب ما ينبغي أن يكون، أداته في ذلك اللغة وفضاؤه التخييل .لذلك يصبح التعبير عن مكابدة الشاعر، وهو يواجه لحظة القول الشعري بواسطة اللغة، أي ممارسة اللغة على اللغة حالة شعرية مشبعة بالانتماء إلى العالم بالمعنى الأنطلوجي، حيث تشكّل اللغة الوجه الأخر للصمت الذي به تكون. وليست قصيدة «صمت» إلاّ تعبيرا عن فعل هذه الممارسة حينما تعجز الذات عن قول ما تروم قوله:
الليلة
هذي الليلة أحتاج إلى لغة أخرى..
لغة الضوء،
لغة الفيض،
لغة لم يطمثها لا البحارة، لا الرهبان،
ولم تعرفها حلقات المجذوبين.(19)
لذلك لا حل للشاعر إلاّ أن يصوم عن الكلمات ويصغي لعناصر الطبيعة من أنهار وأشجار وأطيار وأمداء لعلّها تسعفه بكلام عن سلمى: سلمى التي تلهمه الشعر، وبلاها يظلّ في «مفترق القصيدة» يطلبها فلا يدركها وحين تفارقه تلمّ به الغربة:
لكن من أهوى مضى فبكى الفراش،
بكى الحمام
بكى الكمان
للناس غربتهم
وأنا لي غربتان(20)
وليست غربة الشاعر وعذاباته في نظري متأتية من وعيه بالوجود ومشكلات الواقع الذاتي والموضوعي وإنما مصدرها الشعور الدائم بالقلق والوجع والبحث عن خلاص .وهو شعور سكنه طفلا وسكنه كهلا فلاذ بالحديث عن الموت وهو في قمة الارتواء برحيق الحياة. وصار تحدّي الموت شكلا من أشكال التحدّي للزيف وكسرا للمألوف والساكن وفتحا لأفق جديد أو بعث آخر.
إنّ تسريد الموت وتنثيره وما يصحبه من إحساس بالخواء والحزن في قصيدته «عن الموت ..وعن حماقات أخرى» لهو أرقى درجات تشعير الخطاب، حيث تصبح سيرة الشاعر اليومية وسرد أمانيه هي شكل من أشكال مقاومة الموت الذي يغتصب الحياة. وهي شكل من أشكال التشبث بالحياة وكره الموت «بي ضمأ للحياة لا شفاء منه»(21)
هكذا يعيدنا الموت إلى الطفولة من جهة كون الطفولة في شعر محجوب العياري حياة مؤجلة.وهي نقيض الموت. ومن ألق شعرية محجوب العياري أن حوّل الاستشعار بالموت والتنبؤ بقدومه مجالا للبوح بأمانيه وحكيا ليومياته ومجالسه المعتّقة بالوجد والغياب:
صاحبي لا شكّ أغوته المراكب وهي مشرعة فألقى روحه في الماء يتبعها.
مذ كان طفلا كان يحمل في الفؤاد مراكبا،
صدفا وصيادين..فجرا:ّ(22)
وحوّله أيضا نقدا لاذعا لسلوك الآخرين وزيفهم، بل نقدا لما يسود الساحة الأدبية والنقدية من كذب ورياء ونفاق.
لقد تحوّل الموت إلى نبوءة ترصد ما يسود في الواقع ونبوءة تستشرف ما يكون.
هكذا يكون الغياب في الحضور، حيث يصير التذكير بالموت حضورا في الحياة والإيغال في الراهن والمعيش عودا إلى الطفولة: طفولة تستمدّ حضورها الغائب من الزمن وقد دار دورته ومن الواقع الأليم الذي فاقت حركته حركة الزمن .ألم يقل الشاعر في شهادته:»لقد كان علينا أن نكبر قبل الأوان»(23)
قصيدة الطفل أنموذجا
لست أبالغ إن قلت أن قصيدة الطفل هي من عيون ما كتب الشاعر ,ولست إلاّ على نهج أستاذنا حمادي صمود الذي تمرس بالنصوص وتعشّقها(24)، وهو القائل في شأنها «ومع ذلك تراءى لي النصّ جديدا يكاد يسطع عما ألفت» ولا أرى هذا الرأي القادح إلاّ دالّ على قيمة النص وصاحبه، وتفصيله عندي- حسب وجهة نظري القرائية- أنّ الطفل في قصيدة العياري تحوّل إلى بطل أسطوري أو قناع به تنكشف أحلام الذات وجراحاتها.وهي جراحات نجد صداها في نص السيرة.
وكأنّ هذه الطفولة في نصّ الإبداع تنكتم على أسرارها لأنّها ببساطة طفولة هاربة تفرّ إلى الأقاصي وتتاخم العشق المطلق والفرح المطلق وتقاوم الزمن .
وقصيدة الطفل تنهض على بنية سردية مشهدية تنتظم وزنيا على بحر المحدث المتدارك.
والناظر في تقطيع القصيدة وزنا وإيقاعا يلحظ صلة هذا المقوّم البنائي بالمظهر البنائي السردي الذي على أساسه تتوزع الجملة بصريا، وعلى أساسه أيضا تغيب التقفية الخارجية لتتولد شبكة من الأصوات هي من صميم ما به تكون القصيدة سيمفونية تتلاطم الأصوات فيها تلاطم الموج، وتهدأ أحيانا لتفسح المجال لعالم عجائبي تصنعه لوحات هي عصارة طفولة حالمة مجنّحة، تنطوي على انكسارات فائضة بالبهجة والرغبة في صنع عالم بديل لا يتحقق إلاّ داخل فضاء الشعر.
في هذه القصيدة يتغنّى الشاعر على سبيل الحقيقة والمجاز، وعن طريق التسريد والتخييل بسيرة الشاعر مجروحا بطفولته المتكتّمة على جراحاتها ومنتشيا بها في آن، كهلا يلبس قناع طفولة أخرى يذوب ذوبان المريد في أغمار البحر والماء والضوء والغيم، يشرّق تارة ويغرّب طورا. هو طفل في طفلين حين تغيم المسالك أو تسطع بالضوء كثيرا، فتعمى الأبصار ولا تعمى قلوب الشعراء، مادام الشاعر ربانا ريّسا يقود الفلك أنّى مجراها ومرساها، يبحث عن طفولته الضائعة، عن طفل كانه أو سيكونه في غمر الماء ولجج البحر يقتفي أثره في البحار والأنواء كالسندباد لا «تثنيه غيلان البحر ..ولا الأمطار» :هو شاعر «نيتشويّ» الهوى كازاتنزاكيّ المحتدى «مسعديّ الروح جبراني الإرادة عليه، نفحات «هامنغواي» وبعض من «حنّا مينا» وسيرة صعاليكنا يقطعون الفلاة شعرا، يغتالون الموت في محاجره.
هذا الطفل الساحر يضيء بلألاء حدائقه المسحورة ويستدلّ عليه بـ«غناء الحوريات» كأنه قدّ من حكايا ألف وليلة أو حكايا الجدّات.كائن عجيب يَرى ولا يرى وله حدائق فيها «الكروم تقطر شهدا وفيها فيروز وماس وبجع من الياقوت».(25)
هذا الطفل وقد صاغه الشاعر من نصوص وصور وذاكرة وحياة صنعه من ورق ملوّن زاه وشكّل به مركبا في البحر «يسير رشيقا فوق الماء ..وينأى» ومن بقاياه صنع طائرة من ورق توارت» خلف الغيم توارت غربا»(26) تحتفي القصيدة بالرموز وتنهل من نصوص التراث العجيب منه والمقدّس وتنشأ من صور مشهدية ضاربة في التشكيل تتراكم وتتداعى عن طريق وجوه الاستعارة وتعدّد الأصوات. والقصيدة في مجموعها صورة عنقودية بؤرتها السردية طفل له حالات وأوضاع وأشكال كالماء يجري لا تقف له على أثرتصنعه رؤى سردية من الخارج وتقتفي أثره بين الغيبة والحضور.
مقاطع القصيدة بنائيا أو لوحاته عشر مهداة إلى حمادي صمود عتبة ولها معنى مادامت القصيدة هي من سميّ الكلام ومادام المهدى إليه هو من أجلّ الأساتذة الذين عرفتهم الجامعة التونسية.
بطلها منذ المقطع الأول طفل له صفات وحالات(27) كالمتصوّف، كلفا بالبحر وقد استعار زرقته، يسكنه الحنين إلى غناء الصيادين، يجيء خفيفا ليس له إلاّ عصى موسى يفتح بها المجاري ويقيم على الماء مملكة للحدائق والأقمار واليمام. كائن عجيب هذا الطفل تحاك حوله القصص، وله أصوات تتداول حكاياه عن طريق مقول القول: فهم الباعة في الميناء لمحوه في زمن الفجر «يسير رشيقا فوق الماء وينأى» (المقطع الثاني)، وهو العجوز يروي حكايته مع الطفل والبحر ولا يراه إلاّ جليلا يمشي فوق الماء، وهو الفتى يطلبه ويبحر وصحبه إثر مراكبه سنينا فلا يسمعون غير غناء الحوريات ولا يرون إلاّ حدائق سحره .ومن أعجب ما في هذا النصّ تشابك حكاية الصيّاد الراوي الذي ينطق بضمير المتكلّم بحكاية الطفل الذي هو قناع الشاعر. فالصيّاد الذي يلبس قناع السندباد البحري جعله الشاعر يغامر في البحر مغامرة المريد المستكشف الذي تحدّى العواصف والنوائب .ولم يرخ العنان للريح ولم يعرّج إلى الغرب إلاّ في اليوم السابع والعشرين بعد أن سرقت الريح ولده وأخاه ثم ثلاثة من أصحابه (شبيه بغيلان السدّ).وجعله- والسارد يلعب بالزمن الذاتي للشخصية والزمن الخارجي للأحداث حسب نظام الحكاية السردي- يخرج من صمت الزمن ووقفته السردية ليعاود الصياد حكايته وقد مضى على آخر أحداثها ثلاثة أعوام فإذا به يسلم المركب لريح الشرق وللمسات أنثى بين إغفاءة هي كالحلم أو كالسكر فيها يتجلّى شبق الكلام:
كأني أمسك رأس النهد..
كأنّ يدي ترتاح على زغب كالقطن.(28)
وبين إفاقة هي شوارد من حلم اليقظة حين تلتحم ذات الشاعر بذات الراوي وذات الراوي بذات الطفل.
ما دام الماء يطوق الصياد فلا يبتل:
«خطوت فلم أبتل .
مشيت .عدوت. رقصت. جلست:
يطوقني الماء ولا أبتلّ
وحين يصيخ السمع ويجول بعينيه يرى الطفل» جليلا يسبح فوق الغيم».(29) أو في الغيب يصعد مدارج العشق كائنا من نور، من كفيه يعبق المسك. ومن آيات ما صنع الشاعر السارد المتخفي وراء النصّ أن جعل الراوي يشرّق وجعل الطفل يتجه غربا وجعل الجزء في الكل حيث للبحر أوساع لاتحدّ فيه تتّحد العناصر والذوات : الضوء والمهر والطفل والغيم والأنا والهي والنحن:
كان البحر مساء..
وكان الضوء،
وكان الطفل،
وكان الغيم،
وكنت،
وكانت،
كنت،
وكنّا،
كنّا..(30)
أليست الكينونة في أقصى تجليها سفرا في الغيب والتفاصيل؟
ألم يقل باسكال « ما الإنسان في الطبيعة؟ هو عدمٌ إزاء اللانهائي، هو كل إزاء العدم، وسط بين اللا شيء والكل»؟
كتابة بلا ضفاف
هكذا كتابة محجوب وقد تعتقت ونضجت ثمارها إن نظرنا إليها من جهة أجناسيتها وتكويناتها البنائية. هي لغة على لغة ونصّ على نصّ :نصّ الشهادة السيرة، منثورا «عن الطفولة وأوجاع الكتابة» على نصوص بانورامية يمتزج فيها الشعر بالسرد حدّ الذوبان بين طويلة وقصيرة هي أصوات ومرايا وهي ومضات شعر وهي خواطر عن الموت وعن حماقات أخرى.لعلّها كتابة بلا ضفاف أو كتابة التحوّلات في زمن الهجرة من الحياة إلى الموت ومن الشعر إلى النثر أو كتابة الطفولة التي تتناسل من الطفولة . لعلّها كتابة تنبض بالحياة وهي تواجه موتها المستتر. تواجه عدمها المعلّق في أفنان الكلام وفي شرفات التأمّل حيث يحتفي الشاعر ب»الأشياء الغامضة الواضحة». وينسج من العابر الزائل دهشة الخلود.كتابة تبحث عن هويتها الأجناسية وعن أصل نوعها الدارويني فإذا هي مزجة نصوص ورحيق كلام وكوكتال معتّق من عناقيد الصور وتواشيح النغمات وإذا هي «لغة تسجد اللغات لها ألغزها عاشق وعمّاها»( أبو نواس) …
لعلّها تجربة في صنوف القول الشعري تتراوح بين نثر مسكون بالشعر وشعر مسرّد وتنبض هذه التجربة بالمروق والبحث عن نصّ لا تتحدّد ضفافه داخل الأجناسية التقليدية، مركزها الأنا وأبعادها المدى..وكلّما جلت فيها انتابك الرحيل في الصورة والعبارة والإيقاع يتداعى من نبض الروح ومسكن اللغة في قصائد طوال وقصار، تتهافت من عين الطفل الشاعر منساحا في ذاكرته ومنزاحا عنها إلى براري التأمّل في الموجود والوجود.
تنبع النصوص كلها بنثرها وشعرها من معدن ذات شاعر يجرّب رؤياه، لا يخشى المغامرة ولا يصنع افتعالا مجراه ..فالـمجـاري كلّها لها نبع واحد ومسالك لا تحدّ، مادام القول الشعري لا تسيّجه التخوم ولا أعراض الموت.وكأنّ الشاعر يحيا داخل قوله المنساب وخارج وعينا بمألوف الكلام، فهو يفاجئنا في كل مقام بخرق المنتظر وبتكثيف في غير بيان مصطنع.وما بلاغته إلا في قدرته على تحويل العادي إلى مدهش والمعيش إلى متأمّل فيه والسيرة الذاتية إلى حدث شعري عام يشدّ القارئ إلى مداراته.».
بهذا سكت محجوب عن الكلام المباح وظل يحفر مجراه بين الرموس ويطلق جوانح الشعر ويرسل في مدى الغمام نثره وسرّه وعشقه الباخوسي للحياة لابسا قناع الحسن الوزان معرشا في رؤاه يبحث له عن مقامات صوفية لم يكتبها الحلاج.
على سبيل الخاتمة
لعلي أحتزل صورة محجوب العياري كما بدت لي في مرايا شعره وفي مرآة الحياة:
كهلا، كان، ويسكنه طفل مغمّس في أوجاع العالم، مارقا لا يطمئنّ إلى سكينة الأشياء، يوزّع قلقه بين نصّه والحياة، يائسا من كلّ شيء، وآملا في كلّ شيء، متوثّبا لاينام يقتات من وعيه وترحاله، غامضا في وضوحه، وكلّما توغّل في الوضوح غمض، وكلّما تلبّس به الغموض استبان، تحجبه الغيوم وفي بطنها يسكن ماء هطيل، وينبض بالبرق والضوء العصيّ، يعيش بين الماء والنار، كالمرايا المهشّمة في الأحلام، وكالزورق المصنوع من عجينة الريح، يلهو بالجرح، والحمام المذهول في تقاطع السماء والبحر، ويغيم في أجراس الغيب ملكا على الصمت، ينذر بالبذور بكرا، تولد في وطن الرماد، وفي المحار مسكونا بالأسرار، لم يفض ختمه غير غبار الوقت، هو شاعر قدّ من قسمة الأضداد، كلّما حاولت رسمه، ندّ عن الألوان، لاشكل له، وله كلّ الأشكال، له وطن موشّى بأزمنة الضباب، له الحضور في أعتى التجلّي، له الغياب في مجرّة الصلاة.
الهوامش
2 – محجوب العياري : الطفل( مجموعة شعرية)، نابل: بابيروس للنشر، 2004 ق «صمت» ص 42
3 – محجوب العياري : تداعيات في الليلة الأخيرة قبل الرحيل، تونس: دار الجويني للنشر، 1988 ص 23
4 – نفسه ص 24
5 – نفسه ص 32
6 – نفسه ص 32
7 – نفسه ص 36
8 – محجوب العياري : حرائق المساء… حرائق الصّباح. الحمامات: بيت البحر المتوسط، 1993 ص 68
9 – نفسه ص 94
10 – نفسه(من مقدمة مجموعة حرائق المساء) ص 21
11 – P 10-11Genette (Gérard) : Palimpsestes, Paris, seuil, 1972
12 – خالد الغريبي :السرد والتأويل، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وحة البحث في المناهج التأويلية، ط 1، مارس 2010 ص 98
……………
13 – لم أتوقف على كل عتبات النصّ الداخلي مثل الغلاف والإهداء والتصديرلأنّ مقصدي هو البحث عن العلامات الوظيفية المتصلة بحدث الطفولة وقد أغنانا صابر حباشة عن ذلك في مقال له «الطفل لمحجوب العياري: نصّ الفتنة أم فتنة النصّ؟ « صادر بجريدة المدينة بحديثه عن الإهداء بقوله»الإهداء: أكثر العياري من توخّي العتبات النصّية وكأنّ هاجس «التعتيب» ليكون القارئ في موضع المعاتَب (بفتح التاء) المدين قبل أن يبحر مع النصوص يعبّ منها ما لذ واستطاب، غير أن اللافت من العتبات النصّية ما جاء محشوًا بالفراغ أو يكاد، فالإهداء حصل لنقطة استفهام واحدة ولنقطتي تعجب..»
14 – الطّفل : مجموعة شعرية، نابل: بابيروس للنشر، 2004 ص11
15 – نفسه ص 11
16 – نفسه ص 12
17 – مارتن هايدغر، إنشاد المنادى، قراءة في شعر هولدرلن وتراكل، تلخيص وترجمة: بسام حجار، بيروت-البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط. I، 1994، ص. 18.
18 – الطفل ص 11
19 – نفسه ص 42
20 – نفسه ص 51
21 – نفسه ص 76
22 – نفسه ص 87
23 – نفسه ص
24 – أفاض صابر حباشة في مقال له عنوانه»الطفل لمحجوب العياري: نصّ الفتنة أم فتنة النصّ؟ « في تحليل هذه العتبة وبيان أبعادها بقوله:
« لقد حاز العياري على تزكية من الأستاذ صمود بالشعرية لا نظن أنها مجانية أو أنها ضرب من المحاباة، وقد عاشر أستاذ البلاغة نصوص رواد الحداثة الشعرية وحلل نماذج من قصائد أقطاب الشعر الحديث نحو: محمود درويش وأدونيس. من هنا يكون محجوب قد حجب عن ناقديه حق الارتياب في أنّ ما يأتيه من قول شعر أو غير شعر. ومن هنا يكون قد ورّط الناقد الذي سيقول في نصّه قولا لأنه مطالب بأن يكون في مستوى قول الأستاذ صمود وهذا الأمر عزيز، ».
25 – نفسه ص 23
26 – نفسه ص 26
27 – لفظة صفات وحالات تعني الوجه اللغوي والدلالي فقد قدم الحال كلفا وخفيفا وهما صفة مشبهة على النواة الإسنادية وفي ذلك إبراز وتوقيع صوتي لحالة الوله التي يعيشها العاشق المتصوف.
28 – نفسه ص 24
29 – نفسه ص 25
30 – نفسه ص 27