عالم الفلسفة الكبير محسن مهدي (1926-2007) غادرنا قبل نحو عشر سنوات وسط أسف مشهود في الاوساط الفلسفية العربية والعالمية اعترافا بالمكانة المتميزة لهذا المفكر المنهجي الذي سعى الى احياء واعلاء مفهوم “العلم المدني” في الفلسفة الاسلامية من خلال الكشف عن أهمية وعمق تياراته لدى عبد الرحمن ابن خلدون الذي خصص له في 1954 اطروحته لنيل الدكتوراه “فلسفة التاريخ عند ابن خلدون – دراسة في الأساس الفلسفي لعلم الثقافة”، والتي نشرت بالانجليزية في لندن عام 1957، واعيد طبعها عدة مرات كما ترجمت إلى الفارسية رغم انها لم تظهر بالعربية بعد، ثم لدى أهم فيلسوف مسلم كتب في علم السياسة لحد الآن والفيلسوف المدني بامتياز “المعلم الثاني” ابي نصر الفارابي الذي خصص له، ولاثره لدى عدد آخر من الفلاسفة والمتكلمين والمؤرخين والفقهاء، سلسلة من الدراسات العلمية اهمها كتابه “الفارابي: وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية” الذي ظهر بالفرنسية والانجليزية في عام 2000 ثم بالعربية بعد عام. المفهوم المهم الآخر الذي سعى محسن مهدي الى احيائه واعلائه وبنفس القوة هو ذلك المفهوم الخاص الذي اسسه الفارابي ويدل عليه تعريفه للفلسفة باعتبارها “علما بحتا” يقوم على منهجية مماثلة لمنهجية علم الرياضيات التي تعتمد على “طرق البراهين اليقينية”. ومن هنا سعيه الى الإسهام بشكل فاعل في احداث تقدم نوعي في نمط المناهج الاستشراقية السائدة من قبل في الجامعات الامريكية والاوربية بشأن دراسة الفلسفات والآداب الشرقية والاسلامية خاصة والاستفادة منها في ذات الوقت. فقد دأب على تحقيق عدد مهم من نصوص الفارابي المجهولة احيانا، ونشر العديد منها مع مقدمات دراسية عميقة وموسعة، كما تعمق بدراسة الفلسفة السياسية لغير الفارابي بدءاً بنصوص سقراط وإفلاطون وأرسطو وكذلك الفلسفات الإفلاطونية الوسيطة المسيحية واليهودية فضلا عن الفلسفة الكلامية الاسلامية ومؤلفات ابن رشد وابن سينا وأبي بكر الرازي وابن خلدون ومن المعاصرين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدة ورشيد رضا ومحمّد إقبال وطه حسين.
وقد انجز دراسات بالغة الأهمية عن عدد من اهم النصوص الفلسفية العربية، نشر بعضها بالتعاون مع رالف ليرنر من جامعة شيكاغو وفيما بعد ذلك مع إيرنست فورتن من كلية بوسطن، كما نشر الكتاب المعروف “الفلسفة السياسية الوسيطة”، والمتضمن لمجموعة من النصوص المختارة والمترجمة من اللغات العربية والعبرية واللاتينية إلى اللغة الإنجليزية.
وتوّج الاستاذ محسن مهدي مسيرته العلمية بتحقيقه لنسخة مجهولة من كتاب “ألف ليلة وليلة”، أثبت فيه أنه كان لا يضم سوى 282 ليلة، وأن مستشرقي القرنين 18 و19 هم الذين غيروا ومدّدوا العدد لكي يصل إلى “ألف ليلة وليلة”.
وتأسيساً على المبادئ اعلاه، لم يكف المفكر الراحل عن التأكيد على أهمية دراسة الفلسفة الإسلامية والسياسية منها خاصة دراسة علمية معتبرا إياها بمثابة الطريق الأمثل لفهم أن المطلب الأساسي الذي يواجه مجتمعاتنا ونهضتها هو تأكيد مكانة العلم ومستقبل الحركة العلمية. والفلسفة السياسية في الإسلام تبحث بنظره، في مطلبين أساسيين هما أصول الحكم وأنواعه الممكنة في الإجتماع الإنساني، وعلاقة العلم أو الفلسفة بالملة اي الشريعة. لكن لا نهضة ولا ازدهار لها إلا إذا نشأت فيها فلسفة سياسية انسانية، وظهر فيها من يعزز ما بين العقل والنقل من تفاهم وتكامل كما أراد ابن رشد وليس من إنفصال وتضاد كما أراد مفكرو الكراهية المتطرفون، ولهذا انصب اهتمام محسن مهدي على الفارابي لأنه يكاد يكون الوحيد بين الفلاسفة المسلمين، الذي ركز جهوده على هذا الهدف العظيم ولم يكن ابن باجة، وابن رشد، وابن خلدون إلا تلامذه له فيها. لكن مما يؤسف له في تاريخ الفلسفة الإسلامية حسب محسن مهدي، هو أن ابن سينا “ترأس اتجاهات ابتعدت فيه الفلسفة عن الواقع، واقتربت من التصوف. وكانت النتيجة أن عصر النهضة في المشرق العربي افتقر إلى تراث في الفلسفة السياسية ينبني عليه بحثه في أصول الحكم والسياسة، فاتجه نحو علم الكلام، والفقه، والتصوف. وهذه علوم قيمة. لكنها تفتقد الأفق الواسع الذي لا يتفتح إلا في الفلسفة السياسية”.
فمحسن مهدي لم يكن باحثا اكاديميا لامعا وحسب بل مؤرخاً مجدداً في تاريخ الفلسفة ما جعله، منذ مطلع الربع الاخير من القرن العشرين، وباجماع واسع، المرجع الاكثر رصانة وثقة على المستوى العالمي في مجال دراسة الفلسفة الإسلامية ولا سيما السياسية منها، الامر الذي عززه عمله لفترة طويلة استاذا في قسم اللغات والحضارات الشرقية بجامعة شيكاغو بين 1957 و1969، قبل ان يتولى الاشراف على دراسات الفلسفة الاسلامية لعقود طويلة في جامعة هارفارد الأمريكية محتلا كرسي (جويت) للدراسات العربية فيها وهو نفس الكرسي الذي كان يشغله من قبل المستشرق الشهير هاملتون جب. وقد ظل يعمل في جامعة هارفارد حتى تقاعده في 1996، أي لمدة 27 سنة، مديرا لمركز “دراسات الشرق الأوسط” وأستاذا في قسم لغات وحضارات الشرق الأدنى.
ومحسن مهدي ولد في 21/6/1926 في بلدة عين التمر، وتسمى شثاثة ايضا، وتقع غربي مدينة كربلاء، وتعد أحد أهم واجمل الواحات الصحراوية الطبيعية في العالم، وتشتهر ببساتين نخيل غناء وبعيون المياه الدفاقة الملونة وخاصة المعدنية. وهي حاضرة قديمة كانت مزدهرة ثقافيا في عصر المناذرة. وتوجد فيها الى الآن آثار كنيسة الاقيصر القديمة، وقصر شمعون نسبة إلى اسقف الحيرة شمعون بن جابر اللخمي وكان داعية مسيحي نسطوري المذهب معاصراً للنعمان بن المنذر. كما يقع على الطريق اليها من كربلاء حصن الأخيضر التاريخي. وقد فتحها المسلمون عام 12 للهجرة وفيها ولد الشاعر الشهير أبو العتاهية.
وقد أتمّ محسن مهدي دراسته الابتدائية وجزءاً من الثانوية في كربلاء والنجف ثم أكملها في العاصمة بغداد قبل ان ينتقل للدراسة في الجامعة الأمريكية ببيروت خلال الحرب العالمية الثانية. وفي حوار نادر اجراه معه د. حامد طاهر في مارس 1985، نجد اشارات مهمة عن تطوره العلمي، والتحولات الكبرى في حياته الفلسفية، وآرائه في أهم القضايا التي تشغل فكرنا المعاصر، اذ يشير المفكر الراحل الى انه انهى الدراسة الأدبية في الإعدادية المركزية ببغداد ذاكراً من أساتذته فيها صادق الملائكة في الأدب العربي وهو اديب وشاعر ووالد الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة، وفي التاريخ جواد علي، احد اهم المؤرخين العرب في القرن العشرين ومؤلف (تاريخ العرب قبل الإسلام) بثمانية مجلدات و(المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) بعشرة مجلدات، و(المفصل في أديان العرب قبل الإسلام)، والحائز على الدكتوراه من هامبورغ سنة 1939، وأستاذ التاريخ في جامعة بغداد قبل ان يصبح في 1957 أستاذا زائرا في جامعة هارفارد الامريكية. كما يشير الى انه عندما التحق بالجامعة الأمريكية ببيروت خلال الحرب العالمية الثانية، كان شغوفا بالعلوم الاجتماعية من اقتصاد واجتماع وتاريخ من جهة، وبالفلسفة من جهة ثانية، وأن أهمية الجامعة الأمريكية لم تكن بالنسبة له أكاديمية بقدر ماكانت اجتماعية وثقافية، بمعنى أنها أتاحت له الفرصة للتعرف على عدد كبير من الأصدقاء العرب الذين جاءوا من مختلف الأقطار، والعمل معهم في نشاطات طلابية قومية، كما أتاحت له الفرصة للكتابة والعمل (الصحفي) كمحرر لمجلة الكلية، ومجلة العروة الوثقى ثم الإشتراك في جمعيات الطلبة ونواديهم الثقافية، مقيّماً ثقافته في تلك المرحلة بأنها كانت جدلية وخطابية أكثر منها علمية برغم اطلاعه آنئذ على مبادئ كثير من العلوم الإجتماعية والإنسانية.
وفيما يشير مهدي الى انه قرأ كل ما توفر له من كتب الفلسفة قبل التحاقه بالجامعة الأمريكية، وكان أغلبها يدور حول الفلسفة اليونانية والغربية، فانه، وقبل ان تجذبه دراسة الفلسفة، كان شغوفا بالعلوم الإنسانية من اقتصاد واجتماع وتاريخ في البدء الى جانب تخصصه في العلوم الادارية التي نال فيها شهادة التخرج بتفوق ليعين اثرها في 1947، محاضرا في العلوم الاقتصادية بجامعة بغداد حيث استمر في التدريس لمدة سنة، غادر بعدها الى الولايات المتحدة الامريكية اثر نيله منحة للدراسات العليا في جامعة شيكاغو حيث اختار (فلسفة التاريخ عند ابن خلدون) موضوعا لرسالة الدكتوراه، ولينتسب فيها إلى “لجنة الفكر الاجتماعي” وهي احدى اقسام نيل الدكتوراه في جامعة شيكاغو قام بتأسيسها عام 1941 المؤرخ جون أولريك نيف مع الاقتصادي نايت فرانك، وعالم الأنثروبولوجيا روبرت ريدفيلد، ورئيس الجامعة روبرت مينارد هاتشينز. واللجنة نخبوية المستوى متعددة التخصصات تشجع على البحث النقدي الحر والتجديد الفكري وقد برز من اعضائها علماء اجتماع واقتصاد وعلوم طبيعية كبار ومفكرون مثل حنة أرندت وكذلك ألان بلوم (1930-1992) وسيث بينارديت (1930-2001) والاخيران من ابرز الفلاسفة الامريكيين المجددين في القرن الماضي وقد تعرف عليهما محسن مهدي عن كثب وتوطدت له معهما صداقة استمرت مدة طويلة.
تكوينه الفلسفي
عن اهمية الاجواء الفكرية في جامعة شيكاغو عندما التحق بها، يوضح محسن مهدي انه وجد محيطا يختلف كثيرا عما كان في بيروت. تمثل بعدد كبير من الأساتذة الأوروبيين- وخاصة الألمان- ممن كانوا قد هاجروا إلى الولايات المتحدة قبل الحرب العالمية، “وكان كل منهم يمثل قمة ماكان قد وصلت إليه العلوم التاريخية والإنسانية في حقله من اجتماع وأدب وفلسفة وتصوف الخ.. وهناك بدأت الدراسة الجدية للنصوص الفلسفية بلغاتها الأصيلة، وتفتحت لي أبواب مناهج البحث والتفسير في حلقات الدرس والنقاش، واقتنعت بأنه من الممكن حقا الوصول إلى مغزى فكر كبار الفلاسفة والعلماء والأدباء عن طريق القراءة الجادة، والتأمل في معاني ماخلفوه من روائع الكتب. وفي هذه الفترة تحولت هوايتي الأولى، وهي الفلسفة بعامة والفلسفة الإسلامية خاصة إلى دراسة جادة للنصوص الفلسفية العربية والإسلامية، مع ملاحظة الصعوبة التي واجهتها في هذا الصدد، بسبب أن معظم هذه النصوص لم يكن قد حقق وشرح شرحا كافيا”.
وفي سنة 1954 أنهى أطروحة لامعة في الفلسفة، نشرت بعد مناقشتها بوقت قصير تحت عنوان “فلسفة التاريخ عند ابن خلدون – دراسة في الأساس الفلسفي لعلم الثقافة”.
وبعد أن عمل محسن مهدي محاضرا زائرا في الحلقة الدراسية حول “الفكر السياسي” في معهد الاستشراق بجامعة فرايبورغ ببرايسغو في ألمانيا، عاد إلى بغداد محاضرا في معهد القانون وكلية الفنون والعلوم في جامعة بغداد. لكنه سرعان ما عاد الى شيكاغو في سنة 1957، بعد ان قبِل منصب أستاذ مساعد في قسم اللغات والحضارات الشرقية في جامعة شيكاغو التي ترقى فيها إلى مرتبة الأستاذية الكاملة، وظل يعمل فيها إلى سنة 1969، عندما، وبعد أن رفض عدة عروض من مؤسسات جامعية، قبِل في الأخير عرضا بالعمل في جامعة هارفارد من لدن أستاذ اللغة العربية جيمس ريتشارد جويت (James Richard Jewett). وقد ظل يعمل في موقعه الجديد بجامعة هارفارد منذ سنة 1969 إلى تقاعده سنة 1996، أي لمدة 27 سنة مديرا لمركز “دراسات الشرق الأوسط” وأستاذا في قسم لغات وحضارات الشرق الأدنى.
وبموازاة ذلك، انجز الأستاذ مهدي عدة أبحاث لما بعد شهادة الدكتوراه في جامعة باريس بالإضافة إلى جامعة فرايبورغ في ألمانيا. كما قام في المغرب بأبحاث برعاية كل من مؤسسة روكفللر ومؤسسة فولبرايت للبحث. وأنجز عدة زيارات للتدريس في جامعة فرايبورغ والجامعة الأمريكية في القاهرة ومركز الدراسات الإسلامية في باكستان، و جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، ثم في جامعة بوردو، وفي جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس وجامعة محمد الخامس بالرباط. وكان عضوا في المجلس الاستشاري لقسم الدراسات الشرق أوسطية في جامعة برنستون، ومؤسسا ورئيسا في الجمعية الدولية لتاريخ العلوم والفلسفة العربية في باريس، وعضوا مؤسسا ومسيرا لجمعية دراسات الشرق الأوسط.
كما كان عضوا في هيئة تحرير مجلة الفلسفة والعلوم العربية، ومجلة دراسات الشرق الأوسط، والمجلة الإسلامية لجامعة هارفارد، ومجلة “التأويل” المعنية بالفلسفة السياسية. وترأس “مركز الدراسات” الأمريكي بالقاهرة، كما نال عنوان أول عضو مراسل لمجمع اللغة العربية في القاهرة. وفي سنواته الأخيرة امضى محسن مهدي معظم وقته في باريس محاضرا في معهد العالم العربي، ومشاركا في عدة ندوات، حتى انه غدا وجها مألوفا ومحبوبا في المكتبات والمقاهي التي يرتادها الأدباء والمثقفون من كل أنحاء العالم الإسلامي وبخاصة في فاس والرباط، والذين كان معظمهم من تلاميذه، وقبل أقل من شهر من وفاته منحته الجامعة الأمريكية في القاهرة شهادة الدكتوراه الفخرية.
وفضلا عن الفلسفة العربية الإسلامية، كان المفكر الراحل متمكنا على نحو شامل من الفلسفات الإغريقية واليهودية والمسيحية الوسيطتين والفلسفة السياسية الغربية اجمالاً، هذا بالإضافة إلى تبحره في اللغة العربية وفي تجلياتها التاريخية والجغرافية بشكل كبير جداً. وبعد أن استوعب مناهج تحقيق النصوص الدقيقة، هذه المناهج التي طورها العلماء الأوربيون، فقد قام بنفسه بتأسيس القواعد العامة للبحث في الفلسفة العربية الإسلامية. وكان في بداية مساره العلمي، ينقّب عن المخطوطات في أي مكان من العالم لتحقيقها أو من أجل تقديمها لطلابه الباحثين بكل اهتمام. وقد عُرِف خاصة باكتشافه وتحقيقه وترجمته وتأويله لكثير من كتب الفارابي ورسائله. وبعد أن اكتشف فلسفته بفضل ليو شتراوس، سيثبت بوضوح في كتابه “الفارابي وتأسيس الفلسفة السياسية الإسلامية” الصادر في 2001، كيف أن الفارابي أحدث تغييرا جوهريا في وجهة التراث الفلسفي العربي الإسلامي.
وقد اشتهر على المستوى العالمي بانه من الأساتذة القلائل الذين تميزوا بدقة التحقيق العلمي في الدراسات الفلسفية الاسلامية المعاصرة، كما تنسب اليه اعادة اكتشاف فلاسفة مسلمين كبار عبر تحقيق نصوص مجهولة لهم مثبتاً، عبر نحو عشرين كتابا فلسفيا نشرت في حياته، وجود افكار فلسفية اساسية لديهم اهملت قبل الآن. وساعد في النجاح العلمي لمحسن مهدي عمق احاطته بالفلسفة الإغريقية، وكذلك الفلسفات اليهودية والمسيحية والفلسفة السياسية الغربية لدى ممثليها الابرز، فضلا عن الفلسفة العربية الإسلامية الكلاسيكية، ومعرفته القوية باللغة العربية وتاريخها وثقافتها المتشعبة. وبعد أن استوعب المناهج الأوربية الحديثة في تحقيق النصوص الدقيقة، قام بنفسه بتأسيس القواعد العامة للبحث في الفلسفة العربية الإسلامية. وكان في بداية مساره العلمي، ينقّب عن المخطوطات في أي مكان من العالم.
أساتذة متميزون وأجواء فلسفية خصبة
من الواضح لدينا ان محسن مهدي استفاد بشكل حيوي من الاجواء الفلسفية الخصبة التي عرفتها الاوساط الفلسفية والاكاديمية الامريكية ابان فترة الحرب العالمية الثانية بفضل هجرة عدد كبير من العلماء والمفكرين من المانيا وفرنسا ودول اوربية اخرى وغيرها الى الولايات المتحدة. فقد تأثر محسن مهدي بمفكرين سياسيين ومستشرقين كبار كلهم من اولئك المهاجرين تقريبا خلال دراسته في جامعة شيكاغو مثل الالماني الاصل أرلوند بركستراسر(Arnold Bergsträsser)، والفرنسي الاصل أيف سيمون (Yves Simon)، وخصوصا الالماني الاصل ليو ستراوس (Leo Strauss) ونابيا ابوت (Nabia Abbott) الماردينية الولادة والتي اشرفت على اطروحته للدكتوراه.
وإيف سيمون، (1903-1961) هو فيلسوف سياسي فرنسي ينعت احيانا بـ”فيلسوف فرنسا الحرة” لتأييده المقاومة الفرنسية ضد حكومة فيشي التي شكلت خلال الاحتلال الالماني الهتلري لفرنسا ما اضطره الى الهجرة الى الولايات المتحدة حيث اصبح استاذا في جامعة شيكاغو عام 1948. وينسب له طرح مفهوم “حكومة ديمقراطية” انطلاقاً من مبادي فلسفة القديس توما الاكويني. فقد تركز اهتمام ايف سيمون على بحث الفلسفة السياسية والاخلاقية في الفلسفة السكولائية المسيحية الوسيطة خاصة. وفي كتابه “فلسفة الحكومة الديمقراطية” دافع ايف سيمون عن افكار القديس توما الاكويني السياسية وعن قيم الفضيلة والاخلاق، كما دافع بقوة عن الاعتقاد بان الاكوينية تدعو الى الديمقراطية الليبرالية معتبرا ان الكاثوليكيين الفرنسيين اخطأوا باعتقادهم ان عليهم الدفاع عن النظام الملكي المطلق.
اما ليو شتراوس (1899-1973)، فهو فيلسوف أمريكي من أصل ألماني، كان قد غادر ألمانيا خشية الاضطهاد النازي باعتباره يهودياً. وشتراوس يعده البعض ليبراليا ديمقراطيا فيما يعتبره آخرون ملهم أيديولوجيا المحافظين الجدد .لكن من الواضح ان شتراوس مؤرخ الفلسفة هو الذي اسهم في تعميق اهتمام محسن مهدي بالفلسفة السياسية لدى الفلاسفة المسلمين. ويبدو ان اهتمام شتراوس بالفلسفتين الوسيطتين اليهودية والإسلامية قادم من رغبته باعطاء الفلسفة اليهودية الوسيطة دوراً رئيسيا في نهضة الفلسفة السياسية الغربية الحديثة. لكن، ولما كانت الفلسفة الإسلامية الاهم تأثيرا والاقوى حضورا في العصر الوسيط لا سيما من خلال الرشدية اللاتينية التي أثرت في السياسة من خلال الفلسفة، فان شتراوس ذهب الى طرح مفهوم الشراكة بين الفلسفتين الوسيطتين اليهودية والإسلامية في وراثة الفلسفات الكلاسيكية (اي الاغريقية)، وفي نقلها الى اللاتينية الأوروبية الوسيطةـ ومن هنا يأتي الإصرار لديه على ان التقليد الفلسفي الإسلامي واليهودي الوسيط هو حلقة الوصل بين الفلاسفة الإغريق وأوروبيي العصر الحديث، ليس بالمعنى التاريخي وحسب، بل بالمعنى المعرفي أيضاً، نظراً الى أن لدى شتراوس وجهة نظر محددة بشأن منظورات الفلاسفة الاغريق، ينصر بمقتضاه أفلاطون على أرسطو، كما لاحظ رضوان السيد، بل ذهب الى أن الأمر كان كذلك عند المسلمين في العصر الوسيط، وعند الأوروبيين في العصور الوسطى أيضاً… ومن هنا ميل شتراوس الى اعتبار أن اليهودية والإسلام، مقارنة مع المسيحية، هما الاقرب لتفهم التجربة الإغريقية والأفلاطونية خاصة، والتوافق معها، واجداً في الفارابي وإبن سينا وإبن ميمون وإبن رشد شواهد على ذلك.
من المؤكد ايضا بنظرنا، ان محسن مهدي كان مشاركا متميز النشاط والموهبة في تلك الحركة الفلسفية لا سيما ونحن نعرف ان شتراوس أسهم بالفعل في مقاربته هذه للفلسفة الاغريقية باعتبارها حكمة وسلطة، وذات الشيء بالنسبة للفلسفتين الوسيطتين اليهودية والإسلامية، في استحداث التخصص بدراسة “الفلسفة السياسية” فيها كما نجح، الى جانب آخرين، في تكوين وتنشيط حلقات من الطلاب والأصدقاء والأنصار ركزت على التعمق في أربعة اتجاهات دراسية ركز الاول على الفلسفة الاغريقية، وأفلاطون على الخصوص، وركز الثاني على الفلسفة الإسلامية الوسيطة، والثالث على الفلسفة اليهودية الوسيطة، والرابع على الفلسفة السياسية الغربية الحديثة ولا سيما منابعها القديمة والوسيطة.
نابيا ابوت لا تقل تأثيرا عن شتراوس برغم كونها الاقل شهرة. وهي مستشرقة ومؤرخة من اصول تركية او عراقية على الارجح، متخصصة في التاريخ الاسلامي الوسيط، وكانت اول امرأة تنال مقعد الاستاذية في “معهد الدراسات الشرقية” بشيكاغو وظلت فيه من 1933 حتى تقاعدها في 1963. ويذكر محسن مهدي في مقال كتبه في تكريمها، انها ولدت في ماردين جنوب تركيا عام 1907 وسافرت مع عائلتها الى الموصل ثم الى بغداد عبر دجلة، وبعدها الى بومباي حيث اجتازت اختبار التأهل للدراسة في كامبردج ومكثت في الهند حتى انتهاء الحرب العالمية الاولى لتستدعى برفقة المس غيرترود بيل لتدريس البنات في المملكة العراقية الوليدة، ومنها انتقلت مع عائلتها الى بوسطن فشيكاغو حيث تابعت في معهد الدراسات الشرقية دروس استاذ اللغة العربية مارتن سبرينغلر، ثم لتتخصص بدراسة مطلع التاريخ الاسلامي اعتمادا على نصوص ورق البردي المكتشفة ومحدثة ثورة في منهج الدراسات الاستشراقية المعتمدة على نهج الكتاب الغربيين من قبل. ولنابيا ابوت مؤلفات مهمة ترجم بعضها الى العربية مثل “المرأة والسياسة في الإسلام” و”ملكتان في بغداد: الخيزران ام هارون الرشيد وزوجته زبيدة”، و”نظرة جديدة حول ادارة عبيد الله بن الحبحاب من خلال بردية مكتشفة”، و”دراسات في مخطوطات أوراق البرديّ الأدبيّة العربيّة”…
ويخبرنا محسن مهدي في مقابلة صحفية معه في 1996، انه امتلك فرصا نادرة للدراسة مع علماء لامعين في العالم العربي كما في الولايات المتحدة ودول اوروبية. اما الأكثر تأثيرا بينهم في رسم مساره العلمي الخاص، فتتباين وتتشابك الاسماء والاسباب وانواع وابعاد التأثيرات كما يراها المفكر الراحل: “ما قبل التخرج من الجامعة الأمريكية في بيروت، كانت الشخصية الأكثر تأثيرا هي قسطنطين زريق في التاريخ الإسلامي، بينما في الفلسفة كان بلا ادنى شك شارل مالك الذي كان من دواعي سروري العمل معه في الأمم المتحدة عندما كان ممثلا للدول العربية في مجلس الأمن. كلاهما قدم لي ما يحتاجه الجامعي: الحماس لموضوع والشعور باهميته الكبيرة لحياتنا الخاصة وحياة امته”.
والمعلوم ان المؤرخ السوري قسطنطين زريق (1909-2000)، المتخرج ايضا من الجامعة الامريكية ببيروت ثم من جامعتي شيكاغو وبرنستون للدكتوراه عام 1930، والمعروف كأحد أبرز منظري القومية العربية في القرن العشرين وداعية ربطها بالعلمانية والعقلانية، ولقب من قبل انصاره بـ”شيخ المؤرخين العرب”، فقد كان استاذ التاريخ في الجامعة الامريكية ثم ابرز مسؤوليها عندما دخلها محسن مهدي، قبل ان يصبح رئيساً للجامعة السورية في 1949 وبعدها رئيسا للجامعة الامريكية ببيروت، وقد التقيت به طويلا في بيروت عام 1991.
اما المفكر اللبناني شارل مالك (1906-1987) الحاصل على الدكتوراه في الفلسفة حول “أسس الميتافيزيقيا في فلسفتي وايتهيد وهايدغر”، والدارس هو نفسه تحت مارتن هيدغر في فرايبورغ بألمانيا في 1932، وتحت ألفرد نورث وايتهيد في هارفارد قبلها، كان شخصية لامعة في منتصف القرن الماضي قبل ان تصبح مثيرة للجدل لتوجهاتها اليمينية المتطرفة. فقد اشتهر بتأسيسه لقسم الفلسفة في الجامعة الأمريكية ببيروت، ثم بكونه اول مثقف عربي يشغل منصب وزير خارجية بلاده وقبلها بكونه الدبلوماسي العربي الوحيد الذي شارك في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 1948 كما عمل رئيسا للمجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للامم المتحدة، لكنه اشتهر ايضا بتوجهاته اليمينية التي قادته الى مناهضة الافكار الاشتراكية والمساهمة في مطلع الحرب الاهلية اللبنانية بتأسيس “الجبهة اللبنانية” المناهضة للعروبة والفلسطينيين وكان احد ابرز منظريها.
ذلك الحماس سيتعزز لدى محسن مهدي في جامعة شيكاغو، اذ يؤكد وجود دور مهم لالتحاقه على الفور فيها بـ “لجنة الفكر الاجتماعي”، المؤلفة من علماء لامعين في مجالات مختلفة، وكذلك لعمله في معهد الدراسات الشرقية، الذي ضم نفس العدد المهم من علماء معنيين بدراسة تاريخ الشرق الأدنى. وبداهة كان من الصعب عليه التعبير في نهاية التسعينات عن مشاعر الاثارة وسعة الافق وعمق تجربة الوجود في تلك الجامعة في فترة أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات من القرن العشرين، والتي تكللت بكتابة أطروحته عن ابن خلدون تحت اشراف المؤرخة نابيا ابوت من معهد الدراسات الشرقية وفيلسوف السياسة ليو شتراوس من قسم العلوم السياسية، وكلاهما من زملائه الأكبر سنا عندما عاد إلى جامعة شيكاغو للتدريس.
وفي ألمانيا ايضا، كان محسن مهدي محظوظا لسماع مارتن هايدغر في مناسبات عديدة والاستمرار بقراءة كل ما نشره في حياته وما نشر بعد وفاته. وهو يرى، ان الفرق بين المواقف الفلسفية لليو شتراوس ومارتن هايدغر تتعلق بوضع الأفلاطونية المحدثة أو الفرق بين أرسطو وأفلاطين بشأن المبدأ الأول، مؤكدا انه كان يميل إلى جانب شتراوس بشأن هذه المسألة. ولكنه كان على يقين بأن مثل “هذه القضايا العليا ليس من السهل حسمها بيقين، وأنه لا بد من اختيار”.
منجزه الفلسفي ومؤلفاته
ترك محسن مهدي نحو عشرين كتابا نشرت في حياته اشهرها:
– “فلسفة التاريخ عند ابن خلدون – دراسة في الأساس الفلسفي لعلم الثقافة”. وقد نشر بالانجليزية في لندن عام 1957 لأول مرة، ثم اعيد طبعه عدة مرات.
– “الفارابي وتأسيس الفلسفة السياسية”، باريس 2000.
– “الفلسفة السياسية الوسيطة”. نيويورك عام 1963.
-“ألف ليلة وليلة”، في ثلاثة مجلدات. ليدن, 1984.
– “الليالي العربية، اعتمادا على مخطوطة من القرن الرابع عشر”. ترجمها الى الانجليزية حسين هداوي، منشورات ايفريمانز ليبراري، 1992.
– “الاستشراق ودراسة الفلسفة الإسلاميّة”، أكسفورد، 1990.
– دراسة عن “الكندي” في “معجم مكتبة المعهد الدومنيكاني للدراسات الشرقية”.
اما تحقيقاته لنصوص الفارابي التي اصدرها مع مقدمات دراسية مستفيضة وعميقة فقد ظهرن بطبعات عديدة، وأبرزها “أبو نصر الفارابي وفلسفة أرسطو”، بيروت 1961. وقد ترجم إلى العربية ولغات اخرى. و”كتاب الملة” بيروت 1968. و”كتاب “الألفاظ المستعملة في المنطق”. بيروت, 1968. و”كتاب الحروف”. بيروت, 1969.وكتاب “في الواحد والوحدة”، الرباط 1990.. والعديد غيرها.
إذا كان بامكاننا وصف اشتغال محسن مهدي على مؤلفات عدد من فلاسفتنا المعروفين باعادة الاكتشاف، فذلك لنجاحه في انجاز تحقيق علمي لعدد من مؤلفاتهم معتمدا دراسات مقارنة رصينة وعميقة لكل المخطوطات القديمة ذات العلاقة التي انهمك في البحث الصبور عنها في مكتبات إسطنبول وإيران وسواهما. وهكذا نجح محسن مهدي في جذب انتباه العلماء الغربيين الى ما ركز عليه من نصوص التراث الفكري العربي الاسلامي بعد ان فرض قواعد جديدة في دراستها مستمدة في الواقع، ببراعة واصالة، من المناهج العلمية التي كان الباحثون الغربيون قد طوروها لدراساتهم الخاصة حول نصوص التراث الفكري الاوربي الوسيط وبهذا انهى او بالاحرى قلص البعد “التبشيري” او “اللاهوتي” للمفاهيم العلمية الخاصة بفلسفة او فلسفات (عربية واسلامية) مقيدة بهذا التوصيف الجغرافي او الديني المعين والذي قد لا تعبر عنه فعليا بالضرورة. وقد توج محسن مهدي اعماله بأنجاز عدة تحليلات وتأويلات بالغة الأهمية للنصوص الفلسفية العربية الاسلامية. كما نشر بالتعاون مع رالف ليرنر من جامعة شيكاغو وإيرنست فورتن من كلية بوسطن، كتاباً نال شهرة واسعة تحت اسم “الفلسفة السياسية الوسيطة”، تضمن مجموعة من النصوص المختارة والمترجمة من اللغات العربية والعبرية واللاتينية إلى اللغة الإنجليزية.
الكشف عن فلسفة التاريخ عند ابن خلدون
بدأ الاسهام الفكري لمحسن مهدي مبكراً وعفوياً في اطروحته التي قدمها في جامعة شيكاغو عام 1954 بعنوان “فلسفة التاريخ عند ابن خلدون – دراسة في الأساس الفلسفي لعلم الثقافة”، والتي تعد اول انجاز متميز له، وأعمق ما صدر من دراسات عن ابن خلدون حتى ذلك الحين. وتتضمن الدراسة خمسة فصول، تحمل العناوين التالية: خلفية تاريخية وسيرة ذاتية، الفلسفة والقانون، من التاريخ الى علم الثقافة، علم الثفافة: قضاياه ومشاكله، علم الثقافة: أسسه ومنهجه.
ويحاول مهدي في هذا الكتاب الكشف عن ملامح فلسفة للتاريخ بالمعنى الحديث لدى صاحب “المقدمة” الذي كان يعرف عموماً كمؤرخ وصاحب نظرات في الاجتماع والتربية وحسب من قبل، مركزا على الأسس والمبادئ الفلسفية “لعلم الثقافة الجديد” عنده، للتدليل على أن فهماً كافياً لمساهمة ابن خلدون في دراسة الجوانب المختلفة للمجتمعات الانسانية، يتطلب فهماً شاملاً لمجمل منهجه في علم الاجتماع. كما يطرح الكتاب سؤالاً مركزياً مفاده: هَلْ جَعلتْ عُلومنا التاريخية والثقافية، الفلسفةَ، زائدة عن الحاجة، أَو أن هذه العلوم، على عكس ذلك، في حاجة ملحة للأسس الفلسفية؟ ويسعى محسن مهدي الى الإجابة على هذا السؤال عبر بحث معمق لاطروحات ابن خلدون النظرية معتبرا اياه بمثابة المفكر الوحيد الذي اهتم بدراسة التاريخ في علاقته مع الثقافة والاجتماع، مستنتجا أنه أسس علماً خاصاً للتعامل مع مشكلة التاريخ والثقافة، بالاستناد إلى فلسفة أفلاطون وأرسطو وتلامذتهم من المسلمين.
ومن الضروري ان نذكر في هذا المجال الخلاف الفلسفي بين محسن مهدي ومفكر عراقي معاصر له اهتم بدراسة فكر ابن خلدون ايضا هو عالم الاجتماع الكبير علي الوردي. اذ وبينما ذهب محسن مهدي في دراسته الى ان ابن خلدون سار في منهجه الفلسفي على نفس النهج الذي سار عليه الفلاسفة الاغريق من امثال ارسطو وسقراط كما اتبعه العديد من فلاسفة المسلمين كالغزالي وابن رشد وابن باجه وانه بالتالي بنى علم الاجتماع على نفس الاسس الفلسفية للمنطق القديم الارسطي خاصة وكما قدمه ابن رشد الى درجة انه اعتبر ان ابن خلدون هو تلميذ لابن رشد وسار على نفس نهج استاذته والذي هو ذاته امتداد للمنهج الارسطي، يرى علي الوردي ان وان الانجاز والابداع الذي قدمه ابن خلدون انما يكمن في تحرره من قالب المنطق الارسطي التنظيري مستنتجا ان ابن خلدون وعلى الرغم من استخدامه للمصطلحات الفلسفية التي استخدمها الفلاسفة السابقون اتبع منهجا فلسفيا مغايرا يرتكز على النظرة الواقعية للمجتمع الانساني ودراسته كما هو .
اما بالنسبة لنا، فكما لاحظنا في دراستنا عن “علي الوردي والمنطق الجدلي”، أن موضوعة الجدل في فلسفة التاريخ الخلدونية ولا سيما في القضايا التي تمس التطور الدوري في نشوء وانهيار الدول والحضارات وفهم اسباب ظاهرة العمران البشري وديناميتها وغيرها من المحاور، هي التي كانت محط اهتمام علي الوردي في دراسته عن منطق ابن خلدون، قبل ان يتساءل: “أكان ابن خلدون يجري في تفكيره على منهج المنطق الارسطي الذي كان فلاسفة الاسلام يجرون عليه ام انه ابتكر لنفسه منطقا جديدا خاصا به؟”
وهذا السؤال كان التأسيس الاول لمنهج علي الوردي الخاص في علم الاجتماع برأينا. وهو منهج قائم منذ البدء على استنتاج مفاهيم نظرية مؤسسة على الاستقراء، وليس انتاج مباحث تطبيقية او تربوية او تأريخية، الامر الذي خلق لديه لاحقا طموح تجاوز المنطق بصيغته الخلدونية بحثا عن صيغ اكثر حداثة وتعقيدا. ومن الواضح بداهة ان اطلاعه على كتاب محسن مهدي عن “فلسفة التاريخ عند ابن خلدون” الصادر بالانجليزية في عام 1957، كان في نظرنا السبب المباشر في اكتشافه لأعماق منطق ابن خلدون. اذ يمتاز هذا الكتاب بكونه اول بحث من نوعه يدرس الناحية الفلسفية والمنطقية في النظرية الخلدونية حول العمران البشري، بعد ان كان الباحثون قبل مهدي لا يشيرون الا الى الناحية الاجتماعية منها. والوردي يسجل تقديره الصريح لهذا الكتاب واعجابه بمحسن مهدي وموافقته على الكثير من آرائه، الا انه يخالفه جذريا في القول بأن ابن خلدون جرى في نظريته الاجتماعية على نفس المبادئ المنطقية التي جرى عليها افلاطون وارسطو ومن تابعهما من فلاسفة الاسلام.
وهكذا وبينما يرى مهدي ان ابن خلدون لم يكن سوى تلميذ مخلص للفلاسفة القدامى، لا سيما لأبن رشد، وانه بنى علمه الجديد على نفس الاسس التي بنى اولئك تفكيرهم الفلسفي عليها، حيث لم يجد حاجة الى تغيير تلك الاسس او التشكيك بصحتها، يرى الوردي ان ابن خلدون كان ثائرا على الفلسفة القديمة بوجه عام، وعلى المنطق الارسطي بوجه خاص. والدليل هو انه لو كان سائرا على نفس المنهج المنطقي الذي سار عليه الفلاسفة قبله “لما استطاع ان ينتج لنا علما جديدا”. ففي ظن الوردي ان “الابداع العظيم الذي جاء به ابن خلدون نشأ عن كون هذا الرجل قد استطاع ان يتحرر من المنطق القديم وان يتخذ لنفسه منطقا جديدا”. ومن هنا تتأتى ظاهريا لديه ضرورة كتابه “منطق ابن خلدون” باعتباره الاهم في هذا الشأن.
نظرية المنطق عند ابن خلدون بعد ان يعده من “اعظم المفكرين في العالم” و”يشبه فلاسفة العصر الحديث شبها لا يستهان به” لاعتبارين اولهما انه اول من درس المجتمع البشري بطريقة واقعية، والثاني لان نقده للمنطق الصوري او الارسطي “لم يكن نقدا بسبب التعصب انما بسبب دعوته الى منطق جديد منسجم مع المنهج الاجتماعي الواقعي والحقائق التاريخية”.
فالمفكر حسب الوردي، كلما كان اكثر تحررا من قيود المنطق القديم كان اكثر ابداعا في تفكيره، فيما يثبت الواقع ان العلوم الحديثة كلها، الطبيعية منها والاجتماعية، “لم تستطع ان تنمو هذا النمو العجيب الا بعد ان بدأ فرانسيس بيكون بثورته المعروفة على المنطق الارسطي والتراث الفلسفي القديم”. لذا فهو يعلن الثورة على مفهوم المنطق التقليدي في المنظورات الاجتماعية الموروثة هذه المرة. وهذا ما يفسر ربما البعد النقدي وحتى السجالي الذي يطبع لغة الوردي وتحليلاته لا سيما حيال بعض معاصريه من الباحثين او الدعاة الذين يجادلون معتمدين “على ما لديهم من اقيسة منطقية قديمة يصولون بها كما يصول المحارب بسيفه البتار”، غير مدركين ان المجتمع، وكما قال ابن خلدون بداهة، “يراد له منطق آخر غير المنطق الاخير”.
إحياء فلسفة الفارابي السياسية
رغم تحول محسن مهدي الى مرجع اول في دراسة الفكر التاريخي الخلدوني بفضل شهرته بفضل دراسته عن “فلسفة التاريخ عند ابن خلدون” وتأليف ونشر العديد من المقالات الجديدة عن ابن خلدون يبحث أغلبها موضوعات لم يتطرق لها في دراسته تلك، سرعان ما اتجه الى توسيع اهتمامه الفلسفي ليتفرغ مليا لدراسة الفارابي ومؤلفاته الفلسفية. اما عن سبب ذلك التحول فيسميه بـ (التاريخي)، في اشارة الى أن ابن خلدون يقول بأن التاريخ جزء من علم السياسة أو الفلسفة السياسية، أو الفلسفة الإنسانية.
وهكذا، غدت اعادة اكتشاف فلسفة ابي نصر الفارابي، المعروف بـ “المعلّم الثاني”، لا سيما فلسفته السياسية، بمثابة المنجز الكبير التالي الذي حققه محسن مهدي. فقد عمل على اكتشاف وترجمة وتأويل كثير من كتب الفارابي ورسائله الى جانب تحقيق عدة أعمال كبرى له ، وبينها مخطوطات نادرة منسية او مهملة، مثل كتاب (الحروف) وكتاب (الملة)، وكذلك كتابا “الألفاظ المستعملة في المنطق” و”في الواحد والوحدة” وسواها من نصوص قام بتدريسها ونشرها بعدة لغات، واضعاً إيّاها من منظور مقارن بمواجهة كتابات فلسفيّة عربيّة وغربيّة قديمة وحديثة، وهي اجمالاً تمثل خلاصة أكثر من أربعة عقود من البحث في كتابات هذا المفكر العظيم وفي ما كتب عنه متوجا اياها باستنتاجه المثبر بأن الفارابي هو الفيلسوف المدني بامتياز مشيرا الى ان لبنات فلسفة الفارابي الخاصة في هذا الشأن وضعها بشكل منهجي في مؤلفه الكبير “إحصاء العلوم” الذي وجد تداولاً واسعاً بالعربية والعبرية واللاتينية في العصر الوسيط، ما يجعل قراءة هذا العمل الفلسفي الاستثنائي لا سيما في مجال تأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية ضرورية حتى الآن لكل من يهتمّ بالفلسفة السياسية الوسيطة الاسلامية والمسيحية واليهودية على حد سواء.
ولعل كتاب محسن مهدي الذي يجمع في ترجمة فرنسية محاضراته التي ألقاها في معهد “العالم العربيّ” بباريس في 1991 وعنوانه “الفارابي وتأسيس الفلسفة السياسية”، (La Fondation de la philosophie politique en Islam. La cité vertueuse d’Alfarabi, Paris, Champs-Flammarion, 2000.)، هو الاهم بين مؤلفات عديدة اصدرها عن الفارابي. ففي هذا الكتاب يبرز الفيلسوف الفارابي باعتباره المؤسس الاهم للفلسفة الإسلامية السياسية، في اطار تحليل دقيق التوثيق لمصنّفاته ملقيا الضوء على مفاهيم ونصوص للفارابي لم تكن معروفة او معروفة جيدا من قبل، مبرزاً عبقرية هذا الفيلسوف كمفكر عقلاني عميق سعى إلى إرساء أسس فهم جديد لعلاقة واقعية بين “الملة” (الانساق الدينية) والفلسفة، اي بين الشريعة والحكمة، بين النقل والعقل، هي في جوهرها دفاع فيلسوف عن الفلسفة في زمن الملة، اي في زمن دولة دينية او يحكمها الدين، كاشفا عن العبقرية الفلسفية لأبي نصر، وهي عبقرية استثنائية بغض النظر عن حقيقة وجود تأثيرات للفلاسفة السابقين عليه ومصادر أكيدة لبعض عناصر فلسفته.
بكلمة اخرى، تتمثل عبقرية الفارابي بشكل خاص حسب محسن مهدي بنجاحه في التوفيق بين “العلم الالهي” و”العلم المدني”، بشكل تجاوز به كل من سبقه من الفلاسفة رغم اخذه لعناصر منتقاة من بعضهم، او جمعه المقصود بين افكار متنافرة لبعضهم، لا سيما “الحكيمين الاشهر قبله وهما افلاطون وآرسطو، وكل ذلك بما يخدم تصوره هو عن الفلسفة المدنية التي رفعها إلى مرتبة علم يسمح بدراسة انواع السياسات المدنية وخصائص كل منها ومجالات ومستويات نفوذها في المجتمعات الانسانية، وكذلك دراسة الفوارق بين المجتمعات عينها بشأن السياسات ذاتها استناداً إلى الديانات الخاصة بها وانساقها السياسية والاخلاقية والاجتماعية المترتبة.
ولا يقلل مهدي من تأثير كتابات لأفلاطون ولأرسطو على الفارابي في العلم المدني الذي يسميه الفارابي “الفلسفة المدنية” ويبحث في المُلك والملكية، والمدن والأمم، والعلم والفلسفة طالما لا تمس الفقه والعقيدة. الا ان ذلك التأثير كان محكوما بالتوافق العميق مع العقيدة الاسلامية التي ظل الفارابي راسخ الانحياز اليها الى درجة محاولته جعل افكار افلاطون وآرسطو تتجاوبان مع تطلعاته كمفكر اسلامي.
وبتأكيد هذا الاستنتاج المنهجي، يبدأ مهدي كتابه بنظرة عامة على الفلسفة الإسلامية وبمناقشة خلفيتها التاريخية، ثم يقدم عرضاً عاماً للمنظورات الفلسفية ذات العلاقة المتداخلة بين “العلم الالهي” و”العلم المدني” في الاسلام، وبين الفلسفة، والفكر السياسي، وعلم الكلام، والفقه ضمن الإسلام، وعلى الأخص ضمن إسلام العصر الوسيط في زمن الفارابي. ويعود مهدي، في الجزء الثاني من الكتاب، إلى مفهوم الفارابي “للمدينة الفاضلة”. وهنا يتمّ التمييز بين الفلسفة والعلم من جهة، وبين الدين من جهة أخرى. ويختم كتابه بتفحص المصنّف الذي يُعدّ مفتاح فهم الفكر السياسي للفارابي.
وعلى العموم، يرى محسن مهدي إن أهمية الفارابي تكمن في أنه استلهم او استعاد مفاهيم من افلاطون وآرسطو ومنحها معقولية جديدة وضرورة مقبولة دينيا من وجهة نظر العقيدة الإسلامية، معتبرا ان الحياة السياسية هي مجال اساسي لتحقيق علاقة إنسجام بين مثل العدالة التي تعليها الفلسفة ومبادئ الدين الاسلامي باعتباره خاتم الأديان التوحيدية ومن منظوره الخاص، أي العلاقة بين نظام الحكم الأفضل كما فهمه أفلاطون بخاصة والدولة الإسلامية.
ويستنتج محسن مهدي على هذا الاساس، ان فلسفة الفارابي السياسية انهت التجاهل الذي كان الفلاسفة المسلمون يبدونه للحياة العامّة، ولمزجهم بين الجماعة الدينيّة أو المؤمنة والجماعة السياسيّة، ولإرجائهم البتّ في مسألة النّظام السياسيّ أو نمط الحُكم الأمثل. فلقد كان عليه أن يقرّب الفلسفة السياسية من الإسلام وأن يسبغ على الفكر الإسلاميّ طابعاً سياسيّاً. ولذا كان عليه من أجل ذلك أن يعود ، وأن يُظهر إلى العيان أفلاطون السياسيّ المطموس يومذاك في الغرب نفسه، راجعاً لا إلى كتاب “الجمهورية” المعروف بل إلى محاورة “القوانين”. وبالمواءمة أو التقريب بين افكار منتقاة بدقة من أفلاطون وأرسطو وفكرته عن الحياة السياسية الامثل للامة الإسلاميّة قدّم الفارابي مقترحه الأساسيّ المتمثل بـ”المدينة الفاضلة”.
ويقول مهدي في قوة تأثير منهج الفارابي حول امكانية تحقيق علاقة الانسجام تلك بين الدين والفلسفة، إن فكرة «الملة الفلسفية» كما وضعها أبو نصر قد طورت واعتمدت من قِبل أبرز ممثلي الفلسفة الإسلامية واليهودية الوسيطة، وكذلك من أولئك المعروفين بأتباع إبن رشد في الغرب المسيحي اللاتيني، وذلك لتأويل تاريخ المذاهب والملل، ولتفسير النصوص المقدسة لتلك الملل، وكذلك لتحديد مهمة الفلسفة لجهة علاقتها بالإلهيات والفقه.
وباختصار، لقد اوغل محسن مهدي بعيدا في دراسة فلسفة الفارابيّ ولا سيما فلسفته السياسية وباعتباره أوّل وأهم من اهتم بلور فلسفة سياسيّة خاصة به في تاريخ الفكر لإسلامي. وهو لم يتجاوز في دراسة فلسفة الفارابي كافة الباحثين العرب والمسلمين والغربيين الذين سبقوه في هذا المجال وحسب بل اهتم من خلال الفارابي بدراسة عدد من فلاسفة العصر الوسيط الآخرين، مسلمين كانوا أم مسيحيين او يهود، عبر البحث عن جوانب التشابه أو الاختلاف مع المعلّم الثاني، مركزا بشكل خاص على دراسة نصوص الفلسفة السياسية لديهم لا سيما لدى ابن رشد وابن خلدون وابن سينا وأبي بكر الرّازي وسواهم فضلا على تأثيراتهم على التيارات النهضوية الاسلامية الحديثة لاسيما أبرز ممثّليها كجمال الدّين الأفغانيّ ومحمّد عبده ورشيد رضا ومحمّد إقبال وطه حسين. بيد ان نص (ألف ليلة وليلة) هو الذي احتل الصدارة في اهتمامه اللاحق. اما السبب الجوهري في ذلك التحول، فيفسره محسن مهدي بان اهتمامه بالفلسفة السياسية للفارابي صاحبه اهتمام أوسع بالفكر السياسي عند العرب والمسلمين، وهذا أدى به إلى الإهتمام بالفكر السياسي عند المؤرخين والفقهاء والمتكلمين، ثم آراء العامة من الناس في السلطة والسلطان والمجتمع. والحال ان كتاب (ألف ليلة وليلة) في نظره هو “وثيقة حول آراء عامة الناس في هذه الأمور.
تحقيق نسخة مجهولة من “الف ليلة وليلة”
منذ أوائل النصف الثاني من القرن الماضي، وبموازاة اهتمامه بالفارابي، بدأ محسن مهدي سلسلة دراسات جادة في تحقيق (ألف ليلة وليلة) التي عاش مع مخطوطاتها المتناثرة في مكتبات العالم مايقرب من عشرين سنة بشكل حوله عن مؤلفات الفارابي عمليا برغم أنه لم يكن تحولا بنظره، بل تزامن العملان ضمن إهتمامه بالفكر السياسي في التراث الاسلامي نظرا الى ان (ألف ليلة وليلة) كوثيقة، وسواه من النصوص الادبية الكبرى، تبين لنا آراء عامة الناس في السلطة والسلطان والمجتمع.
وهكذا، فبعد مائة وخمسين عاما من تداول كتاب (ألف ليلة وليلة)، في مختلف أنحاء العالم، قام محسن مهدي بانجاز أول تحقيق علمي له في 1985، انطلاقا من نسخة قديمة ونادرة مجهولة لها أصدرها (عن منشورات – بريل – الهولنديّة المعروفة بسلسلة كتبها المخصّصة للدراسات العربيّة والإسلاميّة)، مسبوقة بدراسة شاملة وعميقة ومنهجية مثبتا أنّ هناك 282 ليلة فقط مبيّنا أن مستشرقي القرنين 18 و19 هم الذين غيروا ومدّدوا العدد لكي يصل إلى تسميته “ألف ليلة وليلة” ومستنتجا ان هذه التسمية لا تعبر بالتالي الا عن طابع التواصل الدائم كما وتنوعاً وحسب، وأنّ العدد «ألف وليلة وليلة» يمكن تحميله بدلالة مجازيّة تفيد الكثرة الاستثنائية وليس من الضروريّ التقيّد بدلالته الحرفيّة. كما اعتبر ان ميزة هذه النّسخة تتمثّل في كونها محرَّرة بعربيّة عاميّة تجتمع فيها لهجات عديدة، وفي كونها سلمتْ من كلّ رقابة أو تنقيح أو تفصيح قسريّ لاحق
وقفة عند كتاب “الواحد والوحدة” او حين تصبح الفلسفة علما بحتا
بتحقيق ونشر “كتاب الواحد والوحدة” الصادر عن دار توبقال المغربية، يطرح محسن مهدي من جديد اهمية خاصة للاحاطة بفلسفة “المعلم الثاني”، تتضمن بذاتها دعوة الى دراسة واستقراء جديدين اكثر شمولية ودقة لهذا النص ولكتابات الفارابي الاخرى.
نص الفاربي هذا، كما يلاحظ مهدي في مقدمته التوضيحية السريعة، هو في الاصل جزء لا يتجزأ من “كتاب الحروف”، وهو مؤلف لم ينل الشهرة والاهتمام اللذين حظيت بهما مؤلفات للفيلسوف الكبير كـ “احصاء العلوم” و”المدينة الفاضلة” و”كتاب الموسيقى الكبير” وغيرها. ولعل الاغراق في التجريد على صعيدي الاسلوب والنهج، كما نزع اليه الفارابي عند وضعه هذا الكتاب، هو العامل الاساسي الذي يقف وراء ذلك.
والعلاقة بين “كتاب الحروف” و”الواحد والوحدة” يردها المحقق الى وحدة الاسلوب والموضوع العام، حيث تجدر الاشارة الى انه كان قد قام، في عام 1970،
بتحقيق ونشر “كتاب الحروف” لاول مرة ايضا. واذا كان مهدي لم يستطع ضم “كتاب الواحد والوحدة” ضمن عمله آنذاك رغم معرفته بوجود ثلاث مخطوطات عنه في مكتبة “ايا صوفيا” في اسطنبول واطلاعه عليها منذ 1961، فذلك يعود لاسباب طارئة وخارجة عن ارادته، وفي مقدمتها ان باحثين اخرين هما حازم مشتاق استاذ الفلسفة في جامعة بغداد وحسين أتاي الاستاذ في جامعة انقرة، كانا قد سبقاه في الشروع بتحقيق تلك المخطوطات او بعضها، لكن ظروفهما لم تسمح لهما باكمال المهمة وبلوغ الهدف كاملا. امام ذلك، وبموافقتهما، قام الاستاذ مهدي بانجاز العمل. وقد اشار الى حيثيات هذا الامر في مقدمته للكتاب. مؤكدا ايضا ان النص المنشور اعتمد على عملية تحقيق، تضع كافة النسخ الثلاث موضع الاعتبار.
من جانب اخر، ورغم بقاء مخطوطات المكتبة الاسطنبولية بعيدة عن ايدي الباحثين والمتخصصين، فان مصداقية نسبة “كتاب الواحد والوحدة” الى الفارابي هي مسألة لا يطالها الشك لتوتر ذكره لدى القدماء والمحدثين. فأول من ذكر كتاب الفارابي هو الفيلسوف الاندلسي الكبير ابن باجة في مطلع رسالته عن “اتصال العقل بالانسان”، كما قام بتلخيص بعضه في نصوص منشورة ضمن “رسائل ابن باجة الالهية” كما تناوله ابو الوليد ابن رشد ملخصا اياه ضمن تلخيصه لكتاب الحروف المنشور في “تلخيص ما بعد الطبيعة” وجاء على ذكره ايضا القفطي في “اخبار العلماء” وابن ابي اصيبعة في “عيون الانباء” والصفدي في “الوافي بالوفيات”. ومن المحدثين ذكره شتاينشنايدر في كتاب له عن الفاربي صدر في بطرسبورغ عام 1866، كما اشار اليه بروكلمان في الجزء الاول من ملحق “تاريخ الادب العربي” وكذلك عدد اخر من المؤرخين العرب والاتراك يذكرهم المحقق جميعا.
اذن، وقبل الانتقال الى مضمون “كتاب الواحد والوحدة” لابد لنا من الاشارة الى الجهد الكبير الذي بذله محسن مهدي في تحقيقه. بيد اننا بالمقابل لا نستطيع الا ان نعبر عن اسفنا لخلو تحقيقه لـ “كتاب الواحد والوحدة” من دراسة ولو موجزة تسمح بتوسيع دائرة مستقبلي هذا النص الفلسفي المعقد للغاية. فهذا الكتاب رغم شعبية طباعته سيظل ربما، وهذا ما نخشاه دائما، محصورا ضمن عدد ضئيل جدا من المعنيين، والمحقق نفسه يعترف في مقدمته الانكليزية للكتاب بالتعقيد الاستثنائي للنص، وباستحالة فض دواخله دون معرفة عميقة بفلسفة الفارابي وخصوصيتها لاسيما قضايا الوجود والطبيعة. ومهما يكن الامر، ينبغي الالتفات منذ البداية الى ان “كتاب الحروف” و”الواحد والوحدة”، هما من النصوص التي سعى الفارابي الى ان يطبق فيها بشكل نموذجي تعريفه الخاص للفلسفة باعتبارها “علما بحتا” يقوم على منهجية مماثلة لمنهجية علم الرياضيات التي تعتمد على “طرق البراهين اليقينية”. اما محور النص فهو ما نستطيع تسميته بجدلية الواحد والكثرة الذي يواصل فيه الفارابي، من وجهة نظره الفلسفية الخاصة، المساهمات السابقة في الفلسفة العبربية الاسلامية (الكندي خصوصا) وفي الفلسفة اليونانية.
يمكننا باختصار شديد تقسيم النص الى ثلاثة اجزاء تتوالى على النحو التالي: عرض تفصيلي مركز لمختلف الاحوال التي يقال فيها على الكثرة (شيئان او اكثر) بانها واحد، ثم عرض مماثل لمختلف الاحوال التي يقال فيها عن الكثرة بانها كثرة، واخيرا يخلص الفارابي الى الاستنتاج الفلسفي الخاص حول ماهية التماثل والتضاد بين الواحد والكثرة من وجهة نظر الفلسفة الفارابية. ويشخص الفارابي ثلاثة محاور رئيسية بالنسبة لفكرتنا عن الوحدة وعن الكثرة، وهي الجنس والنوع والعدد.
وبالتالي فان التماثل واللاتماثل ينحصران في الجانبين الاساسيين في الشيء، اي هيوليته وصورته، او بلغة المنطق، موضوعه ومحموله. ونجد هذا الاستنتاج في قول الفارابي “وبالجملة، فان كل اثنين انما يقال فيهما، وهما اثنان، انهما واحد، اما اذا كان محمولهما واحدا بالعدد واما اذا كان موضوعهما واحدا بالعدد” وبعد ان يبين ماهية الجنس (انسانية،حيوانية..) والنوع (حالة مدلولية، غائية…) نجد ان الفارابي يميل ضمنا الى فرضية ان تكون الاشياء كلها وحدة فقط بلا كثرة. وان الوجود الظاهري الذي توحي به هذه الاخيرة، ليس وهميا. الا انه وجود داخلي فقط، اي ان الكثرة توجد ضمن الواحد وضمن الوحدة.
يعكس هذا المنظور تأثر الفارابي بمفهوم النفس عند افلوطين في “التاسوعات” القائل بان النفس واحدة الا انها تتضمن الكثرة، والقول بان الواحد يتضمن الاختلاف، يبدو لنا مهما جدا لاحتوائه على مفهوم جدلي (ديالكتيكي) جنيني، اكثر وضوحا وعمقا مما في مفاهيم من سبق الفارابي في هذا المجال من المتاثرين بالافلاطونية المحدثة. ويتدعم هذا الراي بنصوص كثيرة اخرى مبعثرة (في “المدينة الفاضلة” خصوصا) تؤكد لنا بان المادة الواحدة مشتركة بين ضدين ضروريين لوجودها، الامر الذي يعني ان الوحدة في الماهية لا تتناقض مع الكثرة في العدد.
مواقفه السياسية
لم يعرف للراحل محسن مهدي انتماء ايديولوجي او نشاط سياسي معروف، حتى اعتقد البعض من زملائه العرب، وكثير منهم كان يتعاطف مع نظام البعث العراقي، انه من دون اهتمام سياسي مُعلن مفضلا الصمت في عصر الحروب والهزائم والويلات في العالم العربي حتى انه لم يعلّق امامهم بكلمة على أحداث وطنه، ولم يوقّع على عرائض ولم يلق خطباً ولم ينضمّ إلى التنظيمات العربيّة الأميركيّة التي فرّخت، وخصوصاً بعد هزيمة 1967. بيد انه كان مفكرا مفعم النزعة الوطنية تجاه بلاده وشعبه العراقي وامته العربية رافضا للانظمة الدكتاتورية العربية ومناهضا للسياسة الامريكية في المنطقة وقيامها بتدمير العراق ومؤيدا لحقوق الشعب الفلسطيني ونضاله ضد العدوان الاسرائيلي. ويؤكد استاذ العلوم السياسية في جامعة ولاية كاليفورنيا، ستانيسلاوس، أسعد أبو خليل، الذي كان يزور مهدي في مكتبه في مركز دراسات الشرق الأدنى في الجامعة، انه عندما لقي المفكر العراقي في أوائل التسعينيات، “كان الأستاذ الهادئ الطباع غاضباً ومُستنكراً، على طريقته. ووجدت فيه أيضاً (وهو المحافظ سياسيّاً) اعتراضاً قويّاَ على الحرب الأميركيّة في العراق التي كانت قد جرت للتوّ”، كما انه كان يتجنب التعامل من دوائر النفوذ الصهيونية واليهودية المؤيدة لاسرائيل والقوية في الجامعات الامريكية، مضيفا ان مهدي “في حديثه معي كان لا يمانع أن نمارس نقداً قاسياً ضد العالم العربي، على ان لا نتمنّع عن نقد إسرائيل والولايات المتحدة” ايضا.
وبالفعل، فرغم مكانته العلمية الرفيعة في اهم المحافل الاكاديمية في الولايات المتحدة والعالم ورغم عدم وصوله الى بلاده على ما ينيف عن خمسة عقود من الزمن لم يتردد محسن مهدي يوما في ان يصف مسيرته خارج العراق كتجربة منفي أو غربة، متشبثا بجذور كان يسعى حتى عبر انغماسه في عمله الاكاديمي والفلسفي إلى اعادة اكتشافها واعلائها دون ان يفارقه الامل بالعودة يوما الى بلاده للمساهمة في انقاذها وتطويرها. ولقد شعر دائما بحاجة نفسية إلى أن يكون في العراق او قريبا منه ليتجدد. وهو ما ظل يؤكده دائما جتى الساعات الاخيرة من حياته بمرارة فيلسوف وهي الاقسى اذا جاز القول: “لم أذهب للدراسة في الجامعة الأمريكية في بيروت وجامعة شيكاغو مع أدنى نية في أن اصبح مدرسا أو أن اشارك في الحياة العامة في أي “مكان آخر غير العراق. مرة واحدة شكوت إلى ليو شتراوس عن حياة المنفي فكان جوابه أنها احد الأشياء التي لا نستطيع فعل شيء حيالها. وصحيح أيضا أنني شعرت دائما بحاجة نفسية إلى أن يكون في بلد عربي لفترة طويلة من الزمن ومصر والمغرب كانت عادة من الدول التي اتوجه اليها للتجدد: عندما يشعر الواحد منا بالعطش يحتاج إلى العودة إلى نبع ليرتوي. ولكن ما يصدم كثيرا، هو انه لا يستطيع فعل أي شيء حيال الأوضاع المؤلمة للغاية لمسقط رأسه وبلاده والأم”.
وهي مرارة قديمة كما نعرف. فحرص هذا العالِم الفلسفي على الوفاء لوطنه في الخمسينيات من القرن الماضي كان قد قوبل بجفاء مدهش من قبل عندما شدَّ الرحال الى بغداد ليساهم في بناء جامعتها الفتية، قوبل بدسائس زمرة المتعصبين الطائفيين القيمين على الجامعة آنذاك والتي قطعت الطريق عليه، بعد ان أفزعهم عمق وسعة علمه الانساني المتفتح لكن المقترن بإسم مسقط رأسه الجنوبي “المريب” لديهم: (كربلاء)، فاصدروا الامر بتعيينه، هو الذي انجز أطروحة لامعة هي الاولى من نوعها عن فلسفة التاريخ عند ابن خلدون، مدرسا للغة الانكليزية في كلية البنات، ما اضطره الى العودة ادراجه لتستقبله اهم الجامعات العالمية من جديد. بيد انه ظل يساعد حتى ضيّقي الصدور من الحاسدين الذين حاربوه في بغداد، بل “صاروا يتشبثون بمعرفته ويزعمون أنه كان زميلا لهم في جامعة بغداد!!” كما كتب مرة استاذ الفلسفة الدكتور عبدالامير الأعسم.. مشيرا الى ان هؤلاء “لم يستطيعوا أن يكتموا غيظهم” في فترة لاحقة عندما انتخب محسن مهدي من قبل عشرات الأساتذة العرب والمسلمين والغربيين، رئيسا فخريا لمؤتمر عالمي حول “الفارابي والحضارة الانسانية” عقد في 1975 ببغداد، بل أن بعض أعضاء قسم الفلسفة بجامعة بغداد قاطعوا أعمال المؤتمر متهربين من أن يعتلي محسن مهدي “العراقي القح”، والذي يشغل كرسي في هارفرد، رئاسة مؤتمر عالمي يخدم سمعة بلدهم. والاعسم يفضح بجرأة سر اولئك الحاقدين الفطاحل: “وللحقيقة أقول عندما سألناهم عن أسباب ذلك الموقف الغامض، قال احدهم أن محسن مهدي من كربلاء، فهو ايراني الأصل!! وكانت هذه الوقاحة دليلا عندنا في هيئة المؤتمر على افتراء هؤلاء على محسن مهدي، كما افتروا على المرحوم الوردي وغيره من قبل. والعجب، لم يستطع أي واحد من هؤلاء المنتقدين لشخصية محسن مهدي أن يعرفه الناس أكثر من حدود بغداد! بل واضيق من ذلك في نظرنا. وذلك الموقف الطائفي غير المبرر لهؤلاء، من قوميين متشبثين بالدين، كان السبب الرئيس لرفض محسن مهدي العودة الى جامعة بغداد، ليواجه يوميا جهامة زملاء حاربوه ولم يقبلوه بينهم عندما اراد الاسهام بتطوير جامعة بغداد!! وعاد الأستاذ محسن مهدي الى جامعة هارفرد يتملكه القلق على وطن يقوده أناس تنبع كل اعتقاداتهم من “خبث وضغينة وحسد”، كما كان يأسف على زملائه الذين سبقوه “وتحملوا كل العنت وهم صاغرون!!”.. والمثير اليوم ان كبرى الجامعات العربية، وليس العراقية، هي مَن صار يبادر الى تنظيم مؤتمرات التكريم العالمية لمفكرنا الراحل وقد بدأت باحتفالية كبرى بعنوان “محسن مهدي وتاريخ العلم والأدب والفلسفة – ثلاثة ايام لتكريم الفيلسوف العربي الدكتور محسن مهدي” تم تنظيمها في الجامعة الامريكية وجامعة القاهرة في يناير 2008، تم خلالها تكريم الدكتورة سارة مهدي، زوجة العالِم الفلسفي المحتفي به، وقد شارك في المؤتمر نخبة طيبة من اساتذة الفلسفة العرب والاجانب فيما لم يكن هناك استاذ فلسفة عراقي واحد ومن اي من جامعات البلاد ما عبّر عن إهمال أثار أسفاً خفياً لدى كافة المحتفين بعلم محسن مهدي فضلا عن عائلته.
انتهى
د. حسين الهنداوي: كاتب عراقي، له في الفلسفة «هيغل والاسلام» (1987 بالفرنسية)، و«التاريخ والدولة ما بين ابن خلدون وهيغل» (بيروت/ دار الساقي 1996)، و«على ضفاف الفلسفة» (بغداد/دار الحكمة 2005) وترجمة «هيغل والهيغلية» عن الفرنسية (بيروت/الكنوز الادبية 2004)، و«محمد مكية والعمران المعاصر» (بيروت، ناشرون 2013) و«فلاسفة التنوير والاسلام» (بيروت/دار المدى 2014)، و«استبداد شرقي ام استبداد في الشرق؟»، و«مقدمة في الفلسفة البابلية»، وغيرها.
حسين الهنداوي *