بعلبك
1
من أورفيوس إلى ماياكوفسكي
أدارت الشمس حولَ رأسي
قُرصَها الذَّهَبيّ
المُنير
هي الإلهة الأولى
التي زارتني
الإلهة الأخيرة
يقينًا
من أجلها ارتفعَت
هياكلُ الحجارة
بين المسلاّت
والأعمدة الأعلى
أدركتُ منذ الطفولة
أنّ مملكتي ستكون
من تلك الحجارة
وليلها.
2
من حَلقي بدأَ الجفافُ
ولن أُغَنّي
مَعبدًا
وُجِدَ فعلًا
صلبةٌ هي أدراجُ المعبد
رقصت الآلهةُ
حتّى لا تغادره
وقرّرت أن تموت…
تاركةً وراءها
شمسًا أحببناها
رغم وحشيّتها.
في عَتَمَة الدّماغِ
المُغلَقَة
يَنمو الزَّرْعُ
وتَسبحُ الأسماكُ
فيما نظنّ أنّنا نُعاينُ
الطبيعةََ
ونشاهدُ البحر.
لن نعرف ما إذا كانت الحياةُ
قابلةً للارتداد
ثمّة في الألم فرَحٌ أكثر إيلامًا
كما بصمات
الذاكرة
في تَصحُّرِ
القلوبِ.
3
هنا،
ليس المطر وليد الماء
والملائكة.
استيقظنا
قبل أن تحرقَ الشمسُ
رؤوسَنا
من الغَيرة…
السهلُ يكشف لونًا دمويًّا
بينما السماء مقفلة
وحدها العُشبَة الفتيّة
التي تريد
الآن
أن تشقَّ هذا الحائط
تحتفظ
بارتعاشات أورفيوس
وبمرآة النَّفْس.
4
لطَمتُ
بيدَين عاريتَين
قوى متحرّكة
بلغتُ الظلالَ
وقد هربَت المادّة
نعيشُ
داخل شيء
يشبه
أمواجًا
وريحًا
أعيادُنا متلألئة
حتّى لو كانت مسربَلَة بالسّواد.
تركنا
كالآلهةِ
أرضًا
أكثر ثقلًا
من عناقيد عنَب
في عزّ الصيف
كأننا نُطبِقُ
أجفانَ الموتى.
5
مجرى الماء الذي يسيل
تحت الهيكل
هو خيط أريان
يقودني نحو
المينوتور
قبل التيه في مزارع
القُطْن
في المتاهة الخالية
من المراوح
ثمّة كُتلة حيّة
تبكي
في النهار والليل
الإلهة تركَت
تلك المتاهة التي تُرعب
الجُزُرَ
وسكّانها
شاخ الإله الذي
أحملُ إليه الزيتونَ
والنبيذ
وحدنا،
الريحُ وأنا،
نعرف الطريق.
هذا الذي يربط
الجزيرة العربية
باليونان،
وأفكارَنا
بهذا المكان.
6
الهواءُ، هنا،
جافّ
يهربُ الحيُّ
على شكل أحصنة جامحة
تعدو، هناك،
بين لبنان وسلسلة جبال لبنان الشرقيّة
يتمتّع العالمُ بذكاء
تامّ.
نحن أسياد الأعمدة المنتصبة
أينما وُجدَت
طالما أنّنا وَحْدنا
من يفكّر فيها.
المتوسّط يمتدّ
من الجهة الأخرى
للجبل
يعاني المتوسّط من السفن
التي تَعبر جسدَه
لكنّه –
مثلنا –
لم يبارح
بعد قرطاج، أفلاطون
والمتنبّي…
ماذا تفعل الذاكرة
بين الحجارة التي
لا تفتأ تعود
الذاكرة الأكثر قِدَمًا
من التكوين
أورفيوس
يتنزّه في ساحة
القرية
الريحُ
في براءتها
تُسَرّعُ
شموسَ المغيب،
تنضمّ الى أنفاسنا
تأخذنا إلى تلك الأمكنة
حيث يلتقي
ماءُ التاريخُ والعدم.
7
أسد على الجدار
منحوت
حبّي الأوّل
حيوان من حجارة وبرد
أما الثاني
فأخذني
إلى غور الجسد السحيق
في الشرق كانت الحجارة
والحبّ في مكان آخر
انتبهوا إلى الماضي
سمُّ حقولنا الجافّة
انتبهوا إلى هذه الأعمدة
وهي أشجار بلا ربيع
ولا شتاء
أمام قدَرِها
تتآكلُها الهموم
الحجارة تتحاور ثانيةً فيما بينها
حتى نُقرّ بأنّ المادّة
تتجاوزنا
الأشياء أطفالُ ظلالِها
أولئك الذين تقافزوا كالسعادين
في الأدغال الجهنّمية
أطلِقوا القمم
قاتلة هي جروح الذاكرة
ادخلوا متاهة ذواتكم.
رسالة من ربيع كاليفورنيا
إلى من بقي حيًّا في جِنين
أمام تعثّري في مواجهة
ما يجري في أزقّة جنين [أو في رام الله
وقلقيلية والقدس القديمة…]،
أبعث إليكم بكلماتِ
ربيعٍ بعيد ومتفرِّد.
تقول الكلمات:
إنّ أجمل فصول الربيع عاجز
عن إعادة بناء منازلكم، وإعادة الآباء المقتولين
لأبنائكم، وإعادة أبنائكم
المسحوقين إلى أمّهاتهم، أو حتّى
إعادتكم إلى منازلكم الأولى
القائمة بجانب البحر.
هذا الربيع الباذِخ لا يمكنه،
كما ينبغي، أن يحيّي
بؤسكم، أو أن يفهم
وَقاركم، ويبكي عند الحُفَر التي
رموا فيها اللحم البشري
قربانًا على مذبحِ
المال،
والنهب بقوّة السلاح…
هذا الربيع الذي يطفو في هواء
أبريل تنشّق هذه الرائحة
الطريّة المملَّحَة للدم الذي يفسد
فوق ما تبقّى من وجوه أبناء
جنين، وهو، هذا الربيع بالذات،
يقول لكم إنّ شعوب الأرض التي،
في وقت ما، عانت من
وحشيّة المحتَلّين،
لا تستطيع أن تُعيد إليكم أمواتكم أو أن تُعزّي
قلوبكم، لكنّي أقسم لكم أنّ
تلك الشعوب حفرت في الذاكرة
الجماعيّة القاطنة في أعماقها،
أسماءكم، الواحد تلو الآخر.
حفرت أسماءكم بالأمس، اليوم وغدًا،
إلى نهاية الأزمنة.
نَعَم
حتّى لو لم أستمع إلى الراديو،
حتّى لو لم أشاهد التلفزيون،
حتّى لو لم يكن لديّ نظر، أو سمع، أو دليل،
سأقول لكم ما الذي جرى،
وأنتم تقرأون ما جرى ولا تفهمون،
وكنتم تريدون أن تنسوا وتغفروا،
لكنّ ما حدث سرعان ما يحدث ثانيةً،
ولا يفتأ يعود،
وسوف يستمرّ حتّى ينتفخ الوحش ممتلئًا
بدمنا لدرجة يضطرّ معها
أن يتقيّأ ما كان قد التهمه:
إقرأوا سِفر يشوع
وانظروا إلى ما قاله إله قَبَليّ
للعبرانيين، وكيف دعاهم إلى قتل
الكنعانيين واغتصاب نسائهم،
وتدمير أريحا…
إقرأوا سِفر صموئيل الثاني،
الإصحاح الخامس، المقطع السادس،
وتوقّفوا عند الفقرة التي
تقول: «… وذهب الملك ورجاله
إلى أورشليم إلى اليبوسيين سكّان الأرض…
«… وقال داوود في ذلك اليوم:
إنّ الذي يضرب اليبوسيين ويبلغ إلى القناة والعُرج
والعُمي المبغضين من نفس داوود…
«وكان داوود يتزايد متعظّمًا…»
تذكّروا أنّ الحاخام قال
«إنّه كان ينبغي تكسير عظام
الأطفال»،
وفكِّروا في مشروع الجنرال إيتان
عندما نصحَ بأن
«يوضع العرب كالصراصير
داخل قنّينة لرؤيتهم وهم يموتون»،
ولا تنسوا أنّ مؤسّس الدولة
التي تضطهدكم قرّر أنّ
«فلسطين كانت أرضًا بلا شعب».
هكذا إذًا تدركون، معي، ما الذي جرى
في أبريل 2002 بين نهر الأردن والبحر.
عودة من لندن
ألمحُ بصورة عابرة
صَدعًا
في نَسْجِ النهار.
يتضاءلُ عددُ البحّارة
والبحرُ ينتظرُ
نهايةَ الحَيّ.
عَمّا قليل، أستقلّ القطارَ
ثمّ أدخلُ في الجدارِ
مكسوًّا بالكَرْمَةِ الحمراء.
وهناك ترقدُ
الصبايا بعيونهنّ
المفتوحة.
ضعوا تيجانًا
من الذهَب فوق الرؤوس.
الجحيمُ ليس صاحبَ النارِ
الأوحد.
نسمّي التاريخَ تلك الآبار
المليئة بالنشوة.
هذه الشجرة مقيّدة
بظلّها.
اللعنةُ ضوضاء،
فراق، نظرةٌ
تلتئم.
بعض الأشياء تموت
قبلنا. قبل الحرب،
كان ثمة أثاث
في المنازل.
يفتقد هذا الصيفُ النداوةَ.
لا خبز
والرخاء يحوط
بالخبز، المكّوك الفضائيّ
يعاني من ثَقبٍ في بطنه.
هَذَى الفكرُ منذ اللحظةِ
الأولى. قلتُ لكم: اذهبوا
إلى الجبل.
من هناك لا نرى شيئًا على الإطلاق.
دُحِرَ الأطفالُ والنساءُ
والمقاومون. يا أصدقائي، تظاهروا
بأنكم بعدُ أحياء.
هذا ما يجلب لكم الحظّ.
استولت الحمّى على الوقت.
النور يُدهَش من لمعانه.
هنا يبدأ السؤال الأخير:
ماذا فعلتُ بطفولتي؟
مصدرُ الانتباه
سحابةٌ دقيقة. أيام المطر
نستحيلُ نباتات.
لا تفقدوا الحاجة إلى الانوجاد،
الحاجة السابقة للولادة. يولد التاريخُ
في الأماكن غير المادّيّة،
كالقدَر.
الحبّ هدمٌ
للموت. يرتبط بقاؤنا
بقدرة الواقع على الإفلات
من اقتحام اللغة.
الكسل – وما ينتج عنه من سُكر –
خمرُ الفقراء والذين
يتيهون بينهم.
ثمة حبّ يكبر مثل السرطان، نتعلّق به
كما الجسد بالمرض،
كما القمر بالشمس.
فضّلنا الغياب،
الألم والصمت، على الحاجة الهائلة
إلى رؤيتك. وهذا ما سنظلّ نسدّده
حتى آخر الأبدية.
أرغب في التفكير مثل
عوّامةٍ قذفتها الأعماقُ
على السطحِ المنير والبائدِ
للبحر.
ليعلم الجميعُ أنّ اليونان هي نفسها
مسرح. هنا اعتلى الفكرُ المسرحَ
وبَهَرنا بشفافيته.
إلى هنالك ذهبنا
في غفلة من السلطات، في فتوّة
ضائعة، ومعنا معالم غير مقروءة
وأيادٍ خاوية.
ثمّ تأتي العاصفة. السفن المبلَّلة
فوق البحر الرطب تتبادلُ
المعارف. أما نحن
فنتمسّك بهشاشةِ غرفنا،
بكلماتِ الأب العَفِنَة.
ثمّ نتظاهر بأننا نعيش،
بعد ساعات كثيرة
وأكداس من التعب والرحيل.
والصبية ينتظرون عند
الشواطئ تكرارَ الشمس.
يريدون الرحيل، ليموتوا
في أمكنة أخرى مثل حيواناتِ
الغابات.
العائلة هي الأمّ. تعرف
أنّها أصل. تمنح الموتَ
المقبل. تحتفظ بها الحياةُ.
تنتفخُ بالظاهِر.
لا تحطّموا قلوبَ الفتيات.
تأخذون قطار المنفى.
يصير الخبزُ قاسيًا على أسنانكم.
أما أنا فلقد انتظرتُ أن أكبرَ وفجأة
انفجرَ الحبُّ وسط البِلاط: أصابتني
شظايا قاتلة. وتوارى ذلك الشخص.
الجنس يخترقنا
بعموديّته المنحدِرة.
يؤجِّل شبَعَه.
لأنّ ثمة أسرَّة في المستشفيات
تحتفظ بزبائنها،
سدود تقلق ماءهم.
حاسبوا القدَر.
نقفل كتابًا
كما يقفل المرء حياته على نفسه.
أسقطتُ الدّمية المتحرّكة وقد ابيضّت
من الكلس على الطاولة.
أجريتُ عليها عمليةَ
تحويلٍ لموتي.
تتحرّكُ حدَقَتُه على إيقاعِ
دقّاتِ قلبه:
شوستاكوفيتش هو المعنيّ.
نرى الأشخاصَ في أحلامنا عائدين،
حاملين إلينا الحقيقة،
تلك التي رفضت عيونُنا رؤيتَها
ومن أجلها أحرَقونا
فيما كانوا يحرقون أنفسهم.
لَيل
حدث ذلك خلال سنوات لا يتذكّرها أحد.
لم أحاول أن أفعل شيئًا آخر.
غيابي، غيابي أنا نفسي، يَتبعُ غيمةً وجدَتني جالسةً
في حديقة.
تَصوغُ الأنفاقُ ثانيةً مساراتِ العروق.
ثمّة دودةٌ في القلب تغتذي من ضعفها، وفي رياض الطّير الذي قلّما يعنيه التاريخ،
وإن حطَّمَ حيواتنا.
يومًا ما، لن تُشرقَ الشمس في موعدها، ولن يكونَ النهار. في غياب النهار، يغيب الليل أيضًا.
هكذا يكتملُ الكَشف.
أسمع صفّاراتِ الإنذار،
وأنت تُسَرِّحُ البطَّ على صفحة المياه: انعكاسات عميقة.
الماءُ يواكبُ البطّ بلا توقُّف.
القلوب هي التي تتوقّف. لا الأمواج ولا الأنهار.
الأصواتُ تكتمُ اللغة العاديّة، تجعلها تنام.
الموسيقى ارتعاشُ الوقت نفسه في دفعات متواصلة. إنّها تعديلُ الفكر، الوجه الخفيّ للقمر والوقت المحتوم.
الليالي كلُّها، في هذا الليل.
المحيطات كلّها في هذا الدماغ.
من أنت؟ وأين أنت؟
أنت يا مَن ترافقُ القارّاتِ في انجرافها.
عشتُ بإمكاناتي الخاصّة، لهذا أنا نهر.
لم يكن الموتُ حارًّا ولا باردًا
عندما لامسَ بشرتك.
أريدك أن تراني مستلقيًا على الأثر الذي تركه جسدك على السرير،
لكنّك الحرارة في روحَينا.
أغلقَ القمرُ ستارةً أو ستارتَين،
بينهما مطرٌ خفيف.
نحن مَن يصنع الواقع بمجرّد وجودنا. هذا ما ينطبق أيضًا على البومة التي تغفو الآن على غُصن شجرة.
بعض الأشياء تموت قبلَنا.
قبل الحرب، كان ثمّة أثاث في المنازل.
كوكبُ الأرض قصّة قديمة. إنّه المنزل الذي نتخلّص منه الآن، والذي حقًّا لا نحبّه.
يتنفّس البشر بقوّة بين الكابوس القديم ورتابة النهار.
بإمكانِ سؤال واحد أن يرفعَ حرارةَ الواقع.
كنتُ أحبُّ الليلَ، إذًا، وهذه هي الحال دائمًا. الليل أحد عناصر الحبّ، كالضباب. يُضاعفُ العذوبةَ ويوسّعُ المدى. سحرهُ يمجّد الجسد، ويكشف سرَّ أن نكون في الحياة. هكذا، ببساطة. تصبح السماء منطقةً خاصّة، مجالًا للمخيّلة، مع النجوم والمجرّات أو من دونها. إنها اللحظات التي نبلغ فيها كلَّ ما يتحرّك بين القمر والذات.
أنا إلى النافذة، وتملباييس يُعيد إليَّ النظر. أتوجَّع. وهو لا. لكنّنا الليلةَ متساويان.
تلك الجبال والبحار وجهي الآخر، الوجهُ الأكثر ثباتًا في الزمان.
كيف نُخاصمُ الأشجارَ المُعَمِّرة؟ تتهامسُ أثناء تَعافيها في الربيع، في أسبوع الآلام هذا، في الجمعة العظيمة التي تخبرني أنني لن أُبعَثَ، مثلها، من جديد.