مريم جبر فريحات
باتت قضية الممارسة النقديّة العربيّة وعلاقتها بالنظرية واحدة من قضايا نهضة الفكر والأدب عموماً، وإشكالية شائكة تتداخل فيها الافتراضات والآراء المتوازية والمتقاطعة والنقيضة، تلك التي تتصدر مجال الرؤية كلّما همّ باحثٌ أو ناقدٌ بطرحها على بساط البحث، فسرعان ما يصطدم بجدار من الأسئلة، أسئلة الفكر، والإبداع، والهوية، والمرجعيّات المعرفية، والخصوصيّة الأدبيّة، والمناخ الثقافي، الأمر الذي ينطوي على حاجة قصوى لكثيرٍ من الوعي، وامتلاك الأدوات الكافية القادرة على تشخيص الحالة، ثم دراسة وضعيّة النقد العربي قديمه وحديثه من جهة، وإدراك الحاجة الحقيقيّة إلى إعادة صياغة الفكر الأدبي والنقدي العربي بوصفه جزءاً من كل، من جهة أخرى، دون تفريط في الخصوصية، ولا إفراط في التبعيّة للآخر.
فثمة تجاذباتٌ عديدةٌ في وجهات النظر، واختلافٌ في الرؤى تجاه أطروحة النظرية النقدية العربية، لكن تسليط ضوء –وإن يكن خفيفاً سريعاً- يكشف عن مشكلةٍ حقيقيّة في الوعي بالمكوّن النقدي المفضي في نهاية الأمر إلى إمكان تشكيل نظرية، بدءاً بالوعي بالمصطلحات والمفاهيم، ما بين النظرية والاتجاه والمنهج، ما بين الأداة والوسيلة والممارسة والتنظير العلمي، ما بين التخصيص والتعميم، وليس انتهاء بالحماسة المُفرطة أو الرفض المُطلق لمجرّد طرح هذه الإشكاليّة، الأمرُ الذي يدعو لمزيدٍ من بسط الإشكالية، توسلاً بأملِ تغييرٍ تفرضه حتمية الزمن/ التاريخ، والانفجار المعرفي العالمي، وتجليات مفهوم الإنسان الكونيّ، ناهيك عن الانفتاح العربي/ العربيّ الذي كشف الهوة في تلقي النظرية النقدية الغربية، بل اتجاهات النقد ومناهجه قبلاً، ما بين مغرب الوطن العربي ومشرقه، لنجد أنفسنا بمواجهة إشكاليات أخرى، على رأسها اللغة، والترجمة، والقراءة، والتلّقي، وهي مسافة ينبغي مجاوزتها قبل أن نُمعن في الحماسة أو الرفض، وقبل أن نوجّه البوصلة نحو زمن ماضٍ ما زلنا نقف منه على شفا حديْ تقليل الشأن أو إعلائه حدّ القداسة حين يتعلّق الأمر بالتراث العربي النقدي.
فمن قائل إن في البحث عن نظرية عربيّة للنقد من عدمه مغالطة كبرى، وسؤال يشي بشيء من التناقض يبدو جليًا للوهلة الأولى، باعتبار أن افتقاد النظرية ليس مقصورًا على النقد الأدبي فحسب في حياتنا العربية المعاصرة بل يكاد يكون شاملاً لجميع المجالات، لأن حركة النقد لا تنفصل عن إطارها الفلسفي ومرجعيتها العلمية في المعارف المختلفة(1)، إلى قائل بضرورة الإفادة من نتائج بحوث الأدب في العالم كله، بما ينأى به عن صفة العربيّة، وفي الوقت ذاته عليه أن يكيّف ما يتعلمه مع خصوصيّة النصوص ومعطيات الثقافة العربيّة، بما يعني إمكانية الحديث عن تقاليد علميّة وفكرية في نقد الأدب تكون ناتجة عن خصوصية الظاهرة العربيّة(2)، لأنّ الاختلاف في طبيعة البيئة وانعكاسها على طبيعة النفس الإنسانية، يجعل من المستحيل التقاء أدبيْ العرب والغرب في جهة واحدة، أو مشاعر واحدة، ومن ثم يغدو من المستحيل إخضاع الأدبين إلى قوانين واحدة ومناهج واحدة(3).
وانتقد بعضهم الدعوة إلى تحرير النقد العربي من التبعيّة الثقافيّة الغربية، داعياً إلى معاملة النقد بالمقياس ذاته الذي تلقّى فيه العربٌ فنونًا غربية الأصل كالرواية والمسرح، باعتبار أن الدعوة إلى نظرية نقدية عربية تأتي بمعزل عن الحديث عن سياقها الثقافي، وتظهر في زمن تسقط فيه الحدود الجغرافية ويتحول العالم إلى فضاء مفتوح، ما يجعل الحديث عن الهوية والخصوصية الثقافية نافرا أمام تحديات الواقع الجديد، وتفقد بالتالي مبرّراتها الموضوعية، فانفتاحُ النصوص وانفتاح الفنون والأجناس الأدبية على بعضها بعضا، إلى جانب التطور الكبير الذي شهده النقد الغربي الحديث بمدارسه واتجاهاته الكثيرة وانفتاحه على العلوم التجريبية واللغوية والفلسفية يجعل من الصعب الحديث عن نظرية نقدية عربية، بل إن في ذلك دعوة ضمنا إلى الانغلاق على الذات، في حين يمكن فيه الدعوة إلى الإسهام في إثراء المنجز الغربي وتطويره، ففي ذلك وفق هذا الرأي انتقال عربيٌّ من دور التابع إلى دور المشارك، ومن دور المتلقي السلبي إلى دور المبدع(4).
لا تتغيا هذه المداخلة الوقوف على مختلف الآراء، ولا تتبع مواقف الباحثين والنقاد تجاه مسألة مضى زمن طويل على بسطها في المقالات، كما في المحافل والمؤتمرات والندوات والملفات والمحاور المخصصة في المجلات النقدية والثقافية، منذ ستينيّات القرن العشرين إلى يومنا هذا، لكنّها تحاول قراءة بعض الرؤى التي تنبهت إلى قلقِ التغيير قبل إمكانه، وإلى وعي الواقع قبل الإمعان في هجائه، مما يمكن التقاطه من قلق سؤال النظرية إلى سؤال إمكان تحققها، على ما تنطوي عليه تلك الرؤى من تباين في الطرح، وإلحاح على الشعور بالقلق إزاء وضعية النقد العربي عامة، قديمه وحديثه، وإزاء تلقّي نظريات النقد الغربية، وما تثيره طبيعة هذا التلقي من أسئلة الأنا في مواجهة الآخر، أسئلة الخصوصية، والانفتاح والانغلاق، الأخذ والعطاء، والتقبّل والرفض، التعالي والإحساس بالدونية، وفي ذلك كله ما يفسر السيل الهادر المرتبك للآراء، سواء منها العابرة على استعجال هنا أو هناك، في مقالة سريعة أو حوار صحفي، أم المتأنية المتوسلة بالبحث والمناقشة في نتاجات بعض الأكاديميين عبر مقالات أو كتب تخصص بمجملها لبحث رأي أو تقديم مقترح.
(1) قلق السؤال:
يبدو سؤال التراث هو السؤال الأكثر إغواء ومطروحيّة في سبيل البحث عن مخرج مما آلت إليه أسئلة النقد العربي الحديث، ولعل في ذلك، كما يرى كثير من النقاد والباحثين، تكمن فكرة التأصيل والتأسيس لنظرية نقدية عربية، بمنأى عن أفكار الإدانة والتقاط العيوب وتفنيدها، وعن الأسباب التي أدت أو أسهمت في عدم تبلور كثير من الأفكار النقدية المائزة لدى أعلام النقد العربي القديم، كالجرجانيين، والقرطاجي، والآمدي.. وغيرهم، وفي ترسيخ حالة الانفصال والانقطاع التي وضعت طروحات النقد القديم في خانة تبدو معتمة إزاء سطوع الغربي الوافد من المنجز النقدي، والمنجز الثقافي عامة.
وفي الوقت الذي تنبري فيه الدعوات إلى إعادة قراءة التراث، والاعتراف بما يحوي من منجز نقدي يرتقي وفق بعض الآراء إلى مستوى نظرية نقدية يمكن أن نجد دعائمها بالعودة إلى قراءة التراث وقراءة النظريات والمناهج الغربية معاً، لاستنباط المصطلح والاتجاه القادر على استيعاب الظواهر الأدبية المحلية(5)، يذهب بعضهم إلى التشكيك في مدى صمود المنجز التراثي أمام تغوّل الفكر النقدي الغربي وهيمنته على أذهان النقاد والدارسين، وإلى مساءلة هذا التراث وإدانته من منطلقات تستمد منطقها من وضعيّة النقد بوصفه جزءاً من منظومة ثقافيّة لا ينفصل فيها الفكري عن الديني عن النفسي عن الاجتماعي، فتجد من يلقي باللائمة على ذلك المنجز نفسه، بوصفه نتاج حصاد ما زرعه الأجداد ويجني ثماره الأحفاد، بسبب ما شابه من الفرديّة والانقطاع مع السابق واللاحق، وعدم انتظامه في إطار فلسفي واحد، إلى جانب اكتساب النصّ سلطة وقداسة يردها بعضهم إلى طبيعة العلاقة بالدين وفروضاته التي استبعدت الفلسفة، بل رأت فيها ضرباً من الكفر، ومن طبيعة المعايير التفضيلية التي نظرت في مراتب الشعراء، مثلا، مثلما نظرت في مراتب الصحابة والتابعين، ناهيك عن اشتغال القدماء بالتقعيد وتقديم النموذج التعليمي دون الانشغال بالتحليل(6)، وهو ربط، على الرغم من هشاشته، يحاول ردّ ما آلت إليه وضعية الفكر الثقافي والأدبي في تراثنا إلى وضعية الفكر الديني، في وقت مازالت فيه تلك العقبات ذاتها تشوب المنجز النقدي العربي في العصر الحديث.
ومن هنا تتأتى أهمية الدعوات اللافتة إلى ضرورة تجديد الفكر العربي، تجديداً يجدد الأمل في الوصول إلى بناء نظرية نقدية عربيّة ذات طابع إنساني، بناء يتأسس على تراث غنيّ بمنجزات ما زال الاهتمام بها لا يجاوز إطار الدرس الأكاديمي الذي بات يُعنى بالاختصاص الدقيق وتوظيفه بما يعزز تلك القطيعة والفردانية موضع الانتقاد في تراثنا العربي. فالأكاديمي المنغمس بتقديم محاضراته وإنجاز بحوثه في الأدب والنقد القديم بشكل منقطع تماما عن الأدب والنقد الحديث، ما يزال يُغرق في تمجيد المنجز النقدي القديم، حدّ الجزم بإفادة أعلام النقد الغربي من التراث العربي وبخاصة في مجال الدراسات اللغوية. والأمر نفسه، أو هذا الشكل من القطيعة نجده لدى كثير من المختصين في الأدب والنقد الحديث، ممن جعلوا من نظريات الغرب وآراء نقادها مسلمات غير قابلة للبحث أو النقض أو التطوير، بل يكفي الاستشهاد برأي لأحدهم ليكون دليلا دامغا على صحة ما يقدم من رأي أو اجتهاد.
في ضوء ما سبق يمكننا فهم كثير من الجهود التي عملت على معاينة الواقع وتقديم مقترحات يمكن من خلالها تجاوز ما يمكن تسميته بأزمة النقد العربي الحديث وإشكالياته نظريّا وتطبيقّيا، أو جدل النظرية النقدية العربية، وما إلى ذلك من تسمياتٍ، تلتقي كلها عند الشعور بوجود مشكلة ما، إذ يمكن النظر للمسألة هنا من خلال طرفين ما زالا في تجاذباتهما يلتقيان عند حدّ الرغبة أو الأمل في تغييرٍ يُسعف في إمكان تشكيل نظرية نقدية عربية، أو في الإسهام في تطوير نظرية موجودة أصلا لدى الآخر الغربي. فالحركة النقدية العربية على نحو عام تتحرك بين قطبين: يبحث الأول عن أصل لكل تطور شهدته النظرية النقدية الغربية الحديثة في تراثنا النقدي القديم, وهو سلوك وضع الخطاب النقدي العربي المعاصر تحت وطأة محاولات إنعاش مستمرة للأسئلة النقدية القديمة تربط الاجتهادات النقدية العربية التراثية على نحو تعسفي بنظريات حديثة، لها اسئلتها المختلفة، وسياقاتها الكليّة الفلسفية والاجتماعية المتباينة،, الأمر الذي يُسفر عن نوعٍ من الاجتهادات التلفيقيّة بين المناهج النظرية الحديثة وبين الخطاب التراثيّ النقدي العربي(7).
كان التراث العربي القديم وما يزال ميدانا رحبا لقراءة تجاوز قصد الإدانة، فهذا مما لا يفيد، ولا يعيد زمنا مضى، بل من أجل محاولة التأسيس على ما كان ومجاوزة ما يذهب الظن إلى أنه كان من أسباب الانقطاع مما سبق الإشارة إليه من العمل الفردي والاهتمام بالتقعيدي والتعليمي والجاهزية التي لا تكشف عن طبيعة العمل أو صعوباته أو حتى مرجعيّاته في بعض الأحيان. ومن ذلك ما يتعلق بتلقي أهم مشروعات دراسة التراث في ضوء نظريات النقد الحديث، كمشروع عبد الله الغذامي، وعبد العزيز حمودة، وكما أبو ديب، وغيرهم.
بالمقابل ثمة من يرى(8) أن العودة إلى قراءة التراث ضرورة حضاريّة، ولغاية فكرية تتمثل في إثبات قدرة هذا التراث على التصدي للآخر، سواء أكان هذا الآخر أجنبياً أم ممن يعملون للحيلولة دون هذا التقدم، هذا إلى جانب انتقائية في القراءة تتأتى من هدف خدمة تصورات تتصل بالحقبة التاريخية التي أنجزت فيها تلك القراءات، وما صاحبها من تطوّرات تُلامس واقع الحال، وتدعو إلى التّفكير في المستقبل.
فقد تعدّدت سبل القراءة وتشعبت غاياتها، قراءة استكشاف لما يمكن أن يكون له صلة بجانب ما من نظريات النقد الغربية، أو بمعنى آخر البحث عن بذور لما جاءت به تلك النظريات وأدواتها الإجرائية ومناهجها، من مثل ما فعلته بشرى موسى صالح(9) في استقصائها لبذور بعض مفاهيم نظريّة التلقّي وجماليّاتها ومعاييرها في الآراء النقديّة المبثوثة في أعمال لابن طباطبا والآمدي والقاضي الجرجاني، أو من مثل سعي محمد عبد المطلب(10) إلى الموازنة بين ظواهر حداثيّة في النقد الغربي وظواهر في الموروث العربي القديم، وهي قراءة انتقائية تتوقف عند مفردات ومفاهيم، لاستنباط ما فيها من محمولات لتيارات حداثية، في سعي لا يخفى فيه انحياز الباحث ونزوعه إلى الإعلاء من شأن ما وقف عليه من مفاهيم، وتأكيد أوليّة وجودها بصورة أو بأخرى في منجز الجُرجاني، على الرغم من أن هنالك مَن يرى(11) في مثل ذلك أولية تأصيل على اختلاف المصطلح والمنهج والأطر، دفعت إلى القول بإمكان تأسيس نظريّة نقديّة عربية منبتة عن المدارس النقدية الغربية التي تظل قاصرة عن معالجة الظاهرة الأدبية.
إذن، ومع تبايُن الآراء وتضاربها، يظلّ سؤالُ التراث قلقًا يحفّز على مزيدٍ من الحوار، والمساءلة الرامية إلى ردم الفجوات وإدراك العُمق الزمنيّ الذي يمنح التجربة إطارها الفكري والإنساني بخصوصية يفرضها اختلاف الأجيال، وما يشهده العالم من تطوّر في مجالات العُلوم والفلسفة والتكنولوجيا، ويدفع باتجاه سؤال آخر لا ينبتّ عن هذا القلق بقدر ما يحاول طرح سؤال إمكان إنتاج نظرية نقدية عربية بوعي على مفهوم النظرية على ما يحيط هذا المفهوم من إطارات علمية وتجارب إنسانية تراكمية وتفاعلية.
سؤال الإمكان:
ترافق الاتصال العربي بالفكر الغربي بالاطلاع على نتاج ذلك الفكر في مجالات العلوم الإنسانية المختلفة، ومنه التيارات والمناهج النقدية الرامية إلى معاينة النصوص الأدبية وفق تصورات، هي دون شك وليدة فلسفة خاصة بواقع آخر مختلف، فكان أن تلقينا تيارات النقد الحديث واتجاهاته، ووقعنا تحت تأثير إغراءاته التنظيرية والمصطلحية منها خاصة، لكننا وقفنا موقف الحيرة والتردد أمام إجرائياته التي اصطدمت بنصوص من ثقافة مغايرة. ما خلق أزمة يكمن جوهرها في محاولة تطبيق ما جاد به الغرب من نظريات على ظواهر عربية النشأة، ما فرض على الظواهر العربية تطويع نفسها لهذه النظريات(12).
وتجلّت تلك الأزمة في بعض جوانبها بالازدواجية التي تفسر عمليّة الانشطار الدائمة، والتناقضات القائمة والمستمرة عند الحداثيين الذين يضعون قدماً في المشرق العربي وأخرى في الغرب الأوروبي الأمريكي، كما لم يعد خافياً اختلاط المصطلحات النقدية وعدم تحديدها، واستعارتها وإخراجها من دائرة دلالتها داخل القيم المعرفية، فما يجيء غريباً، يبقى غريباً، ويذهب غريباً(13). وإلى ذلك، لفت آخرون إلى الانتقائية التي تُهيمن على الخطاب النقدي العربي الذي ما زال يفصل بين التنظيري والتطبيقي، ويتسم بأحاديّة النظرة وغياب الخلفية الفلسفية في المقاربات النقدية، بأثر الوقوع تحت دائرة سحر المناهج أو الحداثة وما بعد الحداثة، ما سبب المراوحة في المكان الواحد والزمن الواحد(14).
بما يعني أن ثمة حركة موازية، وأصوات في الجانب الآخر من حد القلق تتعالى، ما بين تشخيص الحال، وهجاء الذات وارتدادها تارة بدعاوى التشبث بالماضي، وأخرى بالارتهان لعمق زمني يجعل إمكان تدارك الأمر مستحيلاً بغير وعي فائق وجهد جمعيّ، يجاوز التنظير واجترار الآراء إلى تقديم رؤية موضوعية تخلع أثواب القداسة عن الزمنين معاً، الماضي بكل ما حمولاته، ما يصلح منه لأن يكون فيه تأصيل حقيقي، وما لم يجاوز النظرات العابرة اللافتة غير الناضجة، والحاضر بما هو كون يمور بمتغيرات طالت شؤون الحياة كلها، بما فيه الأدب ونقده، وبما يشهد من «تحولات تدعو إلى إعادة النظر في واقع الأدب إبداعاً وبحثاً، كظهور التكنولوجيا الجديدة للمعلومات والتواصل ما يؤدي إلى ظهور أشكال إبداعية جديدة ووسيط جديد للإنتاج والتلقي، ما يسهم في منح أفق جديد للتفكير في الأدب إبداعا وبحثاً(15).
أفق جديد؟! ذاك هو أفق الوعي على إمكان التغيير، مما يمكننا تلمسه في كثير من الآراء المبثوثة هنا وهناك، إن في مقالات وحوارات سريعة، أو مشروعات تقترح «خلق الشروط الموضوعية والظروف التي تجعل هذه الثقافة والتلقي ينتقلان إلى موقع المشاركة والتأثير»(16)، أو إلى وضع استراتيجيات ثقافية، ومشروع ثقافي واضح يعيد الاعتبار إلى ما أنجزه الرعيل الأول من المثقفين الموسوعيين، كمحمد عابد الجابري، ومحمد أركون، ونصر حامد أبوزيد، وعبد الكبير الخطيبي، بالعمل الجماعي رؤية ومنهجا، وبتضافر الجهود من أجل وضع نظرية نقدية تأخذ بالأصول وليس بالاتباع(17)، في وقت غرق فيه أساتذتنا المحدثون في الفردية، وباسم الفردية أو الوجدان الفردي هوجم تراث واسع(18)، فمع ضرورة توافر شروط للتنظير منها امتلاك الحرية والقدرة على التحرر من الإيديولوجيات، ينبغي البناء على التراكم المعرفي، إذ إن الأبنية النظرية والمعرفية لا تولد مرة واحدة، ولا تبدأ من الصفر، وإنما تتخلق في بيئات وأرحام مساعدة تحتضنها، كما تعتمد على منجزات سابقة، يمكن الاستناد عليها في صناعة النموذج النظري(19).
لكن، وعلى الرغم من تعالي الأصوات الداعية إلى مراجعة الفكر النقدي، وترددها عبر حقب طويلة مضت على ما نشهده عربيا من تجاذبات في الرؤى، ومراوحة بين مفاهيم الأصالة والتجديد، وانحياز للتراث، وتطلع للوافد الجديد، فإن هذا الوافد نفسه وفق الأطروحة المختلفة التي أطلقها د.سعيد يقطين في كتابه (الفكر الأدبي العربي: البنيات والأنساق)، ما يزال يخضع للمراجعة والمساءلة، ما يعني ظهور مناطق جديدة للتفكير والبحث، تستدعي الإعلان عن «ضرورة تجديد الفكر الأدبي، وإطلاق النفير للاستعداد لحقبة جديدة من النظر والعمل تتضافر فيه جهود علماء الأدب ونقاده ومدرسوه ومبدعوه وإعلاميوه لينخرط الجميع في صيرورة جديدة، في وقت ما يزال فيه بعض العرب يشتغلون بالطريقة نفسها في قراءة الأدب وتحليله وتدريسه، فيجترون أفكارا وتصورات من حقب متعددة، ويجمعون أشتات النظريات الأدبية كما تحصلت لهم من خلال بعض الترجمات المبتسرة أو الناقصة، والاشتغال بلا رؤية فكرية أو نظرية. فهي تحلل النص وفق جاهز الانطباعات والتأويلات، وبدون أسئلة معرفية أو إجراءات منهجية(20).
وهو بذلك يؤشر أهم مشكلات النظرية والدرس الأدبي والنقدي العربي، متمثلة في اجترار الجاهز من الأفكار والتصورات، وفي مشكلات الترجمة التي عملت على تقديم تلك التصورات مبتسرة وناقصة، كثيراً ما تؤدي إلى تشويه واضطراب في المفاهيم. وهذا التشخيص الذي قدمه يقطين في ظني هو خطوة أولى في سبيل وعي فاعل منتج أو ساع لإعادة صياغة فكر أدبي ونقدي جديد يقوم أولاً على المواجهة، مواجهة أنفسنا لنراها في مرايانا الخاصة قبل مواجهة الآخر ورؤيته في مراياه هو لا في مرايانا.
نحتاج، إذن، وفق هذه الرؤية المتقدمة إلى وقفة متأنية لتجاوز ما يعترض النظرية العربية المنشودة من مشكلات تتلخص بعفوية أو عشوائية التعامل مع الفكر الوافد، وخصوصية الظروف التي أنتجت نظريات الفكر الغربي، وشيوع النقد الانطباعي ونقد المجاملات، وغلبة الجهود الفردية مع تغييب الجهد الجماعي العلمي، ما يجعل السؤال يظل مطروحاً حول مدى نجاح محاولات إعادة قراءة التراث، وقدرة العرب على الاقتداء الإيجابي بالغرب في مخططاته وأهدافه ووعيه واستشرافاته لمستقبل ثقافته وهويته والعناية بموروثه(21)، ما يسوغ النظر في الضفة الأخرى، حيث تبرز أطروحات الفكر الجديد، التي تحاول توسيع أفق النظر في المسألة، لتشمل النظر فيما يشهده العصر الجديد من تحولات كبرى، تفرض إعادة النظر وصياغة تصورنا للأدب الحديث أيضاً، منذ عصر النهضة إلى الآن، سواء في الآداب الغربية أو آثارها على الفكر الأدبي العربيّ، لنتمكن من تكوين رؤية تاريخية للتطور نفهم بمقتضاها كيف تطورت الأفكار الأدبية (عالميًّا) ومدى انعكاسها على تصورنا للأدب وآليات تفكيرنا فيه، لتصحيح مسار، وتغيير الرؤية، واستشراف آفاق جديدة للمستقبل(22).
في الختام، ترى هذه المداخلة فيما تضمنته رؤية سعيد يقطين التي وجّه من خلالها دعوته لدخول عصر جديد، لا قداسة فيه للمنجز الغربي ولا اكتمال، بل تطور، وتجديد، واستمرار، ومجاوزة، وهو توجيه ينحاز لعمل يتأسس على خلفية علمية وفلسفية وتقنية، ويربط الفكر الأدبي العربي بالعلوم الإنسانية ومنجزاتها بوعي جديد بعيد عن الاختزال أو التطبيق الحرفي، ويدافع عن مكانة الأدب في المجتمع، إلى جانب الانفتاح على التكنولوجيا الجديدة للمعلومات والتواصل بتعميق الثقافة الرقمية لدى الباحثين والطلاب، ما يجعل سؤال إنتاج نظرية نقدية عربية ممكناً، إذا ما استطعنا استيعاب العلاقة مع الآخر، والتفاعل الإيجابي مع المنجز النقدي، سواء ما تحقق منه في التراث العربي، أو ما جاء من الغرب، تفاعلاً يأخذ بالحسبان ما يشهد العصر من تحولات، وما يأتي به من مستجدات وضرورات ومعطيات جديدة تستدعي مزيداً من أسئلة الفكر وتجديد في آليات التفكير.