ديمة الشكر*
تفتتح نجوى بركات روايتها الاستثنائية «مستر نون» بعبارة من الإنجيل عن لعازر الذي أقامه المسيح من الموت، وإذ تنتقل بالخط المائل إلى وصف حال لعازر غب قومته من قبره، ندرك أننا في حضرة نوع من الكتابة الرفيعة التي قلما نجدها في الروايات العربية. ومن الأسلوب العذب الواصف لحال لعازر، تبدل نجوى بكل يسر مقبض باب الخيال، وتنتقل إلى أسلوب ثان هادئ رزين لكن تشوبه شرقطة غرابة مربكة : «نظرت إليه الذبابة وغمزت بطرف عينها قبل أن تحلق ويختفي أثرها».
هذا الاختلاف بين الأسلوبين لن يولد لدى القارئ إلا الفضول والشغف للمتابعة حتى النهاية، وسيلفت نظر النقد حقًا، ليرى عن كثب «تمام الصنعة» لو جاز التعبير في تركيب بنية روائية محكمة تعتمد على التناوب بين أسلوبين لغويين، يشير كل منهما إلى عالم : عالم ممارسة الكتابة للتخلص من عطب أصاب العقل، وعالم الكتابة بلغة المعطوب عقليًا وعاطفيًا أيضًا. وأبعد من الأسلوبين يمكن عد حكاية لعازر كما وردت في إنجيل يوحنا، مثل حكاية إطار مشعة بالمجاز على نحو ما كانت به حكاية شهرزاد في ألف ليلة وليلة. ستقدر نجوى بركات على تقليب قصة لعازر من وجوه متعددة عبر ما تبثه لغتها الإشارية المرهفة في ثنايا الرواية، وفي كل مرة تصوب السهم صوب أمر وحيد : الضحية، ومن خلفها يرن سؤال مؤرق : ما كان الأفضل للعازر: أن يبقى في القبر أم أن يقوم؟، وتتباين الإجابة بين حدين قاسيين إذ لا فرق حقًا بين «عصة» القبر وجحيم حياة نون.
وليست الكتابة بلغة المعطوب عقليًا، تحديًا صعبًا وهمًا لغويًا فحسب، بل هي الحامل الأساس للرواية، فالقصد أن نجوى تكتب لغة المريض النفسي بطل الرواية السيد نون : « انكسرت الرصاصُة في يده، فتناولها بحرص بأطراف أنامله ووضعها في وعاء اللبن البلاستيكي الصغير، وكان قد جمع منها وعائين، امتلأ أولهما تمامًا، فيما كان الثاني ماضيًا بشكل حثيث نحو امتلائه». ورويدا رويدا تدخل القارئ إلى عقل نون المختل لكن المنطقي في آن معًا.
ولكي يقص نون قصته اختارت نجوى التناوب بين ذاكرة الطفل الذي كانه نون، والرجل الذي كانه، ثم الرجل الذي أصبح عليه، وتمسك ببراعة بزمن كل ذاكرة. صحيح أن نجوى تبدأ من النهاية التي آل إليها نون المعذب، لكنها حين تعود لطفولته تجترح الأسباب والمسببات وتربط برهافة بين التربية القاسية والمصير البائس، من دون أن تترك ولو كوة صغيرة ليخرج منها أمل ما، بيد أنها تترك للغة العربية الرفيعة التي تكتب بها روايتها التحفة حقًا، مهمة السمو والعلو إلى نوع خاص من البلاغة، فلا هي محشوة بأحابيل مصطنعة إنشائية المجاز، ولا هي متقشفة مقتصدة حد البخل والتقتير. بل هي لغة واثقة تعبد دربها جملة فجملة لتصير أسلوبًا كتابيًا ساحرًا خاصًا بقلم نجوى الروائي، يقوم بشكل خاص على الإشارية في اللغة إن جاز التعبير : «ثلاث شجرات يتحلق حولهن المكان، يقفن وحيدات وسط الحديقة تحت قمر في طور اكتماله، لكي لا نشعر نحن غرباء هذا الفندق بالوحشة… ثمة من سيصحح لي متعجلًا : ثلاث شجرات تقف وحيدة ويتحلق حولها المكان. لكن من كان مثلي يرى في الشجر كائنات حية من حكمة وعزلة، لا بد وأن ينحاز إلى خياري اللغوي».
حياة نون بائسة بكل معنى الكلمة، فهو طفل غير مرغوب به، وأمه هي التي تنبذه بكل وضوح وصفاقة، تتعالى عليه كما لو أنه حشرة فرضت عليها، وتزيد أنها تميز بينه، هو الصغير الضعيف المنطوي، وبين أخيه الكبير الجميل المدلل سائد الذي سيطل في الرواية كلما حان له إزعاج نون. الحرمان من العاطفة بكل أشكالها نصيب نون طفلًا، من نصيبه في الأكل، إلى نصيبه في لعبه بالبوالين إلى نصيبه شاهدًا وحيدًا على انتحار أبيه، إلى مناولته الأولى يتيمًا ثم وحيدًا وخجلًا، بل وهاربًا من مصور شرير، دار به على كل الأهالي لئلا يخسر صورة فوتوغرافية، فأنكر الأهالي جميعهم الطفل نون الذي ستحفر ذكرى المناولة الأولى في قلبه المعطوب بالحرمان، شيئًا لا راد له : أنت لا أحد يحبك ولا أحد لك ولست لأحد.
مهما تحايل معطوب القلب على قسوة أمه السافرة، فلن يجد السبيل. لئن اجتهد في الدراسة صار نصيبه إنكار الأم لصنيعه، فتحول – ربما تهكمًا وواقعيةً من نجوى- إلى روائي وأستاذ للكتابة الإبداعية في إحدى الجامعات. وعلاقته المعطوبة بأمه تختصرها جملة « ثريا خربت ذوقه في النساء»، فتفشل علاقته الوحيدة بزميلته ندى بطريقة باترة حادة. ويروح بعد ذلك يعذب نفسه بنفسه، فمن حرم من الحب كل حياته، أدركه الذل، ففي الحرمان احتقار للمرء ونفور منه وكراهة، ستجتمع كلها لتصبح سياقًا لحياته، قائمًا على مفردة شبه وحيدة : الضحية / الذليل. من هنا سيتوه نون ويعلو بخار العطب في رأسه، ما أن تتركه ندى ويريح مأوى العجزة نون من أمه وقد خرفت وأصاب عقلها داء الزهايمر، لكن قلبها الحقود لم ينسَ قط مواصلة حرمان نون من الحب وإذلاله. «ثريا سحبت من جسدي كل أنا».
سيترك الموسر نون حي الأشرفية الراقي وقد بدأ العطب ينخر رأسه بسبب برج قبيح سد عليه المنظر من الشرفة، ليتعرف إلى أحياء القاع في بيروت، هناك حيث تعيش أخلاط غريبة من البشر تشير إليها بركات بتعبير إنجيلي «مواشي الرب»: قوادون مجرمون أمراء حرب سابقون عاهرات فقراء فتوات عمال شحاذين الخ، جنبًا إلى جنب مع كل مشاكل المدينة: النفايات والجرائم والخروج عن القانون الخ. هذا العالم الواقعي بكل ما فيه من قبح وبؤس واضح للجميع، إلا لنون الذي سيجد فيه دوائه الأثير: الإذلال.
فإن غابت الأم ولم تعد تذله، سيجد بنفسه كل يوم من ينوب عنها في ذاك، سيترك وهو المحتقر لنفسه، نفسه وجسده طوعًا ورغبةً، لكل من في أحياء قاع المدينة، كي يضربه ضربًا مبرحًا ويذله ويهينه، وفي خضم حفلات الضرب اليومية، يطلع في رأسه نوع آخر من البخار، بخار الهذيان، حيث يتصور أمير حرب سابق وصاحب مقهى أنترنت، أنه أمير الحرب الشخصية الرئيسة في إحدى رواياته : «هذا ما جرى لي كتبت اسمًا فنهض الاسم من الورقة وصار رجلا برأس وقدمين».
وتشرد من حياة نون المعتمة، لحظات حب مختل الميزان، بينه وبين فتاة نيبالية من «مواشي الرب»، ويحف بها بخار أوهام وخوف تظلل «العاشقين»، ولن تنقضي إلا بمأساة رهيبة ستدفع بنون إلى الإقامة على تخوم الحياة، في مشفى يخاله فندقًا، وبذهن مختل وقلب سليم الإحساس بالظلم.
تخرج الشخصيات وتدخل في حياة نون وهو المهمش المنكر، على نحو يبدو فيه محورًا لكل من عرفه أو يعرفه. وأسلوب نجوى في نسج الناس حول نون لافت. إذ في غير ما موضع في الرواية البديعة ثمة وصف للشجر، وإذ يتخيل المرء الشجرة مفردة، فإنها قد تكون تمثيلًا لما هي عليه شخصية نون في الرواية، حيث إن هذه الشخصية الرئيسة هي التي تمد باقي الشخصيات كلها بقوامها ومقامها، كما لو أنها الجذع الصلب من حوله الأغصان، ويمتد الأمر ليطول منظور نون نفسه لأفراد عائلته : الأم والأخ والأب، ويبدو نون، إن كان في وصفه أو تعليله لكل واحد منهم، سليم الذهن والقلب، قادرًا على ربط سوء معاملتهم له، بالأطباع الشريرة الشهيرة : الأنانية والتسلط، اللامبالاة وعدم القدرة على الحب، التجبر والاحتقار. ذلك لأن تفاصيل أحاسيسهم ومشاعرهم حياله أثرت بصورة لا عودة عنها بتكوينه العاطفي، وأعطبت لاحقًا ذهنه النقي حقًا. وضمن هذا يمكن تأمل كيف رسمت نجوى شخصية الأب، من إطار براق جذاب، عن طبيب موسر ناجح، يخصص كل سبت للمرضى الفقراء، إلى زوج ضعيف، يمالئ تحيز زوجته القاسية لابنها البكر، ويشيح بوجهه هو أيضًا عن نون الصغير المظلوم عادة، وينكسر إطار الصورة حين يخبر نون قصة أبيه مع أطفال المخيم والممرضة، حيث الأمور غير واضحة مختلة ما بين طلب تنويم الأطفال نومًا مؤقتًا أم سرمديًا. ثم انتحار الأب أمام عيني صغيره نون، والأنكى أنه لم يلحظ وجوده قربه أصلًا، فهو نصب عينيه ولا يراه.
وإن كان منظور نون عقلًا وقلبًا سليمًا صحيحًا تجاه عائلته، فإن منظوره للعالم هو المختل، إذ لم يرَ أية مشكلة تقريبًا في طوفان المشاكل والكوارث في أحياء قاع المدينة. وصنف الناس فيه بمقياسه القديم نفسه: الشرير الخالص والطيب الخالص، وإذ صار الواقع والخيال في ذهنه متداخلين، تطور تركيب شخصية لقمان، فكلما ازداد هذيان نون لبست شخصية لقمان ثوبًا إضافيًا إلى أن تقترب تمامًا من الشخصية الروائية لقمان التي ابتدعها نون أيام كان روائيًا.
الشخصية التي يبتدعها الكاتب ثم يهذي ويسقطها على أول بشري شبيه لها، والمعاناة من الكلمات، والانقطاع عن الكتابة نظرًا إلى رداءة وتفاهة ما يكتب مثلًا، وغير ذاك من هموم الكاتب / الكاتبة، يمكن عدها طريقة نجوى للكلام عن نفسها ككاتبة وعن تجربتها في الكتابة، الأمر الذي تقوى إشارته في الصفحة الأخيرة من الكتاب. بيد أن نجوى المخاتلة ها هنا، استطاعت تمرير أفكارها تينك عبر كوة دقيقة، إذ إن نون مهما عصف به ذهنه ومهما عصر الآخرون قلبه بقي واعيًا مدركًا أنه قبل أي شيء كاتب.
لعله كان نائمًا فحسب وأتت نجوى وبقلمها الساحر حقًا كتبت واحدة من أجمل الروايات عن : «حبيبنا نون قد نام ولكني ذاهب كي أوقظه».