افتتحت منظمة اليونيسكو في شهر يناير الماضي "العام باستور" ، والذي انتهى في 28 سبتمبر بتقديم شارة تقديرية لشخصية علمية تحيي هذه الذكرى .
لقد انقضت مئة سنة على اختفاء العالم الفرنسي باستور وما تزال اعماله تلهم باحثي العالم قاطبة .. وهكذا ، جرى تكريس عام 1995م لاحياء ذكراه ، من البرازيل الى الولايات المتحدة ، ومن فيتنام الى تاهيتي الى السنغال ففرنسا : الندوات العلمية ، والمعارض ، ووثائق لوسائل الاعلام ، بأنواعها ، ستتيح للجميع اكتشاف حياة ودور وطرائق هذا المحسن الكبير للانسانية .
وقد بذلت وزارة الخارجية الفرنسية الجهد ، بالتعاون مع معهد باستور ، فجهزت أحدى عشرة لوحة عرض خفيفة ، سيسافر ثلاثمئة تشكيلة منها للطواف في مختلف انحاء العالم ، مرفقة بفيلم فيديو باللغات الانجليزية والاسبانية والروسية والعربية التي ستجوب العالم بنفس الطريقة .
أبحاث متنوعة المناحي ، حدس عبقري ، ارادة دؤوبة ، وعمل صارم الدقة ، أتاحت للويس باستور تثوير العلم .
"أبو علم الجراثيم والمناعة"، هذا الاكاديمي هو ايضا مؤسس معهد انتشرت خلاياه عبر انحاء العالم. واليوم بعد انقضاء مئة عام على وفاة باستور ، فان تلامذته يواصلون معركته في سبيل التقدم ومن اجل حياة اوفى رفاه .
من اكتشاف لاكتشاف
يبدو ان قانونين متضادين يتجابهان اليوم : قانون سفك الدم والموت الذي (….) يرغم الشعوب على ان تظل دائما جاهزة للمضي الى ساحة المعركة ، وقانون سلام وعمل وخلاص ، لا يذهب التفكير فيه الا الى انقاذ الانسان من النوائب التي تحدق به محاصرة اياه …
ذلك هو التشخيص الذي اعرب باستور عنه 1888 في الكلمة التي القاها بمناسبة افتتاح المعهد الذي يحمل اسمه .
وكان هذا الرجل الانساني ، في هاجسه بتحسين ظروف حياة أمثاله من البشر ، قد اختار طريقه في الحياة ، يحفزه في الاتجاه الذي اختاره أب يعمل في دباغة الجلود ، ويمتدح باستور تأثيره عليه بالعبارات التالية : "… النظر الى أعلى ، معرفة ما هو ابعد مدى من المعروف ، البحث دائما عن الارتقاء المتسامي ، ذلك هو ما علمني اياه … ".
وقد ولد باستور في قرية دول في جبال الجورا ، شمال شرق فرنسا 1822، وقضى شبابه الاول في اربوا . واتجه ناحية العلوم نابذا في نفسه ميلا للرسم . وقد أثارت اهتمامه وفضوله مذكرة وضعها احد الفيزيائيين ، فاندفع في دراسة البللورات مكتشفا ما يميز العالم المعدني عن العالم العضوي . وهو اذ ربط ما بين علم البللورات والكيمياء والعلوم البصرية ، فانه فتح الطريق امام علم الـ: مستيريو- كيمياء الذي يعكف على الترتيب ثلاثي الابعاد للذرات والجزيئات .
وانكب باستور عندئذ على المتخمرات ، وبين ، بفضل أخر اعماله في حينها ، ان كافة المتخمرات مردها كائن عضوي محدد ومتناهي الصفر ، يمكن دراسته اذا تم زرعه في وسط معقم يلائم الفرض ، واضعا بذلك وبكل بساطة أسس علم الجراثيم ، وقد بقي مع ذلك لغز معلق : من أين تأتي تلك الحمائر ؟ وتم القضاء بذلك على النظرية التي عمرت قرونا طويلة والتي تقول بالتوالد التلقائي .
غير ان موت ذلك "الوهم" لم يعد على باستور بالمعجبين فقط . فان مقولته عن بذيرات ، جاهزة عن الدوام لان تتطور ، لم تلائم مزاج كثيرين كذلك . واكتشف العالم في تلك الآونة الحياة غير المعرضة للهواء ، وهو اذ تصدى لخمائر النبيذ الطفيلية ، فانه انجز ابتكار وسيلة للحفظ عن طريق تسخين السوائل القابلة للفساد (كالعجة ، واللبن الحليب ) ، اي . البسترة . لولا ان اعمالا أخرى كانت في انتظاره ، فان مرضا يصيب دود القز كان يفتك بتربية شرانق الحرير في عدة بلدان ، وقادته الدراسة التي اجراها الى ايجاد الحل العلمي لمسألة انتقال الامراض ، والتي تحددت بـ : الوراثة ، والعدوى : كل اصابة لها جرثومتها الخاصة اذن .
من البسترة الى التلقيح ضد مرض الكلب
ابتكار جديد : يمكن تفادي العدوى عن طريق التعقيم ، وهي التقنية الخاصة بحماية العضوية من التلوث الجرثومي ، وبخاصة في غرف العمليات الجراحية ، الامر الذي احدث ثورة في الجراحة والتوليد . الحلقات تترابط وفق تسلسل منطقي كامل . وانكب باستور بضراوة على العمل مكتشفا على التوالي مجموعة من الراجبيات (اي البكتيريات ) مثل : الجراثيم العنقودية ، والتسلسلية ، والثنائية الزوجية ، ثم اكتشف الطريقة لتخفيف سمية البذيرات ، واخيرا أوجد لقاحات حيوانية مختلفة .
لقد ولد علم المناعة ، وتصدى باستور عندئذ لداء الكلب .
وعام 1885 ، قام بتجربة علاج على غلام صغير منقذا حياته ، وتوافد المرضى من كل انحاء العالم بحيث ضاقت العيادة عن ان تتسع لقاصديه من كل صوب . وصرح باستور عام 1886 أمام اكاديمية العلوم : "ان الوقاية الصحية من داء الكلب باتت رأسية على اساس لها ، وقد توافر المجال الآن لانشاء مؤسسة للتلقيح ضد داء الكلب" . وهذا ما حصل .
الا ان ا لمؤسسة كانت كذلك "مركز ابحاث حول الامراض التي تنتقل بالعدوى"، "ومركزا تعليميا خاصا بالامراض المرتبطة بالتجرثم" .
وعام 1888 ، تم افتتاح معهد باستور في باريس . وقد حرر العالم باستور بنفسه النظام الاساسي للمعهد مركزا اهتمامه على ضمان شروط مادية جيدة للباحثين فيه ، وحرية التفكير والنشاط لهم ، واطلق اكتتاب عام بالتبرعات دوي زوبعة من الكرم ، وسرعان ما انتصبت واجهة عمارة طراز لويس الثالث عشر مؤلفة من بناءين يربط بينهما رواق ، حجارتهما من الصوان والقرميد .
وقد اهاج ذلك مشاعر باستور فقال : "ما من حجرة الا وهى علامة على تفكير كريم" .
ولم يكن ذلك الا بداية . ففي عام 1894 ، وضع ثلاثة باحثين ، منهم اميل رو ، طريقة معالجة مرضى الخناق بالامصال ، وكانت النتيجة الفورية ان اطلقت جريدة الفيفارو نداء جديدا للاكتتاب بالتبرعات ، ترتب عليه شراء خيول منتجة للامصال الترياقية مع بناء اصطبلات لها .
معهد متعدد الفروع العلمية
واقترح احد المحسنين بناء وتخديم مستشفى مكرس لمعالجة الامراض السارية ، ولكن باستور لم ير المستشفى ، فقد توفي عام 1895، الا انه على أية حال ، مع انشاء اول "معهد باستور" في سايفون عام 1891، يكون شهد كيف ان طرائقه مضت تنتشر في العالم .
ومارس المستشفى الذي دخل الخدمة عام 1900 اسلوبا مثل جدة ، وهو العزل المطلق للمرضى بأمراض معدية . وجرى بفضل هبات أخرى ضم جناح استشارات طبية للمستشفى ، ثم مخبر اشعة سينية . وهكذا ولد معهد للكيمياء الحيوية ايضا . وتطورت المعرفة العلمية وتم الحصول على نتائج ممتازة في البحوث الاساسية وفي التطبيقات الطبية الحيوية ، المرتبطة وفقا لتعبير باستور ارتباط "الثمرة بالشجرة" . وبفضل ميراث تركة عملاقة ازدهرت اقسام الخدمات والمخابر (علم الجراثيم الزراعية ، علم الامراض النباتية ، الكيمياء العلاجية ) . وفي عام 1921، عقب اكتشاف البير كالميت وكامي غيران للقاح ضد السل BCG) ) :عطية كالميت وغيران ، ارتفعت مبان جديدة .
في الخمسينات من هذا القرن ، بوشر بتطوير رئيسي هو في اساس : علم الحياة الجزيئي ، ذلك ان دراسة الراجبيات (اي : البكتيريات ) ، والحميات الراشحة (اي : الفير ومنات ) ، جرت الاستفادة منها لتحسين معرفة الانظمة الحية . وعام 1966 جرى تعديل النظم الاساسية فأنشئت لجنة علمية ، وتم التمييز ما بين مراكز البحث والتعليم ، ومراكز الانتاج والتشجير . ودخلت الدولة طرفا . وتبلغ مساهمتها المالية اليوم 41/ ، والثلث هو واردات عائدات من النشاطات (حصالات مستحقة على الصناعيين الشركاء ، وعقود فردية ، وخدمات ..) ، ويأتي 26% من الهبات والتركات التي تمثل رموز المساندة الاجتماعية لمعركة باستور .
وبرزت نشاطات جديدة مرتبطة بانطلاقة علم الحياة الجزيئي (الهندسة الوراثية ، علم الحياة العصبي ، علم الادوية ..) وانبثق صرح مبنى جديد . وبعد عشر سنوات من ذلك جاء دور علم المناعة : اذ ان فريق عمل البروفيسور مونتانييه كان الاول والسباق في اكتشاف الحمة (الفيروس) المسؤولة عن مرض نقص المناعة : (السيدا) .. ثم اقام المعهد مبنى ، مادا كالأخطبوط ذراعا جديدة ، مخصصا لتطوير البحوث المعنية باستخدام التكنولوجيا الخاصة بعلم الحياة ، ومبنى آخر في عام 1990 تدرس فيه : السيدا ، والحميات الرا جعة ، وامراض انحلال الجهاز العصبي .
ان معهد باستور هو ايضا اليوم عدد من مراكز التعليم ، والمعلومات العلمية ، وعلم الحياة الطبابي ، والتلقيح ونقل الدم . وهو يضم متحفين .. ولا ننسى شبكته الدولية المؤلفة من 26 معهدا . ولكن المعهد هو ايضا البشر العاملون فيه : 2600 شخص ، 1100 منهم علماء في وحداته المئة ومختبرات أقسام البحوث العشرة التي فيه . وهو اخيرا ثمانية حائزين على جائزة نوبل ، كل جائزة منها كافأت شخصا ، ووفقا لعبارة جو فينال العزيزة على باستور "كرس حياته لما هو حقيقي".
"عن طريق المثابرة الدؤوبة في البحث ينتهي المرء الى ان يكتسب ما ادعوه عن طيب خاطر : غريزة الحقيقة".
"باستور"
الاكتشافات الكبرى
1885 : تحقيق اللقاح ضد داء الكلب .
1894 : ولادة علم المعالجة بالامصال الترياقية _ تحديد هوية عصية الطاعون .
1904 : محاولات في المعالجة الكيميائية المضادة لسريان العدوى .
1921 : انجاز لقاح (CEG : عطية كا لميت وغيران ضد السل ، والترياقات المضادة للسموم .
1927 : لقاح ضد الحمى الصفراء في معهد باستور في داكار .
1936 : اكتشاف فعل السولفاميد (مركب الازوت والكبريت ) ، المضاد لنقل العدوى .
1955 : لقاح ضد البوليومييليت . .
1983 : اكتشاف الحمة "1 VIH"، فيروس نقص المناعة البشرية (عامل السيدا) .
1986 : اكتشاف الـ:"2 VIH".
1988 : لقاح مضاد لالتهاب الكبد الانثاني ب ، عن طريق الهندسة الوراثية.