باناييت إستراتي -روائي روماني
ترجمة وتقديم: محمد الحباشة -كاتب ومترجم تونسي
ولد باناييت إستراتي في مدينة برايلا برومانيا سنة 1884 وتوفّي في بوخارست سنة 1935. أتقن اللّغة التّركيّة واليونانيّة إلى جانب لغته الأمّ الرّومانيّة، وهو يتنقّل بين مُدن وعواصم سيكون لها كبير الأثر في رواياته، مثل بوخارست والقسطنطينيّة والقاهرة ونابولي وباريس، وطِوال رحلاته هذه، واظب على القراءة. تعلّم إستراتي الفرنسيّة وهو في سنّ الثّلاثين، بعد أن هَجر رومانيا، مضطرا للذّهاب إلى سويسرا سنة 1916 للإقامة بمصحّ في ليزين بعد إصابته بمرض السّلّ. وهناك تعرّف إلى الكاتب والصّحفي جوزيه جيهودا، الذي ساهم في تعليمه الفرنسيّة، وأطلعه على روايات رومان رولان التي تأثّر بها تأثّرا كبيرا.
من أهمّ الوثائق المتبقّية لنا عن حياة باناييت إستراتي، هي المراسلات المهمّة بينه وبين رومان رولان بعد توطّد أواصر الصّداقة بينهما. وتضمّ اعترافاتهما المشتركة المفعمة بالصدق والحميميّة، وهو ما يكشفُ عمق علاقتهما. كانت الرّسائل متبادلة بين كاتب شهير له مكانة في بلاده والعالم (رومان رولان) وكاتب قادم من وسط متواضع، ولا يعرفه أحد، ولكن يقوده فضول لا يهدأ نحو المعرفة ورغبة جامحة في تعلّم الفرنسيّة وإتقانها، التي سيساعده رولان في تحقيقها، وما يتشاركه الرجلان في النّهاية هو الإيمان بقيم العدالة الاجتماعية والوحدة الكونيّة للقلوب والعقول. كان إستراتي بمثابة الابن الروحي لرومان رولان. ما ينفكّ الفرنسيّ يقدّم له النّصح ويحثّه على الكتابة، ويوجّه له تلك العبارة الشهيرة لغوتة في فاوست: “كُن ما أنت عليه!”
تعبّر الرّسائل أيضا عن مأزق إستراتي النّفسيّ، أو انحداره إلى اليـأس بسبب وضع أوروبا في بدايات القرن العشرين، فضلا عن تمزّق وجوديّ حادّ متمحور حول سؤالٍ رئيس: أيّ معنى روحيّ لحياة الإنسان في عالم مادّي وأنانيّ؟ وفي جانفي سنة 1921، وصل الأمر بإستراتي إلى محاولة الانتحار، بعد أن اشتدّ به الفقر والمرض والوحدة، وهو مقيم آنذاك في نِيس، ولكنّه أُنقذ وعُثِر عنده على رسالة كتبها إلى رومان رولان. وعندما علم رولان بذلك كتب له، وهو يشجّعه على مواصلة مساره ككاتب قائلا:” أنتظر المدوّنة ! حقّق المدوّنة لأنّها أهمّ منك وأطول عمرا، ولست سوى رأسها المنبثق الذي يخفي الأصل والجذور.” ثمّ ساعده في نشر مجموعة رواياته بين سنتي 1923 إلى 1926 التي تشكّل رباعيّة “أدريان زوغرافي.”
وختم رومان رولان تقديمه لرواية “كيرا كيرالينا” قائلا: “نريد أن نتذكّر أنّ الرّجل الذي كتب هذه الصّفحات الرّشيقة تعلّم الفرنسيّة بمفرده منذ سبع سنوات، وهو يقرأ كلاسيكيّاتنا.”
تُمثّل مجمل أعمال إستراتي رحلة للبحث عن الحرّيّة، عبر الحفر في كلّ ما هو إنسانيّ. فالكاتب يحدوه الفضول دوما لاختبار أشكالِ الحياة الإنسانيّة، في تعدّدها وغرابتها وقيمها المفقودة أحيانا أو الـمُناضلة من أجلِ البقاء، وليست تلك الرّحلة سوى نزوع متجدّد نحو الحرّية. هذه القِيمة التي كانت بالفِعل عُملة نادِرة في أوروبا بدايات القرن العشرين، حيثُ لا يُعدّ الإنسانُ سوى آلة حربيّة أو مجرّد لُقمة سائغة في فم الحروب والتّشرّد والجوع والموتِ البطيء في الشّوارع الباردة، وأقبية البواخر الرّطبة. إنَّ النّقيضَ الـمُباشِر للحرّية بالنّسبة إلى باناييت إستراتي، ليس العُبوديّة، تلك العبوديّة التي عاشَ أشكالا منها في بعض الأعمالِ اليوميّة الشّاقّة التي اضطرّ للقيام بها لكسبِ عيشه ومنها خادم في كباريه، وعامل في محلّ بيع المرطّبات، وبائع متجوّل وبحّار على متن بطانة الخدمات البحريّة، وإنّما النّقيض المباشر هو الموت. وكثيرا ما يُحمِّلُ إستراتي شخصيّات رواياته فِكرهُ ورؤيته للعالم والإنسان. يقول في رواية “العمّ آنغل”: “بالنّسبة للإنسان الحرّ، كلّ ما ليسَ حُرّيةً هو موتٌ، ولكنّه موتٌ بلا نهاية.”
يمثّل افتتان باناييت إستراتي أيضا بالشّرق عنصرا فنّيا هامّا في رواياته، فهي تُحبك على طريقة الحكّائين الشّرقيّين، تفوح منها رائحة النّراكيل، وتعلو فيها أشجارُ النّخيل، وتتناهى من بين سطورها الأغاني العُثمانيّة القديمة. ولا ينزعُ هذا الافتتان المتحوّل إلى مادّة سرديّة غنّية، نحو الاستشراق أو غيره، بل هو أساسا متأصّلٌ في شخصيّاته الحاملة لهذا الطّابع الخاصّ، مثلما هو أيضا متأصّلٌ في ذاته، بِفضل المكانة التي يحتلّها الشّرق لديه عبر رحلاته الكثيرة وإقاماته وصداقاته. ليست موهِبة الحكّاء الشّرقيّ هذه لدى باناييت إستراتي موهِبة للتّعبير عن رؤية إكزوتيقيّة أو عاطفيّة، وإنّما غايتها التّعبير بطريقة شديدة التّعقيد عن قيم كاتبٍ يضعُ العدالة والحرّية والخير فوق كلّ شيء.
من أهمّ صداقات باناييت إستراتي مع الكتّاب، صداقته مع الرّوائي اليونانيّ الكبير نيكوس كازانتزاكيس، وتميّزت هذه الصّداقة بالأساس برحلة طويلة قام بها الكاتبان نحو موسكو ثمّ كييف، وهي رحلةٌ سيكرّرها إستراتي بمفرده من أفريل 1928 إلى أفريل 1929، إلى الاتّحاد السّوفياتي بالأساس، وخلالها سيكتشفُ حقيقة الدّكتاتوريّة السّتالينيّة. وشكّل ذلك المادّة الأوّليّة لكتابه “نحو الشُّعلة الأخرى”، الذي كتبه بالاشتراك مع بوريس سوفارين وفيكتور سارج، وهناك سيعثر القارئ على عبارة إستراتي الشّهيرة في مُعارضة الشِّعار الاشتراكي القائل: “لا يمكن طبخُ الأومليت دون كسر البيض.” فيقول: “إنّي أرى جيّدا البيض مكسورا، ولكن أين الأومليت؟”
يمثّلُ هذا النصّ “من أجل حبّ الأرض” بيانا روحيا لصاحبه الروائي الروماني المنسيّ “باناييت إستراتي” الذي طالما همّشته المؤسسة الأوروبية بأنظمتها القمعية خلال الحربين، ولا سيّما المؤسّسة الشيوعيّة. في هذا البيان أو الوصيّة يقدّم إستراتي نصّا عظيما عن الإنسانيّة ورحلتها المدوّية نحو الهاوية والظّلام طوال قرن من الزّمن، وكيف ناضل الإنسان الحقّ المولود في قرية منسيّة في ربوع أوروبا الشّرقيّة، من أجلِ شعلة نور أضاءت تلك الهاوية، وسط خيانة ما حسبه الذّكاء السّامي للبشر.
وهو أيضا بمثابة رسالة شكر قدّمها الكاتب إلى فرنسا التي احتضنته بعد سنواتٍ من الهجر والتشرّد وطواف العالم من أجل بحثٍ عن مستقرّ كريم وأيضا من أجل العلاج من مرض السّلّ. كما يمثّل النّصّ رسالة تحذير لفرنسا الحاملة لأكبر قيم العالم انفتاحا وإنسانيّة، في تلك اللّحظة الزمنيّة، من هذا “الثائر” الذي ستحتضنه والذي لن يتوانى عن قول الحقيقة المدوّية في وجهها إذا لاحظ انزياحها عن قيمها، مثلما قالها لأيّ بلدان غاصبة أخرى.
المترجم
أرغبُ في تصديق أنّ أوّل حركةٍ قُمتُ بها لحظةَ جئتُ إلى العالم، كانت تقبِيلَ الأرض. فهناك في قرية “بالدوفينيستي”، قرب نهر “سيريت”، انطوت في داخلي الأرض، بكلّ ما أوتِيَتْ من حبّ عنيف.
الأرض برمّتها! الأرض بكلّ مفاتنها!
في البداية، أشعلتْ ناظِريَّ تلك الشّمس الأعجوبة. والعمّ “دِيمِي” في الشّرفةِ يعزِفُ نَايه الذي لا يفارقه، فيما “لِيو” الضّخم، يطاردُ الفئران، منزعجا من ذلك العزف. وربّما جاء من المياهِ القريبة طائرُ زقزاقٍ شاميّ مُبهِرٍ وفضوليّ وشجاعٍ، مثل كلّ طيور الزّقزاق، وحطّ على النّافذة، ثمّ طبعَ على حدقتيَّ، عينَهُ الزّرقاء بندائها الذي لا يقاوم. وربّما أيضا أطلّت العاشِقة “لِينا” في البيت، بضحكاتها ودموعها، وأخبرتْ أمّي بأنَّ والديها ضرباها من جديد، لأنّها وهبتْ نفسها، منذ زمن طويل، لعشِيقها “تودور”. ومن يدري، فربّما استيقظت القرية برمّتها صباحَ الغدِ، ببقراتها وخنازيرها ودجاجها، مُستعدّةً للهروب من “نهرِ سيريت الذي اجتاحنا بسرعة هائلة!” إنّه الفيضان!
وهكذا، أمام حيرة أُمّي، كان عليّ أن أصرخ بكامل طاقتي:
هيّا لنذهب!
ورحلنا نُشيّدُ أكواخنا على هضبة “برايلا”، وطيور الزّقزاقِ الشّامي تُحلّق فوقها مرِحة، غير عابئة بحالنا.
ولاحِقا، حدثَ شيءٌ مّا جديدٌ إلى حدّ بعيدٍ، وأثّر في قلبي أيّما تأثير. عندما استطعتُ المَشِيَ مُستندا على ظهر لِيو، وأدركتُ سَهل “باراغان”، رأيتُ في ضوءِ الشّمسِ الغاربة، مُزارعا منحنِيًا على أرضه، يقف إلى جانبه رجل يعتلِي حصانا. كانَ يُجعجِعُ ومن حين لآخر، يلسعُ سوطٌ كُليتَي الفلاّح. (معذرة، لستُ أستعطفكم، حدثَ هذا الأمرُ فعليّا.)
إنّه خطأ الأرض! إنّها السّبب. وهكذا، كرهتها في الحال. ولكن، هل نستطيعُ حقّا كراهية الأرض؟ هل يمكننا ذلك، سيّما وأنّنا لا نطأها في ذلك السنّ، إلاّ ونحن مُستندون على ظهرِ كلب؟
ألا يُشكّل الحبّ والكراهية المتمازجان بلا إنسانيّة في قلبي الطّفلِ، مرضا بالنّسبة لي، من شدّة عجزي على فهمِ شيءٍ؟ ولكنّي فهمتُ بعد ذلك. وإذا بدأتُ بوصف هذا لكم، ستقولون بأنّي رجلٌ سيّء. يبدو أنّنا نُصبِحُ سيّئين، في اللّحظة التي نغمِسُ فيها أقلامنا في دمِ ثورتنا الخاصّة. يستوجبُ الفنّ، كي يكون عظيما، غرورا وجُبنا خالِصين. أو على الأقلّ، يطلبُ من الفنّان ألّا يتعامل مع المعاناةِ الإنسانيّة، سوى كمادّةٍ موضوعيّة للاستلهام.
لم أكن أعرف ذلك.
وأنا مِثلَ بحّار في نهر المُعاناةِ، كنتُ أقضِّي حياتِي مُحاولًا تقريب ضفّة الحُبِّ من ضفّةِ الكراهية، مُقتنعا أنّ الرّبَّ أساء عجنَ طِينهِ، لحظةَ خلق الإنسان. هذا ما أنا عليهِ. وقد أبحر قاربِي البدائيّ لوقتٍ طويلٍ غير مرئيّ، مغمورا بالأمواجِ المُعاكِسة، مُستعدّا للانقلابِ في أيّة لحظة. رغبتُ بالاعتراف بأنّ قَدَرِي كامنٌ هناك.
ولكن لا! ففِي منعطفٍ خطير، عندما طفوتُ مُغطّى بالزّبد الدّامِي، اعترض طريقي ساحرٌ ووهبني سفينة رائعة:
يكفي من الظّلمات! اذهبْ إلى غمرة الأنوار ورَ العالم!
قبّلتُ يد السّاحر وقُمرة السّفِينة:
شكرا، هل عليّ أن أواصل إذن؟
أكثر من قبل!
سيكون الأمر كما كان دوما، حتّى هذه اللّحظة: إلى العالم!
ابتلع السّاحر ابتسامةً مريرة:
بالتّأكيدِ يا بُني!
ثمّ غطسَ في المياه الغامرة.
يا للأدب الباهر والسّاحر والمُخادع! كلّ شيء أدبٌ!
ولكن يبدو أنّي قد أضعتُ حبلَ أفكاري. اسمحوا لي أن أعود إلى “بالدوفينيستي.”
لطالما أتساءل اليوم عندما أنظر أحيانا من قمّة حياتي المثيرة للشفّقة، نحو القريةِ التي ولدتُ فيها، هل بإمكانِ الذّكاء السّامي للبشر، أن يحتقر أقدار البُسطاء، إلى درجةِ وضعهم في صفِّ الدّوابّ؟ إنّه سؤال لا يبتغِي توضيح شيء، ولكن يكفي أن أطرحه على نفسي، حتّى أشكّ آنيّا في شجاعة وكرمِ الذّكاء السّامي للبشر.
يُولدُ البُسطاءُ وتكون حاجةُ الحُبِّ لديهم أقوى من حاجة الأكل. إنّهم يضحّون بكلّ شيءٍ من أجل ذلك، ويرحلون نحو الاحتلال الحَميم للأرض.
لا يجب أن نقول إنّهم مجانين. فقد صنعتْ المجتمعات البشريّة على مرّ الزّمان دينا من حبّ هؤلاءِ المجانين. بل إنّهم صنعوا منه ألطف الآلهة، فضلا عن أنَّ المدارس الرّاقية تقدّمه كمَثَلٍ للتّلاميذ الذين حظوا بفُرصةِ التعلّم. إنّ هذا الحُبّ يُكتبُ في أعظم الكُتب. مؤكّدٌ أنّ المجانين الأصيلين أنفسهم، يعرفون ذلك أحيانا، دون أن يفكّروا، لأنّهم بُسطاء وصادقون جدّا. وفي كلّ الظّروف، إنّ الحبّ عندهم يعوّض الطّموح. والطّموح ليس سوى وعد يقدّمه الإنسان لنفسه. أمّا الحبّ، فهو تحقيقٌ لكلِّ لحظةٍ. لا يؤجّلُ شيئا. الحبّ يختلطُ مع الحياةِ التي نرغب فيها.
يا له من طريقٍ طويلٍ قطعته من قريتي “بالدوفينيستي” إلى مدينة الأنوار! عندما أقيسُ المسافةَ المقطوعة، أشفقُ على نفسي كثيرًا!
أينَ كُتِب إذن أنّ أجمل انطِلاقاتنا يجب أن تخرّ خاضِعةً أمام العار؟ أين كُتِب بالأخصّ أنّ الجُبن والغرور شُعورانِ مألوفانِ اليوم، بالنّسبةِ للذّكاء السّامي للبشر؟ وإذا لم يُكتب هذا بعد، لماذا لا يُقالُ لنا إذن بأسرع وقتٍ ممكن؟ هكذا سيُوفَّرُ على العديد من المزارعين الصِّغار ذوي القلوب الكونيّة، عُبور الطّريق الأليمِ من قرية “بالدوفينيستي” إلى مدينة – أنوار مّا.
لابدّ أن نقول لهؤلاء الأطفال:
“أيّها الأصدقاء اللّطفاء، لا تخلطُوا مواعظَ الذّكاء السّامي للبشر، بما يُطبِّقونه فعلا. إنّكم عُشّاقٌ لهذه الأرض، وتريدونها حرّةً لإرواءِ عطشِ عشقكم. وبطبيعةِ الحالِ، فإنّ فنّانِين عباقِرة في كلّ قرنٍ، لم يفلتوا تكريس هذا الحبّ الذي أنتم مستعدّون للموتِ من أجله، في تُراثِ الفنون. لقد جعلوا منكم أبطالا، ومن معاناتكم، دِينًا. ولكن، هذا كلّ ما تمّ القيام به. أو بالأحرى، لقد تمّ أخذ جزءٍ من هذا ومن ذاك، لتحويله إلى تِجارةٍ بسيطة. والمُقزِّزُ في كلّ هذا: لا شيءَ يُباعُ أفضل من الفنِّ المُمجِّدِ للبطولات. وتُجّارُ أدبِ البُطُولاتِ يفعلون مثل كلِّ التُّجّارِ: إنّهم يزدادون ثراءً. ينعزلون في مُدُنِهم سُعداءَ بحُرّيتهم، وغيورين على أموالهم الضّخمة وموافِقين ضمنيّا على قوّةِ الحرابِ المُدافعةِ على سعادتهم ضدّ “البُغَضاءِ”.صحيحٌ أنّ هؤلاءِ التُجّار يستاؤون من الطُّغاةِ الذين يتحكّمون في الحِرابِ. وليس هذا سوى شعار خاصّ لضمانِ تدفّق سِلعتِهم. الطُّغاةُ يعرِفُون ذلك. ولكن من يجهلُ الأمر فهم أنتم، الأبطال. عليكم أن تعرفوا هذا إذن، مُفكّرين في فراسيسكو فيريرو1 الذي لم يُعدم أيّ تاجرِ بُطُولاتٍ بفضلِ شفاعته. ولا تجعلوا أقدامكم تنزِفُ، وأنتم تسلكون الطّرق المؤدّية من “بالدوفينيستي” مّا، إلى مدينة أنوارٍ مّا، حيثُ الظّلُماتُ أكثر كَثافةً. ابقوا في بيوتكم. اعشقوا وموتوا خفيةً، عاشِقين لحريّة سوفَ تأتِي لا محالة، من شدّةِ عشقكم لها. وإلاّ، اقبلوا أن تكونوا مجانين، وجُوبوا الأرضَ صارخين: “من يُريدُ التّضحيةَ بشعرةٍ من رأسه، ليُساهِمَ في جعلِ الأرضِ مُتاحةً لحبّ البشر؟” سوف ترون، أنَّ في كلّ مدينة أنوارًا، سترتفع ألف رأسٍ لامِعة وجامدة مثل القمر، كي تجيبكم: “لأسفنا الشّديد، هذا مستحيل!”
لم أكن لأغادِرَ قريتي، ضائعا في مياهِ الدّانوب، لو لم يكن قلبي مصنوعا ليُطيع أخويّةَ “الفِكر السّخيّ”. لذلك أنا مؤمنٌ كاملٌ بهذا، وبشغفٍ شديد. أدرك أنّ معجِزة قَدَرِي لا تتجدّد سوى مرّةٍ في القرن.
ملايين أولئك الذين يرحلون. إنّهم بحّارةٌ مجانين. ولا يصلُ منهم سوى البعض فقط. وأحبّ كثيرا حقيقةَ أنّي جديرٌ بالنّور الذي يملأُ اليومَ عينيَّ، فقط لأواسي أولئك الذين عماهُم هذا النّور!
لذلك أعتقدُ أنّ معنى حياتي كامِنٌ في جعلِ كلمةِ الحُبِّ تجول بين أكواخِ البُسطاء التّائقين إلى العدل، ومعبَدِ العمالِقة ذوي الفكر السّخيِّ.
وكلمة الحبّ، في قرنِ الجريمةِ هذا، تعني: الثّورة! ثورة ضدّ طغيان إنسان هذه الألفيّة الجشع، مهما وأينما كان. أهناك شيءٌ مّا في هذا، يستطيع إزعاجَ التّفكير السّخيّ؟ هل ستتبرّأُ منّي الأخويّة، وأنا راهبها الثّائر؟
على ما يبدو، نعم. بما أنّ أخويّتِي تظلُّ صمّاءَ حِيالَ نداءات النجدة التي أُطلقها من هاويةٍ انتشلتْني مِنها، فقط كي أُحدثَ صدًى. وأكثر من ذلك، إنّها تظلُّ لامباليةً حتّى وهي تُشاهد الطُّغاةَ يهاجمون نبيّها الخاصّ.
يضعني هذا في حيرة كبيرة. هل أنا وحدي في النّهاية؟ لطالما اعتقدتُ بأنّي رفيقُ سِلاحٍ في جيشٍ مرعب يحارب كي يفتكّ الأرض من الجشعين، ويُعيدها إلى أولئك القادرين على تزيينها بالمحبّة. ظننتُ أنّي قويّ. وفجأة ها أنا ذا، دون كيشوتٌ مسكين، مسحوقٌ بحافرِ حمارٍ: أُطردُ من مصر، يتمّ إيقافي في إيطاليا، وحتّى رومانيا تُلاحِقني كلّ مرّة تطأها قدمايَ. يحقّ إذن لكلّ الحمير أن تسحقنِي بحوافرها بهذه الطّريقة…
كيف إذن أفكّر في القَدَر الذي يعدّه الطُّغاةُ لذاك الرّجلِ اللاّمُسمّى، وكلّ خطئه أنّه أحبّ الأرض ويريد أن يراها حُرّة؟ هنا يكمن السّؤال كلّه. ليس الأمر متعلِّقا بي، وإنّما بأخِي المُساوي لي، والذي لن يكون قدره مثل قدري على الإطلاق، فحياته ليست سوى عَرْضٍ من الخساراتِ.
إذا ما رفض لي البشرُ شيئا مّا، فإنّي أواصل التقدّم رغما عن رفضهم. ألم أواصل التقدّم رغما عن حياتي بأسرها؟ ماذا استطاعوا أن يمنعوا عنّي؟ لا شيء أبدا!لقد نِلتُ كلّ ما أرغبُ به وأكثر. أمّا ماذا كلّفني هذا، فتلك قضيّةٌ أخرى. أمّا ذلك الشّيء المسمّى بطولةً، فهو مفتاح الحياةِ الحرّة. معظم البشر يجهلون هذا. إنّهم لا يتآلفون سوى مع أقفالِ وقُضبانِ سجونهم العديدة. الجُبنُ هو ما يجعلهم حُقراءَ للغاية. إنّهم حُقراء أيضا لأنّهم لا يعرفون جميعا كيف يكتُبون حكاياتٍ جميلة. إنّهم يكتفون بصناعة الخُبزِ واستخراج الفحم من المناجم.
غير مهمّ.
ومع ذلك، هذا اللاّمهمّ يسمح للتفكير السّخيّ أن يجلس القرفصاء ويكتب حكاياتٍ جميلة. وما هي الحكاية الجميلة؟ أيّة علاقة تربط حكايةً جميلة بإنسانٍ نضعه في السّجن من أجل حبّ الأرض؟ أين السّخاء؟ وإذا لم يكن موجودا في أيّ مكان، فلماذا نخدع إنسانيّة البُسطاء، بجعلهم يعتقدون بوجودِ تفكير كونيّ يهتمّ بخلاصهم؟
حسنا، فلنعد إلى الطّفل الصّغير الذي يخطو خُطُواته الأولى، مُستنِدا على ظهرِ حيوانٍ – صدِيق. أمثُلُ اليوم أمام المجلس الأكبر لأخويّتِي، وأطلب منه مُحاكمتي. فأنا الرّاهبُ العَنيد الذي يتّهم رؤساءه بالدّجل الإلهيّ، فقد تلاعبوا بالمُقدّس.
ولكن قبل فتح النّقاش، ربّما سيكون من الأجدر بي القولُ أمام العالم بأيّة طريقةٍ تتجلّى أنوار الحياة العظيمة لوعي البُسطاء ذوي القلوب الكونيّة. كيفَ تنبجسُ من قلبِ الظّلام شُعلةُ الوهمِ الجميل. وأيّ جَبَلِ جلجثةٍ2 على البسيطِ أن يتسلّق، كي يتّبع نداء الحُبِّ المُستحِيلِ. فكلّ شيءٍ حُبٌّ وخلاصٌ للرّوحِ في الكشفِ الذي وهبته الآداب العظيمة لعينيّ التّائقتين للكونِ.
لم تر هاتان العينانِ في البدايةِ سوى ناي العمّ “ديمي”، واليدين المتشقّقتين لأمّي. ولكن هل يُمكِنُ أن نحدّ نظر الرّوح إلى الأُفق الصّغير لقريةٍ مُظلِمة؟ أليست هناك طيور الزّقزاق المحلِّقة بقربك، بعينها المستديرة الثّمِلةِ بالمساحاتِ المُدوِّخة؟ كيفَ سمحتُ لنفسِي ألاّ أستجِيبَ للبندِ الأوّلِ لقانوني الخاصّ: اتّباعُ الطّائر المألوفِ لأنهارنا؟
لقد تبعتُه برفقة العمّ “دِيمي”، الذي أخرج أحشاء جواده ذات ليلة، وكاد أن يقتلني أنا نفسي. وهكذا، ثُرتُ على مصير قريتي: كانت خاضعةً بشكلٍ كبيرٍ إلى يقظةِ حارِسِ المستنقعات. ولكنّي أدركتُ بِسُرعةٍ أنّ الخضوع كان كونيّا، وأنّ حرّاس المستنقعات هم أساتذة العالم. وأيضا أليس حجم ثورتي هذه قادرا على التمرّد ضدّ الرّبّ نفسه، إذا كان هذا الربّ حارسًا للمُستنقعات؟ أليس هذا مسموحا؟ إذا لم يكن كذلك، فإنّي سأواصل التّقدّم رغما عن ذلك.
كنت أستعدُّ كي أخوض هذه المعركة، مُتّبِعا مثال قُطّاع الطرق البلقان الشّرفاء. كان عمري ستّ عشرة سنةً، وكنتُ ضعِيفا بسببِ عمِّي، الذي قَتَل جواده عوض حارس المُستنقعات، وأيضًا بسببِ أمّي التي تُفرغُ فمها أثناءَ تناول وجبتها ما إن تشعر باقتراب سيّدها. كانت تنظِّفُ بيته مقابِل ثلاثين فلسا في اليوم مع الغذاء.
نعم، لقد كنتُ ضَعِيفا. إلى أن جاءَ يومٌ هبّت فيه داخل صدري رياحٌ مجهولة وعنيفة: لقد دخلت رأسي كوكبة من العُظماء: بالزاك وتولستوي ودوستويفسكي وفيكتور هوغو!
لم أشكّ إطلاقا في وجودهم. كنت أجهلُ إمبراطوريّة الفِكر. لم أكن أعرفُ سوى قُطّاع الطّرق الذين لا يفكّرون، بل يردّون الفعل. وفجأةً، تجلّى أمامي الكشفُ العظيم لأخويّة الأدب الكوني!
إنّها قوّة متفرّدة وتحظى بالاحترام والإجماع. إنّها تجمع القوّةَ مع الحبّ في نطاق واحد. اعتقدتُ بأنّي تمكّنتُ من فهمِ هذا بعد وقتٍ وجيز. لم أعد وحيدا ولا ضعيفا: أصبح لديّ أصدِقاء يشعرون مِثلي.
في تلك اللّحظة فقط، بدأت حياتي البطوليّة.
إذا أراد الكائن البشريّ المسكين النّجاح في حياته في سنّ السّابعة عشرة، عليه التّفكير مثل الجميع، ولا سيّما كوالديه، العدوّان اللّطيفان لكلّ حياةٍ بطوليّةٍ. ها أنت ذا خالصٌ لنفسك إذن، بكوكبة عمالقتك على ذراعك، وبقلبك المُعدّ للاستجابةِ لنداء الفِكر السّخيّ!
ليس هناك ما بِهِ تنجح. هناك كلّ ما بِه تغرق، ومع ذلك لا تغرق، لأنّ روحك تطفو. وإذا كنت قويّا، فستُصبحُ منبوذا رائعا.
مرّة أخرى تذهبُ لتتسوّل خبزك، عاجِزًا عن كسبِ عيشك بإنسانيّة. أو تفتكّه بعد نضال طويل، نضال قاتل ومُخزٍ. وأكثر من ذلك، وأنت تَعيشُ غريبا في عالم غريب، فإنّك لا تُريدُ عاطِفة من يحبّونك. فيم ستنفعك، إذا كان عدم فهمهم لك يُجمّدك؟ وأنت تخنق لدقيقة صوت قدرك، تذهبُ أحيانا لتُخبّئَ وجهك في تنانير جدٍّ مألوفةٍ لديك، وتمزجُ دموعك بدموعِ أمّ تقتُلُها دون أن تُريد.
هكذا يكون الفِراقُ الممزّق للقلب!
ثمّ يأتي بعد ذلك الاكتشاف الجميل لإخوتك في التّفكير. ذات ليلةٍ، وأنت وحيدٌ وسعيدٌ بشكلٍ مُحزن، كنت تجرّ خطواتك وأحلامك الإنسانيّة في شوارع ضاحية قذرة. تسحقك الظّلمات، وتنهشك الكلابُ على عتباتِ الأبواب، ويتطايحُ فوقك السّكارى. وأنت ترى الإنسانيّة مكدّسة تحت أسقفٍ متهالكة، ولا تشعر سوى بالقبح اللاّمحدود واللاّجدوى المُطلقة. إنّ تلك الإنسانيّة بعيدة جدّا عنك، لأنّها لا تحتاج سوى إلى العدل. إنّها لا تشكّ في الجمال الذي تسبح فيه روحك: اكتشافُ الفِكر الرّاغب في رفع البشر إلى مرتبة النّبلاء، وانبجاسُ الحقائق الثّابتة في عقلك البِكر، وانفجار آفاق جديدة، كان من المستحيلِ سبر أغوارها سابقًا. إنّك تُدرك أنّ انفصالا أكثر لا إنسانيّة بصدد الوقوع: الانفصال عن الجسم الاجتماعي: أنت رجلٌ قادمٌ من كوكب آخر.
يُقالُ الأمر بِسُرعةٍ، ولكنّهُ لا يُجسَّدُ بالسّرعة نفسها، لأنّ قلبك الكريم متجذّرٌ في ذلك الجسم القاسي الذي ليس بوسع أحد الانفصال عنه ما عدا الأنانيّين. وتتأمّلُ ضاحيتك القذرة بمزيد من الرّقّة، مُحمّلًا بالحبّ والتّفهّم. وتذهبُ يحدوك الفُضُول لمشاهدة ما يحدث وراء نافذة، حيثُ هناك دوما في مثل هذه السّاعةِ المُتأخّرة، شُعلةٌ عوراء تتمايلُ بلا كللٍ: إنّها غرفةٌ مطليّةٌ بالجير، يجلسُ فيها حول طاولة مجموعة من الشّباب، يقرأون ويتحدّثون ويشربون الشّاي.
لم تر حول طاولة إلى حدّ الآن، سوى رجالٍ ثمِلين يلعبون الورق. ولا تُريدُ تصديق نفسك. تطرق الباب. يستقبلونك بتحفّظ لطيف. أنظارٌ عارفةٌ تُفتّشُ أنظارك وهي تريدُ تصديق أنَّ هناك فوق الطّاولة، أعمال كوكبة العمالقة، الذين ينشرون إمبراطوريّتهم الواسعة.
إنّه هكذا، على نحو تامّ.
لا أرغبُ مُطلقا في هذه اللّحظة كِتابة أدب مروّع. إنّي أروي حياتي، وهي مقدّسة بالنّسبةِ لي. لقد عِشتُ كلّ اكتشافاتي، مثلما عِشتُ كلّ حالات الفراق، دافِعًا ثمنا غاليا مقابل هذه وتلك. كان عليّ ذلك. فمن حولي، يمدّ الجهلُ يده للقَمعِ، ليجعل الإنسان خَسيسًا، والأرض بلا جدوى. لأنّ الإنسان ليسَ خسِيسًا، يتمّ تحوِيلُه إلى خسيس عندما تُسرقُ منه حريّته، ويُسَمّرُ إلى حقلٍ لا يُغذّيه. ولا تفقدُ الأرضُ جدواها إلاّ عندما تُمنعون من حبّها، بمنعكم من معرفتِها.
كان هذا عرض العالم الذي فتحتُ فِيهِ عينيَّ. بدأتُ التمرّد عليهِ وَحيدا، وأنا أرحل. ولكنّ عِقابا صارما، سيدوم لعشرين عاما، بدأ يعذِّبُ قلبي: كانت المُعاناة التي سبّبتُها لأمّي برفضِي إِطاعةَ نظامٍ يُشوّه الحياة. من المستحيل أن نتفاهم، أكثر اختلافا من اللّغة المتبادلة بين لبوةٍ ونسر.
حاولتُ طوال سنواتٍ أن أشرح لمن وضعتني في هذا العالم، معنى التزامي التّامّ بالقضيّة النّبيلة المُدافعة عن أصدقائي في كوكبة العُظماء: الحُرّية والحقّ في معرفة الأرض وحُبّها والغذاءُ من عُصارة نباتاتها. تبدو أنّها تفهمني أحيانا، وتُوقفُ دُموعها وتبتسم ثمّ تُقبّلني. وعندما تراني مستعدّا للرّحيل فجأة من جديد، تمدّ ذراعيها الهزيلتين وتُريني يديها المُروّعتين:
لماذا إذن بقيتُ لثلاثين عاما منحنيةً بإرهاقٍ على ملابس الغسيل، إذا لم تكن تعيشُ سوى لقضيّتك، وليس لي على الإطلاق، أنا التي ربّيتك؟
ثمّ ترتمي على الأرض، وتُغلقُ عتبةَ بابي بجسدها.
انهضي يا أمّي، وإلاّ قفزتُ فوقك…
وقفزتُ فوقها، إلى أن أصبح جسدُها ذات يومٍ قبرا لا يقفز فوقه المسيحيّ.
والآن فإنّ القبر هناك، مُفجع، ومع ذلك فإنّ القضيّة الجميلة خاسرة.
نعم، إنّها خاسِرة هذه القضيّة التي اعتقدتُ بأنّها قضيّة أصدقائي من كوكبة العُظماءِ. لم يعد هناك عُظماء. ليس هناك سوى كائناتٍ بشريّة. وهنا، من الأفضل لي أن أسكت، حتّى لا أكون سيّئا. ولكنّي أستطيع على الأقلّ أن أخاتل خسارتي الخاصّة، من خلال تقييم سعيد للطريق التي قطعتها.
كلّ شيءٍ يصبّ في صالح الحياة البطوليّة، ولا سيّما الوهم. أرغبُ تقريبا بالقول أنّ البشر يصبحون أبطالا مدفوعين بقوّة الوهم. لقد كنتُ كذلك، ولم أعد الآن. سأصبح كذلك أيضا قبل أن أموت، إذا لم تُطوى مراحل من حياتي.
أجسّ اليوم بأصابعي ما كان منذُ ثلاثين سنةً مثل مشهدٍ قمريّ. أين الحقيقة؟ هل هي بين أصابعي أم في عقلي؟ علينا الحذر ممّن يرغب في أن يكون عمليّا. وحدها المشاهد القمريّة تمتلك حياةً كبيرة. وحده الحلم موجودٌ. وأكثر ما يهمّ هي رغباتنا. علينا الوُثوق بالحياة، بدل الارتقاءِ إلى مصاف المستحيل.
أمّا أنا، فقد أعطيت الحياةَ هذه الثّقة، وجازتني بشكلٍ كبير. لطالما كانت أيّامي محمّلة بالحبّ. لولاه، لمتّ منذ البداية. فذراعاي لم تُصنعا للمعاول، وعقلي لم يُصنع للهراء، ولا قلبي للجريمة، وبسببِ كلّ ذلك، فإنّ جُثّتي كانت ستنهار منذ مدّة طويلة، لو لم يكن الحبّ ركيزتها.
لقد أحببتكم يا أصدقائي، وأحببتكِ، أنتِ، أيّتها الأرضُ. وسوف أظلّ أحبّكم، بالرّغم من أنّه يحدث لي أن أقول لكم العكس أحيانا. ماذا عساي أفعلُ بحقّ الرّب! هل أكره أم أقتل؟ من سيُعاقبُ الأوّل؟ هل هو المَكْروهُ أم ذلك الذي يملكُ قلبا مليئا بالكراهية؟ الكراهية تقتلُ الأوّل مرّةً واحدة، فِيما تقتُلُ الثّاني كلّ يوم.
ثمّ، كيف بإمكاني التّخلّصُ اليومَ ممّا صَنع قوّة وجودي؟ ما دعمني في سنوات خدمتي المنزليّة، أو عندما كنت أنظِّفُ غرفا تعجّ بالحشرات الطّفيليّة، وأشيّد أعمدة التّلغراف وأكسِرُ الجليد على طُرُق سويسرا؟ فضلا عن تشغيلِ الآلاتِ الحافِرة في جنيف؟ أو بكلّ بساطة، عندما كنتُ أموت من الفاقةِ في كلّ مكان؟
ما الذي وطّن رأسي بالأحلام وقلبي بالرّغبات ما عدا الحبّ؟ مسكين من يأخذه على أنّه أسطورة: سوف تكون حياته استشهادا متواصِلا. وأمام هذا الاستشهاد، سيكون ما عاشه المسيحُ مجرّد قرصةِ بعوضة!
أمّا أنا فإنّي أشهدُ على حقيقته الرّائعة.
أمّا موادّه فلا تهمّ.
ما عدا واحدة: الحرّية!
إنّها الخير الأرضيّ الوحيد الذي يجبُ أن نُضحِّي بكلّ شيءٍ لأجله: المال والمجد والصحّة والحياة. وحتّى حريّة المرء الخاصّة. يا لها من ظاهرة مثيرة للفُضول: فبالرّغم من أنّها الخير الأكثر بساطةً وبدائيّة وطبيعيّة، من بين كلّ الخيرات الأخرى التي يمكننا التّمتّع بها على الأرض، يظلّ اكتساب الحرّية وحدها والحفاظ عليها، يتطلّبُ منّا أن نكون جاهزين في أيّ لحظة للموت أو السّجن.
ظاهرةٌ أخرى مُثيرة للفُضول: حتّى نُحافظ على الحرّية فهي تتطلّب منّا مساواةً في التّمتّع بها بين كلّ مواطنِي عصر ديمقراطيّ. فإمّا التّضامن الكونيّ حيالها وإمّا عبوديّة عامّة تقريبا. أيّ انشقاق من أيٍّ كان، وها هو الإنسان الجشِع يظهر، حاملا هراوة الدّكتاتوريّة. لقد عرفت كلّ هذا مؤخّرا. كنت أؤمن بامتِدادٍ كامل للحرّية، تحت دكتاتوريّةِ أرستقراطيّة القلب، خارجا من هذه البروليتاريا التي طالما تألّمت من نقصِ الحرّيّة.
لم أعد أصدّق هذا!
ولكنّ خيبة أملي تذهبُ أبعد من ذلك.
فبعدما فقدتُ إيماني في صرخة الثّائر المحترف، وانشققت على طبقتي، فإنّي مازلتُ أؤمن بأنّ في مقدوري خدمة قضيّة الحرّيّة، غارِفا قوّتِي الخارجيّة من أخوِيّتي. منذ غادرتُ “بالدوفينيستي”، كنت أعرفُ أنّ بإمكاننا في هذه الأخويّة مَزجَ صرخة الثّائر، بتلك التي يُطلقها الإنسان على الذّكاء الأعلى واللاّمبالاة التّامّة، متكبِّرا بشكلٍ نبيل ونقيّ ومقنعٍ باستحقاق على نحو مريع.
لقد كنت مقتنعا بحزم أنّ العُلماء والفلاسفة والكتّاب والفنّانين الذين يعظون النّاس بحبّ الحرّية، سوف ينهضون ضدّ الطّغيان، بكلّ التلّقائيّة والتّفاني وسرعة البديهة، التي تُثبِتها الجماعات الأكثر بساطةً، في فترات الخطر الاجتماعي الأكبر: اختناقُ الحرّية.
أرغبُ في أن يقول لي إنسانٌ نبيهٌ، أنّي كنتُ مجنونا بإيماني بهذا، وأن يشرح لي المهمّة الإنسانيّة للعلم والفلسفة والآداب، والفنون جميعها. هل جُعلت لتصنع مجموعة من الانتهازيّين، المتميّزين بالدّجل (…) نفسه الموجود في الأديان جميعها؟
أرغبُ في معرفةِ هذا بشدّة.
وأنا مثل راهبٍ شهوانيّ وغبيّ، أو كدابّة صاعدة من الهاويات الأرضيّة، أكثر عماء من حيوان الخُلد3 وأكثر صمما من مكنسةٍ، كنتُ أحصِي كرم البشر بذراعِ4 قلبِي، وأجد حسابي خاطئا. لأنّ حسابي هو حساب النّهر الذي يشربُ الغدران والوديان كي يعطي كلّ شيءٍ للبحر، نبع الحياة. وكم يؤلمني أن ألاحظ كم هم قليلون من يشبهونني!
لم أشكّ إطلاقًا في المساعدة التي يدينُ بها الفكر في جميع الأحوال، للإنسان المُلاحق من الطّغيان والجوع. أين هذه المُساعدة؟
لقد اعتقدتُ بأنّها ستصرخُ في وجهِي ذات يوم. كان ذلك عندما وصلتني رسالة غير متوقّعة لتسميتي عضوا في المعهد الدّولي للتّعاون الفكري من قبل جمعيّة الأمم5.
أخذتُ تعييني بجدّية في الحين:
سوف أتعاون! هناك الكثير من الأشياء أقوم بها. للأسف كنت غبيّا فقط. ولكن سوف يكفِّرُ قلبي عن كلّ شيء.
في ذلك اليوم، قطعتُ شارع “مونبونسييه”، وطأطأتُ رأسي أمام الواجهة ذات الحروف الذّهبيّة، وفكّرتُ في أمّي التي قتلتها:
نعم، يا أمّي الحبيبة. لقد متِّ من الحزن. ولكن ها هي تضحيتك لم تذهب سُدى. سوف أكون رجلا شريفا حتّى النّهاية، نافعا لأولئك الذين بقوا في قريتنا، وحتّى لمن خرجوا منها دون أن يصلوا لمدينة الأنوار تلك.
نطقتُ هذه العبارات ثمّ ارتكبتُ هفوة في الحين. فبما أنّ المعهد الجَليل، قد سمّاني عضوا في فرعه الآسيويّ، فقد طلب منّي معلوماتٍ عن أسباب اختفاء الصناعات التقليديّة والفنون الشّعبيّة في سوريا وآسيا الصُّغرى. أجبتُ دون تفكير:
الأمر سهل: أخرجوا من هذه البلدان الجنود والطّائرات الفرنسيّة التي تلقي القنابل على رؤوس الأهالي الآمنين، وسوف ترون كلّ الفنون المختفية، تُولد من جديد!
لم تعد تهمنّي على الإطلاق دعوتي مرّة أخرى لأشغال هذه “التّعاونيّة” النّبيلة.
وسواء أكانوا مهرّجِي فِكرٍ مُضجرين، أو عقولا عظيمة واعية، فإنّ المساعدة التي يجب أن يقدّمها الفكر الكونيّ غائبة تماما بالنّسبة إلى الفقير البسيط والتّائق للحرّية.
أفكّر في انحطاط العقل هذا، خاصّة عندما شاهدتُ في سجن “تريست”، أبرياء يُقادون جماعات. خرجتُ بعد ليلة قضّيتها في الإيقافِ، ولكن أين هي العقول السّامية التي تسهر في إيطاليا على مصائر الأبرياء، والفاشيّة الإيطاليّة تلتهمها التهاما؟ أين هي العقول نفسها، في أوروبا وكامل العالم، الساهرة على المصائر التي تُعِدّها الفاشيّة الرّوسيّة لأفضل الثّائرين في زمننا؟
إنّ كاتب قصص “المشرّدين” ومسرحيّة “الحضيض”، والعارف جيّدا بكلتا الفاشيّتين مُطلقا صرخاتِ فزعٍ سمعها العالم برمّته، “مكسيم غوركي”، هو أوّل من قدّم مِثالا في التّنازل عن المبادئ، متوَّجًا في موسكو ومُعترفا به في إيطاليا.
إنّ هذا هو عار الفكر.
أيّها البشرُ المحبّون للأرض، لم يعد أمامكم سوى دفنِ أنفسكم أحياء!
في الهاوية التي أوجد بها اليوم، قليلٌ من النّور يتسلّل. وكلّما وضّحتُ مشاعري، كلّما قلّ هذا النُّور. هذا ما أجده حتميّا!
ولهذا سوف أقاتل، وحيدا، مثلما قاتلتُ منذ البداية، وضدّ عائلتي الخاصّة أيضا، بهذا الفارق الوحيد فقط: في البداية كانت عائلتي عائلة البُسطاء الذين يرعبهم حارس مستنقعات. وهي اليوم عائلة العظماء الذين يشعلون النّور في العقول. ولكنّ لا مبالاة هذه وتلك أمام الجريمة هو نفسه: فإنسان قمّة الوجود يلتقِي بإنسانِ الهاوية في خوفه من خسارة ما يملكه: سمعةٌ ليست سوى وسيلة لتجعله يموت أكثر فأكثر في البؤس.
لست أمشي. لم أمشِ في حياتي مطلقا.
ولكن كي أقاتل، فإنّ عليّ أن أركض العالم برمّته. وكي أقوم بهذا، يجب أن يكون لديّ جواز سفر جيّد، في ظلّ هذا النّظام البوليسيّ الكونيّ.
أطلب هذا الجواز من الفرنسيّين.
أطلب من الفرنسيّين الجنسيّة الفرنسيّة.
أؤدّي القسم بأنّي سأكون مواطنا مثاليّا، مواطنا للتقاليد الفرنسيّة النّبيلة، كما عرّف بها الكبار في كلّ قُرى العالم: سوف أضع قلمي وحياتي في خدمة الحرّية، وسوف أناضل ضدّ كلّ لا مساواة، ومن أجل كلّ عدل. لن أحصّل أيّ ثروة ولن أذهب إلى الحرب سواء قام بها الفرنسيّون السيّئون أو أُقيمت ضدّهم، والسّبب هو التّالي: لا يجب أن يذهب إلى الحرب إلاّ أولئك الذين يعلنونها. ولكنّ الشعوب لا تعلن الحرب أبدا.
هكذا سيكون خطابي أمام الشّعوب التي سأزورها بجوازي الفرنسيّ.
إذا حدث ووقع إيقافي ورغبوا في منعي من النّزول في بلدان يحكمها رؤساء بربريّون، فإنّي سأطلب من فرنسا حمايتي. إنّها تعرفُ أنّ ثورتي نزيهة. لست أدافع عن أيّة حكومة، تماما مثل عمّال المصانع المناضلين ضدّ الاستغلال والعنف والحرب، الذين يُفشِل رؤساؤُهم الانتهازيّون مطالبهم العادلة.
يحدث أيضا أن أقول لـ “بلدي المُضيف” نفسه، كلّ الحقائق التي أقولها للبلدان القاتلة للبشر. وعلى فرنسا أن تقبلها وتستغلّها لمصلحتها. إنّها البلد الوحيد في العالم، في هذه اللّحظة، الذي يسمح لنا بقول كلّ الحقائق. أليس هذا دليلا على أنّ هناك فرنسيّين صالحين سوف يصوغون فرنسا الغد العادلة؟
أظنّ ذلك. وإن كان هناك من يكذّبني، فسوف أصرخ بهذا على كلّ الأسطح.
أعتقد بأنّ هذا خطابٌ واضح.
فلتقبلني فرنسا إذن كما أنا، ولتمنحني حمايتها.
إنّها تدين لي بهذا. لقد أعطيتها أفضل ما في ذاتي، دون أن أطلب منها شيئا.
ولكن لا يحقّ لقريتي أن تطلب منها اليوم، من أجلِ أشدِّ أبنائها حبّا للأرض، شيئا آخر سوى تابوت.
الهوامش
كاردينال إيطالي عاش في القرن السادس عشر.
جبل الجلجثة: أو الجلجثة، هضبةٌ تقع على طرفِ القدس، كان الرومان في العصور القديمة يصلبون عليها المحكومين بالإعدام.
حيوان الخُلد: أو الفأر الأعمى، حيوان من الثدييات يعيش على أكل الحشرات.
الذراع: وسيلة قياس قديمة يبلغ طولها مترا وثمانية عشر سنتمترا.
جمعية الأمم أو عصبة الأمم، هي منظمة دولية وقع تأسيسها بعد معاهدة فرساي سنة 1919 وتم حلّها سنة 1946. من مهامّها نزع السلاح ومناهضة الحروب، تحت شعار الأمن المشترك.