يلحظ المتابع لحركية الفكر العربي المعاصر، تنامي أحد وجوه هذا الفكر باتجاه دراسة الذات المجتمعية العربية،. وأبعد من ذلك باتجاه دراسة الذات الثقافية العربية تمهيدا لمحاكمة المثقف العربي. فمن اواسط عقد السبعينات، الى يومنا هذا، ونحن أمام فيض من الدراسات التي تتوسل التحليل النفسي كوسيلة معرفية لمعرفة الذات المجتمعية العربية، بهدف فك اسارها من قبضة الموروث السحري والخرافي والطلسمي والكراماتي وزيارات الأضرحة في محاولة للحاق بركاب العصر.
كان الاطار المرجعي الفكري الذي حكم الدراسات التي جعلت من الذات العربية موضوعا للتحليل النفسي يحتكم الى شعار ايديولوجي. روجت له الدراسات العربية بعد نكسة حزيران / يونيو 1967، ومفاده ان التخلف العربي بجميع وجوهه، يمكن رده الى التخلف الاجتماعي، بصورة أخرى الى سيادة القيم التقليدية العربية. كما عبر عن ذلك صراحة عبدالله القروي في "الايديولوجيا العربية المعاصرة، 1970"، وصادق جلال العظم (نقد الفكر الديني، 1969) وياسين الحافظ في "الهزيمة والايديولوجيا المهزومة، 1978 "، الى دراسات عديدة لا مجال لذكرها الآن، والتي روجت لهذه الاطروحة التي لاقت صدى بصورته لافتة للنظر.
مع بداية عقد السبعينات الذي شهد زخما مؤدلجا في الهجوم على القيم الاجتماعية العربية التقليدية، اصدرت دار الحقيقة في بيروت، والتي دشنت وجودها باصدار كتب القروي واشير الى "الايديولوجيا العربية المعاصرة، 1970" و "العرب والفكر التاريخي، 1973"، اصدرت هذه الدار اولى بواكيرها في دراسة الذات العربية، واشير الى الكتاب المشترك الذي حرره الدكتور ابراهيم بدران والدكتورة سلوى الخماش والموسوم بـ"دراسات في العقلية العربية؛ الخرافة" واعتبروه بمثابة الجزء الاول من دراسات لاحقة.
كان بدران وسلوى الخماش، على وعي بالمزالق التي يقود اليها التحليل النفسي والنتائج التي لا تحمد عقباها وما يستتبع ذلك من الانطلاق في مواقف سادية او شيزوفرونية تحصر الخرافة بالشعب العربي، لكن المقدمة التي وضعاها معا للكتاب، تكشف عن تفرد المجتمع العربي عن غيره في مجال الخرافة. يكتب المؤلفان التالي: نعتقد ان التركيب السياسي والاقتصادي والاجتماعي للمجتمع العربي بكل ما يتضمنه من ضغوط فكرية وسياسية، هذا التركيب بكامله حين تتغلغل فيه الخرافة وخاصة المستندة منها الى اصول الايديولوجيا الدينية، سواء كان هذا الاستناد حقيقيا او وهميا، يصبح تركيبا خاصا، ووضعيته منفردة يتميز بها المجتمع العربي عن غيره" ولا يكتفي المؤلفان بتسجيل هذه الحقيقة فقط، فهما يذهبان الى أبعد من ذلك عندما يسجلان تفشي الخرافة في اوساط المتعلمين العرب يقولان "أما بالنسبة للفئات المتعلمة، فان طريقة التفكير لديها لم تتغير جذريا عما كانت عليه قبل مئة عام بالكم والكيف الذي يتناسب مع المعلومات غير الخرافية التي استطاعت تحصيلها، وسنرى ان اعدادا كبيرة من المتعلمين والذين يشغلون مناصب قيادية في اجهزة الدولة مازال تفسيرهم وتعليلهم للاحداث بعيدا عن العلمية، وان الاساس الخرافي الذي اقيمت عليه البنية العلمية الحديثة في ذهنية المتعلم، مازال يؤثر بشكل فعال في رد فعل الفرد والمجتمع، وخاصة حين تمر البلاد او الفرد بمشاكل لم يكن يتوقعها، اي فترات الازمات، فيكون عندئذ على استعداد حتى لتصديق الخرافة التي يؤمن بها الفلاح البسيط. ان الازمات في المجتمع العربي، ومثال ذلك حرب عام 1948، 1967، 1973، تكشف أن هناك وحشا خرافيا متربصا في الذهن العربي على استعداد للانطلاق وهدم كل ما اقامته جامعات اكسفورد، وكاليفورنيا، ولندن وباريس وبرلين في ذهن المتعلم العربي".(1)
وفي بحثهما عن هذا الوحش الخواف المتربص في الذهن العربي والمتربع على عرشه يقوم المؤلفان برصد ظاهرة الكائنات الخفية من جن وعفاريت وظاهرة الاولياء والسحر والشعوذة ليقودانا الى النتيجة الاولية التالية «ان لجوء الجماهير الى مختلف أنواع الخرافات لعلاج الامراض الجسمانية والاجتماعية ومواجهة المشاكل الحياتية عموما على المستوى الفردي او الجماعي ما زال واسع الانتشار في البلاد العربية. وما زال الذهن الاجتماعي قادرا ومستعدا لتوليد الخرافات وترويجها، هروبا من التفسير العلمي للواقع، وجريا وراء المعجزة التي ينتظر حدوثها بين الحين والاخر».(2)
وبالرغم من ان المؤلفين قد قدما لنا وثائق اناسية (انثربولوجية) عن الخرافة وكافة مظاهر الشعوذة والسحر في المجتمع العربي، وقدما لنا النصائح باعتماد العلمنة والفكر العلمي لمواجهة الخرافة، الا انهما لم يكونا مزودين بأي منهج لدراسة الخرافة وانتشار الاساطير، وهذا ما دفعهما الى التضخيم، وذلك من خلال التأكيد على فرادة وتفرد المجتمع العربي في هذا المجال، مع ان الخرافة بمضمونها العرض كما يرى الفكر العربي وكذلك الاسطورة، تنتشران من أقصى الارض الى اقصاها، وهذا يعني ان علينا ان نتجاوز منهج الجمع والوصف والارشفة لنتساءل مع الاناسي الفرنسي كلود ليفي ستروس في "الاناسة البنيانية": اذا كان موضوع الاساطير والخرافات عرضيا فكيف نفسر انتشارهما من أقصى الارض الى اقصاها.(3) كذلك فقد قادهما غياب المنهج والمفاهيم الى عجز في الكشف عن السر، الذي يجعل الذهن العربى الاجتماعي "قادرا ومستعدا لتوليد الخرافات وترويجها"(4). وقد دفعهما هذا الغياب الى الارتماء في احضان النزعة العلموية (التي تدعي تفسير الواقع من منظور علمي) والتي من شأنها ادانة المجتمع العربي بدلا من قراءة دقيقة لواقعه، وهذا ما وقع فيه المؤلفان.
مع النصف الثاني من عقد السبعينات وبداية الثمانينات، نجد أنفسنا في مواجهة نزعة مباشرة تسعي الى تطبيق نتائج التحليل النفسي على الذات العربية وتقطع مع الاتجاه الوجل الذي ذهب اليه بدران وخماش في دراستهما عن العقلية الخرافية العربية. هذه النزعة جعلت هدفها ادراك سر التخلف الاجتماعي في جهة، ووضع اللبنات الاساسية لمدرسة التحليل النفسي للذات العربية. وجاء كتاب الدكتور مصطفى حجازي الذائع الصيت والموسوم بـ"التخلف الاجتماعي: مدخل الى سيكولوجية الانسان المقهور (بيروت، معهد الانماء العربي، 1981).
كان جوهر اطروحة حجازي يقول ان للتخلف وجها اجتماعيا وان كل اشكال التخلف الاخرى الاقتصادية والتكنولوجية، هي بدورها وليدة التخلف الاجتماعي وليست رديفة له. وان هذا التخلف الاجتماعي الذي يستفيض الباحث حجازي في شرحه، هو مسألة اساسية تمس معنى الانسان وقيمه وعلاقاته واوضاعه في البلدان العربية المتخلفة. وتتلخص هذه المسألة من وجهة نظره في ركنين اساسيين: الفن والاعتباط. قهر الحاكم للمحكوم ومن هنا العنوان الفرعي للكتاب (سيكولوجية الانسان المقهور) وليس "المتخلف" واعتباط الطبيعة والمتسلط.
كان تأكيد الدكتور حجازي على "سيكولوجية الانسان المقهور" يقتني منه ان يحضر معه ويستدعي كل العدة الفرويدية – نسبة الى سيجموند فرويد عالم النفس الشهير – وكان هذا الاستدعاء يقتني ان يسوق المهتمون بالتحليل النفسي للذات العربية، فرضية فرويد في كتابه الذائع الصيت والموسوم بـ"الطوطم والتابو" والتي اعتبرها كلود ليفي ستروس اسطورة فرويد من جهة وشاهدا على الكيفية التي ينتج بها المحللون النفسيون اساطير جديدة.(5)
ان جوهر اطروحة فرويد، يقوم على اسطورة فصلها جيدا في "الطوطم والتابو"، وجوهرها ان هناك جريمة قتل بدئية قام بها الاولاد المهددون بالخصاء من قبل أبيهم، مما دفعهم الى قتله، ثم قادتهم مشاعر الندم بعد ذلك الى تقديسه. وقد طبق فرويد فرضيته هذه في دراسة المسيحية ونشوئها، وفي دراسته لشخصية الرئيس الامريكي وودروولسون وخرج منها بنتائج تهم هذا النوع من الدراسات.(6)
أعود للقول ان استدعاء العدة الفرويدية من قبل الدكتور حجازي واستخدامها في فحص المجتمع العربي دفعا الى الصراخ (وجدتها، وجدتها) فقد اكتشف كل علل المجتمع العربي على الاطلاق وكذلك امراضه المزمنة، مما دفعه الى تفسير مشاكل هذا المجتمع على ضوء المازوشية والسادية، حيث لم تنفع تحذيرات الدكتور بدران والدكتورة الخماش وكما مر معناه وكان هذا التفسير يدفع باتجاه محوري يدور حول مفهوم الخصاء الفرويدي الملازم للانسان المقهور، وكذلك العصاب والذهان والهجاس والنفاس… الخ. يكتب الدكتور حجازي "ان سيكولوجية التخلف من الناحية الانسانية تبدو لنا على أنها، اساسا، سيكولوجية الانسان المقهور"(7) ويضيف "ان حياة الانسان المتخلف تنتظم في وحدة قابلة للفهم جدليا، وحدة لها تاريخها وسيرتها رغم ما يبدو عليها من سكون ظاهري، يسبقه تحكم التقليد وما يفرضه من جمود في المجتمع المتخلف.(8)
من هنا ينطلق الدكتور حجازي الى دراسة الملامح النفسية للوجود المتخلف وذلك عبر المنظور النفساني للتخلف والذي يستبعد الطرق العديدة في دراسة التخلف. فمن وجهة نظره ان المنطلقات التقنية والاقتصادية والاجتماعية، السطحية منها والدينامية اكدت على نوعية وتركيب البنى المتخلفة، ولكنها جميعا، فيما عدا اشارات عابرة قد اهملت البنى الفوقية (النفسية، العقلية،
القيم الموحيه للوجود) (9). وكذلك الخصائص النفسية للتخلف (القهر وعقد النقص والعار) يعود بعد ذلك المؤلف ليفرد صفحات عن "السيطرة الخرافية على المصير" مفردا الصفحات لدراسات تتناول السحر والاولياء والجن والعفاريت والشيطان… الخ.
ان التفسير السيكولوجي الذي يسوقه حجازي مضمر بالتشخيص والعلاج، فقد شخص حجازي المرض، مرض المجتمع العربي المصاب بالخصاء والمهدد بالعصاب. وذلك بناء على تطبيق آلي للمفاهيم الفرويدية على الواقع العربي ظل هو الآخر محكموها بنزعة ترمي الى فرض المفاهيم الفرويدية على الواقع العربي. اما العلاج فكان بمثابة نتيجة تقع على عاتق النخبة المثقفة التي تدربت في الغرب على قيم العقلانية والتحرر والتي من شأنها ان تكسر حدة "التقليد وما يفرضه من جمود في المجتمع المتخلف" وان تقود المجتمع الى عتبات التحضر وذلك على طريقة النموذج الغربي. وكان هذا التفسير منطويا على نزعة علموية تهدف الى الحجر على المجتمع العربي التقليدي والذي لم يعد مجتمعا يحوي الخرافة، بل تحول الى ذات خرافية، وهذا ما يثير استغراب بدران وخماش وحجازي.
من الحجر الى الادانة، كانت النتائج الأولية والمباشرة، التي قادنا اليها هؤلاء الباحثون، تسير بهذا الاتجاه وتغذي بنفس الوقت ايديولوجيا عربية معاصرة وفاشية معا تدعو علنا الى احراق جثة البجعة المحتضرة "المجتمع العربي التقليدي"، واعادة رسمه على غرار الغرب، يكتب باحث عربي من دعاة تطبيق الماركسية على الواقع العربي ما يلي: في كل مرحلة تحول من التاريخ، ثمة بجعة تحتضر، اشكال معنوية انسانية جميلة تموت، وفي ثنايا الاشكال نفسها، ثمة، ايضا، قصيدة شعرية، ما تزال خفية، مبثوثة، غير ظاهرة ولا مسموعة، فهي تحتاج الى شاعر، كي يستشعر مكنونها، ويلقط بوادرها، ويستلم اطيافها ويستجمع معانيها… هذا هو الماركسي العربي" (10) ويضيف اننا مطالبون بالسير في جنازة البجعة المحتضرة.. المجتمع العربي التقليدي، ثم الانعطاف الى مواكب شعراء المستقبل.(11)
عبر هذا الجو المؤدلج والذي ساد طيلة عقود السبعينات والثمانينات، كان الدكتور علي زيعور، يحث خطاه باتجاه تدشين مدرسة التحليل النفسي للذات العربية، وجاءت أولى بواكيره "التحليل النفسي للذات العربية، بيروت دار الطليعة، 1977"، وبالرغم من ان جهود علي زيعور قد سبقت ما قام به حجازي، الا ان توالي اصداراته التي تغذيها معرفة جيدة بالتراث العربي الاسلامي، في شقيه الشفاهي والمكتوب، جاءت لتغطي أواخر عقد السبعينات وكل عقد الثمانينات وحتى منتصف عقد التسعينات ويزخم قل نظيره، ويندرج بحق في اطار التأسيس لمدرسة عربية في التحليل النفسي للذات العربية.
كان مدخل الدكتور علي زيعور الى الذات العربية عبر اللاوعي الثقافي ولغة الجسد وانجراحات السلوك وقطاع البطولة والنرجسية والاساطير والاحلام والكرامات، يستند الى مفهوم اللاشعور عند فرويد، وكان هذا يعني ايضا استخدام مفاهيم الخصاء والعصاب والهاجس النفسي في تحليل الذات العربية والتي بدت جاهزة لتطبيق هذه المفاهيم، وبالاخص في مجال "قطاع البطولة والنرجسية للذات العربية" والتي اظهرت على حد تعبيره، كيف يتحكم الخوف في الخصاء او قلق الخصاء بالذات العربية (12) فالبطولة بكل تجلياتها وعبر مناهج التحليل النفسي تظل محكومة برؤية فرويدية للأب الكلي الذي يهدد اولاده بالخصاء (هو الحاكم او الطاغية ورجل السلطة عموما) الذي يتماهى به الاولاد ثم يثورون عليه لاحقا وينتهي الامر بقتله. وبالرغم من ان علي زيعور يجنح باتجاه اعتبار بعض الاوالويات الدفاعية التي تقوم بها النفس على انها اواليات صحية وسليمة، الا انه وباعتماده المنهج الفرويدي سوف يمهد الى ادانة المجتمع العربي، وكأن المجتمع العربي كارثة طبيعية وليس مجتمعا بشريا على حد تعبير برهان غليون في كتابه الموسوم بـ"مجتمع النخبة".
من محاكمة الذات المجتمعية الى محاكمة المثقف:
من الثقافة الشعبية الشفاهية كمرتع للخرافة كما قادتنا الى ذلك النتائج الاولية للتحليل النفسي، الى الثقافة العالمة على حد تعبير الجابري (اي المكتوبة). كانت انظار المحللين النفسيين العرب ترنو باتجاه الثقافة العالمة. كانت المحاولات الأولى تدخل في اطار الرصد والارشفة، فقد لاحظ ابراهيم بدران وسلوى الخماش في دراستهما عن العقلية العربية، هذا الميل الى الخرافة، ليس على صعيد الثقافة الشعبية الشفافية، بل على صعيد الثقافة العالمة، فالقارىء لروايات نجيب محفوظ يلحظ هذا الميل واضحا كما يرى المؤلفان والذي يمكن رصده في «خان الخليلي» و"بين القصرين" حيث نلمس ذلك الميل الى زيارة الاضرحة والقبور والاحتماء بها من شروع الايام وغارات الحلفاء اثناء الحرب العالمية الثانية. وكان هذا في وجهة نظرهما شاهدا على ان الثقافة
العالمة تنتج الخرافة ايضا؟(13)
مع بداية عقد الثمانينات، كان الفكر العربي، قد حول اهتمامه، من الوجودية الى الفرويدية، فقد ترجمت الاعمال الكاملة لسيجموند فرويد الى العربية، وقد صدرت معظم هذه الاعمال عن دار الطليعة البيروتية، وقام بترجمتها واحد من الماركسيين العرب الهواة واشير الى الباحث جورج طرابيشي، واقصد انه من خارج نادي ومدرسة التحليل النفسي. كانت الترجمات تبحث لنفسها عن مخارج ليبير ية ان جاز لنا استخدام لغة التحليل النفسي، بصورة أدق عن ميدان لتطبيق نتائج التحليلات الفرويدية وسرعان ما وجدت طريقها الى حقل الثقافة العالمة، لنقل الى حقل الرواية، وجاءت أولى البواكير ممثلة في دراسة جورج طرابيشي عن «عقدة اوديب في الرواية العربية». و«اوديب» كما هو معروف هو بطل تلك الاسطورة الاغريقية والتي ترجمها المسرح الاغريقي على يد يوربيدس وسوفوكل الى مسرحيات ذاعت شهرتها كما في «أوديب ملكا». وقد خضعت هذه الاسطورة الى تحليلات فرويد، وهي التحليلات التي بات ينظر اليها بشيء من الريبة والشك على يد علماء الاناسة (الانتربولوجيا) اللاحقين من ايفانز برتشارد الى كلود ليفي ستروس الى رينيه جيرار وذلك على سبيل المثال.
أعود للقول ان البحث في الثقافة العالمة عن مجال للتطبيق الألي للطروحات الفرويدية، دفع بالباحث جورج طرابيشي الى رصد هذا من خلال الرواية، وعلى سبيل المثال فقد وجد ان جميع عناصر الفعل الاوديبي، من قتل ونكاح للمحارم تتوافر في رواية «السراب» لنجيب محفوظ، فبطلها «كامل رؤبة لاظ» هو التجسيد الحي لعقدة الخصاء والرغبات المكبوتة المحرمة. والتي يمكن متابعتها في اعمال روائية عديدة، في «الحي اللاتيني» لسهيل ادريس الى "موسم الهجرة الى الشمال" للطيب صالح والتي تفصح عن عقدة الخصاء تجاه الغرب المهيمن.(14)
كانت هذه النزعة الى تطبق النتائج الفرويدية متعدية الى مفعولين، بمعنى انها لا تريد أن تكتفي بتطبيق الفرويدية على حقل الادب، بل تطمح الى ان تمتد الى حقل ومجال الخطاب العربي المعاصر. وقد اقتضى ذلك شيئا من التريث والانتظار، ولكن هذا لم يطل، فقد لاحت في الافق بوادر التحول، وجاءت بوادر هذا التحول على يد الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه الموسوم بـ" الخطاب العربي المعاصر، 1982". كانت تساؤلات الجابري قلقة بشأن تلك البطانة الوجدانية، التي تجعل الخطاب العربي المعاصر في «النهضة» أو «الثورة» خطابا متوترا، يتميز بما يتميز به كل خطاب يقوده الانفعال والعاطفة، وقد لاحظ الجابري انه كلما اشتدت على عرب اليوم وطأة الواقع المرفوض من قبلهم، كان هروبهم الى الامام اشد واعنف، ويجد تعبيره هذا في تضخم طموحهم النهضوي بازدياد وتضخم وقع الحاضر عليهم.
هذا الهروب الى الامام من قبل عرب اليوم، دفع الجابري الى القول: يبدو ان معطيات علم النفس، والتحليل النفسي بكيفية خاصة، تجد ما يزكيها في سلوك العرب الفكـري ازاء مشروع النهضة". (15)
كانت مقولة الجابري ذات منحى انطباعي، ويبدو انه قالها والمرارة تملأ فمه وهو يلمح ظاهرة الهروب الى الامام، الا انه لم يندفع الى تخوم نظريات التحليل النفسي ليبحث عن السر وليطبقها على الخطاب العربي الحديث والمعاصر. ولكن هذه المقولة لم تذهب ادراج الرياح، فقد تلقفها جورج طرابيشي، وبدأ العمل عليها وهو الذي يملك كل الحوافز والاستعدادات، وسرعان ما ظهرت النتيجة مع بداية عقد التسعينات في العمل الكبير والموسوم بـ"المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي، بيروت دار الريس، 1991".
في هذا الكتاب قام الباحث طرابيشي باحضار لحل عدته الطبية، لنقل كل عناصر الفعل الاوديبي ليطبقها على حقل الثقافة العربية العالمة. منذ البداية يميز طرابيشي بين مفهوم الصدمة ومفهوم الرضة، بين صدمة اللقاء مع الغرب وتحت وطأة مدافع نابليون، والتي كان لها مفعول صحي في وجهة النظر النفسية، على حد تعبيره، اذ استدقت الوعي الجمعي الى تمثل الضرورة التاريخية للتغيير، ومن هنا كان للصدمة مفعول ايقاظي وتنبيهي لانها تستدعي الشعور في حين ان الرضة تستنفر اللاشعور ومن هنا يأتي الفارق، فما كان مع الصدمة مهمازا، يستحيل مع الرضة لجاما. يمسي الاحتماء بالمرض على حد تعبيره هو الدريئة المثلى. هكذا تقود الرضة الى تدمير الوعي والوعي المدمر هو الشكل الرئيسي لتظاهرة العصاب الجماعي (العصاب لاحق على الرضة وعقبي لها). وهنا يتساءل طرابيشي عن تاريخ الحالة المرضية العربية التي اهملها الجابري والتي كان لها مفعول الرضة، وهي التي أمرضت الوعي العربي وخطابه معا، او على الاقل هي التي اتاحت المناخ النفسي الملائم لجرثومة المرض الثاوية في الوعي العربي لتنمو وتتطور ولتحطم دفاعات الصحة وتجعلها فريسة مستباحة لحفزات اللاشعور وتياراته التحتية الجارفة.
يعاود طرابيشي التساؤل بعد ترتيب المعادلة الأيتيولوجية (التفسيرية) للرضة الحزيرانية: لماذا كان لهزيمة حزيران / يونيو 1967 وحدها، دون سائر الهزائم العربية في الحروب مع اسرائيل وقع الرضة ومفعول الرضة. ومن وجهة نظره أن الحل يكمن في "تمديد الخطاب العربي المعاصر على سرير التحليل النفسي" و"التزامنا من الناحية المنهجية بدليل عمل فرويدي النسب" وان كان هذا لا يمنع من الانفتاح على التأويل اليونغي (نسبة الى عالم النفس كاول جوستاف يونغ صاحب فرضية اللاشعور الجمعي)، وعلى التأويل الذي طوره جيرار ماندل وغيره من رواد المدرسة ما بعد الفرويدية.(16) أعود للقول انه اذا كانت الصدمة تستدعي الوعي والشعور، فان الرضة الحزيرانية تستدعي اللاشعور، واللغة الاثيرة عند اللاشعور كما يرى طرابيشي هي الرمزية الجنسية، وهنا يبدأ طرابيشي في البحث عن مفردات هذه الرمزية في الخطاب العربي المعاصر، ليعثر عليها في اسرائيل الغاصبة وفلسطين المغتصبة، فاسرائيل هي الخنجر وهي الاسفين، بحيث تظهر اسرائيل بماهيتها الانثوية وتعضيتها المذكرة على انها التجسيد الحي لتلك الصورة الاستيهامية الثاوية في قرارة اللاشعور الفردي والجمعي معا. فقد خصت اسرائيل الاب (الرئيس جمال عبدالناصر) وقتلته، ولم يعد أمام الابناء في مواجهة عضوها التكنولوجي على حد تعبيره سوى أن يلوذوا بحمى أب أكثر تجذرا في الاستمرارية وأكثر ثباتا في ليل العصور، الى التراث بوصفه الأب الرمزي الحامي. وهنا يبدأ طرابيشي الذي أغوته تمارينه في مجال التحليل النفسي الفرويدي بمحاكمة لها طابع سادي لمعظم المثقفين العرب الذين تكلموا عن التراث او قالوا فيه، من طارق البشري الى برهان غليون الى محمد عابد الجابري الى منير شفيق وانور عبدالملك، الى قائمة طويلة يضعها طرابيشي في قاعة المحاكمة والتأديب، بالاصح على سرير التحليل النفسي ليثبت نكوصها واصابتها بالرضة والعصاب ونيبدأ بالبحث عن مخارجها الليبيرية من خلال عقدة اوديب المتحكمة في رقاب الخطاب العربي المعاصر وبالأخص عند حسن حنفي، الذي يرشحه طرابيشي من خلال مؤلفه الضخم «من العقيدة الى الثورة» باجزائه الخمسة، وبالاخص كتابه الموسوم «التراث والتجديد» لكونه نموذجا للاضطراب والتناقض والنكوص والعصاب والهذاء.(17)
هكذا يقودنا طرابيشي الى قاعة وسرير التحليل النفسي والتي هي أشبه بقاعة لمحاكمة وتأديب كل من تسول له نفسه بالحديث ولو بالاشارة عن التراث وهذه وكما أسلفنا احد مزالق التحليل النفسي التي ينزلق اليها طرابيشي باللاشعور منه وبذلك يقع في نفس الفخ.
بحسب فرويد في "الطوطم والتابو" فان الابناء وهم هنا المثقفون العرب المربوطون بحبل سري مع التراث / الاب، سوف يذبحون أباهم وهو هنا التراث. لذلك ليس غريبا ان يعنون طرابيشي كتابه اللاحق بـ«مذبحة التراث، بيروت، دار الساقي 1993»، ولكنه وبدلا من ذبح التراث يقوم طرابيشي مرة أخرى بذبح المثقفين العرب، من زكي نجيب محمود الى الجابري. هكذا يتكشف عقد التسعينات هذا عن نزعة خفية وعلنية في آن، تهدف الى محاكمة المثقف العربي والحجر عليه وتضميخ نصب الخطاب العربي المعاصر بدمه ؟ فما هو السر يا ترى؟ هذا ما يجب أن يتوجه اليه النقد والبحث بهدف الكشف عن النزعة التدميرية في خطابنا النقدي المعاصر؟
الهوامش
(1) ابراهيم بدران وسلوى الخماش، دراسات في العقلية العربية: الخرافة، ص 20.
(2) المصدر نفسه، ص 208.
(3) كلود ليفي ستروس، الاناسة اللبنانية، ص 306.
(4) بدران والخماش، المصدر السابق، ص 20.
(5) ستروس، المصدر السابق، ص 238.
(6) سيجموند فرويد، الطوطم والتابو ترجمة بوعلي ياسين (اللاذقية، دار الحوار، 1983) وقام جورج طرابيشي ايضا بترجمة الكتاب وصدر عن دار الطليعة في بيروت.
(7) مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي، ص 8.
(8) المصدر نفسه، ص 8.
(9) المصدر نفسه، ص 29.
(10) احسان مراش، مدخل الى تطبيق الماركسية في الواقع العربي، ص 31.
(11) المصدر نفسه، ص 80.
(12) علي زيعور، قطاع البطولة والنرجسية للذات العربية.
(13) بدران والخماش، مصدر سبق ذكره، ص38.
(14) جورج طرابيشي، شرق وغرب، رجولة وانوثة، ص 78، وص 142 وما بعد.
(15) محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر، ص 19.
(16) جورج طرابيشى، المثقفون العرب والتراث، ص 9.
(17) المصدر نفسه، الصفحات 9 و31 ومابعد و274.
مصادر الدراسة:
(1) ابراهيم بدران وسلوى الخماش، دراسات في العقلية العربية (بيروت. دار الحقيقة،1974).
(2) جورج طرابيشي أ- المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي (بيروت، دار الريس، 1991) ب- مذبحة التراث (بيروت، دار الساقي، 1993).
(3) عبدالله القروي أ- الايديولوجيا العربية المعاصرة (بيروت، دار الحقيقة، 1970).
ب- العرب والفكر التاريخي (بيروت، دار الحقيقة، 1973).
(4) علي زيعور أ- قطاع البطولة والنرجسية في الذات العربية (بيروت، دار الطليعة، 1982).
ب- الكرامة الصوفية والاسطورة والحلم (بيروت، دار الطليعة، 1977.
ج- اللاوعي الثقافي ولغة الجسد والتواصل غير اللفظي في الذات العربية (بيروت، دار الطليعة، 1991).
(5) سيجموند فرويد، الطوطم والتابو، ترجمة بوعلي ياسين (اللاذقية، دار الحوار، 1983).
(6) كلود ليفي ستروس، الاناسة البنيانية، ترجمة حسن قبيسي (بيروت، المركز الثقافي العربي، 1995).
(7) تركي علي الربيعو، العنف والمقدس والجنس في الميثولوجيا الاسلامية (بيروت، المركز الثقافي العربي، 1995).
(8) مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي: مدخل الى سيكولوجية الانسان المقهور (بيروت، معهد الانماء العربي، 1982).
(9) محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر (بيروت، دار الطليعة، 1982).
(10) ياسين الحافظ، الهزيمة والايديولوجيا المهزومة (بيروت، دار الطليعة، 1978).