أعوام تتلوها أعوام , وتبقى الأولى في دائرة الحنين, هكذا تصنف حلقة الذكريات مع مجلة نزوى الثقافية الفصلية, التي أنهت عامها (العشرين) بعددها (81). منذ البدء في العمل بالمجلة, حينها كانت عند العدد 24, مع الشاعر سيف الرحبي, لذلك كانت من إحدى الخطوات المهمة في مسار العمل, حيث المشهد الثقافي العماني والعربي عن كثب, ومراقبة تحولات النص الأدبي العماني والعربي في صيغه الفنية كتابة ونقدا، لذلك فإن شهادتي غالبا ما تكون مجروحة, لما حققته المجلة من أهمية ودور في التعريف بثقافة الكاتب العماني عربيا وعالميا, من خلال متابعة الآخر لها وترجمة بعض المنشور في صفحاتها , فقد كانت ولا تزال قبلة المستشرقين والمهتمين بالأدب العربي. مع أول عدد أشارك العمل به تحريريا هو ملف عن الكتابة الأدبية العمانية, متضمنا جيلا حيويا مهتما في إبراز مادته الأدبية وحريصا على نشرها في مكان يليق به كمجلة نزوى، حيث إنها من أبرز المجلات العربية على الإطلاق على النحو الدائم، وتمثّل مكسبا ثقافيا للكاتب العماني سواء على المستوى الأكاديمي المنهجي أو الموضوعي في صنوف الأدب المتعددة كالشعر بشقيه الكلاسيكي والحديث والقصة القصيرة والرواية والفن التشكيلي، والتصوير والموسيقى وغيرها. تلك التجربة, ثراؤها المعرفي والمكمل للدور الأصيل الذي حرصت عليه منذ عددها الأول والتي تابعنا محتواها عددا بعد عدد, ولكن أن تتلمس ذلك عن قرب مع الأصدقاء الشاعر سيف الرحبي والشاعر طالب المعمري تحريرا والزميل خلف العبري إخراجا، هو إضافة مذاق خاص بنكهة التعايش الخلّاق في بيئة العمل الاحترافي, والتي لم تستوعبها فقط ساعات العمل الرسمي بل أبعد من ذلك حيث شملت التفكير والمتابعة الدؤوبة في الأوقات الأخرى من الحياة، لما يسكنها من تواصل حميمي مع الكاتب العماني في المقهى واللقاء العابر حرصا من المجلة على مشاركة أكبر قدر من المثقفين العمانيين ليضعوا بصمة إبداعهم ونتاجهم الفني والمعرفي.
تأسست مجلة نزوى في أهم مرحلة ثقافية وإبداعية في السلطنة, حينها بدأ جيل من الخريجين يتناسلون من جامعة السلطان قابوس والكليات المختلفة أو فلنقل بمعنى آخر مرحلة النضوج المعرفي للجيل الجديد المنفتح على عالم الثقافة الحديثة، وترجمة الأعمال الكلاسيكية عبر قراءات مختلفة لشتات الأدب العماني الغابر، فكان لنخبة من الجيل الأكاديمي دور مهم في إيجاد متنفس رصين ومتكامل بين طيات المجلة ومع الشاعر سيف الرحبي الذي كان يمثل طليعة المثقفين العمانيين المحدثّين للأدب عربيا عبر تجربته الشعرية وسنوات من الاغتراب في أصقاع الأرض ومتون الثقافة.
كأي عمل خلّاق لم تنج من منغصات اجتماعية وفكرية مشوبة بعدم تقبل الثقافة الحديثة، بالإضافة إلى الصعوبات الإدارية البعيدة كل البعد عما تقوم به المجلة، ولكن الإصرار نحو الاستمرار وإثبات أهميتها كونت قاعدة متينة توازي ثقلها وقيمتها، واستمرت السفينة في الإبحار والعطاء بمكابرة وثبات حتى أصبحت تلك المنغصات هوامش وإرهاصات، ناتجة عن جهل الآخر، ساعدها على النجاح وما نراه اليوم هو اكتمال لرسالة المجلة في دورها لاستخراج المكنون من أصالة ومعاصرة الثقافة العمانية خصوصا والعربية عموما.
منذ العدد الأول للمجلة ساعدت على صقل المواهب العمانية الشابّة في الشعر والقصة والترجمة والفن التشكيلي وغيرها من صنوف الأدب والفكر دون ممايزة، كلها جنبا إلى جنب، وحيث ان الاتجاه المرحلي للأدب العربي في التحول من الكلاسيكية السطحية الجزلة، نحو الأعماق في الصيغة الفنية المتخيلة، واكبت المجلة هذه الغاية مع قريناتها من المجلات الإبداعية في تلك الفترة، حيث غاب بعضها عن الحياة الثقافية في حين استمر متذبذبا البعض الآخر بين الظهور والغياب، وأصبح لنزوى بصمودها حضورا قويا وذاع صيتها في المحافل الثقافية في كل العواصم العربية والأطراف الأخرى من العالم, نموذجا متميزا لا طارئا. كان الصقل ظاهرا وملموسا في التجارب الإبداعية، حيث الانتقال من الواقع البيئي القروي وسرد الوقائع بالصيغة الأولى للكتابة الإبداعية، لتتحول عبر التراكمات نحو هموم وواقع الإنسان العماني المتغير نحو انفتاحه للآخر، إضافة إلى التطور في البناء الفني والصيغة المتخيلة، فتلك الأعمال النثرية التي نشرت متفرقة في سلسلة أعداد المجلة، شاهدة على تطور الكتابة الإبداعية عند المثقف العماني التي تبلورت بعد ذلك في أعمال وكتب نثرية، وأيضا لاحظنا عن قرب بعض الاهتمامات الشعرية المتأثرة نمطيا لشعراء بعينهم من أمثال السيّاب ودرويش والماغوط وغيرهم، وذلك في موادهم المنشورة ببداياتها الأولى ، حتى خرجت عن عباءة التأثر نحو ساحات الشعر الفسيحة وتشكّل التجربة الفردية، كل ذلك في طيّات صفحات المجلة، التي كانت بقدر حرصها وعدم تنازلها بأهمية القيمة الفنية للعمل الأدبي، إلا أنها كانت ولا تزال شديدة الإدراك بضرورة مشاركة النص العماني الواعد من أجل صقل الموهبة نشرا بعد آخر حتى النضج ، وحوّلت مقبرة الكاتب في أدراج مكتبه وصفحاته الخبيئة إلى السطوع المتجوّل في حديقة المجلة وتحت ظلالها.
في خضمّ التواصل الأخلاقي بين إدارة التحرير مع الكتّاب العمانيين تشكّلت لحمة التعاون، حيث ان المجلة تأسست على مبدأ المشاركة والأخذ بالآراء البناءة نحو تطويرها، وكما للإطراء حضوره الكبير بين الأوساط الثقافية، أيضا للملاحظات دورها في التصويب والتطوير، حيث إن المجلة فتحت أبواب المشاركة في طرح الآراء وخصوصا من قبل أصحاب الخبرة العلمية والعملية، فهي تؤخذ بعين الاعتبار طالما أنها تخدم المجلة نحو تحقيق هدفها والذي يعبّر عن دورها النبيل.
إن للمجلة دورا رئيسيا في رصد الثقافة العمانية, فالمتابع عن كثب واستمرار لأعداد المجلة يجد ذلك واضحا وأن هذا الزخم المعرفي في غالبيته نبع من رحم المجلة, ولم تقف عند التجربة الحديثة فحسب بل ذهبت ابعد من ذلك من خلال النبش في الإرث المعرفي وكلاسيكيات الأدب العماني وتاريخه العريق، حيث أن هناك نخبة من الأكاديميين والباحثين اهتموا عبر قراءاتهم بالمخزون المعرفي الذي خلّفه الأسلاف في مختلف العلوم والآداب من أمهات الكتب، كما أن لترجمة العلوم المتعلقة بالدولة العمانية قديما وحديثا، دورا في تعريف القارئ العماني كنوز تراثه عبر أجياله المتعاقبة، بينما كشفت للمثقف العربي الدور الذي لعبته عمان قديما وحديثا، كل ذلك والمجلة ماضية في نشر كل ما يتعلق بثقافة الأسلاف.
أيضا تعتبر تجربة إصدار «كتاب نزوى» من أهم المشاريع التي أبرزت دور المجلة في الاهتمام بالمبدع العماني، وهي أول مؤسسة نشر داخل السلطنة تعنى بنشر الأعمال الأدبية والفكرية العمانية، والتي تتزامن مع صدور أعداد المجلة.
إن ثراء التجربة بالعمل في مجلة نزوى لها أهميتها القصوى في إبراز الثقافة العمانية, يجب الحرص على دعم هذا المشروع كونه يختزل حاضر الوسط الثقافي، بالإضافة إلى كونه نافذة للعالم الخارجي ومنه أيضا, فكل التقدير للقائمين عليه.
———————–
يحيى الناعبي