استبشرت الثقافة العمانية في النصف الأول من تسعينيات القرن المنصرم بميلاد « نزوى» الثقافية ، هذه القلعة الحصينة الراسية الشبيهة بمثيلتها في الواقع والحقيقة بل في التجذر والامتداد ,أعني قلعة نزوى الشهباء وحصنها الحصين برمزيته العميقة الراسخة في تاريخ الوطن … استبشرت هذه الثقافة وهي في طور التشكل – وفق المفهوم الجديد لخطاب الكلمة والإبداع – بحضور «نزوى» مجلة ثقافية رصينة واضحة الأهداف , بينة المعالم , متطلعة إلى الفكر الحر القائم على المنهج , والرؤية , والتحليل , والمراهنة على الكوادر البشرية المخلصة والطاقات المبدعة الخلاقة , عضد كل ذلك تراسل في المبنى والمعنى , وأفق سامق حد الأفق في التطلع إلى تحقيق الرؤية الإصلاحية والاحتفاء بالمنجز الوطني الخالد .
منذ ذلك الاجتماع التأسيسي الفاصل بين مرحلتين والذي عقد في نادي الصحافة في منتصف فبراير من عام 1994م برئاسة وزير الإعلام السابق ( معالي عبدالعزيز الروّاس ) , كان المطلب ملحّا نحو تغيير مشهد الثقافة العماني وإيجاد توازن للخطاب على الأقل بين طرفيه التقليدي السائد – القائم على ثقافة المتون الفقهية والنحوية والتاريخ والشعر الموزون المقفى الذي تهتز له العمائم واللحى – وبين ذلك النمط الحديث الذي أخذ يساير مستجدات العصر ويحرك سواكن النفس بأسئلة حية تناسب واقع حال الحياة الجديدة وحراكها المتسارع .
وعليه شنف المجتمعون آذانهم نحو ذلك المطلب وشرعوا في التفكير بمشروع حضاري كانت مجلة « نزوى « أهم محصلاته , وفعلا التقت الإبداعات على أبواب هذه المجلة الغراء وتعايشت الأجناس الثقافية فيها وانصهرت في بوتقة الإبداع المتناهي ,والتقى الفنانون والقصاصون والروائيون بالشعراء والمؤرخين والفلاسفة والتشكيليين , وكان لقاؤهم حميميا , اتسم بحمل رسالة الإصلاح والتنوير , ومد الخيوط تجاه المجتمع العماني أولا ثم العربي فالعالمي ثانيا , ولعل هذه الرسالة تتكئ على مرجعيات حضارية قديمة , فقد حمل مثل هذه الرسالة أسلافهم وأجدادهم الميامين , وكانت نتيجة حملهم صدور أكثر من اثنتي عشرة صحيفة في المهجر الإفريقي , وأكثر من ثمانين صحيفة ومجلة في الوطن الأم لعل أهمها : « الثقافة الجديدة , و« السراج , و«الغدير» وملاحق عمان والوطن وغيرها .
منذ ذلك الاجتماع – إذن – ومطلب التغيير بات ملحّا , فقد كان المثقفون بكافة أطيافهم وانتماءاتهم يؤكدون عليه ويضعونه مطلبا جوهريا قارا في منظومة تفكيرهم, ولعل وعي المؤسسة الرسمية عزز الاستجابة السريعة فصدرت نزوى وعيّن لها اسم كبير , وقامة سامقة في فضاء الثقافة العربية , فأصبح الحلم حقيقة منذ نوفمبر من عام 1995م.
استقت «نزوى» حضورها من منابع أصيلة وكوادر مرموقة ضمنت لها الاستمرارية والبقاء , وأهمها :
منبع رئيس التحرير الشاعر المبدع والمثقف الكبير الأستاذ سيف الرحبي , ومكانته وعلاقاته الواسعة بالمثقفين وأقطاب الحراك الثقافي في الوطن العربي , فعزز بقاءها وضمن إيصالها إلى أصقاع بعيدة في فضاءات المعمورة ,فاقترن اسمها باسمه وكأنهما توأما الروح .
منبع الثقافة العمانية الأصيلة أبدا , فصدور نزوى من أرض عمان له أكثر من دلالة ,لعل أهمها الخصب والعطاء , فأرض عمان ولادة تنتج الثمر الطيب , ويفوح شذاها لدى كل بعيد , ولهذا ترى أن أبواب نزوى ظلت مشرعة على أكثر من موضوع ؛ من التراث إلى الحضارة إلى الأعلام إلى الظواهر إلى الاتجاهات, إلى السير إلى غيرها , ويستوي ذلك في خطابها المقدم من عمان الأم الوطن والانسان إلى الشرق الإفريقي إذ مدّ العمانيون جسور إمبراطورتيهم الخالدة كما هو معروف ومتحقق , فتجد في نزوى قصائد ومقاطع أبي مسلم وعبدالله الخليلي وعبدالله الطائي وعبدالرحمن الريامي وخالد بن هلال الرحبي وأبي سرور , وهلال بن بدر وخلفان بن جميّل بجانب نصوص الأجيال المتعاقبة من شعراء القصيدة الجديدة , ويستوي ذلك في الإنتاج الشعري العربي والعالمي , فكلها عرفت في نزوى طريقا .
منبع الجدة والمغايرة ومخالفة السائد والمألوف , فنزوى اتجهت نحو مفهوم جديد مستثمرة الإنتاج الرفيع للثقافة العمانية في كافة مراحلها وأطوارها , وهي ثقافة متنوعة لاشك , ولها مقوماتها في البقاء والخلود بما قدمته من أسماء لامعة في حقول الأدب والفن والحياة , ولعل هذه السمة قد لا تتوافر لمجلة غير نزوى .
منبع القيمة العلمية للمادة المنشورة , فنزوى تسعى دائما إلى تنوع مادتها وتقدم في ذلك المميز والمبتكر ولا سيما في العلوم الإنسانية والفنون , لذا تجد فيها الدراسات النقدية والمقالات الفلسفية بجانب اللوحات التشكيلية, والدراسات الموسيقية والأثرية وقصائد الشعر والمقامات والقصص القصيرة ومطالع الروايات ؛ ومما زان هذه القيمة وزادها تألقا مقدمات رئيس التحرير وافتتاحياته , فهي بمثابة فاتحة نزوى الجميلة , ولسانها العذب الرقراق المتدفق بلا حدود لتستقبل نزوى من خلالها القارئ بسحر الكلمة وجمال العبارة وعمق الفكرة .. كيف لا وكاتبها شاعر مبدع أوتي موهبة البيان فتربع على قمته .
منبع استقطابها للأقلام العربية الرائدة من شعراء ومفكرين وفنانين , فأسماء من مثل صلاح فضل وأدونيس وجابر عصفور ومحمد لطفي اليوسفي وقاسم حداد وخليل الشيخ وغيرهم تمنح المجلة امتيازا كبيرا , لبت من خلاله نزوى شغف القارئ وجعلته ينشدّ إليها , وينتظر أوقات صدورها بكل شوق .
منبع القراء العرب الذين ساندوها وتابعوها , وأصبحت تتوالى لهم كزاد معرفي له مذاقه الخاص , وطعمه المميز , حتى باتت سفيرة للثقافة العمانية بلا منازع, يستوي ذلك لك وأنت القادم من عمان والراحل عنها بعيدا ,فأول أسئلة يتبدى لمن يلقاك من المثقفين والقراء عن نزوى وسيف الرحبي , وقد خبرنا ذلك إبان إقامتنا في تونس وفي مجمل زياراتنا إلى المغرب الأقصى وموريتانيا واليمن و( بلدان العالي) وغيرها من دول الأطراف ناهيك عن دول المراكز التي حظي قراؤها بحب نزوى واقتنائها والكتابة عنها ووصل الأمر بهم إلى مناقشتها في نواديهم وجمعياتهم و«صالوناتهم» الأدبية .
منبع القائمين عليها باختيار موفق من رئيس التحرير ومباركة منه , فلقد عمل في نزوى خيرة المثقفين العمانيين والعرب من أمثال الشاعر المبدع الأستاذ طالب المعمري الذي كان له باع طويل في نزوى كيانا ورؤية , كما أسهم في تحريرها مثقفون ومبدعون , من بينهم : أشرف أبو اليزيد , ويحيى الناعبي , وهدى حمد , وهؤلاء كلهم يتسمون بالوعي الثقافي , وبالذائقة الجديدة , وبالاطلاع العميق على مجريات التجارب الإبداعية والفكرية المتعددة .
منبع المؤسسة الرسمية , فقد اتسمت هذه المؤسسة بالمرونة والمساندة , فصدور نزوى منها زاد من قيمتها المعنوية , وجعلها مسوغا لكثير من القراء الذين يحبذون مثل هذا التوجه , إضافة إلى أن هذه المؤسسة ساندت نزوى ماديا ومعنويا , وضمنت لها البقاء والاستمرارية في وقت وقعت فيه بعض المجلات الثقافية العربية في فخ العوز المادي فانتهت بلا رجعة , فهذه المؤسسة جعلت من نزوى مستمرة موازية لكافة الصحف والمجلات كمجلة «التسامح» وقبلها «عمان» بملحقها الثقافي الذي أسهم في تطوير الثقافة الجديدة منذ أوائل الثمانينيات بجهود قادها كتاب ومحررون أكفاء من مثل : محمد اليحيائي وأحمد الفلاحي ومحمد الحارثي وعيسى الطائي ومحمد الحضرمي ومسعود الحمداني ومحمد الرحبي وغيرهم .
منبع البيئة الثقافية العربية والخليجية , فلقد صدرت نزوى متوافقة مع مجلة «كلمات» البحرينية , و« البيان» الكويتية أو «دبي الثقافية» , وظل المثقف العربي يحوم حول حمى هذه المؤسسات الصحفية فينشر فيها خاصة أنها تمازجت بعضها ببعض وتعالقت وطالبت بخطاب جديد , فتعززت المؤسسات بعضها ببعض وتلاحمت وأصبحت لسانا واحدا نحو التجديد والإصلاح والتنوير .
منبع الكتاب الدوري لنزوى , فنزوى المجلة غذت مشروعها الكبير بإصدار كتابها الدوري شأنها في ذلك شأن أية مجلة ناجحة ومؤثرة , فقدمت للثقافة العربية فخر المكتبة العمانية الحديثة ومنها كتب وترجمات ودواوين شعر ومجموعات قصصية عديدة , وعرّفت بالكاتب العماني في الثقافة العربية والعالمية ولعل كتابي « محمد المحروقي عن المغامر العماني في أدغال إفريقيا « حميد بن محمد المرجبي المعروف بـ « تيبو تيب « وكتاب عبدالله الحراصي « الاستعارة المفاهيمية « وغيرهما أمثلة حية على اهتمام نزوى وعدم اقتصارها على الدراسات والمقالات القصيرة , فنزوى تشجع كل عمل أصيل وتتبناه من واقع إيصال صوت عمان المعرفي إلى كل مكان .
منبع التقنية الحديثة والتواصل الالكتروني , فنزوى واكبت ثورة التكنولوجيا في النشر والتوزيع , ولعل هذه الثورة منحتها صفة التواصل مع قرائها وكتابها شرقا وغربا , وجعل قراءتها سهلة ميسرة شأنها في ذلك شأن بقية الصحف والمجلات المعاصرة .
منبع الانتظام في الصدور , فنزوى الدورية لم تكد تتخلف عن موعدها البتة , بسبب الحرص الدقيق للقائمين عليها , وإنجاز مادتها اولا بأول , رغم أن هذه المادة كبيرة , وكثيرة العدد , ومتنوعة الاتجاهات , نتيجة تهافت الكتاب للنشر فيها , وهذه خصيصة من خصائص المجلة الناجحة ذات المشروع الكبير الذي يسعى الكاتب إليه , ويتمنى أن يجد حضوره فيه .
لم تحجر نزوى الكتابة , ولم تدخل في مزالق النظرة الضيقة العقيمة, بل رسمت لنفسها خطا منفتحا يستوعب أغلب التيارات الحديثة والقديمة , ففتحت منافذ للشعر العماني القديم, وللتاريخ والسير والترجمات, واستوعبت تيار الحداثة في الفكر والفن , وبذلك تعدّ نزوى مثالا للتعددية الفكرية والإبداعية , ولعل ملفات الشعر والشعراء المنشورة فيها مثالا حيا على ذلك , وعلى حد قول سيف الرحبي : « فنزوى هي ملك لكتابها « بهم تسمو وعلى أفكارهم النيرة تعيش .
كسرت نزوى حيز السائد باتخاذها منهج الجدة ومسايرة الخطاب العربي والعالمي , وفتح منافذ للأجيال الجديدة نحو التعبير والظهور فاستقطبت المواهب الصاعدة من المبدعين العمانيين الذي تخرجوا لتوّهم من الجامعة الأم ( جامعة السلطان قابوس ) وكانت لديهم جذوة الإبداع والكتابة , فحظيت نزوى بأقلام الشعراء والدارسين , والباحثين منهم خاصة أن ميلادها واكب تخريج الدفعة الأولى من طلبة الدراسات العليا بالجامعة في أقسام اللغة العربية وعلم الاجتماع واللغة الانجليزية والتربية والإعلام , فانخرط هؤلاء الطلبة بالكتابة فيها والمساهمة بملخصات رسائلهم , ولعل أسماء من أمثال : عبدالله الحراصي , وشريفة اليحيائي ,ورفيعة الطالعي , وعبدالمنعم الحسني , ويحيى سلام المنذري , وعبدالله الكندي , ومحمد البلوشي , ومحمد المحروقي , وعلي الكلباني , وهلال الحجري وغيرهم كانوا أوائل من نشروا في نزوى , وقدموا أبحاثهم فيها .
أمّا نحن فكانت تجربتنا مع نزوى قبل عشرين عاما مفعمة بروح العطاء , فلقد احتضنتنا صفحاتها وشجعنا رئيس تحريرها , وقدّمنا ونحن في بداية الطريق إلى الثقافة العربية بروح مخلصة .. كان الرجل في قمة الحميمية والتدفق , تحدوه في ذلك تجربته العميقة في الثقافة العربية , وما أتذكره من معالم تلك الفترة أنني نشرت أول مقالاتي عن المتنبي , وعن ثيمات الغياب في الشعر العماني الحديث , وعن الصحافة العمانية وشخصياتها بتشجيع منه , ولم يكن الرجل ليغامر بنا لولا وعيه بضرورة تشجيع أصواتنا الجديدة وإعطائها فرصة الظهور مستندا في ذلك على ما قرأه واطلع عليه من أعمالنا , وكنا نعرض عليه عديد المقالات والأبحاث فيختار منها ما يصلح , وفق رؤية دقيقة شعارها النظرة بحس الناقد المتمرس , وفكر الواعي المثقف , فعزز فينا تواصل تجربة النشر والكتابة وطرق مواضيع لها أهميتها التاريخية آنذاك , مما كان له كبير الأثر في نفوسنا ونحن نخطوا في مسيرة الكتابة بخطى متئدة نأمل أن تكون مفيدة .
ما يحسب لنزوى أنها ظلت على نفس التوجه الفكري , فلم تنحن , ولم تنكسر أمام عواصف الزمن , وضربات الآخر المناوئ , بل عمدت إلى التطوير الدائم في الشكل والمضمون, مما جعلها مجلة اعتبارية بمقاييس علمي الإعلام والنقد الصحافي, وحدا بالباحثين للكتابة عنها , ومما قرأته في هذا الشأن أطروحة علمية قدّمها الباحث الأستاذ خليفة بن حمود التوبي بعنوان « الصحافة الثقافية في سلطنة عمان : مجلة نزوى أنموذجا « وكانت جزءا من متطلبات الحصول على درجة الماجستير بقسم الصحافة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة السلطان قابوس , ففي هذه الاطروحة قراءة مستفيضة لخطاب نزوى الثقافي إضافة إلى مناقشة المراحل التي مرّت بها هذه المجلة , وطبيعة موضوعاتها , واستخدم في ذلك المنهج المسحي الوصفي , وتوصل إلى نتائج نحسبها رصيدا لهذه المجلة المهمة .
تدخل نزوى من حيث حسابات القيمة – منذ أول أعدادها – في خطاب التنوير من أوسع أبوابه فمثلها مثل كثير من المجلات الثقافية المتخصصة في الوطن العربي , وعلى حد قول الباحث خليفة التوبي ( ص 102 ) : « تشكل مؤشرا متحركا في الخط البياني لثقافة الشعوب والأمم « , وهي في ولائها للمعرفة واستمرارها فيها تحقق طموحات القراء والكتاب في التعبير عن ذواتهم وتطوير حياتهم , وبهذه الفكرة اتسمت نزوى بقدرة على بلورة الثقافة العمانية ومزجها بالثقافة العربية , فأغلب ما قرأناه فيها يندرج في ربط الثقافة العمانية بمثيلاتها في العالم العربي والعالمي والإنساني , فملفات نزوى , ومقالاتها , تنمان عن حس إنساني يشترك في إنتاجه كل البشر بصناعة وحرفية عمانية ماهرة حتى النخاع , وهي بذلك كما يصفها الكاتب المرعي : « أنها رسالة عمان للعالم « ,أو قل نافذة عمان على العالم , وهذا يتأكد أكثر عندما يسافر كل منا ويلتقي بالأوساط الثقافية , فيجد الكل يسأل عن نزوى , وعن جديد الشاعر سيف الرحبي , ويشيد بهذا إشادة تفوق الحد , وعندما عملت بمركز الدراسات العمانية بالجامعة كان الطلاب الغربيون – الذين يفدون إلى المركز- تتبدى أول أسئلتهم لنا عن نزوى وما فيها من مقالات , بل الكثير منهم من كان يحمل أعدادها بين يديه , ولسان حاله الاعجاب والسعي إلى تلقي المزيد .
هذا التأثير الذي خلقته نزوى جعلت منها مجلة ذات صيت عالمي هو – في الحقيقة – نتاج وعي حقيقي بعمق الثقافة , ورسالة الخطاب , فنزوى – كما أشرت – حرّكت الساكن وغيرت المألوف , وربطت القاصي بالداني , ولم تلتفت إلى الجزئيات الهامشية , بل كان مبلغ اهتمامها الغايات الثقافية الكبرى في تحرير العقل البشري , وفتح الذائقة على كل ما هو مفيد ومميز , فبورك لنزوى , وبورك للقائمين عليها , فهي بحق هدية عمان للعالم في زمن التحولات .
—————————————
محسن بن حمود الكندي