الملخّص
استناداً إلى أدبيّات علم الأسلوبيّة حول «الشّعريّة»، تحاول هذه الدّراسة أنْ تبرهن على أنّ الالتزام الشّعريّ يتمثّل في نشوزه عمّا اُجتمِع عليه من تصنيفات وقوالب ورؤى جاهزة. تنقسم الدّراسة إلى جزءين. الجزء الأوّل، مبتدأً بالعالم الألسنيّ الرّوسيّ رومان ياكبسون، ومروراً بمنظّري الأسلوبيّة البريطانييّن وبآراء شعراء ونقّاد عرب معاصرين، يقدّم، بالشّرح والنّقد، طرحاً مفاده أنّ الخطاب الشّعري فنّ إنسانيّ يتحدّى ما استقرّ في الأذهان من صور، ويتميّز عن سواه من الخطابات بسعة مجال تأويله. أمّا الجزء الثاني فيتطرّق إلى قصائدَ شعراء عرب معاصرين للنّظر فيما إذا كانت تؤكّد فرضية الجزء الأوّل.
المُقدّمَة
ظلّت وظيفة الأدب وعلاقته ببقيّة الخطابات قضيّة تشغل النّقاد والأدباء عبر العصور، بصور مختلفة وأشكال شتّى، بيد أنّها اكتسبت طابعاً نظريّاً وفلسفيّاً خاصّاً بعد أن نشر الأديب والفيلسوف الفرنسيّ، جان بول سارتر، مقالاته في مجلّة «الأزمنة الحديثة» في أربعينيّات القرن العشرين(1). وقد تفاعلت السّاحة الثّقافية العربيّة مع مقولات سارتر، ترجمةً، وشرحاً، ونقداً، منذ خمسينيّات القرن العشرين حتّى الوقت الرّاهن(2). كان ذلك عاملاً، من ضمن عوامل أخرى،(3) لأن تستند جلّ الطّروحات النقديّة المتداولة في السّاحة الثّقافيّة العربيّة إلى النّقد الفرنسيّ، فأدّى ذلك إلى أنّ النّقد العربيّ لم يتفاعل تفاعلاً كافياً مع بعض الأدبيّات الغربيّة غير الفرنسيّة ذات الصّلة بالموضوع(4). من ذلك أنّنا قلّما نجد بحوثاً عربيّة تتطرّق إلى وظيفة الأدب من منظور الأسلوبيّة البريطانيّة(5). محاولةً لسدّ جانب من هذه الثّغرة، تتناول هذه الدّراسة، تنظيراً وتطبيقاً، وظيفة الأدب من منظور الأسلوبييّن البريطانييّن.
إنّ تحديد أدبيّة الأدب(6) موضوع طرقه النّقاد من زوايا عدّة. فهناك من المنظّرين من يشدّد على عوامل خارجة عن النّصّ الأدبيّ. فمثلا يرى هرنشتنسمث(7) وميبن(8) أنّ «الأدبيّة» صفة تمنحها فئة ما لنصوص تعدّها ذات قيمة، كما يؤكّد إيجلتون(9) وفاولر(10) على ما للعوامل الثّقافيّة والاجتماعيّة والمؤسّسيّة من دور في تحديد «الأدبيّة». بينما نجد في المقابل منظّرين يعولون على ما في النّصوص من خصائص «داخليّة» تحدّد الأدبيّة. فنجد بعض علماء الأسلوبيّة البريطانيّين المعاصرين مثل جاي كوك(11) وهنرى ودوسن(12) يذهبون إلى أنّ «الأدبيّة» صفة كامنة في النّص الأدبيّ، يكمن عمادُها في درجة تحدّيها للخطابات الاجتماعيّة السّائدة.
منطلقةً من هذا الطّرح، تجادل هذه الدّراسة أنّ القارئ، بما يحمله من افتراضات حول اللغة والشّعر والعالم، يتفاعل مع النّص الشّعريّ تفاعلاً ينتج عنه خطاب ناشز انشقاقيّ، أي خارج عن المألوف، خطاب يسائل بدوره افتراضات القارئ المسبقة.
أوّلاً:
استناداً إلى أدبيات الأسلوبيّة البريطانيّة المعاصرة، يقدّم هذا الجزء من الطّرح أنّ الخطاب الأدبيّ يتميّز بتفاعل فريد بين خياراته اللغويّة وبين افتراضات القارئ حول اللغة والخصائص النّصيّة والعالَم، وأنّ هذا التّفاعل الفريد يولّد خطاباً ينعش ذهن القارئ بأن يمدّه بافتراضات تختلف عن صوره الذّهنيّة المسبقة. كما يجادل هذا الجزء بأنّ كون الأدب لا يحيل إلى سياق خارجيّ يجعل منه فضاءً رحباً للتّأويل.
منْ «شعريّةِ»(13) اللغةِ إلى «شعريّةِ» الخطابِ
كان للعالم الألسنيّ الروسيّ رومان ياكبسون(14) دور كبير في تحديد «شعريّة» اللغة. ففي مقال قرأه في مؤتمر خاصّ باللغة أُقيم في عام 1958 في إنديانا في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، اقترح ياكسبون أنّ للغة، كحدث اتّصالي، ستّ وظائف رئيسة، كما يوضّح المخطّط الهيكلي الآتي(15):
العنصر الوظيفة
المرسِل الوظيفة العاطفيّة أو الانفعاليّة
المخاطَب(المستقبِل) وظيفة التّواصل
السّياق الوظيفة المرجعيّة
الوسيلة النّاقلة الوظيفة الاختباريّة
الرّسالة الوظيفة الشّعريّة
الشّيفرة وظيفة لغة اللغة (اللغة الماورائيّة)
نلحظ من هذا المخطّط أنّ في كلّ حدث اتصاليّ مرسِلا يحاول إيصال رسالةٍ إلى مستقبَل، رسالةٍ لها سياقها ووسيلتها النّاقلة (الصّوت أو الحرف) وشيفرتها (أي لغتها). يرى ياكبسون أنّ وظيفة كل عنصر تتحدّد حسبما ترتكز عليه الرّسالة. فمثلا إنْ ركّزت الرّسالة على المرسل كانت الوظيفة انفعاليّة، وإن ركّزت على المخاطَب كانت الوظيفة تواصليّة، أمّا إذا ركّزت الرّسالة على ذاتها فتكون الوظيفة عندئذ شعريّة أو جماليّة، لأنّها تصبح هي الغاية والعنصر الأهمّ في عمليّة التّواصل، أي أنّ شعريّة اللغة (أو أدبيّتها) تُحدّد بدرجة صرف النّظر إليها دون سواها من العناصر(16).
متّبعاً العالم السّويسري فيرديناند دي سوسير(17)، يقول ياكبسون إنّ اللغة تعمل على مستويين: مستوى الانتقاء ومستوى التّنسيق. فعلى مستوى الانتقاء يمكننا أن «ننتقي» من مخزوننا اللغويّ كلمات مثل «الولد»، أو«امرأة»، أو «فتاة»، أو «ولد». كما يمكننا أن نختار فعلاً، مثل «يلعب»، أو«يكتب»، أو «يدرس». وتعقب عمليّة الانتقاء هذه عمليّة التّنسيق، أي تأليف جملة مفيدة من هذه المختارات وفقاً لقواعد اللغة، كأن نقول في العربيّة مثلاً «الولد يدرس». إلاّ أنّ «ما يتميّز به الشّعر في مفهوم ياكبسون هو إسقاط مبدأ المساواة في محور الانتقاء على محور التّنسيق»(18). وبناءً على ذلك، فإنّ التّراكيب اللغويّة، صوتيّة كانت أم نحويّة، تكون «متساوية» تبعا للعلائق التّنظيميّة التي تربط بعضها ببعض. وبهذه المساواة تكسب اللغة ظلالاً زائدة عن معانيها المتعارف عليها.
للتّمثيل على أنّ اللغة تكسب معاني زائدة على تلك المتعارف عليها، يورد نصر حامد أبو زيد(19) المثال الآتي: «غابة الحياة تمتلئ بالأشجار الميتة». يقول أبو زيد إنّ «الغابة» و«الحياة» لهما صور ذهنيّة معينة في اللغة، إلاّ أنّ مركّب «غابة الحياة» لا يشير إلى صورة ذهنيّة متداولة، وإنّما هو يصنع صورة جديدة. وما ساعد قائل العبارة على ابتكار الصّورة الجديدة هو ما يسمّيه أبو زيد بـ«القدرة الاستبداليّة» للغة، ذلك «لأنّ كلمة «غابة» تستدعي ذهنيّا مجموعة من المفردات التي تنتمي إلى «الحقل» الدّلالي المرتبط بها، مثل «الجبل» «أفريقيا»، «خط الاستواء»، «الوحوش»… إلخ، ولو كانت الجملة مثلا: «غابة الجبل تمتلئ بالأشجار الميتة» لكانت جملة وصفيّة عاديّة لا تحمل شحنة كتلك التي تحملها الجملة السّابقة. إنّ استبدال كلمة «الحياة» بالكلمة المفترضة «الجبل» لم يؤثّر في دلالة العلامة «غابة» وحدها، بل أثّر كذلك في دلالة كلمة «الأشجار» وفي دلالة الصّفة «ميتة». إنّها ليست إذن مجرد عملية استبدال علامة بعلامة أخرى، بل هي عملية تحويل كامل في الدلالة.» وإذا ما استعرنا كلمات أدونيس(20) فنقول إنّ وظيفة الجملة الأولى «نقليّة، تمثيليّة تصوّر لنا وضعاً محدّداً، وتوصّل إلينا فكرة محدّدة عنه». أمّا وظيفتها في الجملة الثّانية «فإيحائيّة وكشفيّة. وهي تربط بين أطراف متباينة من عناصر الواقع ربطا غير منطقيّ، أو غير عقلانيّ، بحيث أنّ رجل المنطق والعقلانيّة يرفضها.»
كانت رؤية ياكبسون معيناً انتهل منه علماء الأسلوبيّة البريطانيّون المعاصرون والذين يأتي في مقدّمتهم هنري ودوسن(21). يقول ودوسن إنّ اللغة حين تقدّم وظيفتها الشّعريّة على سواها فإنّها تفرض على نفسها آليّة تنظيميّة تضع خصائصها اللغويّة والصّوريّة في أنماط متوازية تكسب اللغة معانيَ جديدة، تتجاوز بها العلاقة بين الدّال والمدلول المتعارف عليها اجتماعيّاً. يقول مِك شورت إنّ البنى المتوازية، أي الآليّة التّنظيميّة، تدعو القارئ إلى أنْ يبحث عن معانٍ متوازية لتك البنى، ويسمّي ذلك «قانون التوازي»(22). بعبارة أخرى، ووفقاً للنّاقد العربيّ صلاح فضل(23) فإنّ: «… الدّلالة الشّعريّة لا تقتصر على معطيات الدّلالة اللغويّة العامّة، بل تتمثّل في محصّلة التّداخل البنيويّ لمجموعة الأبنية التّعبيريّة المتعالقة. فالبنية الإيقاعيّة مثلا تعدّ شفرة إضافيّة شعريّة لا تقتضيها الأنظمة الصوتيّة اللغويّة، مع أنّها منبثفة عنها.»
إلاّ أنّ هذه الأطروحة تثير إشكالات عدّة. فالوظيفة الشّعريّة، من أنماط متوازية، تركيبيّة كانت أم مجازيّة، ليست حكراً على الشّعر. فهناك دراسات حول اللغة اليوميّة(24)، ولغة الإعلانات التجاريّة(25) تشير إلى أنّها توظّف أنماطا لغويّة على المستويات المختلفة كالدّلاليّة والصّوتيّة والتّركيبيّة والتّداوليّة خارجة عن المألوف. على أنّ طرح ودوسن يختلف عن أطروحات غيره من الأسلوبييّن في أنّه يؤمن بأنّ الشّعر، بخصائصه اللغويّة النّاشزة الموضوعة في أنماط متوازية، يعبّر عن عالَم بديلٍ عن ذاك الذي ألِفَه النّاس وتعوّدوه. وهو بذا يؤيّد ويتبنّى رؤية سيمَس هيني، الشّاعر البريطانيّ من أيرلندا الشّماليّة، الحائز على جائزة نوبل للآداب في عام 1995، أنّ الشّعر يتحدّى الخطاب الاجتماعيّ السّائد(26). وطبقاً لهذا المنظور، فإنّ خصيصة خلق عوالم بديلة تضع العالم الاجتماعيّ المعاش محكّ المساءلة هي ما يميّز الشّعر عن غيره من الخطابات. ودوسن، مقر بأن الشّعر ليس بذي بال في المجالات التطبيقيّة، مثل تخطيط الموارد البشريّة وتنمية المهارات اليدويّة، ومقرّاً ما يقوله أوسكار وايلد، الأديب والنّاقد البريطاني، بأنّ الفنون كلّها إنّما هي لا طائل من ورائها، يذهب إلى أنّ جدوى الشّعر تكمن في لاجدواه المعيشي.
فنحن، حتّى نسقط قدراً من الضّبط والتّماسك على عالم يعجّ تعقيداً وفوضىً، نستخدم اللغة لنشكّل بها مجتمعاً يستطاع إدراكُه وتصنيفُه. وعمليّة إسقاط «الضبط والتّماسك» هذه توهمنا بأنّ ما اجتمعنا عليه من المعاني إنّما هو قارّ ثابت، وبأنّ هواجسنا ذات الخصوصيّة الفرديّة يمكن أن تعبّر عنها اللغة تعبيرا شاملاً جامعاً. إلا أنّ التّجارب الفرديّة، يقول ودوسن، تبلغ من الخصوصيّة والفرادة بحيث تظلّ عصيّة على البيان، وأقصى مبلغ يمكن أن تصل إليه اللغة في سبيل التّعبير هو مفردات غامضة نسبيّة متغيّرة المعاني كـ«روح» الإنسان و«قلبه»، أي أنّ تجارب الفرد تأبى أن تؤطّر أو تقولب وفقاً لما اُتّفق عليه اجتماعيّاً. ووظيفة الشّعر، حسب رؤية ودوسن، هي فضح الاتفاق الجمعيّ وكشف نسبيّة المعاني ولاثباتِها.
آراء ودوسن هذه حاول العالِمُ الأسلوبيّ البريطانيّ جاي كوك(27) توظيفها، فربطها بأدبيّات الشّعريّة الياكبسونيّة وعلماء الأسلوبيّة البريطانيّة للإتيان بنظريّة مؤدّاها أنّ الخطاب الشّعري خطاب ناشزٌ خارجٌ عمّا تألفه النّاس وتعدّه «طبيعيّاً». وقبل بيان هذه الرّؤية ينبغي أنْ يُذكر أنّ نظريّة كوك هذه أتَت في سياق تطوّر النّظريّات الحديثة للألسنيّة والبنيويّة التي اهتمّت بقراءة الأدب. فهناك البنيويّة الشعريّة التي وضع أساسها الناقد جوناتن كولر(28)، والتي ترى أنّ قراءة الأدب تتّكئ على معرفة القارئ بالأعراف والتّقاليد الخاصّة بالأدب، كمؤسّسة مجتمعيّة، وليس كعمل متميّز وفريد من نوعه، وأنّ بدون معرفة تلك القوانين «المؤسّسيّة المجتمعيّة» يتعذّر على القارئ قراءة الأدب وفهمه. أمّا ستانلي فش(29) فيذهب إلى أبعد من ذلك ليقول إنّ الخصائص اللغويّة والشّعريّة لا توجد في النّص، وإنّما القارئ يخلقها تبعا لتوقّعاته وافتراضاته المستمدّة من المجتمع.
استفاد كوك من هذا السّياق، من النظريّة الألسنيّة الياكبسونيّة والشعريّة البنيويّة والنّظريات الخاصّة بالقراءة وبأبحاث الذّكاء الاصطناعيّ وتحليل الخطاب فقدّم ما سمّاه «مبدأ التّغيير الذّهني»، والذي به الأدبُ ينعش أو يغيّر صور القارئ الذهنيّة المسبقة عن العالم. كوك، ذاهبا مذهب غيرَه من الأسلوبييّن المعاصرين، أمثال سمبسون(30) وشورت(31) وكارتر ولونج(32) وكارتر ومكراي(33) وكارتر وسمبسون(34) ومكراي(35)، يقول إنّ الأدب يؤدّي وظيفته بالتّنظيم الفريد لبناه اللغويّة والتركيبيّة. إلاّ أنّه في سبيل تبيان ذلك يستند كوك إلى فكرة الإسكيما، وهي التّمثيلات النّمطيّة والصّور الذّهنيّة التي يحملها المرء، والتي يحكم بها على التّجارب الجديدة، إنْ كانت «مألوفة» أو«ناشزة». يقسّم كوك الإسكيما إلى ثلاثة أنواع: إسكيما العالم، أي الصّور الذهنيّة عن العالم، وإسكيما النّص، أي الصّورة الذهنيّة عن تسلسل الأحداث وترتيبها في نصّ ما، شعراً كان أم نثراً، وإسكيما اللغة، أي الخيارات اللغويّة المتوقّعة. وتعدّ هذه الصّور الذهنيّة، بأنواعها الثّلاثة، الخلفيّة التي يقايس بها القارئ التّجارب والخبرات الجديدة التي يختبرها في أثناء قراءة النّص الأدبيّ.
يرى كوك أنّ العلاقة بين الصّور الذّهنيّة للقارئ والتّمثيلات الموجودة في النّصّ الأدبيّ ليست علاقة أحاديّة الجانب، حيث تؤتى بالسّابق للحكم على اللاحق، أي إنْ كان مألوفاً أو ناشزاً. وإنّما الصّور الذهنيّة (أي افتراضات القارئ) يطرأ عليها تغيير بسبب نشوز الصّور الموجودة في النّص عمّا هو مألوف. فإذا كانت الإسكيما الجديدة المقدَّمة في نصّ ما تعزّز الصّور المرسومة في الذهن مسبقا فإنّ ذلك يؤدّي إلى تفاعل تواصليّ ينتج عنه ما يسمّيه كوك «خطاباً محافظاً». أمّا إذا ما تحقّق تحدّي الصّور المسبقة وتعديلها فإنّ ذلك يؤدّي إلى تفاعل يننتج عنه ما يسمّيه كوك «خطاباً انتعاشيّاً». الخطاب الشعريّ، في رأي كوك، ينتمي، وبامتياز، إلى هذا الأخير. ويؤكّد كوك أنّه لكي يكون الخطاب النّاتج عن تفاعل النّص وافتراضات القارئ المسبقة «شعريّاً» فإنّ التّغيير يجب أن يتحقّق على المستويات الثّلاثة. فإذا لم يطرأ تغيير، مثلا، على صور الإنسان حول العالم لن يكون الخطاب «انتعاشيّاً»، حتّى ولو كان هناك تغيير على المستويين النّصّي واللغوي(36).
تثير هذه الأطروحة إشكالية حول ما يمكن اعتباره «مألوفاً» أو «ناشزاً». فسِمة الألفة أو النّشوز تتميّز بنسبيّة وبطابع شخصيّ. فالذي يكون مألوفاً لزيد قد يكون «ناشزاً» لعمرو، فالشعر العموديّ يكون «ناشزاً» للقارئ الذي يتّخذ الشّعر المعاصر المتحرّر من قيود القوافي والوزن معياراً. وعلى المنوال نفسه يكون الشّعر المعاصر «ناشزاً» للقارئ الذي يتّخذ من الشّعر العموديّ معياراً. وهذا ما يؤكّد نسبيّة الطّرح، أي أنّ درجة فكرة «الخطاب النّاشز الانتعاشيّ» لشدّ انتباه القارئ تختلف تبعاً من شخص لآخر داخل مجتمع واحد، ناهيك عن المجتمعات المختلفة. أضِف إلى ذلك أنّه من الصّعب تحديد الأهمّيّة أو المعنى الذي يوليه القارئ إلى نشوز البنى أو توازيها، وإن اتّفق قارئان على ما هو مألوف في النّص وما هو ناشز فإنّ ذلك لا يتبع بالضّرورة بأنّهما يعطيان الخصائص النّاشزة نفس الدّرجة من الأهميّة حين يقومون بتأويل النّصّ الأدبيّ. أي أنّه إنْ كانت الشّعريّة وظيفة تفاعل ما في النّصّ من صور وما لدى القارئ من إسكيما، وبما أنّ هذه الإسكيما تختلف من قارئ لآخر، وبما أنّ الشّعر هو تعبير عن جوانب التّجارب الفرديّة التي تكون عصيّة على الفهم، فإنّ تأويل القرّاء لتلك الجوانب الشّديدة الخصوصيّة من شأنه أنْ يكون متغايراً تغايراً يفضي إلى رحابة تأويل الخطاب الشّعري.
الخطابُ الشّعريُّ ورحابةُ تأويلِه:
يتميّز الخطاب الإحاليّ (أي الذي يحيل إلى سياق بعينه) بخاصّيتين: أوّلا، لكي نفهم الخطاب لا بدّ وأن نعرف متغيّراته السّياقيّة. فلكي نفهم «سأراك غدا هناك.» يتحتّم علينا أن نعرف السّياق العام الذي تحيل إليه هذه الجملة، نعرف الشّخص الذي يرجع إليه ضّمير المتكلِّم، والشّخص الذي يرجع إليه ضّمير المخاطَب. ولكي نعرف معنى «غداً» لا بدّ أن نعرف الزّمن الذي قيلت فيه تلك العبارة. كما أنّه لكي نفهم ظرف المكان «هناك» لا بدّ من أنْ نعرف أين قيلت هذه العبارة. خلاصة القول أنّه لا يتأتّى لنا تفسير الخطاب الإحاليّ لو لم نكنْ نعلم أركان السّياق الشّخصيّة والزّمنيّة والمكانيةّ المحدّدة. والميزة الثّانية للخطاب الإحاليّ هي أنّه إنْ حدث لَبْس أو غموض في التّواصل فيمكن للمتلقّي أن يطلب إزالة الغموض، كما يمكن للمتكلّم أن يكيّف كلامه تبعا لحالة المتلقّي ومدى استيعابه للرّسالة.
إلاّ أنّ الخطاب الشّعريّ يختلف عن الإحاليّ في أنّه ليس مرتبطاً بسياق يستهديه المتلقّي لمعرفة ما يرمي إليه الشّاعر، وإنّما يمثّل، وفقاً للمنظور السّابق ذكره، عوالمَ مختلفة، بديلة عن العالم المعاش. ولا سياق خارجياً للقصيدة غير ما توفّره القصيدة نفسها من معانٍ، ظلالِها وإيحاءاتِها، فنحن لا نرجع إلى ما هو خارج القصيدة لفكّ رموزها. لا يعني ذلك، طبعاً، أنّ الشّعر لا تُذكر فيه أشخاص أو أماكن حقيقيّة، أو أنّنا لا نستعين بحياة الشّعراء لتأويل قصائدهم، وإنّما يعني أنّنا لا نقرأ الشّعر توثيقاً لأشخاص أو وصفاً لأماكن أو سرداً لأحداث. إنّ فصل الشّعر عن سياق محدّد يستقي منه القارئ ما يساعده على الفهم، وتوظيف الشّعر تراكيب لغويّة ومفردات تشعّ إيحاءات وصوراً جديدة غاية الجدّة يجعل الشّعر ثريّاً في آفاقه الدّلاليّة التي يؤولها القرّاء حسب ما يحملون من افتراضات وخبرات. يقول محمود أمين العالم(37) في ذلك إنّ «تذوّقنا الإبداعي وتأويلنا الدّلاليّ لشعر أبي العلاء أو أبي تمّام أو ابن الرّومي في عصرنا يختلف عن التّذوق والتّأويل في عصرهم أو في عصور أخرى. حقّا، هناك ما هو مشترك نسبيّ، وهناك دائما ما هو جديد إبداعيّا، وما تتجدّد إبداعيّته بتجدّد التذّوق والتّأويل النقدي بتجدّد السّياقات الاجتماعيّة والتّاريخيّة والثّقافيّة واختلافها.»
قد يُستنتج من ذلك أنّه لئنْ كان تأويل القصيدة مرهوناً بتجارب القرّاء كان للقارئ أنْ يسقِط أيّة قراءة يبغيها على النّصّ، وبذا لا يمكن أن يكون هناك اتّفاق على قراءات بعينها، وتكون مسألة التّأويل فضفاضة ممذوقة. إنّ القولَ بأنّ الشّعرَ لا يحيل إلى عالمٍ واحدٍ محدّدٍ مربوطٍ بسياقٍ ما، وإنّما يمثّل عوالم مختلفة المعاني متباينة الدّلالات، لا يعني أنّ كلّ الإيحاءات التي يستمدّها القرّاء تكون سواءً في الشّرعيّة. فاللغة، على ما يشعّ منها من إيحاءات وظلال غاية في الخصوصيّة، كيانٌ اجتماعيّ يتقاسمه أفراد المجتمع، وليس معلَماً فرديّاً يخلقه الفرد ويدمّره بين عشية وضحاها. إنّ «اجتماعيّة» اللغة تعني أنّ هناك قدراً من الضّوابط حول ما يمكن أن تمثّله اللغة الشّعريّة، وأنّ اللغة تكتسب قواها التّعبيريّة والدّلاليّة والإيحائيّة من خلال السّياق الذي ترعرعت فيه.
إنّ الرّحابة التّأويليّة للخطاب الشّعريّ، بالمزاوجة مع التّعبير عمّا يعتمل في صدر الإنسان من خواطر وهواجس، من شأنها أن تتحدّى مقولة ثبات المعنى واستقراره، كما أنّها توحي أنّ ثمّة ظلالاً وألواناً من المعاني تستعصي على اللغة كحدث اتصاليّ مجتمعي.
نشوزُ الخطابِ الشّعريِّ وانشقاقيّتُه
لئنْ كان الشّعر تعبيراً عن «الرّوح» و«القلب»، أي عمّا غَمَضَ وعمّا كان قيد التّشكيل، ولئنْ كان الشّعر تكمن ماهيته في مدى مساءلته لافتراضات قارئه حول العالم الذي يعدّه مألوفا، فإنّ الشّعر يقدّم عوالم وآفاقا بديلة تنشق عن المتّفق الجمعيّ، وتنشز عن الراهن. ومن البديهي أنّ الآفاق التي يأتي بها الشّعر تتّصف، إذا ما نُظر إليها من المنظور الاجتماعيّ، بأنّها ضرب من الخيال الذي لا يمتّ بصلة للواقع. فأنت تجد شاعراً يتحدّث إلى كائن غير ناطق، كما يفعل الشّاعر الإنجليزيّ جون كيتس في أغانيه الذّائعة الصّيت حين تجده تارة يناجي العندليب، وتارة أخرى يناجي وعاءً أو فصل الخريف. لو انطلقنا من «المنطق» الاجتماعيّ لقلنا إنّ ذلك إنّما اختلال عقليّ وضرب من الجنون. على أنّ هذا القول قد يكون أدقّ ما يمكن أن يوصف به الشّعر. فالجنون له دلالتان: الأولى تشير إلى زوال العقل، النّاتج عن عدم التّوازن في وظائف المخ الفسيولوجيّة، والثّانية، وهي التي تعنى به هذه الدّراسة، تشير إلى تصرّفات تخرج عن القواعد السلوكيّة المتّفق عليها اجتماعيّاً. فـ«الحكمة» تقتضي أن يأتي الإنسان «العاقل» بسلوكيّات يقرّها السّياق الاجتماعي. أمّا المجنون، حسب الدّلالة الثانيّة، فهو الذي يستحوذ عليه عالمه الخاصّ، فلا يجد غضاضة في أنْ لا يحتفل للمجتمع المثقل بنواميسه الضيّقة الخانقة. لعلّ افتنان قيس بعالم يدور حوله وحول محبوبته ليلى هو الذي يجعلنا نصفه بأنّه مجنون ليلى. فكلا العالمين، ذاك الخاصّ بالمجنون وذاك الخاصّ بالشّاعر، يلتقيان في تمرّدهما على القيود.
غير أنّ ذينك العالمين سرعان ما يفترقان في مجاليهما: فالأوّل يهرب من المجتمع الرّازح تحت وطأة القيود إلى عالمه الشّخصيّ الأكثر ضيقاً، إلى عالمه الذي يبدأ به وينتهي إليه. أمّا الشّاعر فعالَمه يبدأ بذاته إلاّ أنّه ينتهي إلى الإنسان. يجب التّأكيد في هذا الشّان على أنّ «ليس معنى النّظر في الذّات هو الانكباب على النّفس. بل إنّ الذّات هنا تصبح محوراً أو بؤرة لصور الكون وأشيائه، ويمتحن الإنسان من خلال النّظر في ذاته وعلاقته بهذه الأشياء. وقد يدير نوعاً من الحوار الثّلاثي بين ذاته النّاظرة وذاته المنظور فيها وبين الأشياء. ومن خلال هذا الحوار تتولّد الحقيقة التي يحدثنا سقراط أنّه من المستحيل أنْ تغرس في نفس الإنسان، ويعلمنا أنّه لا بدّ من إدراكها بالجدل الذي يبدأ بالفكرة أي الذات الناظرة. ثم امتحان الفكرة بالشّكّ أو التّأمّل في الذّات المنظور فيها، مستعينة في ذلك بالحقائق العيانية، وهي الأشياء»(38).
ولتوضيح «العالم» الشّعري توضيحاً أدنى إلى مداركنا يمكننا أن نلجأ إلى مقارنة أخرى. الشّعر تجمعه بالأسطورة والدّين خاصّية فريدة في أنّها كلها نابعة من أغوار النّفس البشريّة حيث تلتقي الأضداد و«اللامعقول» و«اللامنطقي»، حيث تتداعى سلطة المنطق المجتمعيّ. وفي ذلك يشاركنا الرأيَ الشّاعرُ العربيّ صلاح عبد الصّبور، إذ يقول «إنّ الفلاسفة والأنبياء والشّعراء ينظرون إلى الحياة في وجهها لا في قفاها… وينظرون إليها ككلّ لا كشذرات متفرّقة في أيّام وساعات، ومن هنا فإنّ همومهم يختلط فيها الميتافيزيقا والواقع والموت والحياة، والفكر والحلم…»(39). بيد أنّه مع تواشج مصدريهما، فأنّ الدّين والشّعر يختلفان في مرماهما، فالأوّل يحاول تجريد الإنسان ممّا يعدّه «غير أخلاقيّ»، فيقيّد خياله، ويوجّهه نحو عالم مثاليّ يعجّ بالأوامر والنّواهي، أمّا الثّاني فيتناول الإنسان على ما فيه من ضروب التّعقيد والغموض، فيفتح له آفاقاً نحو المحتمل، والبديل، ويطلق العنان لخياله. وإنْ أقررنا بذلك فعلينا أنْ نقرّ أيضا بأنّ الشّعر ليس عليه أنْ يلعبَ دورا في الصّراع الاجتماعيّ والاقتصاديّ بين المستغلّين والمقهورين، أو أنْ يكونَ أداة لبثّ الرّوح الثّوريّة في المجتمع. فمادّة الشّعر هي النّفس الإنسانيّة، بما تحمله هذه الكلمة من معانٍ أعمق وأشمل من أن تحصر في (أو تحشر إلى) مجرّد صراع بين طبقات، أو أداة في تغليب رؤية أيدلوجيّة على أخرى. من هنا نقول إنّ الشّعر الذي يرمي إلى مساندة نظام مرسوم، واضح المعالم، متبلور الخصائص، سياسيّاً كان أم اجتماعيّاً، دينيّاً كان أم ثقافيّاً، أقرب إلى دعاية أو سلعة منه إلى شعر، وذلك لأنّ شعراً هذا دأبه يفقد مادّته التي بها يعرف: الإنسان، وليس سلامة الأنظمة الأيدلوجيّة.
لعلّ هذا ما يجعل البعض في العالم العربيّ يصف الشّعر الحرّ بأنّه ينقصه الولاء، وبأنّه شعرٌ، عوضَ أنْ يعايش الواقع، يقفز فوقه. ما هذا إلاّ موقفٌ يستند إلى افتراضات مؤدلجة لكلّ من الانتماء والشّعر. فإنْ أخذنا مسألة الانتماء نجدهم يحسبونها تمسّكاً بقوالبَ معيّنة. فإنْ كنتَ شاعراً دينيّاً أو قوميّاً وجبَ عليك أنْ تمثُل بين يدي مجموعة من الافتراضات يأخذها أصحابُها على أنّها حقائق، يتبع ذلك أنّ عليك أنْ تبكي حين يبكون، وأنْ تلطّم خدّيك حين يلطّمون خدودَهم، وأنْ تمدح حين يمدحون، وأنْ تذمّ حين يذمّون، أي أنْ تكون صمولة في عجلة من يؤولون الدّين والقوميّة، إنْ دارتْ درتَ معها، وإنْ توقفتْ توقفتَ. أمّا أنْ تتأمّل وتتساءَل فيما يبكون وعلام يضحكون، فذاك يعدّ مروقاً وهرطقةً.
بَيد أنّ الهرطقة، كما يقول جورج طرابيشي(40)، هي إحدى سبل المقاومة في «زمان سيادة الأصوليّات والارتداد العربيّ– والإسلاميّ بشكل عام- نحو قرون وسطى جديدة.» لعلّ الشّعر، إذا ما نُظِر إليه من منظور هذه الدّراسة، هو أحد أنجع سبل المقاومة، فهو يضع افتراضات القارئ، سواء أكانت تتعلّق بالدّين أو القوميّة، موضع التّساؤل تساؤلاً يراد به مناصرة القيم الإنسانيّة، وليس الأيدلوجيّات الدينيّة أو القوميّة أو الطّائفيّة. فما يؤول على أنّه من «الثّوابت» المتّفق عليها لا يعدو غير افتراضات لجماعة معيّنة، والخروج على هذه الافتراضات هو الدخول في عالم الشّعر. يقول الشّاعر العربيّ أدونيس في هذا الشّأن إنّ:(41) «كلّ ما يتعارف عليه النّاس، يصبح بالنسبة إليّ مقنّنا أي خارج الشّعر. وخروجي عليه هو بالنّسبة إليّ دخول في الشّعر في حين يرونه خروجاً على ما اعتادوه.»
من هذا المنطلق، يمكن القول إنّ الشّعر فنّ التزام أصيل أصالةً تكمن في مساءلة الافتراضات، وليس في المثول بين يديها، تكمن في استنكاف الشّعر من أن يؤطّر أو يؤدلج. لعلّ هذا ما يشير إليه النّاقد والأديب المصري إدوارد الخراط(42) في ردّه على من يتّهمونه بالإغراق في «الذّاتيّة»: «لست أعفي نفسي، ولا يمكن أن أعفيها (ولا أعفي أحدا) من تبعات الالتزام، وليس هناك بالقطع أية فسحة من نفض عبء التزام ما. كل منّا ملتزم… وأظنني قلت في أكثر من موضع أن التزامي ليس بأيديولوجيّة محدّدة، ولا بنظام فكري محدّد، ولا بفلسفة محدّدة، حتّى هذا، إذا صحّ، فهو التزام محدد بمعنى من المعاني.» من هذا المنظور، لا يمكن حصر الزّمان الشّعري في الفترة الزّمنيّة التي يعيشها الشّاعر، كما لا يمكن حصر المكان الشّعري في رقعة جغرافيّة، ذات خصائص اجتماعيّة وثقافيّة معيّنة. من شأن الشّعر أنْ يتجاوز المحدّدات، زمانيّة كانت أم مكانيّة.
من هنا لا يملك المرء إلاّ أنْ يختلف مع الخراط(43) في «أنّ وجود الكاتب في الغرب يشكّل فقط ركناً في نتاج الثّقافة العامّة أو أحيانا للتّسلية فقط»، وأنّه «لعلّ الرّوائي أو الشّاعر في الغرب قد أصبح غير مهمّ، غير فعّال، إلى حدّ كبير، أمّا في العالم العربيّ، فعلى العكس ما ينتظر من الرّوائيّ أو الشّاعر في العالم العربيّ كبير». هذا التّصوّر، والذي به يرى صاحبُه الأدبَ أو الفنَّ في الغرب خاملاً غير ذي بال، يحمل افتراضاً مسبقاً مفاده أنّ الأديب دوره ينتعش أينما وُجِدَت قضايا سياسيّة واجتماعيّة واضحة المعالم، وبما أنّ العالم العربيّ يعاني مشكلات مثل التّخلف والإغراق في الماضي وتأويل الدّين تأويلاً يخالف قيم الحريّة والديمقراطيّة كان دور الأديب فيه أكثر أهمية وأكثر إلحاحاً من دور نظيره في العالم الغربيّ. ووفقاً لهذا الافتراض، على الإنسان الشّاعر والأديب أن يكون بوقَ الأيدلوجيّة الإصلاحيّة، وعليه أن يلبس رداءَ المصلح الاجتماعيّ. خلاصة القول هي أنّ مادة الأدب هي القضيّة، وليست الإنسان.
بيد أنّ الشّعر ليس بالضّرورة استجابة لقضيّة ما، وإنّما هو استجابة للمفارقة بين توق الإنسان إلى أن يكون حرّا من القيود، وبين ضرورة أن يمارس نشاطه الإنسانيّ داخل قيود، للمفارقة بين توق الإنسان إلى أن يؤكّد تميّزه عن المجتمع وبين ضرورة أن يعيش في محيط مجتمعيّ. إذْ إنّك ما إنْ تعلن حقّك للحريّة من القيود تؤكّد عزمك على أنْ تمارس حرّيتك في قيود خرى، ما يعني أنّه ليس هناك قيم مطلقة للحرّية، صالحة لكل الأزمنة والأمكنة. بمعنى آخر أنّ الآفاق الجديدة والعوالم البديلة التي يأتي بها الشّعر تكون هي بدورها عرضة للمساءلة والمكاشفة، وهذا ما يوفّر للشّعر دوماً مادّته، بصرف النّظر عمّا إذا كانت هناك قضايا سياسيّة واجتماعيّة تؤول على أنّها مصيريّة ملحّة. ولربّما كان في هذه المفارقة مكمنُ الهمّ الوجوديّ لدى الإنسان، وهي مفارقة ليست مرشّحة للنّفاد ما دام الإنسان دائمَ الحاجة إلى من يستأنس به ويجتمع معه.
وهذا الشّوق إلى رؤى بديلة لا يخلقه الشّعر في قارئه، وإنّما هو شوقٌ يلازمه منذ الطّفولة. يقول كوك(44) إنّ الطّفل، بشغفه الشّديد بعالم الألعاب والدّمى، يعبّر عن مَلكَة خلقِ عوالم بديلة. إلاّ أنّ التّقاليد والأنظمة الاجتماعيّة تحاول دوما تقييد تلك القدرة الرّاسخة في النّفس البشريّة بأن تجيز عالَماً واحداً تقرّ له بالحقّ دون سواه. ولعلّ اللغة، بتراكيب جملها، ودلالات مفرداتها، المتّفق عليها، تأتي في مقدّمة الأدوات الاجتماعيّة الكابحة للخيال الخلاّق، إذ ممّا يتمخّض عن تعلّم اللغة أنْ يرى الطفل العالم تبعا للتّصنيفات والقوالب الاجتماعيّة. فإنْ رأى كائناً بأعضاء جسديّة معينة تفرض عليه اللغة أن يصفه بأنّه إمّا ذكر أو أنثى، رجل أو امرأة، ما يستتبعه استحضار مجموعةٍ من التصوّرات والتمثيلات الذهنيّة، من شأنها أن تؤطّر الإنسان.
أمّا الشّعر فهو محاولة العودة إلى الطّفولة، إلى قوة الخيال البتول الذي لم تلامسه أيدلوجيّات اللغة والمجتمع. وما دام الأمر كذلك، فلا غروَ أنْ نجد الإنسان الشاعر يسعى للتّمرّد على المؤدلَج، وحسبما يقول أدونيس(45) في مقدّمته لديوان الشّعر العربيّ (الكتاب الثّاني) إنّ: «لهذا الحنين مرتكزا في الّطبيعة الإنسانيّة. فالإنسان يتوق إلى أن يتخطّى ظواهر الأشياء إلى ما وراءها، ومهمّة الشّعر هي أن يفتح دروباً إلى ذلك العالم الخفيّ وراء العالم الظّاهر، ويتيح للإنسان أنْ يتخلّص من العوائق، ويصير أشبه بسائل روحي يتمدّد في العالم.» أي أنّ الشّعر استجابة فطريّة، إنسانيّة، وليس ضرورة قوميّة أو دينيّة. يقول الشّاعر العربيّ صلاح عبد الصّبور إنّ «…الشّعر… يرينا نفوسنا في انفعالاتها وعواطفها، بما يجلوه من صور نفسيّة، ويعيننا على الاحتفاظ لتلك النّفس بأصالتها، وعلى تنمية هذه الأصالة، وهو يرينا الجمال في الحياة…»(46).
استناداً إلى الرؤية أنّ الأدب خطاب يضفي نضارة إلى ذهن القارئ بأن يقدّم له إسكيما تختلف عمّا ألفه، ومستعيناً بآراء عدد من الشّعراء والنّقّاد العرب المعاصرين، قدّم الجزء الأوّل من الدراسة طرحاً مؤدّاه أنّ الشّعر يسائل ما استقرّ عليه المجتمع من تمثيلات وصور نمطيّة. في الجزء الثّاني، تقدّم الدرّاسة نماذج من الشّعر العربيّ المعاصر.
ثانياً:
ينقسم هذا الجزء إلى ثلاثة أقسام: يتناول القسم الأوّل قصيدتي «المصباح» و«زهرة الكيمياء» للشّاعر أدونيس، أمّا القسم الثّانيّ فهو يتطرّق إلى «ولادة عسيرة» و«الصّرخة» و«أحلام القطارات» للشّاعر العمانيّ سيف الرّحبي، أمّا القسم الثّالث فهو يناقش قصيدتي «الشّتاء الضّائع» و«منزل قرب البحر» للشّاعر السّوري محمّد الماغوط. إلا أنّه قبل الّشروع في المناقشة من الضّروريّ التّنويه بأنّ الدّراسة لا تسعى لتحليل القصائد تحليلاً نقديّاً شاملاً، أو لمناقشة القراءات النّقديّة حولها، وإنّما تسعى لإبراز الخطوط العامّة لها لنرى إنْ كانت تؤكّد المنحى النّظري للدّراسة.
لعلّ قصيدة أدونيس «المصباح» (47) هي خير ما يمكن أنْ يفتتح به هذا الجزء.
يحمل في رابعة النّهارْ/ مصباحه، يبحث عن إنسانْ
لا رمل في عينيهْ/ يسير في خفّ من الغبارْ/ ينام في برميلْ/ملتحفا كفّيهْ/-وأنت، ماذا؟
-ليس لي عينانْ/ بيني وبين أخوتي قابيلْ/ بيني وبين إخوتي الطّوفانْ/ حين ينام الليل والنهارْ/ أغافل السّفاحْ/ أمشي ويمشي خلفي الغبارْ/لكنني أمشي بلا مصباحْ.
انطلاقاً من فكرة أنّ اللغة الشّعرية لا تحيل إلى سياق بعينه، وإنما تمثّل عوالم بديلة، بإمكاننا أنْ نقرأ «المصباح» و«البرميل» قراءة تمثيليّة وليست إحاليّة، فنقول إنّ الأوّل لا يحيل إلى أداة ماديّة تضيء الطّريق، وإنّما يمثّل شيئاً معنوياً يهتدي به الإنسان في حياته، وإنّ الثّاني لا يرجع إلى وعاء، وإنّما يرمز إلى عوالمَ معلَّبة مقولَبة. بذا يمكننا تأويل القصيدة على أنّها تمثيلٌ لعالَمين مختلفين: عالمِ الإنسان غير الشّاعر وعالمِ الإنسان الشّاعر. الأوّل عالمٌ ذو أطرٍ وقوالبَ، ليس فيه معاناة روحيّة، ولا مجازفة فكريّة، عالمٌ ينعم فيه منتسبه براحة البال، فهو يحمل «مصباحاً» ينير طريقَه، مصباحَ القوانين والقوالب المجتمعيّة، ليس له مشاغل تقلق فكَره، أو تقضّ مضجعَه. إلاّ أنّه عالمٌ مقنّن ضيّق الآفاق، صاحبه كالذي ينام في برميلٍ لا يستطيع أن يمدّ رِجليه فيه. أمّا العالَمُ الثّانيّ فهو نقيضُ ذلك كلّه: ذو آفاق رحبة، ومجازفة فكريّة، ومخاطرة روحيّة، إنّه عالم الإنسان الشّاعر الذي لا يعول على عينيه الحسّيتين أو يهتدي بالحكمة الموروثة (فهو لا يحمل في رابعة النّهار مصباحاً)، إنّه عالَم الإنسان الشّاعر الذي يستنكف من أن يشتري الثّقة الرّخيصة يعلّب بها فكره في قوالب اجتماعيّة جوفاء.
يمكننا إيجاز الفرق بين العالَمين بالقول أنّ حامل المصباح يرى بعينيه الحسّيّتين الطّريق مضيئا مستقيما، إلاّ أنّ بصيرته لا تعينه على أن ترى أبعد من مجال إضاءة المصباح، أي أنّ ثقته باستقامة طريقه مستمدّة من «مصباحه» و«برميله»، من الأعراف والقيم المجتمعيّة. أمّا الإنسان الشّاعر فهو، بدل أنْ يستعين بمصباح العادات والتّقاليد ليضيء به طريق سفره، يمتطي، بروحه النّزّاعة إلى المجازفة والمغامرة، صهوة غير المألوف وغير المقنّن.
القصيدة الثّانية هي «زهرة الكيمياء» لأدونيس(48):
ينبغي أن أسافرَ في جنّة الرّمادْ/ بين أشجارِها الخفيّهْ/ في الرّمادِ الخواتيمُ والماسُ والجرّةُ الذهبيّهْ.
ينبغي أن أسافرَ في الجوع، في الورد، نحوَ الحصادْ/ ينبغي أن أسافرَ، أن أستريحْ/ تحت قوسِ الشّفاهِ اليتيمهْ / في الشفاهِ اليتيمةِ في ظلِّها الجريحْ/ زهرةُ الكيمياءِ القديمهْ.
في البيت الأوّل نجد في عبارة «جنّة الرماد» مضافاً ومضافاً إليه في حالة تنافر كامل. فالجنّة تعني البستان، أو الحديقة ذات النّخل والشّجر أو دار النّعيم في الآخرة(49)، وهي، في كلتا الحالتين، لها إيحاءات إيجابيّة. أمّا الرّماد فهو ما تخلّفه المواد المحترقة(50)، وهي بذا تكون أقرب إلى الجحيم. في هذا الرّماد المتلازم بالنّار عرفاً، والمنسوب إلى الجنّة نصّاً، نفائسُ كالخواتيم والماس والجرّة الذّهبيّة. هنالك مخالفة واضحة بين المعتقد السّائد الجمعيّ وبين مذهب الشّاعر. فالخلاص مرتبط، عرفا، بالجنّة، والطريق المفضي إليها هو التّقيّد بتأويلات متّفق عليها. أمّا ما يدعو إليه الشّاعر فهو حرق ما هو بالٍ وتليد، حرق ما يُعتقد عرفاً بأنّه هو المنقِذ، وذلك بالسّفر «في الجوع، في الورد، نحو الحصاد»، أي، تمثيلاً، خوض غمار «المنكَر»، المنهيّ عنه، والمحذور منه، والمحفوف بالمخاطر. فكما جازف البطل في الأسطورة اليونانيّة في سعي الحصول على الجرّة الذّهبيّة المعلّقة على شجرة في غابة يحرسها تنّين خطير لتخليص بلاده من اللعنة، كذلك الذّات الشّاعرة فهي تقتحم الحدود، تجتاز الخير والشّر، تجرّب التّابو، تصارع المعتقد الجمعيّ. وإنْ أرادت الاستراحة فيجب عليها أن تستريح تحت قوسِ الشّفاهِ اليتيمةِ في ظلِّها الجريحْ/ زهرةُ الكيمياءِ القديمهْ/ أي أنّ الاستراحة لا تتحقّق بالارتماء في أحضان الخطاب السّائد، وبتبنّى لغته ورؤاه، وإنّما تتحقّق «تحت قوس الشّفاه اليتيمه» و«في ظلّها الجريح»، أي باستئناس المختلف النّاشز.
إنّ إلْفَ المختلف هاجسٌ يشاركه أدونيسَ الشّاعرُ العمانيّ سيفُ الرّحبي، كما سيبيّن القسم الآتي.
ذُكِر في الجزء الأوّل أنّ الشّعر هو تعبير عمّا يختلج في أعماق الإنسان من مشاعر وعواطف وأسئلة وهواجس غائرة في القلب تستعصي على اللغة، تصنيفاتِها وقوالبِها. لعلّ هذا ما يذهب إليه سيف الرّحبي في قصيدته «ولادة عسيرة»: (51)
هذه الكلمات الغاصّة في القلب/ المرتبكة، المصطدمة بالجدار / الكلمات التي تجزُ الأحشاء/ بضوئها القاطع./ هذا الطّائر الذي يغنّي في/ ظلام الثّكنات.
الكلمات النّائحة/ كذئاب في ليل قرية مهدّمة،
تحلم بالهواء الطّلق/ تحلم بالنّجوم.
فبما أنّ الشّعر تعبيرٌ عن تجارب الإنسان، وبما أنّ تجارب الإنسان أعمق من أن تحويها اللغة، بقوالبها وتصنيفاتها، كان طبيعيّا أن تكون اللغة المراد التّعبير بها عنها عصيّة على الولادة، أي عصيّة أن تدخل في أطر وتصنيفات اللغة أو تستنسخها. فالشّعر «… يرفض استنساخ الخطابات السّياسيّة والأيدلوجيّة السّائدة، ويميل إلى استيحاء ما هو قيد التّشكل، وما ينبت في أعماق الذّات المبدعة ملامسا لحظات… التّساؤل عن الكينونة والمصير، وعن العلاقة بالتّاريخ والآخر»(52). هي كلمات غائرة، تتوق إلى جوّ بعيد عن السّطحيّة، وتنأى بنفسها عن معامع التّحزّب السّياسي والتّعصّب الأيدلوجي.
هذه «الكلمات الغاصّة في القلب» التي تعايشها الذّات الشّاعرة تتحوّل إلى «صرخة غابرة في الأحشاء»:(53)
الصّرخةُ الغابرة في أحشائي/ كحيوانٍ مطمور في كهف، تتجوّل / بين النّائمين مع جندها الغرباء،
وتجبرهم على المضيّ معها نحو/أقاصٍ مجهولة،
هذه الصّرخة القادمة من عهودِ/ الفيضانات الكبرى، دليل أسفاري/ الوحيد / امرأتي المدلّلة، أحياناً/ أراها تخاتل الضّباع في سريري/ وتنام وديعةً بين ذراعيَّ الهادئتين/ بفعل المخدّر./ وأحيانا تسقط فوق الذّرى البعيدة/ مُنتحبةً، مثل أرملةِ العصور./ لكن في هذه الليلةِ التي هجرتْني فيها/ أرى في الطّرف الأقصى من الغابة/ نمرةً جريحةً ترمقُني بإعجابْ.
هذه الصّرخة لا تحيل إلى تلك النّاتجةِ عن فراقِ حبيبٍ، أو فقدانِ عزيزٍ، إنّما هي نابعةٌ من تأمّلٍ عميقٍ حول المصير الإنسانيّ، ليس إنسان القرن العشرين، أو إنسان الشّرق، أو الإنسان الأبيض، أو الإنسان الأسود. هي صرخةٌ تلازم الإنسانَ «من عهود الفيضانات الكبرى»، منذ أن وُجِدَ الإنسانُ على الأرض وهو يحاول أنْ يعيَ كنه وجوده، هي دليله الوحيد، في أقاصيَ مجهولة، في عوالمَ فكريّة وروحيّة مختلفة عن العالم الذي ألفناه في حياتنا.
يقول الرّحبي في قصيدته «أحلام القطارات»(54):
أدخلني دانتي إلى حضرته وحجز لي/ مقعداً في الجحيم/ لبستُ زعيق طفولتي/ هربَ مني الرّجال الرّسميون/ وأشعلت قطارات الليل أنهارها المقدّسة/في أحشائي.
نحن في عالَمِ شاعرٍ يستمرئ التّمرّد والانشقاق، ويستنكف من الانتماء. فـلا غروَ أنّ «الرّجال الرّسمييّن» المؤمنين بالخطاب الثّقافيّ السّائد يتجنّبونه ويهربون منه، بل حتّى أنّ أقرانه من الشّعراء يتبرؤون منه، فنجد دانتي، صاحب الكوميديا الإلهيّة، يضعه في مصافّ الأشرار. إنّه يخرج على وجهه في هذا العالم المقولَب باحثاً عن المعاني الإنسانيّة ذات الطّابع الطّفوليّ التي لَمّا يدجّنْها الخطابُ الثّقافيّ :
دماؤك بلّلت شفاهي/ بالأمطار الوثنيّة/ فطفقتُ باحثا عن إلهي الآخر/ في أرخبيلات الجنون/ لم ترضعني أُمّ/ لم تأوِني بلاد/استيقظتُ فرأيت القطارات/ تنهب عمري/ بمخمل المسافات/ فتبعتُك أيّتها الأم الشّريرة/ يا لعنة الولادات الصّعبة/ انفجري أيّتها الجزر النّائمة/ في أحشائي/ لطّخي وجه الخلائق/
بزعيق الأقاصي/ فقد شاخت أحلامي/ دخلت طورَ الهباء.
تتحوّل تأمّلات الشّاعر واختلاجاته من «كلمات غاصّة في القلب» إلى صرخة غابرة في الأحشاء، إلى «جزر نائمة» يستحثّها الشّاعر على الصّحو، بل على «الانفجار»، لـ«يلّطخ بها وجه الخلائق». وما ذاك إلاّ لأنّه يرفض هذا العالم، فهو شخص لم يلُذْ إلى قوقعة الخطاب الأيدلوجيّ، ولم يتخندقْ في شرنقة المألوف المقبول، لم ترضعني أمّ/ لم تأوني بلاد/. إنّه يبحث عن إلهه الآخر. فهذا الإله الآخر (يمكن أن يؤول على أنّه) عالمه الذّاتيّ، الخاصّ به كذات شاعرة، البديل المختلف عن المألوف. يبحث الشّاعر عن هذا الإله «في أرخبيلات الجنون»، في عالم الفكر الخارج عن «الرّشد» و«الحكمة» التقليدييّن.
انْ يضيق الشّاعر ذرعاً بالواقع ويطمح إلى عالم أكثر رحابة أمرٌ نجده أيضاً في أعمال الشّاعر محمّد الماغوط.
القارئ لمجموعة الآثار الكاملة للشّاعر محمّد الماغوط يلحظ أنّ هناك طابعاً ملنكولياً يغلب على أشعاره، إلا أنّ هذه الملنكوليا ليست، بالضّرورة، تشير إلى تجربة فرديّة ضيّقة النّطاق، وإنّما هي نتيجة معاناة ناجمة عن سبر أغوار الواقع سبراً يتجاوز به الشاعر ذاته ليدنوَ من معانٍ ذات أبعاد إنسانيّة كونيّة. ففي قصيدته «الشّتاء الضّائع»55 يقول الماغوط:
فأنا جارحٌ يا ليلى/ منذ بدءِ الخليقةِ وأنا عاطلٌ عن العمل/ أدخّن كثيراً/ وأشتهي أقرب النّساء إليّ/ ولكم طردوني من حاراتٍ كثيرة/ أنا وأشعاري وقمصاني الفاقعة اللون../ فأنا رجلٌ طويلُ القامة/ وفي خطواتي المفعمةِ بالبؤس والشّاعريّة/ تكمن أجيالٌ ساقطةٌ بلهاء/ مكتنزةٌ بالنّعاسِ والخيبة والتّوتر
فاعطوني كفايتي من النّبيذ والفوضى
وحرية التّلصلصِ من شقوق الأبواب
وبنيّةً جميلة
تقدم لي الورد والقهوة عند الصّباح
لأركض كالبنفسجة الصّغيرةِ بين السّطور
لأطلق نداءاتِ العبيد
من حناجر الفولاذ.
إن «النّبيذ» هنا لا يحيل إلى وسيلة لتناسي الهموم أو الهروب منها، وإنّما يمثّل رفضاً للواقع وتحدّياً له. كما أنّ الفوضى (يمكن أن يقال إنّها) تمثّل مقاومة للعالم المصنّف المرسوم، أي أنّ كلاًّ من النّبيذ والفوضى يمثّلان الخروج من قيود المألوف و«الطّبيعي». فالنّظر من «خلال شقوق الأبواب»، و«الرّكض كالبنفسجة الصّغيرة بين السّطور» يرمزان إلى التّفكير من زوايا لا عهدَ بِها لمن يقبع ويحتمي في قوالب مرسومة سلفاً.
في قصيدة «منزل قرب البحر»(56) نسمع «صرخة» سيف الرّحبي. حيث نجد الماغوط يمتعض أشدّ الامتعاض من القيود والحدود المفروضة على الفكر في بلاده. إذْ يعلن
…
لا أريد الشّوارع قصيرةً هكذا
أريدها عميقة وهيّابه
طويلة وفاتنه
كأحشاء مبعثرة في الرّيح.
..
فتشبيه الشّوارع بـ»أحشاء مبعثرة» يمثّل عالماً طفوليّاً لا تنظّمه القوانين العقليّة المنطقيّة، عالماً مبعثراً واسع الآفاق، وهي آفاق تتوق إليها الذّات الشاعرة التي تستنكف من أنْ تحتمل التقيّد بأنظمة السّلطة المجتمعيّة.
لا..
لن أرحل تحت النّجوم
ولن أطأ أمواجك الصّافية بحذائي
سأظلّ في مؤخّرة السّفينة
أنهش خشبها كاللحم
أعبرها موجةً موجةً، على رؤؤس الأظافر.
…
وفي الليل
عندما تظلمُ الأمواج كالقبور
وتسيل دماء الأسرى تحت الأشرعة الغاربة
سأقف على موجة عالية
كما يقف القائد على شرفته
وأصرخ:
إنّني وحيد يا إلهي.
فلا غرو أنّ الذّات الشّاعرة تعلن خروجها على الرّؤى الإيدلوجيّة، وعدم ولائها لها. هي، بالاختصار، ذاتٌ مبدعة تطرق لنفسها طرقاً نابعة من إنسانيّتها، ذاتٌ وحيدة في معمعة الحياة، تحافظ على فرادتها وعلى تميّزها من المبتذل.
هذه القصائد كلّها تقف موقف الرّفض للمعتقد الجمعيّ، إلاّ أنّها في رفضها للسّائد لا تطرح حلولاً نهائيّة، كما أنّها لا تقدّم برامج سياسيّة أو شعارات إصلاحيّة، وإنّما هي تساؤلات نابعة من التّفكير والتأمّل حول الافتراضات والأحكام المسبقة. إنّ شعراً كهذا «يكشف، بتساؤلاته وهواجسه، عن … الأبعاد الخفيّة، غير المحدودة التي تجسّدها الطّاقة الإنسانيّة الخلاّقة»(57)، الأبعاد التي تتحدّى الواقع، وتثير إشكالاته، وتدعو القارئ إلى التّأمّل فيه. وبذا نستطيع القول إنّ هذه النّماذج الشّعريّة، بنزعتها الإنسانيّة العابرة للحدود المجتمعيّة، تؤكّد على ما تذهب إليه النّاقدة العربيّة كاميليا عبد الفتّاح حين تقول إنّ النّزعة الإنسانيّة: «هي إحدى المحاور الفكريّة أو المضمونيّة في الشّعر العربيّ المعاصر».(58)
بيدَ أنّ هنالك سؤالاً يلوح في الأفق ينبغي طرحه قبل الختام: إنْ كان الشّعر يقف موقف المعارض للخطابات والأيدلوجيّات السّائدة فهل هذا يعني أنّ الشّعر خطاب فوقيّ، ينظر إلى سواه من الخطابات من موقف بريء خالٍ من النّوازع الأيدلوجيّة؟ هذا، بطبيعة الحال، أمرٌ محال، فالمرء لا يمكن أن ينطلق من فراغ أيدلوجيّ، إذ ما إنْ تستخدم اللغة إلاّ أعلنتَ عن موقعك، وما إنْ تعلن موقعك إلاّ حدّدتَ موقع من هو محيط بك، وما إنْ تفعل ذلك إلاّ كنتَ قد وقفتَ موقفاً سياسيّاً أيدلوجياً. والشّعر ليس بمستثنىً من هذه القاعدة. فـ«الكتابة الشّعريّة هي في حدّ ذاتها عمل سياسيّ. فأنْ تكون الكتابة الشّعريّة سياسيّة، ليست حصراً في أنْ تتكلّم في السّياسة، وإنّما هي على الأخصّ، في أن تعيد تكوين الواقع بخصوصيّتها الفنّيّة»(59). من هذا المنظور، نستطيع القول إنّ للشّعر إطاراً تفسيريّاً وتوجّهاً فكريّاً قوامه مناصرة الإنسان، ولكنّه (أي الشّعر) يأبى تسييسَ هذه المناصرة أو أدلجتَها في قوالب جامدة. لعلّ في ذلك تكمن أصالة الالتزام الشّعريّ، ولعلّ بذلك يُعرَفُ الشّعر. مجمل القول أنّه كلّما كان تأثير الخطاب أقوى في ما يحمله القارئ من افتراضات حول اللغة الشّعريّة والنصّ الشّعري والعالَم كان أدنى أن يقالَ عنه إنّه شعر. وبالمقابل كلّما كان تأثير الخطاب أضعف في ما يحمله القارئ من افتراضات حول اللغة الشّعريّة والنصّ الشّعري والعالَم كان أنأى من أن يقال عنه إنّه شعر.
الخاتمة:
استناداً إلى الأسلوبيّة البريطانيّة ونقّاد عرب معاصرين، قدّمت هذه الدّراسة رؤية مؤدّاها أنّ الشّعر تعبير عمّا هو إنسانيّ، عمّا لم يتم تأطيره تبعا لقوالب اللغة، أو أدلجته وفقا لموقف فكريّ ما، وأنّ الشّعر يظلّ يقاوم أي خطاب، سياسيّاً كان أم اجتماعيّاً، يحاول تدجين الإنسان. لعلّ خير ما يلخّص ويؤكّد ما ذهبت إليه هذه الدّراسة هو ما يقوله الشّاعر العمانيّ سيف الرّحبي(60) في مقالٍ له بعنوان «مزرعة الكراهيّة»:
«ربّما يحاول الفرد أن يهرب من فيضان هذا المستنقع الكوني، المحلي، للبغضاء والكراهيّة، يحاول الاحتماء بالطّبيعة والفن والإرث الرّوحي ليطفئ نيران ردود الأفعال في أعماقه، التي تولّد مسارات الحياة اليوميّة… يحاول أن يحتمي بالطفولة وطقوس البراءة التي توشك على الغروب النهائي، أمام هذا الزّحف الكاسح… من يستطيع أن يتذكر «مجنون قريته»، الذي يتنزه وسط هذيان الجبال، الخالي من كل تلك الأهداب والهواجس العدوانيّة، يذرع القرية جيئة وذهابا، متمتّعا بحديث يبدو غامضا «للعقلاء» والمتّزنين، لأنّه يخرق اتّزانهم المفتعل، ويقذف عليهم أسئلة الحكمة الحرّة والجنون؟ هل هذا النّوع من التّذكر الماضوي القروي، ضرب من العودة الرّومانسيّة إلى المنابت والجذور؟ ولماذا لا تكون كذلك طالما أنّها لحظة انعتاق من وطأة الرّاهن بشخوصه وأكاذيبه وتقنياته المدمّرة للأعصاب.»
فـ«الفنّ» و«الإرث الرّوحي» و«الطّفولة» و«طقوس البراءة» و«مجنون القرية» إنّما كلّها من ضروب الشّعر.
1 برادة، محمد: «تحوّلات مفهوم الالتزام في الأدب العربي الحديث»، نزوى (25)، يناير، 2001م، ص18.
2 لعلّ من أحدث صور هذا التّفاعل هو أن مجلّة نزوى العمانية أفردت ملفّا خاصّا حول الالتزام في الأدب العربي الحديث في عددها الخامس والعشرين، يناير 2001، شارك فيه عدد من أبرز النّقاد والأدباء العرب المعاصرين من أمثال محمد برادة وسهيل إدريس وجورج طرابيشي وإدوارد الخراط، وقاسم حدّاد وآخرين.
3 الحراشة، منتهى: «من مشكلات المصطلح النقدي في الدّراسات النقديّة العربيّة الحديثة والمعاصرة»، مجلّة اتحاد الجامعات العربيّة للآداب، العدد (2) 2009 ص225. بطبيعة الحال، اتكاء النّقد العربيّ على الفرنسيّ ظاهرة تعزى إلى عوامل عديدة، لعلّ أبرزها ظهور كوكبة من المفكرين الفرنسييّن لعبت دورا رائدا في المدارس الفكريّة كالبنيويّة وما بعد البنويّة والتفكيكيّة… الخ.
4 لا أتطرّق بالتّفصيل والّشرح إلى المفهوم السّارتري للالتزام، ولا إلى كيفيّة تفاعل الأوساط الثّقافيّة أو الفرنسيّة معه، بحكم أنّي لا أهدف إلى تناول الموضوع من منظور فلسفيّ وجوديّ أو من منظور سياسيّ أو عقائديّ. غير أنّه في سياق تفاعل الأوساط الثّقافيّة العربيّة مع مقولات سارتر لعلّه يجدر بالذّكر أن مفهوم سارتر للالتزام قد تعرّض، عن طريق التّرجمة والنّقل والتّأويل لقراءات عديدة، وأحيانا مختلفة أشدّ الاختلاف. فمثلا، هناك النّاقد جورج طرابيشي يرى أنّ «العيب الجوهري» في المفهوم يتمثّل في أنه يجعل النّص الأدبيّ نصّا دعائيّا وتبشيريّا، ويرفض المفهوم إلى درجة أن يعلن أنّ «شعار الالتزام قد جرى عليه قانون التّقادم، وخير ما نفعله هو أن نسحبه من التّداول.» (طرابيشي، جورج: «شهادة نصير سابق للالتزام» ، نزوى (25)، يناير، 2001م، ص 36). بينما يرى محمّد برادة أنّ «الالتزام عند سارتر ليس اختزالا لغنى الأدب في وصفة شعاريّة» («تحولات مفهوم الالتزام في الأدب العربي الحديث» ص22).
5 تذهب الدّراسات الحديثة مذاهب شتّى في تعريف «الأسلوبيّة»، فهناك من يراها علما ألسنيّا يُطبّق على نصوص متنوّعة، أو كمبحث «مزيج من فروع اللغة» (عياد، محمود: «الأسلوبيّة الحديثة، محاولة تعريف» فصول، المجلد الأوّل، العدد الثّاني، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، مصر، يناير 1981 ص 124 -نقلا عن الحراشة 2009 ص236- )، بينما يعرّفها ميشال شريم بأنّها «نوع من الحوار الدّائم بين القارئ والكاتب من خلال نصّ معين[ليس بالضّرورة نصّا أدبيّا]« (شريم، جوزيف ميشال: دليل الدرّاسات الأسلوبيّة، بيروت، الّطبعة الأولى، 1984 ص7 -نقلا عن الحراشة 2009 ص236- ) كما أنّ هناك باحثين بريطانييّن يوسّعون مجال الأسلوبيّة لتشمل نصوصا أدبيّة وغير أدبيّة، مثل
Crystal, D. and Davy, D. (1969). Investigating English Style. London: Longman. P. 10, Simpson, P. (1997). Language through Literature. London: Routledge. P. 3,
Verdonk, P. (2002). Stylistics. Oxford: Oxford University Press. P. 4.
غير أنّ هناك من يحصر الأسلوبيّة في مجال الأدب، قائلا بأنّ الأسلوبيّة «وصف للنّص الأدبيّ حسب طرائق مستقاة من علم اللسان» (المسدي، عبد السّلام: النقد والحداثة، بيروت، الطّبعة الأولى، 1983 ص 85–نقلا عن الحراشة 2009 ص236). وفي دراستي هذه أتبنّى ما يسمّيه كوك بـ«الأسلوبيّة الأدبيّة»، وهي التي يقتصر مجالها على تطبيقات العلوم الألسنيّة على الأدب
Cook, G. (2003). Applied Linguistics. Oxford: Oxford University Press. P.62
6 على ما بينها من فوارق لغويّة وبنيويّة، توضع الرّواية والقصّة والمسرحيّة والشّعر تحت خانّة واحدة: الأدب. تماشيا مع هذا التّصنيف، أستخدم في هذه الدراسة «الأدب»، إلا أنّني أعني به الشّعر دون سواه من الأجناس الأدبيّة.
7 Herrnstein-Smith, B. (1978). On the Margins of Discourse: The Relation of Language and Literature. Chicago and London: Chicago University Press.
Herrnstein-Smith, B. (1988). Contingencies of Value: Alternative Perspectives for Critical Theory. Chicago: Chicago University Press.
8 Maybin, J. (1996). ‘An English canon’, in J. Maybin and N. Mercer (eds.) Using English from Conversation to Canon. London: Routledge. 235-74.
9 Eagleton, T. (1983). Literary Theory: An Introduction. Oxford: Basil Blackwell.
10 Fowler, R. (1981). Literature as Social Discourse: The Practice of Linguistic Criticism. London: Batsford.
Fowler, R. (1986). Linguistic Criticism. Oxford: Oxford University Press.
11 Cook, G. (1990). A Theory of Discourse Deviation: the Application of Schema Theory to the Analysis of Literary Discourse. Unpublished PhD Thesis. University of Leeds.
Cook, G. (1994). Discourse and Literature: The Interplay of Form and Mind. Oxford: Oxford University Press.
12 Widdowson, H. (1992) Practical Stylistics. Oxford: Oxford University Press.
13 يقول منتهى الحراشة إنّ «الشّعريّة» مصطلح تتعدّد مفاهيمه ودلالاته («من مشكلات المصطلح النّقدي في الدّراسات النّقديّة العربيّة الحديثة والمعاصرة»، ص212 و213). لذا، درءا للالتباس، ينبغي أن أذكر هنا أنّني أستخدم الشعريّة وفقا لتعريفي كل من نزفيتان تودوروف وجوناتن كلر، إذ إنّ كليهما يعرّف «الشعريّة» بأنّها القوانين التي تنظّم العمل الأدبي، أيّا كان نوعه. (تودورف، نزفيتان: الشعريّة، ترجمة شكري المبخوت ورجاء سلامة، الدار البيضاء، المغرب، 1987م ص23-نقلا عن الحراشة 2009 ص237-).
Culler, J. (2002). Structuralist Poetics, Structuralism, Linguistics and the Study of Literature. London and New York: Routledge. P. 137
هذا ويفرد كلر فصلا خاصّا لشعريّة الشّعر الغنائي (الفصل الثّامن) وفصلا خاصّا لشعريّة الرّواية (الفصل التّاسع). وعليه، فالشعريّة لا تعني نسبة إلى الشّعر، بل تعني النّظام الذي يكمن وراء الخطاب الشّعري.
14 ينبغي أن أؤكّد أنّ تموضع الدّراسة في مجال الأسلوبيّة لا يعني أنّ الّدراسة ترتكز حصريّا على الباحثين الأسلوبيّين أو على الإطار الجغرافيّ البريطانيّ. فرومان ياكبسون كان باحثا ألسنيّا روسيّا، إلا أن تنظيره لوظائف اللغة ترك أثرا بارزا في الباحثين الأسلوبييّن الذين يرد ذكرهم في الدّراسة.
15تمّ نشر ورقة رومان ياكبسون في
Jakobson, R. (1960). ‘Concluding statement: linguistics and poetics’, in T. A. Sebeok, (ed.) Style in Language. Cambridge, MA: M.I.T. Press. 350-77.
الّترجمات العربيّة الواردة في هذا الهيكل التّخطيطي مقتبسة من الرويلي، ميجان والبازعي، سعد: دليل النّاقد الأدبي، بيروت والدّار البيضاء: المركز الثّقافي العربي، الطّبعة الرّابعة، 2002م ص73-74.
16 يجدر بالذّكر أن هذه الوظيفة ليست خاصّة بالشّعر، وإنّما هي تبرز في استخدامات كثيرة للغة. كما أنّ التركيز على وظيفة معيّنة لا يعني أنّ الوظائف الأخرى تتوقّف. الواقع أنّ هذه الوظائف كلّها موجودة في أي استخدام للغة إلا أنّ هناك سياقات تكون إحدى هذه الوظائف مهيمِنة على غيرها. وقد استفاد الأسلوبيّون البريطانيّون بمقولة نسبيّة الوظيفة الشعريّة، فراحوا يقارنون الأدب بغيره من الخطابات لأغراض بيداغوجيّة تدريسيّة. حول هذا الموضوع انظر:
Carter, R. A. (1997). Investigating English Discourse: Language, Literacy and Literature. London: Routledge.
Carter, R. A. and Long, M. (1987). The Web of Words: Exploring Literature through Language. Cambridge: Cambridge University Press.
Carter, R. A. and McCarthy, M. (1995). ‘Discourse and creativity: bridging the gap between language and literature’, in G. Cook & B. Seidlhofer (eds.) Principles & Practice in Applied Linguistics: Studies in Honour of H. G. Widdowson. Oxford: Oxford University Press. 303-21.
Carter, R. A. & McRae, J. (1996). (eds.) Language, Literature & the Learner: Creative Classroom Practice. London: Longman.
Carter, R. A. and Nash, W. (1990). Seeing through Language: A Guide to Styles of English Writing. London: Blackwell.
17 de Saussure, F. (1916[1960]). Course in General Linguistics, translated by W. Baskin. London: Fontana/Collins. (Original French Version 1916).
18 بركة، فاطمة الطبال: النظريّة الألسنيّة عند رومان ياكبسون: دراسة ونصوص. بيروت: المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات والنّشر والتّوزيع، 1983م، ص 76.
19 أبو زيد، نصر حامد: النّص والسّلطة والحقيقة، إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة، الدّار البيضاء: المركز الثّقافي العربي، الطّبعة الرّابعة، 2000م، ص 85.
20 أدونيس (علي أحمد سعيد): زمن الشّعر، بيروت : السّاقي، 2005، ص91.
21 هنري ودوسن، الباحث البريطانيّ في اللسانيات التطبيقيّة، له باع طويل في مجال الأسلوبيّة واللسانيّات التّطبيقيّة، بل يعدّ حجّة فيهما. تتناثر آراؤه حول «الأدبيّة» في طيّات مؤلّفات عديدة بدأ كتابتها منذ 1957، من تلك المؤلّفات:
Widdowson, H. (1975). Stylistics and the Teaching of Literature. Harlow: Longman
Widdowson, H. (1983). <The deviant language of poetry>, in C. J Brumfit (ed.) Teaching Literature Overseas: Language-Based Approaches. Pergamon Press: The British Council. 7-16.
Widdowson, H. (1984) ‘Reference and representation as modes of meaning’, in
H. G. Widdowson. Explorations in Applied Linguistics 2. Oxford: Oxford University Press. 150-59.
Widdowson, H. (1985). ‘The teaching, learning and study of literature’, in R. Quirk and H. G. Widdowson. English in the World: Teaching and Learning the Language and Literatures. Cambridge: Cambridge University Press.180-94.
Widdowson, H. (1986). ‘The untrodden ways’, in C. J. Brumfit and R. A. Carter. (eds.) Literature and Language Teaching. Oxford: Oxford University Press.133-39.
Widdowson, H. (1988). <Poetry and Pedagogy>, in D. Tannen (ed.) Linguistics in Context: Connecting Observation and Understanding. Norwood, NJ: Ablex.
Widdowson, H. (1992) Practical Stylistics. Oxford: Oxford University Press.
Widdowson, H. (1994). <Old song that will not declare itself>: on poetry and the imprecision of meaning>, in R. Sell and P. Verdond. (eds.) Literature and the New Interdisciplinarity. Amsterdam: Rodopi. 31-43.
Widdowson, H. (1998). <Reading the signs. The critical interpretation of texts>, SPELL: Swiss Papers in English Language and Literature. 11. 145-159
Widdowson, H. (2000). <Critical practices: on representation and the interpretation of texts>, in S. Sarangi and M. Coulthard. (eds.). Discourse and Social Life. London: Pearson Education.
Widdowson, H. (2002). ‘Verbal art and social practice: a reply to Weber’, Language and Literature. 11/2: 161-167.
22 Short, M. (1996). Exploring the Language of Poems, Plays and Prose. London: Longman. P.14
23 فضل، صلاح: أساليب الشّعريّة المعاصرة، بيروت: دار الآداب، 1995، ص14.
24 Tannen, D. (1989). Talking Voices: Repetition, Dialogue, and Imagery in Conversational Discourse. Cambridge: Cambridge University Press.
Carter, R. (2004). Language and Creativity: The Art of Common Talk. London: Routledge.
Cook, G. (1996). ‘Language play in English’, in J. Maybin and N. Mercer, (eds.) Using English: From Conversation to Canon. London: Routledge with Open University. 198-234.
25Cook, G. (2001). The Discourse of Advertising. (2nd ed.) London and New York: Routledge.
Goddard, A. (1998). The Language of Advertising. London: Routledge.
Tanaka, K. (1992). <The pun in advertising: a pragmatic approach>, Lingua 87. 1-2, 91-102.
Tanaka, K. (1994). Advertising Language: A Pragmatic Approach to Advertisements in Britain and Japan. London: Routledge.
26 Heaney, S. (1990). The Redress of Poetry. Oxford: Oxford University Press.
27 Cook, G. (1990). A Theory of Discourse Deviation: the Application of Schema Theory to the Analysis of Literary Discourse. Unpublished PhD Thesis. University of Leeds.
Cook, G. (1994). Discourse and Literature: The Interplay of Form and Mind. Oxford: Oxford University Press.
28 Culler, J. (2002). Structuralist Poetics, Structuralism, Linguistics and the Study of Literature. London and New York: Routledge.
Culler, J. (1981) The Pursuit of Signs: Semiotics, Literature, Deconstruction. London: Routledge.
29 Fish, S. (1980). Is There a Text in This Class? The Authority of Interpretive Communities. Cambridge, MA: Harvard University Press.
30 Simpson, P. (1997). Language through Literature. London: Routledge.
31 Short, M. (1996). Exploring the Language of Poems, Plays and Prose. London: Longman.
32 Carter, R. and Long, M. (1987). The Web of Words: Exploring Literature through Language. Cambridge: Cambridge University Press.
33 Carter, R. & McRae, J. (1996). (eds.) Language, Literature & the Learner: Creative Classroom Practice. London: Longman.
34 Carter, R. and Simpson, P. (1989). (eds.) Language Discourse and Literature: An Introductory Reader in Discourse Stylistics. London: Unwin Hyman.
35 McRae, J. 1991. Literature with a Small l. MEP/Macmillan, Basingstoke
McRae, J. (1998). The Language of Poetry. London: Routledge.
36 لعلّه يجدر بالذّكر أنّ أطروحة كوك تأتي في إطار ما بات يُعرف في أدبيّات الأسلوبيّة بـ»الشّعريّة الذهنيّة» Cognitive Poetics. لمدخل وافٍ حول «الشّعريّة الذهنيّة» انظر
Stockwell, Peter (2002) An Introduction to Cognitive Poetics. London: Routledge.
37 العالم، محمود أمين: «بالكتابة يؤكّد الكاتب وعيه بذاته»، نزوى (25)، يناير، 2001م، ص 64.
38 عبد الصّبور، صلاح: حياتي في الشّعر، بيروت: دار اقرأ، 2001م، ص7.
39حياتي في الشّعر ص104.
40 طرابيشي، جورج: هرطقات عن الدّيموقراطيّة والعلمانيّة والحداثة والممانعة العربيّة، بيروت: دار السّاقي، الطّبعة الثّانية، 2001م، ص7.
41 أدونيس (علي أحمد سعيد): «بيان عن الشّعر والزّمن» (لقاء مع أدونيس) العكش، منير: أسئلة الشّعر في حركة الخلق وكمال الحداثة وموتها، بيروت: المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر، 1979م ص126.
42 الخراط، أدوارد «كلّ منّا ملتزم» نزوى، يناير، (2001)، (25) ص37.
43 «كلّ منّا ملتزم». ص45.
44 Cook, G. (2000). Language Play, Language Learning. Oxford: Oxford University Press.
45 أدونيس (علي أحمد سعيد): مقّدمة ديوان الشّعر العربي: الكتاب الثّاني، بيروت: دار الفكر، 1979م، ص23.
46 عبد الصّبور، صلاح: قراءة جديدة لشعرنا القديم، بيروت: دار العودة، 1982، الطّبعة الثّالثة، ص15، 16.
47 أدونيس (علي أحمد سعيد): الأعمال الشّعريّة الكاملة. بيروت: دار العودة، 1985م، ص312.
48 أدونيس (علي أحمد سعيد): كتاب التّحولات والهجرة في أقاليم الليل والنهار، دار الآداب، 1988م. ص9.
49 المعجم الوسيط (أخرجه إبراهيم مصطفى وآخرون)، استنبول: المكتبة الإسلاميّة للطّباعة والنّشر، الطّبعة الثّانية، 1972ص 141.
50 المعجم الوسيط، ص 372.
51 الرّحبي، سيف: مقبرة السّلالة، كولونيا: منشورات الجمل، 2003م، ص92.
52 «تحوّلات مفهوم الالتزام في الأدب العربي الحديث» ص30.
53 الرّحبي، سيف: معجم الجحيم، مختارات شعريّة، القاهرة: دار شرقيّات للنّشر والتّوزيع، 1996م، ص185، 186.
54 لقراءة النّص كاملا، انظر: معجم الجحيم ص9-20.
55 لقراءة النّص كاملا، انظر: الماغوط، محمد: الآثار الكاملة. بيروت: دار العودة، 1981م. ص 36-39.
56 لقراءة النّص كاملا، انظر: الآثار الكاملة ص128-134.
57 زمن الشّعر ص105.
58 عبد الفتاح، كاميليا: إشكاليات الوجود الإنساني: دراسة نقديّة وتطبيقيّة في الشّعر الواقعي والحداثي، الإسكندرية: دار المطبوعات الجامعية، 2008. ص7.
59 زمن الشّعر ص46.
60 الرّحبي، سيف: «مزرعة الكراهيّة» آفاق، جريدة الشّبيبة العمانيّة، الصّادرة في يوم الأربعاء 14 من رمضان 1428 ه الموافق 26-9-2007 م (العدد 4538).